لعله من المفيد أن نقارن بين (لغة الفلاسفة) و(لغة القرآن) تمهيدا لتحديد مفهوم التعميم الدلالي:
تتميز اللغة الفلسفية بخاصية التجريد، فلا تكون العبارة فلسفية إلا ومكوناتها كلية ، فلا يقول الفيلسوف : "هذا الرجل يشتهي تفاحة" وإنما يرفعها إلى سقف التجريد- لتصبح فلسفية- فيقول :" نزوع الذات إلى احتواء موضوع رغبتها" ولهذا السبب كانت لغة الفلاسفة مضببة غير مفهومة عند الناس، ولكي تفهم لا بد من إنزالها من حيز التجريد إلى حيز التجسيد ، ولا بد من استبدال المصداق بالمفهوم ، ولا بد من إرجاع الكلي إلى الجزئي...فعندما يقول الفيلسوف :" الماهية سابقة للوجود" تكون عبارته تلك لغوا غير مفهوم ولتصبح مفهومة لا مناص من إنزالها إلى حيز الحس - بتقديم مثل - فيقول :" قبل أن يصنع النجار كرسيا تكون صورة الكرسي في ذهنه أولا" فيتعجب المتلقي كيف عبرت الفلسفة عن البديهي والمألوف بتلك العبارة المهولة...والحقيقة أن التهويل هو متمسك الفلاسفة جميعا ، ولا تكون العبارة فلسفية إلا برصد درجة تموضعها في سلم التهويل ، فلو قدم الفيلسوف عبارته بمعناها العادي لكان كلامه "عاديا" ،ولانتهت الفلسفة ، فلا يكون الفيلسوف فيلسوفا إلا وهو متستر بالغموض، ولو أزيل عنه ستار الغموض لانكشفت عورته!...والناس بفطرتهم يعرفون هذا فإذا قال رجل عبارة غير مفهومة قالوا عنه "إنه يتفلسف".... فالفلسفة عندهم مرادفة للغموض لا للحكمة أو الحقيقة.
لغة القرآن على نقيض لغة الفلسفة فهي مفهومة عند الخواص والعوام لأن مكونات العبارة فيه – غالبا- من عالم الحس والتجربة والفطرة فهو دائم "مبين":
الخطاب موجه للناس جميعا وفيهم الخاصة والعامة، وفيهم الذكي والاقل ذكاء، وجميعهم يقتبسون من نوره بحسب قدراتهم... وبالنور يكتشف المجهول ويتضح الغامض ولا يمكن أن يكون هو نفسه غامضا مجهولا!
القرآن واضح لكنه عميق!
هذا سر القرآن العظيم: الجمع بين الوضوح والعمق ، ومن ثم تجد في التنزيل الوصف ب"الكتاب المبين" وفي الوقت ذاته الدعوة إلى" تدبرالقرآن"...فلا يستغنى بوضوح سطحه عن اكتشاف أعماقه ! ثم لا يمكن لتدبر القرآن أن يكون ممكنا إلا والمنطلق واضح ومفهوم ، فلا بد من منفذ ملحوظ فلو كان مغلقا كله فكيف يدلف إليه!
إذا كان فهم العبارة الفلسفية نازلا دائما (من الكلي إلى الجزئي ومن الذهني إلى الحسي ) فإن تدبر القرآن صاعد ...من العبارة الجزئية في الآية ينطلق المتدبر نحو التعميم والتجريد وفي نهاية المطاف يدرك المتدبر أن العبارة الجزئية قد أحاطت بكل شيء هذا هو التعميم الدلالي...وسنبين هذا المفهوم - إن شاء الله - بأمثلة ( وقد يقول قائل ما دام مفهومك لا يتضح إلا بأمثلة فأنت تتفلسف ! أقول إن فهمت من كلامي معنى الفلسفة فذاك قصدي!)
فهم النص إذن له منهجان: منهج تنازلي حين يكون المنطوق النصي كليا وتجريديا فيبحث له عن الماصدق والمثال لتقريبه من الذهن – وهذا شأن النص الفلسفي- ومنهج تصاعدي عندما يكون المنطوق النصي جزئيا حسيا فينتزع منه العام والكلي - وهذا ما يعنيه مفهوم التعميم الدلالي- وهي خطة مفيدة جدا في تدبر القرآن لأن من شأنها الكشف عن سر اختياركلمة وعن سر نسق العطف بين الكلمات...وهذه نماذج من التنزيل
1-
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان : 9]
الآية وصف للمعرضين عن آيات الله والمرتابين في أمر البعث..وسيكشف التعميم الدلالي سر اختيار كلمتي "شك" و "يلعبون":
فالشك مثال عن الجانب العلمي،
واللعب مثال عن الجانب العملي.
فتكون الآية بالتصعيد والتعميم قد أحاطت بكل أحوال الإنسان : لأن أحواله إما علمية - ذهنية - نفسية ، وإما عملية - سلوكية ... فرمز "الشك" إلى النوع الأول، ورمز "اللعب" إلى الثاني.....
التعميم هنا متعلق بالزمن حيز فعل الإنسان...فالصبر على ما مضى والتوكل في ما سيأتي
فتكون الآية بالتجريد والتعميم قد أحاطت بكل أفعال الإنسان : ف"الصبر" له بعد ماضوي يمتد من الحاضر إلى الماضي( فالإنسان يصبر على ما وقع)، و"التوكل" له بعد مستقبلي يمتد من الحاضر إلى المستقبل (فالإنسان يتوكل بالنسبة لما سيفعل أما ما وقع وانتهى فلا يتعلق به التوكل ولكن يتعلق به الصبر).
والجدير بالملاحظة في آية الصبر والتوكل : استعمال صيغة الماضي في الصبر "صَبَرُوا" واستعمال صيغة المضارع في التوكل "يَتَوَكَّلُونَ" ليتم التعميم دلاليا ونحويا.
وكيفما كان حال الإنسان - من جهة الصبر- فإن إحدى الحجتين قائمة عليه لا محالة : فإن لم يصبر فهو مخاطب ب "إِنَّا لِلَّهِ" ،وإن صبر كان مخاطبا ب "إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"
فأما الذي لم يصبرفيقال له :انت ملك لله ، وللمالك حق التصرف في مملوكه كما يشاء ،فلا معنى للتبرم والاحتجاج ...وهذا الأمر بدهي في الشاهد: فمالك الحذاء مثلا له أن يلبسه أو يمزقه أو يرتقه أو يلقيه جانبا أو يحتفظ به أو يصبغه بالأحمر أو الأصفر أو الأخضر...يفعل ما يشاء لأن الحذاء له.
وأما الذي صبر فهو يحتسب ، ويرجو أن ينال أجر صبره، وأن يعوض بالخير على ما لحق به من أذى، فيقول "إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" وعندما يرجع إلى ربه سيجد عنده كل ما وعد به...فهذه حجة تحفيزية على الصبر...
هذا وفي قوله" إِنَّا لِلَّهِ" إشارة إلى المبدأ ، وفي قوله "إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" إشارة إلى المعاد ، فحصل التعميم من هذه الجهة أيضا!
عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ألا إن القُوَّةَ الرَّميُ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". [رواه مسلم]
الآية مذهلة حقا ، وكذلك التفسير النبوي المبني على التوكيد فقد صدر العبارة ب حرف "ألا " وهوحرف استفتاح وتنبيه تؤكد ما بعدها وتحققه، كما كرر العبارة ثلاث مرات فجاء التوكيد كيفيا وكميا ، والهدف تبئير المعنى القرآني ولفت الانتباه إليه فصلى الله وسلم على من لا ينطق عن الهوى!
القوة (الرمي) ورباط الخيل هما المكونان الرئيسان للقوة العسكرية في كل زمان ومكان، نعم قد تختلف الأشكال والأحجام عبر العصور لكن الفكرة واحدة :
فالرمي هو إصابة العدو بدون الاحتكاك به ،وهذا أسمى هدف لكل محارب ، فقد يقتل المبارز عدوه بالسيف- مثلا- ولكنه قد يخرج من المبارزة بجرح، ولكن الرامي بالسهم يصيب عدوه وهو في مأمن مطلق...
الرمي كان قديما - وفي زمن نزول الوحي – بالسهم والرمح ، ثم ابتكر الناس المنجنيق، وفي عصرنا تنافست الأمم في التجديد والتطوير فكان الرصاص والقنابل بكل أنواعها ابتداء بالقنبلة اليدوية إلى القنبلة النووية والهدرجينية وغيرها ...وأصبح نوع القنبلة ومداها معيارا لتقدير قوة الأمة العسكرية فمن كانت قنبلته يصل مداها إلى الف كيلومتر فهو أقوى ممن لا تصل قنبلته إلى الألف....فالمفروض أن يصل المحارب إلى عدوه أينما كان! (وتذكر دائما قول نبيك ألا إن القُوَّةَ الرَّميُ)
أما رباط الخيل فهو الجناح الثاني للطائر الحربي ويدل على كل وسائل النقل التي تنقل المحارب وأدواته وخاصة ما يرمي به ...فقديما كانت الخيل ثم اخترعت الوسائل المادية من دبابات وطائرات وغواصات وصواريخ ووقع التسابق والتنافس بين الأمم في ابتكار الوسائل وامتلاكها...
الآية أحاطت بكل هذا بكلمتين !
بل هناك أمر آخر :
فقد أشارت الآية إلى نوعي الحروب: فهناك الحرب المادية والحرب النفسية ، فالحرب المادية الساخنة دلت عليهاعبارة "مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ" والحرب النفسية دلت عليه عبارة " تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ"
الافتتاحية موسومة ببيان الشمولية والاستغراق....ولتحقيق ذلك وظفت التقابلات ليكون الجمع بين المتقابلين أسلوبا لتصويرمعنى الإحاطة...وقد أحصينا خمس تقابلات:
1- التقابل الأول:
الحمد لله \ فاطرالسماوات والارض
إحاطة بالتوحيد ف (الحمد لله) إشارة إلى الألوهية و(فاطر السماوات والأرض) إشارة إلى الربوبية...
2- التقابل الثاني:
فاطر\ جاعل
إحاطة بوجهي الخلق ، فالخلق إما ابتداء - أي إخراج من عدم - وإما تغييرا وتحويلا وتصييرا...فالأول (فطر) والثاني (جعل) ، الأول متقدم بالضرورة عن الثاني..فتقول "خلق الله النار ثم جعلها حارة"، ولا تقول "جعل الله النار حارة ثم خلقها" إلا أن تكون جعل هنا بمعنى قدر...
ولك أن ترى في ( فاطر) خلقا للذوات، وفي (جاعل) خلقا للصفات ، وكيف كان فالإحاطة متحققة، فالله خلق الملائكة بعد أن لم تكن ثم جعلها رسلا إلى خلقه.
وردت عبارة "لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" أكثر من عشر مرات في القرآن بالترتيب نفسه، حيث يتقدم دائما نفي الخوف عن نفي الحزن، وبالأسلوب نفسه حيث يأتي الخوف اسما والحزن فعلا...ونفي الشعورين (الخوف والحزن) هو لتعميم الطمأنينة في كل زمن :
فالخوف لا يكون إلا مما سيكون ، فله بعد مستقبلي بالضرورة ، أما الحزن فلا يكون إلا على شيء كان، فله بعد ماضوي بالضرورة ... وهكذا فإن أولياء الله لا خوف عليهم في ما سيأتي من الموت والبعث والنشور ولا يحزنون على شيء مما كان في الدنيا،فعمت الطمأنينة.. وأما تقديم الخوف على الحزن فبحسب الأهمية لأن ما سيأتي أهم دائما عند العاقل مما كان وانقضى!
فمن شأن تجليات الاسمين الكريمين أن تعما كل مخلوق حي ذي إحساس...لأن هذه المخلوقات على نوعين : مكلفون كالإنس والجن ،وغير مكلفين كالبهائم والأنعام.
فالمكلفون يناسبهم اسم الله (الغفور) بالنظر إلى ما يصدر عنهم من ذنب وتقصير،
وغير المكلفين يناسبهم اسم الله (الرحيم).. فلا يقال: إن الله غفور للنمل ، بل يقال: هو رحيم بها، لأن المغفرة تستلزم ذنبا والذنب يستلزم التكليف والحيوان غير العاقل ليس مكلفا .نعم، إنهم يسبحون الله كما قال تعالى:
لكن تسبيح الجماد والحيوان من الأمر التكويني لا التشريعي وليس لهم جنة أو نار!
ثم هناك علاقة أخرى بين الغفور والرحيم وهي علاقة العموم والخصوص المطلق: فالرحمة للجميع مكلفا أو غير مكلف، والمغفرة للمكلفين خاصة.
يكاد يطرد في التنزيل تقديم (الغفور) على (الرحيم )عند الاقتران، ولعل الحكمة في ذلك أن التنزيل جاء من أجل الانسان المكلف ، فناسب تقديم ما يخصه... ولم أجد في القرآن تقديم الرحيم على الغفور إلا في موضع واحد هو مفتتح سورة سبأ:
"صِدْقًا وَعَدْلًا "للإحاطة بكل مستويات الكلام...فمن المقرر أن الكلام إما (إنشاء ) وإما (خبر) وليس هناك نوع ثالث. وهذا ثابت عند اللغويين، قديما وحديثا ، في الشرق وفي الغرب، فتجد المعاصرين مثل( John L. Austin) و( (John Searleيحتفظون بجوهرالثنائية مع تغيير الاصطلاح (الكلام) و(فعل الكلام) .
"صدقا" إشارة إلى المستوى الخبري و"عدلا" إشارة إلى المستوى الإنشائي، فما أخبر به فهو صدق وما طلبه وأمر به فهو عدل...
وهناك تعميم دلالي آخر يتعلق بالزمن ، فقد يقول قائل: تمت كلمات الله في الماضي والحاضرفما حال المستقبل؟ فتجيب الآية : لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ...
4- جريمتهم ممتدة عبر التاريخ فقديما قتلوا الأنبياء وحديثا استهزؤوا بالله...
( قال أبو جعفرالطبري:
ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة: أنه حدثه عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المِدْراس، فوجد من يهودَ ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فِنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له أشيْع. فقال أبو بكر رضي الله عنه لفنحاص: ويحك يا فِنحاص، اتق الله وأسلِم، فوالله إنك لتعلم أنّ محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحقّ من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيُّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! ينهاكم عن الربا ويعطيناه! ولو كان عنا غنيًّا ما أعطانا الربا! فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عُنقك يا عدو الله! فأكذِبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ "فقال: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيمًا، زعم أنّ الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربتُ وجهه. فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك! فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص، ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر:"لقد سَمِع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتبُ ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق")
السلام عليكم، لقد اطلعت على مقال السيد أبو عبد المعز وكلامه لن يعجب المهتمين بالفلسفة فضلا عن المشتغلين بها، وللمفارقة أنا مدرس فلسفة ومنطق ومدري علوم القرآن والتفسير وأكتب فيهما معا وأقول كلامه حق عن اطلاع وتجربة طبعا هذا حكم كلي ولكل حكم استثناء لكن أقول لمن لن يعجبه المقال أولا هذا رأي من خبر الفلسفة والقرآن وقارن بينهما فقبل أن تحكم لابد أن تكون بصيرا بينهما ثم ادلو بدلوك ولا إشكال.
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الاستاذ أبو عبد المعز حفظكم الله تعالى سبق لي أن أخبرتكم إن كتاباتكم صعبة
لا يستطيع المتخصص أن يجاريكم فيما تكتبون فكيف بالعوام وأن أول أمر يفكر فيه الكاتب هو أن القراء يفهمون
كتابته وإلا فما هو النفع من الكتابة ؟ أخي الكريم يرجى إهتمامكم بهذا الأمر المهم جدا تحياتي لكم .
إن أول ما يمكن أن يبدأ به الشيء هو التعريف به فلا يعقل أن يشرع المرء في قراءة كتاب – مثلا- وهو لا يدري ما نوع وما جنس ما يقرأ....هذه قاعدة بدهية لا مراء فيها ، وإنك لتجد في التنزيل أن أول ما يقرأ في القرآن العظيم هو التعريف بالقرآن العظيم :
فإن قيل إن بداية القرآن هي الآية الأولى من الفاتحة ( البسملة أو الحمدلة على الخلاف المشهور) وليست الآية الأولى من البقرة، قلنا إن الفاتحة لها وضع متميز في التنزيل فهي أم الكتاب والسبع من المثاني كما قال تعالى :
العطف يدل على المغايرة فيفهم من الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد آتاه الله شيئين : سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِيَ والْقُرْآنَ الْعَظِيمَ...
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن السبع من المثاني هي الفاتحة ، فلا يلتفت إلى قول من قال : إنها السبع الطوال ، لأنه لا تعيين بعد تعيين النبي -عليه السلام-
قال الطبري- رحمه الله -:
(وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بالسبع المثاني: السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حدّثنيه يزيد بن مخلد بن خِدَاش، الواسطي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمّ القُرآنِ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي أعْطِيتُها ")
لو كانت السبع من المثاني هي السور السبع الطوال - وهي جزء من القرآن- لكان معنى الآية : لقد آتيناك جزءا من القرآن والقرآن ! وليس هذا من بليغ الكلام...وإنما أراد تخصيص فاتحة الكتاب بميزة لا توجد في كل السور جميعا، فلو قرأت في الصلاة – مثلا- ستة آلاف آية من القرآن ولم تقرأ فيها الآيات السبع من الفاتحة لكانت خداجا....!
ثم إن اسم فاتحة الكتاب نفسه يدل على التغاير : فهناك كتاب ولهذا الكتاب فاتحة، ومجموع الفاتحة والكتاب هو القرآن المنزل على خاتم الرسل...
وبناءعليه، تكون بداية الكتاب بعد انتهاء فاتحته وهي الآية موضوع حديثنا :
ومن المتوقع أن يكون في أول الكتاب تعريف بالكتاب ، وقد جاء هذا التعريف بالفعل حقيقيا تاما ،على نهج القرآن وليس على نهج الحد المنطقي الذي لا يخلو من تهافت كما سنفصل بحول الله.
زعم المنطقيون أن التصورات لا تكتسب إلا بالحدود وهذه الحدود لا بد من أن تبين ماهية المحدود بذكر ذاتياته من جنس وفصل ، وادعوا أن حدهم المنطقي أعلى درجة من (الرسم) الذي يُعرف الشيء بعرضياته أو خواصه الخارجية التي قد لا تكون جزءاً من ماهيته، ولا يهدف إلى إعطاء تصور كامل للحقيقة الذاتية بل إلى تمييزه عن غيره...
هذا منهم محض ادعاء وإلا فجل حدودهم عند التطبيق مجرد رسوم تستهدف تمييز المحدود لا معرفة حقيقتة الذاتية التي يصعب عليهم غالبا الوصول إليها...ولبيان دعواهم ننطلق من أشهر حدودهم وهو حدهم للإنسان بالحيوانية والناطقية...فإذا ثبت أن حدهم ذاك ضعيف أو متهافت - وهم يحدون أنفسهم، وأقرب شيء إليهم هي أنفسهم- فكيف يوثق بهم في حدودهم لما هو أجنبي عنهم بعيد!
قالوا: "الانسان حيوان ناطق"، الحيوانية جنس والناطقية فصل، ووظيفة الجنس جامعة تجمع أنواعا كثيرة كالفرس والكلب والسمك ....ووظيفة الفصل مانعة تمنع تلك الأنواع من الاشتراك مع الإنسان في ماهيته الخاصة..
إنهم يقولون "ناطق" ويقصدون "عاقل"( أو مفكر) ولا يقصدون مجرد صدور الألفاظ والأصوات عنه، ويقولون إنما النطق تعبير عن الفكر أو لازم عنه...
وهاهنا أول الوهن وبداية التهافت : فأنتم تمنعون المجازات والكنايات وأشباهها في حدكم المنطقي...فلماذا تمسكتم بفصل "ناطق" وفضلتموه عن الفصل الصريح "عاقل"؟
لقد اضطروا إلى الكناية اضطرارا لأن التصريح بحقيقة العقل يوقعهم في مأزق عند تحديد فصول الأنواع الأخرى من جنس الحيوان...فإذا قالوا الإنسان حيوان عاقل - على أساس أن العقل فصل يميز نوع الإنسان عن الأنواع الأخرى- فكيف السبيل إلى بيان فصول الأنواع الأخرى لأنها جميعا غير عاقلة ؟ فالكلب غير عاقل، والقط غير عاقل، والأسد غير عاقل...فكيف يجدون الفصل المميز!
للهروب من الإشكال استنجدوا بالمكر اللغوي فقالوا "الإنسان ناطق " ليسهل عليهم بعدها التمييز بين أنواع الحيوان بذكر اسم الصوت الصادر عنها، فقالوا :الإنسان حيوان ناطق ، والكلب حيوان نابح ، والحمار حيوان ناهق، والأسد حيوان زائر...وهكذا .... شرع المناطقة المدعون أنهم أهل الحقائق والماهيات في قراءة كتب المعاجم ليميزوا الحيوان المطلوب بالمواضعات اللغوية وبالاسماء الاعتباطية التي أطلقها الناس عليه ...ومن السخرية بمكان أنك لو سألت المنطقي: ما حد النمرعندكم ؟ فسيقول: ناولني كتاب لسان العرب أو كتاب الفروق ، فيجيبك بعد التصفح "النمر حيوان خرخار" أو "ضرضار" لأنه وجد في الكتب أنه يُطلق على صوت النمر أسماء عديدة، منها ضرضرة، وخرخرة،...!!
أ بعد هذا التهافت تهافت ... إذ أصبح الفيلسوف يبحث عن حقيقة الشيء في كتاب المعجم وليس في جوهر الأشياء في الواقع!! (وبالمناسبة نقول : كان الأحرى بصاحب كتاب التهافت أن يسكت عن مثل قوله :"من لا يعرف المنطق لا يوثق بعلمه" )
ثم كيف يمكن للإنسان الأصم أن يميز نفسه عن باقي الحيوانات اعتمادا على حد المنطقيين ! وكيف يمكن له أن يميز حقيقة القط عن حقيقة الكلب وهو لا يسمع مواء ولا نباحا! لا شك أن الأصم يميز بين الحيوانات وإن لم يسمعها تصيح فثبت بطلان دعوى المناطقة أنه لا تصور إلا بحد ،ولا حد إلا بجنس وفصل، وأن الفصل في الحيوان – كما تجد في شروح المنطق العصريين- مرتبط بصوته!!! لماذا يكون مرتبطا دائما بالمسموع وليس بالمنظور كعدد الأرجل أو بالمحسوس كنوع الجلد أو بشكل البيئة التي يحيا فيها جبل أو بحر أو قفر!!
هي ثلاث جمل قصيرة في كل جملة جزء من الحد وبجمع الجمل الثلاث يكتمل التعريف
1- الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ
2- لَا رَيْبَ فِيهِ
3-هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
الجملة الأولى بينت أن هذا القرآن كتاب عربي ، جوابا على سؤال مقدر : ما هذا الكتاب؟
الجملة الثانية بينت أن هذا الكتاب العربي أنزله الله ، جوابا على سؤال مقدر: ما مصدر هذا الكتاب؟
الجملة الثالثة بينت أن هذا الكتاب العربي يتوخى هداية الناس ، جوابا على سؤال مقدر: ما غاية هذا الكتاب؟
فجمع التعريف بين الماهية، والأصل، والغاية ، ليكون التعريف شاملا مجيبا على الأسئلة الرئيسة الثلاث...
1- الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ
يجوز إعراب (الم) مبتدأ و(ذلك الكتاب) خبر...بمعنى أن الكتاب مكون من تلك الحروف العربية ، ذكر منها ثلاثة والمراد جميعها أو جنسها، على الوجه المعروف في البلاغة من إطلاق الجزء وإرادة الكل...وقد اشتهر عند المفسرين أن هنا تحديا : هذا الكتاب مكون من نفس الحروف التي تستعملونها جميعا فاتوا بمثله إن استطعتم.
ومن الطريف أن هذه الحروف المقطعة في أوائل السورلها وضع في الترتيل يختلف عن وضعها في الرسم : ترتل الحروف منفصلة : (ألف) (لام) (ميم) (نون) (صاد)...وفي رسم المصحف تكتب متصلة ككلمات (الم )(المص) (المر) (كهيعص) (حم عسق) ...ولست أدري هل انتبه المفسرون إلى أمر مذهل هنا: الحروف في سورة مريم خمسة (كهيعص) رسمت كلمة واحدة ، وعدد الحروف في سورة الشورى خمسة أيضا لكنها رسمت كلمتين (حم عسق) . انظرإلى حرف العين فقد رسم متصلا بحرف الياء قبله في (كهيعص) وهذه العين نفسها رسمت منفصلة عن الميم قبلها (حم عسق) بل إن (حم) وحدها آية و(عسق) آية أخرى!!!
فهل في هذا إشارة إلى أن تلك الحروف ليس المقصود منها الجانب الصوتي المستقل ولكن الجانب التركيبي فجاءت في التنزيل مرسومة ككلمة واحدة وككلمتين وكآية واحدة وكآيتين ....هذه الحروف المنفصلة تكون كلمات، والكلمات تكون جملا، والجمل تكون آيات، والآيات تكون الكتاب!!
هنا وجه التحدي الذي ذكره المفسرون: هذا الكتاب مكون من نفس الحروف التي تستعملونها جميعا فاتوا بمثله إن استطعتم.!
في هذه الجملة إشارة إلى مصدر القرآن... فإنما شك الناس في أصله الكلي وليس في فروعه الجزئية والسؤال المطروح عندهم هل هذا الكتاب كلام الله أم كلام البشر...فجاء الجواب بنفي الريب عن مصدره...فإن قيل كيف نفى الريب وكثير من الناس ارتابوا؟
الجواب: أن عبارة " لا ريب فيه" ليست تقريرا لأحوال الناس ولكنها حكم معياري تقديره لا ينبغي الريب فيه، والأفضل أن نقول هي تقريرية حقا ولكن المراد بها العقلاء وذوو الفطر السليمة والنوايا الحسنة ، أما الجهال والمستكبرون وذوو الأهواء فهؤلاء لا اعتبارلهم وليسوا معيارا إذ لا حكم للشاذ..
إن الكتاب لا ريب فيه عند الأسوياء أما غيرهم فلا يؤبه بهم...
وقد ذكر القرآن معرفة أهل الكتاب بأصل القرآن في أكثر من موضع:
لأن في شهادة أهل الكتاب حجة على غيرهم ففي الواقع المشهود يخضع الناس لرأي الخبراء وذوي التجارب في النوازل والمستجدات ولا يعبؤون بغيرهم ...وأهل الكتاب في - مجال الوحي والنبوة - لهم سوابق وتجارب امتدت قرونا من الزمن فلا جرم أن يكون لرأيهم اعتبار أكثر من غيرهم من الأميين..