نحدد الاتساع الدلالي كدلالات مختلفة للعبارة الواحدة، لكنها مقصودة كلها أو يحتملها السياق.
وهذا الاتساع قد يكون في المفردة وقد يكون في التركيب ، النوع الأول اتساع معجمي ناشيء عن الاشتراك اللفظي والثاني اتساع وظيفي ناشيء عن العلاقات التركيبية أو قل عن وجوه الإعراب.
فإن قلت إن الله يعطي الشيء الكثيربحيث لا يمكن عده ، فقد أصبت
وإن فلت إن الله يرزق المرء بطريق غير متوقع ، فقد أصبت
وإن قلت أن الله يرزق من يشاء ولا يحاسبه أحد لماذا أعطيت لهذا ولم تعط لذاك، فقد أصبت
وإن قلت إن الله يرزق الناس في الدنيا ولا ينظرإلى كفر المرزوق أو إيمانه ، فقد يبسط الرزق لعدوه الكافر ويضيق على مجتباه، بغير حساب لكفر أو إيمان ، فقد صدقت
المعاني مختلفة لكنها كلها صالحة لحمل الآية عليها...هذا هو الاتساع الدلالي المعجمي....وارتقب أن أحدثك عن صورة أعجب مما سبق وهو الاتساع في وجوه الإعراب!
لنتدبر الوضع الوظيفي لكلمة " رَحْمَةً" المنصوبة ، نجدها تصلح جوابا ثابتا لأسئلة مختلفة متنوعة:
- فإن كان السؤال : ماذا أرسل الله ؟ كان الجواب : رحمة. فهي في اصطلاح المعربين مفعول به، وهذه الرحمة المرسلة هي المجردة أو المجسدة في شخص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما في آية الأنبياء:
- وإن كان السؤال : لماذا أرسل الله ؟ كان الجواب : رَحْمَةً. فهي في اصطلاح المعربين مفعول له (مفعول لأجله).والمفعول لأجله بيان لعلة العامل فيه والضابط فيه- كما هو معروف- هو السؤال ب" لماذا". والعلة المسؤول عنها قد تكون سببية وقد تكون غائية ـ والاحتمالان معا صحيحان في كلمة "رحمة"، فيكون التقدير : الله أرسل المرسلين بسبب رحمته ، فلأنه رحيم فقد أرسل الرسل...وقد يكون التقدير: الله أرسل الرسل لتشمل الرحمة الناس ، فتكون الرحمة في المبتدإ والمنتهى معا!
- وإن كان السؤال : كيف أرسل الله ؟ كان الجواب رَحْمَةً. فهي في اصطلاح المعربين حال، ويجوز أن يكون صاحب الحال هو فاعل الإرسال أو مفعوله..فعلى التقدير الأول :
الله أرسل المرسلين في حال كونه رحيما بالناس، وعلى التقدير الثاني : الله أرسل المرسلين في حال كونهم رحماء بالناس المرسل إليهم.
- وقد لا تتعلق "رحمة" بفعل الإرسال وإنما بفعل محذوف من جنس الرحمة، فهي في اصطلاح المعربين مفعول مطلق والتقدير: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (لنرحم) رحمة..
وقدّره الفراء مفعولا على أنه منصوب بمرسلين، وجعل الرحمة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو إسحاق:
يجوز أن يكون رحمة مفعولا من أجله. وهذا أحسن ما قيل في نصبها.
وقيل: هي بدل من أمر،
والقول الخامس: أنها منصوبة على المصدر.
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يكون «هو» زائدا فاصلا، ويجوز أن يكون مبتدأ و «السميع» خبره والْعَلِيمُ من نعته).
قلت :
وعلى قول من قال هي بدل من أمر" أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا" تصبح الآية خارقة للعادة، لأن أمرا المنصوبة (وهي المبدل منه) فيها من اتساع المعاني ما ينافس الاتساع في كلمة رحمة:
وفيها دعوى نفي الريب عنه ، ولقائل أن يقول : وما الدليل على ذلك ؟ نقول الآية نفسها دليل على نفسها: فلو تأملت العلاقات بين الكلمات المكونة للعبارة (وهي أقل من عشر) لتبخر كل ريب عن مصدر القرآن ...
كم عدد الجمل في العبارة؟
لك ان تقول جملة واحدة،
ولك أن تقول جملتان،
ولك أن تقول ثلاث جمل...
1-
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ : جملة واحدة مكونة من مبتدإ وخبرين:
ذَلِكَ الْكِتَابُ: مركب ابتدائي
لَا رَيْبَ فِيهِ : مركب خبري أول
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ: مركب خبري ثان
كما تقول "الله غفور رحيم " مبتدأ وخبران، الفرق بينهما أن المبتدأ والخبر مفردان في جملة ومركبان في الأخرى....
ذلك الكتاب أخبر عنه بخبرين: أنه لا ريب فيه ،وأنه هدى للمتقين ،في جملة واحدة.
في الاحتمال (أ)
ذَلِكَ الْكِتَابُ جملة تامة ، اللام عهدية أو كمالية، التقدير ذَلِكَ الْكِتَابُ الموعود ،أو ذلك الكتاب الكامل الذي يستحق أن يسمى كتابا، كما تقول" ذلك الرجل" أي الذي جمع كمال الرجولة...
لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ :جملة استئنافية نفت الريب عن ذلك الكتاب الكامل ، وهُدًى لِلْمُتَّقِينَ حال ...
ونلحظ هنا أمرا: استعمل القرآن كلمة "هدى " المقصورة لتكون علامة الاعراب مقدرة على الألف فتقدرها فتحة أو ضمة فتكون حالا أومبتدأ أو خبرا مما يزيد من الاتساع الدلالي.
في الاحتمال (ب)
ذَلِكَ الْكِتَابُ : ذلك مبتدأ ، الكتاب نعت أو بدل (على قاعدة الاسم المعرف بعد الاشارة) و"لا ريب " خبر . "فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" جملة استئنافية اسمية.
في الاحتمال (ج)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ جملة أولى و هُدًى لِلْمُتَّقِينَ جملة ثانية ، هدى : خبر لمبتدإ محذوف تقديره (هو) هدى للمتقين....
ونلحظ هنا أمرا آخر: الجار والمجرور "فيه " يصح تعليقه بما قبل( لا ريب فيه) كما يصح تعليقه بما بعد (فيه هدى) مما يزيد من الاتساع الدلالي.
يتمنى لو لم يخلق أصلا : فهو إنسان والإنسان من تراب ، فيتمنى لو بقي على أصله الترابي....
2- الاحتمال الثاني
يتمنى لو لم يبعث : فقد عاش ومات وتحول إلى تراب في قبره ، فيتمنى لو بقي ترابا فلا بعث ولا نشور ...الفرق بين الاحتمالين أن التراب في الأول منه البدء ( النشأة الأولى )والتراب في الثاني منه المعاد ( النشأة الأخرى).
3- الاحتمال الثالث
يتمنى لو لم يستكبر ولم يطغ وكان متواضعا كالتربة التي تدوسها الأقدام...
4- الاحتمال الرابع (وهو الأقوى)
يتمنى لو كان من جنس البهائم والأنعام كما في الحديث:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: "إذا كان يوم القيامة مُدَّت الأرض مدَّ الأديم، وحَشرَ اللهُ الخلائق، الإنسَ والجنَّ والدواب والوحوش، فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب، حتى تقتص الشاة الجماء من القرناء بنطحتها، فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب، قال لها: كوني تراباً، فتكون تراباً فيراها الكافر، فيقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب الأهوال].
الاتساع في عبارة " فِيهِ ذِكْرُكُمْ" قد يكون أقل - كميا -من النماذج السابقة، لكنه – كيفيا- معتبر، لان العبارة تتقاطع عندها ثلاث حقول دلالية متباينة شديدة التباين:
1- فِيهِ ذِكْرُكُمْ قد تعني الرفعة والمجد والشرف ، فالتمسك بالقرآن هو ما يرفع الأمة ويحقق لها العزة والنصر لا التحالفات مع الكبار والتودد إلى ذوي الشوكة من الكفار - كما هو ملحوظ اليوم بشكل خاص- إن العزة في القرآن وحده، ومن ابتغاها في غيره أذله الله كما هو مشاهد في الواقع ، وكما قال الفاروق - رضي الله عنه -:
"نحن قوم أعزنا الله بالاسلام فإن ابتغينا العزة بغيره، أذلنا الله.."
2- فِيهِ ذِكْرُكُمْ قد تعني إنكم مذكورون فيه (ذِكْرُ مصدر ذكَر يذكُر)...وهذا حق يدركه كل من تدبر القرآن، فكل النماذج البشرية موصوفة في التنزيل، وكل شخص سيجد نفسه مذكورا في القرآن ليس بالاسم الشخصي ولكن بالوصف الذي يشترك فيه مع آخرين يكونون جميعا نمطا ونوعا...فلا تتعجب عندما تجد في القرآن اسم (فرعون) يتكرر أكثر من اسم (ابراهيم) وإن هذا لخليل الرحمن وذاك لعدوه...فالمقصود ليس تمجيد الفرعون الهالك بالشخص ولكن تحليل الفئة الحاكمة التي لا يخلو منها مجتمع ولا زمان ولا مكان، فهي فئة مما يعم بها البلوى فبينها التنزيل وكشف خبايا نفوسها ومناهج مكرها وصور هلاكها....ففرعون فرد من جهة ونموذج من جهة أخرى، وكذلك تجد النموذج القاروني والهاماني وغيرها...وتجد أيضا النماذج المرضية عند الله كالنموذج الأيوبي والطالوتي واللقماني وغيرها....
3- فِيهِ ذِكْرُكُمْ قد تعني تذكيركم (ذِكْرُ مصدر مرادف تذكر) لدفع الغفلة والنسيان كأن يذكركم بالمآل والآخرة والواجبات والمحرمات ...
ثلاثة حقول متباينة جدا تستحضرها - على تباينها - كلمة واحدة : "ذكر"!!