وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}
قال عبد الله بن الزِّبَعْرَى : أنا أخصم لكم محمداً.
فقال: يا محمد أليس فيما أنزل عليك : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } ؟
قال : (( نعم )).
قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة؛ فهؤلاء في النار ؟!!
فأنزل الله عز و جل : {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} ).
ورواه الطحاوي في مشكل الآثار بزيادة، وفيها أنه قال: فضجَّ أهل مكةَ؛ فنزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} عيسى وعزير والملائكة {أولئك عنها مبعدون}.
قال: ونزلت {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يَصِدُّون} وهو الضَّجيج).
(يصِدون) بكسر الصاد أي يضجّون.
قال الله تعالى {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}
قال الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
الذي ضرب هذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى كما تقدَّم؛ فضج أهل مكة فرحاً بهذا المثل، وقالوا: إذا كان عيسى ليس في النار؛ فآلهتنا خير منه.
{أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} استفهام إنكاري جوابه المتقرر عندهم أن آلهتهم خير منه، حتى إنهم قدموا ذِكْرَ آلهتهم وأخروا ذِكْرَه ورمزوا له بالضمير تقليلاً من شأنه.
وأسند الضرب إليهم جميعاً فقال: {مَا ضَرَبُوهُ} لأنهم وافقوه على قوله، وإن كان الضارب واحداً في الأصل، لكن لمَّا فرحوا بضرب هذا المثل وقالوا به نسب إليهم جميعاً.
وقول الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} دليل على أنهم يعلمون أنهم مبطلون لا حجة لهم ، وإنما أرادوا الجدال والمخاصمة.
وإلا لو كانوا يؤمنون بما أنزل الله لانصرفت همتهم لامتثال خطاب الله لهم؛ فضربهم المثل ليس عن استشكال من يريد معرفة الحق، وإنما ضربوه جدلاً يحسبون أنهم سيلزمون النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحجة الداحضة.
وقد جعل الله ية الأنبياء فتنة لهم فإنها دعتهم لتفهم الخطاب وفهم ما أراد الله، لكنهم لسوء قصدهم ونكوصهم عن طلب الهدى لم يزدادوا إلا طغيانا وخساراً، واستكباراً عن الحق بعد ما تبين.
وقد قال جماعة من أهل العلم باللغة والتفسير: قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (ما) هي لغير العاقل، فالآية لا تشمل هؤلاء الصالحين بدلالة اللفظ أصلاً ؛ لأن العرب تخبر عن غير العاقل بـ (ما) فيكون المراد بقوله: بما يعبدون من دون الله الأوثان من الأصنام والأحجار والأشجار .
وأما هؤلاء الصالحين فيخبر عنهم (بمن) وليس بـ(ما).
ولذلك قال تعالى: {إن الذين سبقت لهم} ولم يقل لها.
وقال في الأوثان: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها}
فليس قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...} الآية استثناء من الآية التي قبلها، وإنما هو تقرير لحكم هؤلاء الصالحين الذين سبقت لهم الحسنى من الله تعالى أنهم مبعدون عن نار جهنم لا يسمعون حسيسها، وأنهم آمنون يوم القيامة من الفزعٍ الأكبر الذي لا أكبر منه، وفي هذا تهديد لهؤلاء المشركين وإنذار وتخويف بأنهم إن لم يكفروا بالطاغوت ويؤمنوا بالله كانوا من المعذبين بذلك الفزع الأكبر وأنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم،
والعياذ بالله.
والحَصَبُ هو ما يُحصب به، أي يرمى به، ومعنى كونهم حصب جهنم أي أن جهنَّم تُحصب به، وفي هذا دليل على أنهم يقذفون في النار قذفاً شديداً.
هذا المشهور في تفسير هذه الآية، وفي تفسيرها أقوال أخرى.