محمد عبد المعطي محمد
New member
جوامع البر.
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة/177)
إنها من الآيات الجوامع...
فبعد تمهيد نفوس المؤمنين بإحاطتها بالشعائر والقبلة التي تضمن تمايزهم عن غيرهم ليعلموا أنهم على أعتاب طريقٍ طويل من حمل راية التصحيح للعقائد والعبادات، جاء دور التشريع الذي يرمي أول ما يرمي إلى ضبط مصدرية التلقي ليكون المصدر في التحليل والتحريم-فقط-الله تعالى...بعد ذلك يأتي دور ضبط (بوصلة) اتجاه الدين وتصحيح المعنى العام للإسلام في النفوس، فالإسلام ليس مجرد الشعائر، ولا الاتجاه إلى القبلة، ولكنَّ المعنى الأهم والخط العام الثابت في هذا الدين هو (البِرّ)؛ إنه الأساس الأخلاقي والتهذيبي الشامل للإسلام الذي رسم أطره سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قال: " بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (وفي رواية حسن الأخلاق، بضم الحاء وفتحها)، وفي رواية أحمد: " لأتمم صالح الأخلاق". [SUP]([1])[/SUP]
هكذا بطريق الحصر " إنما" التي تفيد حصر رسالته صلى الله عليه في بناء مجتمعٍ أخلاقي على ضفاف نورٍ رباني. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الصَّلَاحُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ والدين وَالْفَضْلُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالْعَدْلُ فَبِذَلِكَ بُعِثَ لِيُتَمِّمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ لِلْبِرِّ وَالْفَضْلِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ولذا تكررت الأحاديث في مدح حُسن الخلق في غير موضع، كقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق". [SUP]([2])[/SUP]
وقوله: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". [SUP]([3])[/SUP]
وقوله: "إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم، القائم". [SUP]([4])[/SUP]
ولا عجب، فالعبادة في جانبها الباطن وأثرها في شخصية المسلم يجب أن تؤدي به إلى البر.
قال صاحب "الصحاح":
البِرُّ: خلاف العُقوقِ، (أي الإحسان والخير) والمَبَرَّةُ مثْله. تقول: بَرِرْتُ والدي بالكسر، أَبَرُّهُ بِرّاً، فأنا بَرٌّ به وبارٌّ. وجمع البَرَّ أَبْرارٌ، وجمع البار البررة. وفلان يبر خالقه ويَتَبَرَّرُهُ، أي يطيعه. والأمُّ بَرَّةٌ بولدها. وبَرَّ فلانٌ في يمينه، أي صَدَقَ. وبَرَّ حَجُّهُ، وبُرَّ حجه، وبر الله حجه، بِرّاً، بالكسر في هذا كلِّه. وتَبارُّوا: تفاعَلوا من البِرِّ. [SUP]([5])[/SUP]
وقد عرف معنى البر قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكِ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) رواه مسلم. [SUP]([6])[/SUP]
قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة. وهذه الامور هي مجامع حسن الخلق.
ومعنى (حاك في صدرك) أي تحرك فيه وتردد ولم ينشرح له الصدر وحصل في القلب منه الشك وخوف كونه ذنبا. [SUP]([7])[/SUP]
******
اختلف علماء التفسير: هَلْ هذا الخطاب عَامٌّ، أو خاصٌّ؟
فقال قتادةُ، ومقاتلُ بْنُ حَيَّان: لمَّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجُّه نحو بيْت المَقْدِس، قال تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} هذه الطريقة، {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله}.
وقال مجاهدٌ وعطاءٌ والضَّحَّاك -رضِيَ الله عنهم -: المرادُ مخاطبةُ المؤمنين، لَمَّا ظنُّوا هذا الكلام.
وقال بعضُهُم: هو خطابٌ للكلّ؛ لأنَّه لما حُوِّلت القبلةُ، حَصَلَ للمؤمنينَ الاغتباطُ بهذه القِبْلة، وحَصَلَ منْهم التشديدُ في هذه القِبْلَة؛ حتَّى ظنُّوا أنَّه الغرضُ الأكْبَر في الدِّين، فبعثهم الله تعالى بهذا الخِطَاب استيفاءَ جميع الطاعات والعبادات، ولَيْسَ البرَّ بأنْ تولُّوا وجوهَكُم شَرْقاً وغرباً، وإِنَّمَا البِرُّ كَيْتَ، وكَيْتَ، وكَيْتَ، فكأنَّه تبارك وتعالى قال: ليْس البرُّ المطلوبُ هو أمْرَ القِبْلة، بل البِرُّ المطلوبُ هذه الخصالُ الَّتي عدَّدتُّها. [SUP]([8])[/SUP]
قلتُ: وهذا الذي أرجّحهُ، وإن كنت أميل أنَّ الخطاب للمؤمنين أولاً، ومُعرِّضاً باليهود ضمنيا.
قال القفَّال: والذي عندَنا أنَّه إشارةٌ إلى السُّفَهاء الذين طَعَنُوا في المُسْلِمين، وقالُوا: ما ولاَّهم عن قبلتهم الَّتي كانُوا علَيْها؟ مع أنَّ اليَهُود كانُوا يستَقْبلون المَغْرب، والنَّصَارَى كانُوا يستقْبِلُون المَشْرِق، فقال الله تعالى: إنَّ صَفَةَ البِرِّ لا تحصُلُ باستقبالِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، بل البرُّ يحصُلُ بأُمُر.
منها: الإيمانُ بالله، وأهْلُ الكتابِ أخَلُّوا بذلك، فَأَمَّا اليهود، فلقولهم بالتَّجْسِيم، ولقَوْلِهِم بأنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ، وأَمَّا النصارَى فلقولهم: المَسِيحُ ابْنُ الله، واليهودُ وصَفُوا الله تعالى بالبُخْل.
وثانيها: الإيمانُ باليَوْم الآخِر، واليهود أخلُّوا بذلك، وقالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] والنصارى أنْكَرُوا المعادَ الجِسْمانيَّ، وكلُّ ذلك تكذيبٌ باليوم الآخر.
وثالثها: الإيمانُ بالمَلاَئكة، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ.
ورابعها: الإيمانُ بكُتُب الله تعالى، واليهودُ أخلُّوا بذلك، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه؛ قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
وخامسها: الإيمانُ بِالنَّبيِّين، واليَهُود أخلُّوا بذلك؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ؛ على ما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وسادسها: بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى، واليهود أخلُّوا بذلك؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات؛ لِطَلَب المَال القَليلِ قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}.
وسابعها: إقَامة الصَّلاة، وإيتاءُ الزَّكاة، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها.
وثامنها: الوفَاءُ بالعَهْد، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد؛ قال تبارك وتعالى: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
وتاسعها: قوله: {فِي البأساء والضراء وَحِينَ البأس} والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف، والجبْنِ؛ قال تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} [الحشر: 14]. [SUP]([9])[/SUP]
فالأمر إذن فيه تعريضٌ بذكر أولئك المارقين من أجل بناء دولة الإيمان على أساسٍ متينٍ من تصحيحِ أوضاعِ الديانات التي ضلَّت قبل أن تأتي الرسالةُ المحمدية.
والآية -بعدُ-جامعةٌ للكمالات الانسانية صريحا أو ضمنا دالة على صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس. وهذا منصبُ الأبرارِ، وأما الصديقون المقربون فمزيد فضلهم مبنى على الفضل والاجتباء؛ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ-.
من حيث اللغة والقراءات وشبهةٌ مردودةٌ:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}
(ليس) في النحو من أخوات كان؛ الأفعال الناسخة. وقدَّر بعضُ القُرَّاء المصدرَ في (أن تولوا) أنه اسمها في محل رفع، والخبر مُقدَّم منصوب (البرَّ) بفتح الراء، فيكون تقديره (ليس توليتُكم... البرَّ)، وهذه قراءة حمزة وحفص.
وقرأ الباقي برفع (البرُّ) على أنها اسم (ليس)، فالتقدير (ليس البرُّ توليتَكم...)، والقراءتان متواترتان حسنتان. [SUP]([10])[/SUP]
{قِبَلَ} أي اتجاه وهى ظرف مكان.
وقَوْله تَعَالَى: {َولكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وقرأ نافع وابن عامر-«ولكنْ» -بالتخفيف.
قِيلَ إنَّ فِيهِ حَذْفًا وَمَعْنَاهُ: إنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ، ورجَّحه سيبويه وغيره من أهل اللغة.
وَقِيلَ المحذوف هو (ولكنَّ ذو البر مَن آمن بالله...) قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ... وغيرهما، أو التقدير (ولكن الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّه) من باب وضع المصدر مكان الفاعل، كما في القرآن {الآية... إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً} (سورة الملك: 30) أَيْ غَائِرًا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لَقَرَأْتُ" وَلكِنَّ الْبِرَّ" بِفَتْحِ الْبَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} فَقِيلَ: يَكُونُ" الْمُوفُونَ" عَطْفًا عَلَى دلالة" مَنْ"، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ.
" وَالصَّابِرِينَ" نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ، أي وأخص الصابرين بالذكر. وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى الذَّمِّ كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِفْرَادَ الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ وَلَا يُتْبِعُونَهُ أَوَّلَ الْكَلَامِ، وَيَنْصِبُونَهُ. فَأَمَّا الْمَدْحُ فَقَوْلُهُ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: 162).
وَأَمَّا الذَّمُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا} (الأحزاب: 61) الآية.
وَهَكَذَا قَالَ فِي سورة النساء: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: 162).
قال بعد ذلك العلامة القرطبي رحمه الله: وَهَذَا طريقٌ واسعٌ بيّنٌ فِي النُّعُوتِ، لَا مَطْعَنَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ تَعَسَّفَ فِي كَلَامِهِ: إِنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ حِينَ كَتَبُوا مُصْحَفَ الْإِمَامِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: أَرَى فِيهِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا. وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. [SUP]([11])[/SUP]
قلتُ-جامعه: هذا القول من أخبث ما وضع الوضَّاعون على عثمان رضى الله عنه، وقد أنكر العلماء صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه الصحابة في جمعه وكتابته، ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التي جمع القرآن فيها عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق تمام الموافقة للعرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-القرآن على جبريل عليه السلام!
وهل يظن ظانٌّ أن عثمان -رضى الله عنه-وهو ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل الله ويتركه ويقول: ستقيمه العرب بألسنتها؟!
وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات،
وكيف يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته؟!
وإذا لم يُقِمْه هو-رضى الله عنه-ومن باشر جمع القرآن وهم مَن هم، فكيف يقيمه غيرهم؟!
وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان القرطبي، والزمخشري، وأبو حيان، والألوسي في سورة" النساء" عند قوله تعالى:" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" آية 162.
وإن المتقن للسان العرب وبلاغتهم والمتذوق لأساليبهم ليعرف أن القرآن جاء على أعلى ما يكون من فصاحتهم، ويتردد فيه فقط الذين غلبت قلوبهم العُجمة فسبقت إلى ألسنتهم.
ولعلماء النحو واللغة في تفسير كل المواضع المشتبه فيها مذاهب توافق بلاغة اللغة. كما أنّ القرآن باعتراف أهل البلاغة الذين نزل فيهم القرآن فاق كل بلاغتهم، فلا وجه أن يعترض علمٌ حادث بعدهم مُستَنبَطٌ من ملاحظة بلاغتهم في الحكم على القرآن الذي هو أعلى. وهو ما يعبر عنه العلماء أنَّ (القرآن حاكمٌ على اللغة وليس محكوما عليه).
وآثرت الرد على هذه الشبهة التي يثيرها بعض الزنادقة وأعداء الدين، مع أنَّ أحد المستشرقين المنصفين أنفسهم يقول: (إن أدق عملية نقل وأكثرها امانة حدثت في التاريخ هي جمع القرآن الكريم). اللهم اجعلنا ممن يشفع القرآن فيهم.
المعاني وفقه الآية.
قال علماؤنا: هذه آيةٌ عظيمةٌ من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة:
الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار، والملائكة، والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله، والنبيين، وإنفاق المال فيما يظهر من الواجب والمندوب، ووصل القرابة والرحم، ومراعاة اليتيم وعدم إهماله، والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، والصدقة في حال السؤال، وفك الرقاب، والمحافظة على الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر في الشدائد. وكل قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. [SUP]([12])[/SUP]
يقول الله سبحانه: {...وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}؛ في مستهل الآية نفى ثم ههنا استدراك؛ بمعنى أن البر ليس في الاتباع الشكلي للقبلة وأداء الشعائر، إنما حقيقته في استكانة القلب إلى معاني الدين الصافية، وهو تحقيق لمعاني الإيمان بالله تعالى البارئ للحياة، والإيمان بالحياة الأخرى ركنٌ منطقي بعد الإيمان بخالق الحياة ذلك أنَّ منها يتبلور مفهوم ارتباط السير في الحياة الدنيا بالثواب والعقاب في الحياة الأخرى، وهو مفهومٌ مهمٌ لمراجعة النفس قبل الإساءة والإفساد؛ فكل فعلٍ له حسابٌ دقيقٌ وفق هبة المسؤولية التي وهبها الله تعالى البشر.
ثم يأتي الإيمان بالملائكة تلك المخلوقات النورانية التي تمثل الرسل الإلهية لمجموعة منتقاة من البشر (الأنبياء والمرسلين) تبلغ منهجا محفوظا في الكتب السماوية يبين طريقة السير في الحياة على نورٍ ربانيٍّ حتى لا يظلم الإنسان نفسه بجهله وقلة خبرته في فهم الحياة...
فكان الإيمان بهذه المنظومة المنطقية عن تأملٍ وتعقل، ثم ترجمة تلك المعاني عملاً بالمنهج يزرع الحياة لتزهر صحراؤها بخضار الإيمان. وذلك حتى لا يكون الإيمان مجرد ادعاء حبيس القلوب. حينئذٍ يتحول الإيمان منهجاً للحياة عن اقتناعٍ وفهمٍ، لا عن إملاءٍ أعمى وتسلطٍ كهنوتيٍ بغيض.
ولأن المال هو مقصدٌ دنيويٌ جاثمٌ على العقول والقلوب لا ينفك عنه أحد، جاء الاختبار الأول لمعنى الإيمان في القلوب، وكذلك جاء نشر التراحم والتكافل في المجتمع المسلم من أجل بناء دولة السماء على الأرض؛ جاء الاختبار هنا بإنفاق المال في الخيرات ولذلك قال تعالى:
{وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} ... يَعْنِي أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ.
قال العلماء في معنى {على حبه} إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. وَقِيلَ: إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْإِيتَاءِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَسَخِّطًا عِنْدَ الْإِعْطَاءِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي...} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حُبَّ الْمَالَ وَهُوَ
مَا روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – بأسانيد جيدة مرفوعا- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ فَقَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمَلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ؛ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ –موقوفا- فِي قوله تعالى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} قَالَ: أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَأْمَلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْر. [SUP]([13])[/SUP]
قلتُ- جامعه: ومثل هذه الآية في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} وهنا يرجح توجيه أنه على حب الله تعالى من أجل تصريح اللحاق في الآية بعدها بذلك المعنى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} (الإنسان: 8 – 10)
مسألة فقهية اجتماعية حول الحقوق المالية على الأغنياء في الإسلام.
وهنا مسألةٌ فقهيةٌ للمتأملين يطرحها الجصاص وغيره، وعنه ننقل: يجيب عن سؤال هل المقصود هنا في {وآتى المال} الزكاة الواجبة أو الصدقة والتطوع؟
وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى} يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ (الزكاة)، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ.
يقول: وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْوَاجِبَةُ وَإِنَّمَا فِيهَا حَثٌّ على الصدقة ووعد بالثواب عليها.
وذلك لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّهَا مِنْ الْبِرِّ وَهَذَا لَفْظٌ يَنْطَوِي عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ إلَّا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَنَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الزَّكَاةَ لقوله تعالى بعدها: {وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ} فَلَمَّا عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّكَاةَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ أَرَادَ بِهِ حُقُوقًا وَاجِبَةً فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ نَحْوَ وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ إذَا وَجَدَ رحمه ذَا ضُرٍّ شَدِيدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَدْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ التَّلَفُ فَيَلْزَمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ.
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ"، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ. [SUP]([14])[/SUP]
قلتُ: وهو حديثٌ ضعيفٌ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ:" إنَّ فِيهَا حَقًّا. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا وَمِنْحَةُ سَمِينِهَا". رواه مسلم في الصحيح، وغيره [SUP]([15])[/SUP] . وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا: قعا عليها وضربها. وإطراق الفحل: إعارته للضِّراب لإخصاب أنثى الحيوان.
فَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ] الْآيَةَ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ مَا يَلْزَمُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْمَحَارِمِ الْفُقَرَاءِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِوَالِدَيْهِ وَذَوِي مَحَارِمِهِ إذَا كانوا فقراء عاجز بن عَنْ الْكَسْبِ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ إطعامِ الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَقًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَا وَاجِبًا، إذْ لَيْسَ قَوْلُهُ فِي الْمَالِ حَقٌّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إذْ مِنْ الْحُقُوقِ مَا هُوَ نَدْبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ فَرْضٌ.
قلتُ-متأمله الفقير: وقد صرح القرآن العظيم بنوعين من الحقوق المالية أحدها الحق المعلوم المحسوب للزكاة، والثاني الحق المندوب إليه وهو متروك لظروف صاحبه ومقدار إيمانه وإحسانه.
ففي النوع الأول قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وفي الثاني قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]، وفرَّق بينهما بالتخصيص والبيان للحق في الأول بأنه (معلوم)، فتأمل رحمك الله.
قال الجصاص-رحمه الله: -بسنده -عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ). [SUP]([16])[/SUP]
فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَائِرُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ فَإِنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ-رضى الله عنه-حَسَنُ السَّنَدِ، وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا إثْبَاتَ نَسْخِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً بِالزَّكَاةِ.
وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم إيَّاهُ عَلَيْهِ.
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ مِنْ الصَّدَقَاتِ صَدَقَاتٍ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً ابْتِدَاءً بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي لُزُومَ إخْرَاجِهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}.
قلتُ-متأمله: على رأى مَن يرى نسخ هذه الآية بآية المواريث.
قال الجصاص: وَنَحْوَ مَا رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ] أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ حَقُّ وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ الزَّكَاةِ
فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِالزَّكَاةِ مِثْلَ هَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُ مِنْ نَحْوِ الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ فَإِنَّ هَذِهِ فُرُوضٌ لَازِمَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِالزَّكَاةِ.
وَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي تَجِبُ بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ نَحْوَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّكَاة لَمْ تَنْسَخْهَا. انتهى كلام الجصاص رحمه الله. [SUP]([17])[/SUP]
والخلاصة بعد هذا النقاش العلمي الدسم أن الإسلام في عظمته التشريعية ومن أجل بناء دولة الإيمان لم يغفل الأمن الاجتماعي كحجر زاوية في بناء الدولة، بل إنه فرض التكافل الاجتماعي كوسيلة لتأمين المجتمع ضد الحقد والانهيار، فأوجب الإسلام حقوقا مالية على الأغنياء تُرَدُّ على الفقراء وقسم هذه الحقوق بين الواجب الفرض، وبين المندوب المستحب.
فجعل الزكاة، وكذلك إطعام الموشك على الهلاك، والقريب، وإعانة المضطر، وحقوق التراحم، والكفارات والنذور من الواجبات في مال الله الذي رزقه العباد.
كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوٍ إِلَى جَنْبِهِ».
وجعل الصدقات وجبر خواطر الناس فيما زاد عن الزكاة والواجبات من المندوب إليها التي ترفع الإيمان في قلوب الأسخياء الجياد وتنشر المبرة والخير والمحبة والطمأنينة في ربوع المجتمع المسلم.
وتالله أننا دفعنا المجتمع لهاويةٍ سحيقةٍ يومَ أنْ بخل الغني بحق الله في ماله، وتوزعت القساوة في المجتمع بين فقيرٍ حاقدٍ ناقمٍ، وبين غنىٍ جاحدٍ غليظ القلب ضعيف اليقين.
وما أجمل ما قاله الحكماء: إذا رأيتَ فقيرا معدما طال به الفقر والعوز، فاعلم أن هناك غنياً بخل بحق الله فيه فسرقه في بطنه.
ولذلك يقول رسولنا الكريم-كما في صحيح مسلم وغيره-: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أُقْعِد لها يوم القيامة بقاعٍ قرقرٍ تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. [SUP]([18])[/SUP]
قال صلى الله عليه وسلم: ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع [SUP]([19])[/SUP] يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه، ويُقال هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل " [SUP]([20])[/SUP] الحديث.
ويا له من مشهدٍ قوىٍ مؤثِّرٍ في عذاب أولئك الذين استأثروا برزق الله عليهم ولم يؤدوا حقه.
قال صاحب المنار:
ومشروعية البذل لهذه الأصناف من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن، ولا بامتلاك نصاب محدود، ولا بكون المبذول مقدارا معينا بالنسبة إلى ما يملك ككونه عشرا أو ربع العشر أو عشر العشر مثلا، وإنما هو أمر مطلق بالإحسان موكول إلى أريحية المعطي وحالة المعطى.
ووقاية الإنسان المحترم من الهلاك والتلف واجبة على من قدر عليها، وما زاد على ذلك فلا تقدير له. وقد أغفل أكثر الناس هذه الحقوق العامة التي حث عليها الكتاب العزيز لما فيها من الحياة الاشتراكية المعتدلة الشريفة، فلا يكادون يبذلون شيئا لهؤلاء المحتاجين إلا القليل النادر لبعض السائلين، وهم في هذا الزمان أقل الناس استحقاقا ; لأنهم اتخذوا السؤال حرفة وأكثرهم واجدون، ولو أقاموها لكان حال المسلمين في معايشهم خيرا من سائر الأمم، ولكان هذا من أسباب دخول الناس في الإسلام، وتفضيله على جميع ما يتصور الباحثون من مذاهب الاشتراكيين والماليين. [SUP]([21])[/SUP]
نعود للآية.
قال تعالى: {ذوي القربى} وقدَّم ذوي القربى لأنهم أحقُّ وألصق بقلب المرء، وأقرب في النظر إليه وأولى بترقيق قلوبهم. قال عليه الصلاة والسلام: «صدقتك على المسكين صدقة. وعلى ذي رحمك اثنتان لأنها صدقة و صِلَة» [SUP]([22])[/SUP]
وقال عليه الصلاة والسلام: «أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح». [SUP]([23])[/SUP] والكاشح الذي يضمر لك العداوة. وذلك لأنها حينئذ تكون علامةً على إخلاصها لله، وكذلك ربما ترقق قلبه. كما قال الشاعر:
أحسِنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبهمُ.... فلطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ.
{واليتامى} أى الذين فقدوا آباءهم صغاراً. قال الزمخشري: وأطلق ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى والمراد الفقراء منهم لعدم الالتباس. يقصد أنها مُقيَّدة بقرينة الحال.
قال: و{المساكين}: جمع مسكين وهو الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له، كالمسكير: للدائم السكر. [SUP]([24])[/SUP]
قال الفخر: إِنَّ الْمَسَاكِينَ أَهْلُ الْحَاجَةِ، ثُمَّ هُمْ ضَرْبَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُفُّ عَنِ السؤال وهو المراد هاهنا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ وَيَنْبَسِطُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالسَّائِلِينَ وَإِنَّمَا فَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ يَظْهَرُ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمَسْكَنَةُ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ يَعْرِفُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ. [SUP]([25])[/SUP]
{وَابْنَ السَّبِيلِ} هو المسافر المنقطع. وجُعل ابنا للسبيل لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق. وقيل: هو الضيف، لأنّ السبيل يظهره للمقيمين.
قال الرازي: وَالْأَوَّلُ أشبهُ، لأن السبيل لِلطَّرِيقِ وَجُعِلَ الْمُسَافِرُ ابْنًا لَهُ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ كَمَا يُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ: ابْنُ الْمَاءِ وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ: ابْنُ الْأَيَّامِ. وَلِلشُّجْعَانِ: بَنُو الْحَرْبِ. وَلِلنَّاسِ: بَنُو الزَّمَانِ. انتهى
{وَالسَّائِلِينَ} الذين اضطُّروا فسألوا الطعام.
{وَفِي الرِّقابِ} وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل في فك الأسارى. وفي تطبيقاتها العملية المحبوسين لدينٍ عليهم كما قرر ذلك الفقهاء المعاصرون.
قال الرازي رحمه الله: لَكِنْ مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ؟
قُلْنَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى.
لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ جَامِعًا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ أَوْكَدِ الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهِ حتى جعله القرآن مستحقا للوثية من التركة عَلَى مَا قَالَ تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...} [آل عمران: 180] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ قَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً إِلَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ قَدَّمَ ذَا الْقُرْبَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِالْيَتَامَى، لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا كَاسِبَ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ إِذْ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ عِنْدَ اشْتِدَادِ رَغْبَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. [SUP]([26])[/SUP]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا} أي وهم الموفون خبرا عن مبتدأ محذوفٍ معطوفٍ (= منسوقٍ) على معنى {من آمن...}. واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى؛ كاليمين والنَّذر، وما أشبهه، أو بينه وين رسول الله؛ كالبيعة؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، او بينه وبين النَّاس، وقد يكون ذلك واجباً، مثل: ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم، والرَّهن وغيره، وقد يكون مندوباً؛ مثل: الوفاء بالعهد في بذل الماء، والإخلاص في المناصرة.فقوله {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} يتناول كل هذه الأقسام؛ فلا تقتصر الآية على بعضها، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون، فقالوا: هم الذين إذا وعدوا، أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا، وفَّوا، وإذا قالوا، صدقوا، وإذا ائتمنوا، أدَّوا.
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ} الْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْفَقْرُ. وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. [SUP]([27])[/SUP]
والصابرين منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره وأخص، أو أمدح، كما فصَّلنا من لغة العرب وعرفهم في بلاغتهم، (ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه: جامعاً للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ -غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد)؛ وهذا كلام حسن قاله الراغب رحمه الله.
{وَحِينَ الْبَأْسِ} منصوب بالصَّابِرِينَ، أي: الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة، والبأْسُ: شدَّة القتال خاصَّة، بؤس الرَّجل، أي: شجع. قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: يريد القتال في سبيل الله. [SUP]([28])[/SUP]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَصَفَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالتَّقْوَى فِي أُمُورِهِمْ وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا جَادِّينَ فِي الدِّينِ، وَهَذَا غاية الثناء أنهم صَدَقُوا في القول والفعل والعزيمة.
اللهم اجعلنا من أهل الصدق والبر.
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) قال ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (24/ 333):
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَّصِلُ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
([2])رواه أحمد في المسند"2/ 291و392" والترمذي "2004"في البر والصلة، والحاكم في المستدرك "4/ 324"وصححه، ووافقه الذهبي. وابن ماجه رقم "4246"في الزهد، وابن حبان رقم "476"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده حسن.
([3])رواه أحمد في المسند" 2/ 250" وأبو داود رقم "4682"في السنة، والترمذي رقم" 1162" في الرضاع، والبغوي في شرح السنة رقم"3495"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
([4])رواه أحمد في المسند "6/ 90و94"، وأبو داود رقم "4798"في الأدب، والحاكم" 1/ 60" من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح.
[5] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 588)
([6])وعن وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "جئت تسأل عن البر؟ ", قلت: نعم. قال: "استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". قال النووي في الأربعين: حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدرامي بإسناد حسن.
([7]) شرح النووي على مسلم (16/ 111).
قال العلامة ابن دقيق العيد:
يعني: أن حسن الخلق أعظم خصال البر كما قال: "الحج عرفة" 1 أما البر فهو الذي يبر فاعله ويلحقه بالأبرار وهم المطيعون لله عز وجل. والمراد بحسن الخلق الإنصاف في المعاملة والرفق في المحاولة والعدل في الأحكام والبذل في الإحسان وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} (سورة الأنفال: الآية 2 -4).
وقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ}. إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة التوبة: الآية 112)
وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (سورة المؤمنون: الآية 1 – 10).
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} (سورة الفرقان: الآية 63). إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميعها علامة حسن الخلق وفقد جميعها علامة سوء الخلق ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده.
ولا يظن ظان أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش والمعاصي فقط وأن من فعل ذلك فقد هذب خلقه بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين والتخلق بأخلاقهم.
ومن حسن الخلق احتمال الأذى فقد ورد في الصحيحين: "أن أعرابياً جذب برد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشيته في عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك وأمر له بعطاء".
وقوله: "والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" يعني: هو الشيء الذي يورث نفرة في القلب وهذا أصل يتمسك به لمعرفة الإثم من البر: إن الإثم ما يحوك في الصدر ويكره صاحبه أن يطلع عليه الناس، والمراد بالناس والله أعلم أماثلهم ووجوههم لا غوغاؤهم، فهذا هو الإثم فيتركه والله أعلم. انتهى من شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 94)
[8])) اللباب في علوم الكتاب (3/ 193)
[9])) نقلا عن اللباب في علوم الكتاب لابن عادل(3/ 193)
([10]) راجع التبيان في إعراب القرآن (1/ 143) وتفسير القرطبي (2/ 237).
([11])تفسير القرطبي (2/ 240)
([12])تفسير القرطبي (2/ 241) بتصرف
([13])راجع أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (1/ 162)
([14]) حديث ضعيف والصحيح أنه من قول الشعبي. والله أعلم.. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (9/ 370) يقول الألباني رحمه الله: أخرجه الترمذي (1/ 128)، والدارمي (1/ 385)، وابن عدي (193/ 1) عن جمع، عن شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس مرفوعاً. وقال الترمذي:
"إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور؛ يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله، وهو أصح". ميمون ضعيف؛ كما أفاده الترمذي، وجزم به في "التقريب".
وشريك - وهو ابن عبد الله القاضي -؛ سيىء الحفظ.
([15])حديث صحيح. انظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5/ 346) للألباني رحمه الله يقول: أخرجه مسلم (3/74) والنسائي (1/339-340) والدارمي (1/379-380) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن.
قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله.
ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه، ويقال هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل " ثم أخرجه مسلم والدارمي وأحمد (3/321) من طريق بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره نحوه.
وأخرجه أبو داود (1661) بنحوه ولم يسق لفظه بتمامه.
([16]) أخرجه الدَّارَقُطْنِي في الصيد والذبائح، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنه فِي الْأُضْحِيَّةِ عَنْ الْمُسَيِّبِ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ الْيَقْظَانِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ، وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَنَسَخَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ، وَنَسَخَتْ الْأَضَاحِيُّ كُلَّ ذَبِيحٍ"، انْتَهَى. وَضَعَّفَاهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ الْيَقْظَانِ مَتْرُوكَانِ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ.
راجع نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي- جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: 762هـ) ( 4/ 208)
([17])انظر أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي بدءا من (1/ 162)، بتصرف يسير وتعليقات.
([18]) قال العلماء يقصد أن عذابه أن ينكفئ على أرض ملساء مستوية ( = قاع قرقر) تمر عليه الإبل والبقر والغنم التي منع حقها بأظلافها تمزقه تروح وتجىء، ثم تنطحه إلى أن تقوم الساعة.
([19]) الشجاع الأقرع هو الثعبان أو الحية القوية التي تقف على ذيلها مبارزةً
([20]) أي أدخل يده في فم الحية تقضمها حين لا يستطيع الفرار منها.
[21])) تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا(2/ 94)
([22])حديث صحيح. أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والدارمي كلهم من حديث سلمان بن عامر بلفظ «الصدقة على المسكين حسنة...» الترمذي. وفي الباب عن ابن طلحة وأبى أمامة.
([23])حديث حسن. قال ابن حجر: أخرجه عبد الرزاق والحاكم والبيهقي والطبراني من رواية ابن عيينة عن الزهري. عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة. ورواه أبو عبيد في كتاب الأموال من رواية ابراهيم بن يزيد المكي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة. وأخرجه من طريق عقيل عن الزهري مرسلا. لم يذكر أبا هريرة ورواه أحمد من رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام ورواه أيضاً هو وإسحاق والطبراني من طريق الحجاج بن أرطاة عنه عن حكيم بن بشير عن أبى أيوب. فهذه الطرق كلها تدور على الزهري، مع اختلاف عليه، وأحفظهم سفيان بن عنبسة، وعقيل أحفظ منه. وروايته أشبه بالصواب.»
([24])تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 219)
([25])تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 217)
([26]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 216) بتصرف
[27])) والمشهور لغةً أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرَّ. يقال بَئُس يبْأَس، إذا افتقر؛ قال الشاعر:
وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً ... يُنَاغِي غَزَالاً سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ.
[28])) وأصل البأس في اللغة: الشِّدَّة؛ يقال: لا بأس عليك في هذا، أي: لا شدَّة و {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (الأعراف: 165) أي: شديد، ثم يسمَّى الحرب بأساً، لما فيه من الشِّدَّة، والعذاب يسمَّى بأساً؛ لشدَّته، قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} (غافر: 84) {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} (الأنبياء: 12]) {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} (غافر: 29).
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة/177)
إنها من الآيات الجوامع...
فبعد تمهيد نفوس المؤمنين بإحاطتها بالشعائر والقبلة التي تضمن تمايزهم عن غيرهم ليعلموا أنهم على أعتاب طريقٍ طويل من حمل راية التصحيح للعقائد والعبادات، جاء دور التشريع الذي يرمي أول ما يرمي إلى ضبط مصدرية التلقي ليكون المصدر في التحليل والتحريم-فقط-الله تعالى...بعد ذلك يأتي دور ضبط (بوصلة) اتجاه الدين وتصحيح المعنى العام للإسلام في النفوس، فالإسلام ليس مجرد الشعائر، ولا الاتجاه إلى القبلة، ولكنَّ المعنى الأهم والخط العام الثابت في هذا الدين هو (البِرّ)؛ إنه الأساس الأخلاقي والتهذيبي الشامل للإسلام الذي رسم أطره سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قال: " بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (وفي رواية حسن الأخلاق، بضم الحاء وفتحها)، وفي رواية أحمد: " لأتمم صالح الأخلاق". [SUP]([1])[/SUP]
هكذا بطريق الحصر " إنما" التي تفيد حصر رسالته صلى الله عليه في بناء مجتمعٍ أخلاقي على ضفاف نورٍ رباني. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الصَّلَاحُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ والدين وَالْفَضْلُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالْعَدْلُ فَبِذَلِكَ بُعِثَ لِيُتَمِّمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ لِلْبِرِّ وَالْفَضْلِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ولذا تكررت الأحاديث في مدح حُسن الخلق في غير موضع، كقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق". [SUP]([2])[/SUP]
وقوله: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". [SUP]([3])[/SUP]
وقوله: "إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم، القائم". [SUP]([4])[/SUP]
ولا عجب، فالعبادة في جانبها الباطن وأثرها في شخصية المسلم يجب أن تؤدي به إلى البر.
قال صاحب "الصحاح":
البِرُّ: خلاف العُقوقِ، (أي الإحسان والخير) والمَبَرَّةُ مثْله. تقول: بَرِرْتُ والدي بالكسر، أَبَرُّهُ بِرّاً، فأنا بَرٌّ به وبارٌّ. وجمع البَرَّ أَبْرارٌ، وجمع البار البررة. وفلان يبر خالقه ويَتَبَرَّرُهُ، أي يطيعه. والأمُّ بَرَّةٌ بولدها. وبَرَّ فلانٌ في يمينه، أي صَدَقَ. وبَرَّ حَجُّهُ، وبُرَّ حجه، وبر الله حجه، بِرّاً، بالكسر في هذا كلِّه. وتَبارُّوا: تفاعَلوا من البِرِّ. [SUP]([5])[/SUP]
وقد عرف معنى البر قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكِ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) رواه مسلم. [SUP]([6])[/SUP]
قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة. وهذه الامور هي مجامع حسن الخلق.
ومعنى (حاك في صدرك) أي تحرك فيه وتردد ولم ينشرح له الصدر وحصل في القلب منه الشك وخوف كونه ذنبا. [SUP]([7])[/SUP]
******
اختلف علماء التفسير: هَلْ هذا الخطاب عَامٌّ، أو خاصٌّ؟
فقال قتادةُ، ومقاتلُ بْنُ حَيَّان: لمَّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجُّه نحو بيْت المَقْدِس، قال تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} هذه الطريقة، {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله}.
وقال مجاهدٌ وعطاءٌ والضَّحَّاك -رضِيَ الله عنهم -: المرادُ مخاطبةُ المؤمنين، لَمَّا ظنُّوا هذا الكلام.
وقال بعضُهُم: هو خطابٌ للكلّ؛ لأنَّه لما حُوِّلت القبلةُ، حَصَلَ للمؤمنينَ الاغتباطُ بهذه القِبْلة، وحَصَلَ منْهم التشديدُ في هذه القِبْلَة؛ حتَّى ظنُّوا أنَّه الغرضُ الأكْبَر في الدِّين، فبعثهم الله تعالى بهذا الخِطَاب استيفاءَ جميع الطاعات والعبادات، ولَيْسَ البرَّ بأنْ تولُّوا وجوهَكُم شَرْقاً وغرباً، وإِنَّمَا البِرُّ كَيْتَ، وكَيْتَ، وكَيْتَ، فكأنَّه تبارك وتعالى قال: ليْس البرُّ المطلوبُ هو أمْرَ القِبْلة، بل البِرُّ المطلوبُ هذه الخصالُ الَّتي عدَّدتُّها. [SUP]([8])[/SUP]
قلتُ: وهذا الذي أرجّحهُ، وإن كنت أميل أنَّ الخطاب للمؤمنين أولاً، ومُعرِّضاً باليهود ضمنيا.
قال القفَّال: والذي عندَنا أنَّه إشارةٌ إلى السُّفَهاء الذين طَعَنُوا في المُسْلِمين، وقالُوا: ما ولاَّهم عن قبلتهم الَّتي كانُوا علَيْها؟ مع أنَّ اليَهُود كانُوا يستَقْبلون المَغْرب، والنَّصَارَى كانُوا يستقْبِلُون المَشْرِق، فقال الله تعالى: إنَّ صَفَةَ البِرِّ لا تحصُلُ باستقبالِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، بل البرُّ يحصُلُ بأُمُر.
منها: الإيمانُ بالله، وأهْلُ الكتابِ أخَلُّوا بذلك، فَأَمَّا اليهود، فلقولهم بالتَّجْسِيم، ولقَوْلِهِم بأنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ، وأَمَّا النصارَى فلقولهم: المَسِيحُ ابْنُ الله، واليهودُ وصَفُوا الله تعالى بالبُخْل.
وثانيها: الإيمانُ باليَوْم الآخِر، واليهود أخلُّوا بذلك، وقالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] والنصارى أنْكَرُوا المعادَ الجِسْمانيَّ، وكلُّ ذلك تكذيبٌ باليوم الآخر.
وثالثها: الإيمانُ بالمَلاَئكة، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ.
ورابعها: الإيمانُ بكُتُب الله تعالى، واليهودُ أخلُّوا بذلك، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه؛ قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
وخامسها: الإيمانُ بِالنَّبيِّين، واليَهُود أخلُّوا بذلك؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ؛ على ما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وسادسها: بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى، واليهود أخلُّوا بذلك؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات؛ لِطَلَب المَال القَليلِ قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}.
وسابعها: إقَامة الصَّلاة، وإيتاءُ الزَّكاة، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها.
وثامنها: الوفَاءُ بالعَهْد، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد؛ قال تبارك وتعالى: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
وتاسعها: قوله: {فِي البأساء والضراء وَحِينَ البأس} والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف، والجبْنِ؛ قال تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} [الحشر: 14]. [SUP]([9])[/SUP]
فالأمر إذن فيه تعريضٌ بذكر أولئك المارقين من أجل بناء دولة الإيمان على أساسٍ متينٍ من تصحيحِ أوضاعِ الديانات التي ضلَّت قبل أن تأتي الرسالةُ المحمدية.
والآية -بعدُ-جامعةٌ للكمالات الانسانية صريحا أو ضمنا دالة على صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس. وهذا منصبُ الأبرارِ، وأما الصديقون المقربون فمزيد فضلهم مبنى على الفضل والاجتباء؛ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ-.
من حيث اللغة والقراءات وشبهةٌ مردودةٌ:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}
(ليس) في النحو من أخوات كان؛ الأفعال الناسخة. وقدَّر بعضُ القُرَّاء المصدرَ في (أن تولوا) أنه اسمها في محل رفع، والخبر مُقدَّم منصوب (البرَّ) بفتح الراء، فيكون تقديره (ليس توليتُكم... البرَّ)، وهذه قراءة حمزة وحفص.
وقرأ الباقي برفع (البرُّ) على أنها اسم (ليس)، فالتقدير (ليس البرُّ توليتَكم...)، والقراءتان متواترتان حسنتان. [SUP]([10])[/SUP]
{قِبَلَ} أي اتجاه وهى ظرف مكان.
وقَوْله تَعَالَى: {َولكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وقرأ نافع وابن عامر-«ولكنْ» -بالتخفيف.
قِيلَ إنَّ فِيهِ حَذْفًا وَمَعْنَاهُ: إنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ، ورجَّحه سيبويه وغيره من أهل اللغة.
وَقِيلَ المحذوف هو (ولكنَّ ذو البر مَن آمن بالله...) قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ... وغيرهما، أو التقدير (ولكن الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّه) من باب وضع المصدر مكان الفاعل، كما في القرآن {الآية... إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً} (سورة الملك: 30) أَيْ غَائِرًا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لَقَرَأْتُ" وَلكِنَّ الْبِرَّ" بِفَتْحِ الْبَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} فَقِيلَ: يَكُونُ" الْمُوفُونَ" عَطْفًا عَلَى دلالة" مَنْ"، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ.
" وَالصَّابِرِينَ" نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ، أي وأخص الصابرين بالذكر. وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى الذَّمِّ كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِفْرَادَ الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ وَلَا يُتْبِعُونَهُ أَوَّلَ الْكَلَامِ، وَيَنْصِبُونَهُ. فَأَمَّا الْمَدْحُ فَقَوْلُهُ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: 162).
وَأَمَّا الذَّمُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا} (الأحزاب: 61) الآية.
وَهَكَذَا قَالَ فِي سورة النساء: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: 162).
قال بعد ذلك العلامة القرطبي رحمه الله: وَهَذَا طريقٌ واسعٌ بيّنٌ فِي النُّعُوتِ، لَا مَطْعَنَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ تَعَسَّفَ فِي كَلَامِهِ: إِنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ حِينَ كَتَبُوا مُصْحَفَ الْإِمَامِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: أَرَى فِيهِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا. وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. [SUP]([11])[/SUP]
قلتُ-جامعه: هذا القول من أخبث ما وضع الوضَّاعون على عثمان رضى الله عنه، وقد أنكر العلماء صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه الصحابة في جمعه وكتابته، ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التي جمع القرآن فيها عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق تمام الموافقة للعرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-القرآن على جبريل عليه السلام!
وهل يظن ظانٌّ أن عثمان -رضى الله عنه-وهو ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل الله ويتركه ويقول: ستقيمه العرب بألسنتها؟!
وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات،
وكيف يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته؟!
وإذا لم يُقِمْه هو-رضى الله عنه-ومن باشر جمع القرآن وهم مَن هم، فكيف يقيمه غيرهم؟!
وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان القرطبي، والزمخشري، وأبو حيان، والألوسي في سورة" النساء" عند قوله تعالى:" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" آية 162.
وإن المتقن للسان العرب وبلاغتهم والمتذوق لأساليبهم ليعرف أن القرآن جاء على أعلى ما يكون من فصاحتهم، ويتردد فيه فقط الذين غلبت قلوبهم العُجمة فسبقت إلى ألسنتهم.
ولعلماء النحو واللغة في تفسير كل المواضع المشتبه فيها مذاهب توافق بلاغة اللغة. كما أنّ القرآن باعتراف أهل البلاغة الذين نزل فيهم القرآن فاق كل بلاغتهم، فلا وجه أن يعترض علمٌ حادث بعدهم مُستَنبَطٌ من ملاحظة بلاغتهم في الحكم على القرآن الذي هو أعلى. وهو ما يعبر عنه العلماء أنَّ (القرآن حاكمٌ على اللغة وليس محكوما عليه).
وآثرت الرد على هذه الشبهة التي يثيرها بعض الزنادقة وأعداء الدين، مع أنَّ أحد المستشرقين المنصفين أنفسهم يقول: (إن أدق عملية نقل وأكثرها امانة حدثت في التاريخ هي جمع القرآن الكريم). اللهم اجعلنا ممن يشفع القرآن فيهم.
المعاني وفقه الآية.
قال علماؤنا: هذه آيةٌ عظيمةٌ من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة:
الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار، والملائكة، والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله، والنبيين، وإنفاق المال فيما يظهر من الواجب والمندوب، ووصل القرابة والرحم، ومراعاة اليتيم وعدم إهماله، والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، والصدقة في حال السؤال، وفك الرقاب، والمحافظة على الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر في الشدائد. وكل قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. [SUP]([12])[/SUP]
يقول الله سبحانه: {...وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}؛ في مستهل الآية نفى ثم ههنا استدراك؛ بمعنى أن البر ليس في الاتباع الشكلي للقبلة وأداء الشعائر، إنما حقيقته في استكانة القلب إلى معاني الدين الصافية، وهو تحقيق لمعاني الإيمان بالله تعالى البارئ للحياة، والإيمان بالحياة الأخرى ركنٌ منطقي بعد الإيمان بخالق الحياة ذلك أنَّ منها يتبلور مفهوم ارتباط السير في الحياة الدنيا بالثواب والعقاب في الحياة الأخرى، وهو مفهومٌ مهمٌ لمراجعة النفس قبل الإساءة والإفساد؛ فكل فعلٍ له حسابٌ دقيقٌ وفق هبة المسؤولية التي وهبها الله تعالى البشر.
ثم يأتي الإيمان بالملائكة تلك المخلوقات النورانية التي تمثل الرسل الإلهية لمجموعة منتقاة من البشر (الأنبياء والمرسلين) تبلغ منهجا محفوظا في الكتب السماوية يبين طريقة السير في الحياة على نورٍ ربانيٍّ حتى لا يظلم الإنسان نفسه بجهله وقلة خبرته في فهم الحياة...
فكان الإيمان بهذه المنظومة المنطقية عن تأملٍ وتعقل، ثم ترجمة تلك المعاني عملاً بالمنهج يزرع الحياة لتزهر صحراؤها بخضار الإيمان. وذلك حتى لا يكون الإيمان مجرد ادعاء حبيس القلوب. حينئذٍ يتحول الإيمان منهجاً للحياة عن اقتناعٍ وفهمٍ، لا عن إملاءٍ أعمى وتسلطٍ كهنوتيٍ بغيض.
ولأن المال هو مقصدٌ دنيويٌ جاثمٌ على العقول والقلوب لا ينفك عنه أحد، جاء الاختبار الأول لمعنى الإيمان في القلوب، وكذلك جاء نشر التراحم والتكافل في المجتمع المسلم من أجل بناء دولة السماء على الأرض؛ جاء الاختبار هنا بإنفاق المال في الخيرات ولذلك قال تعالى:
{وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} ... يَعْنِي أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ.
قال العلماء في معنى {على حبه} إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. وَقِيلَ: إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْإِيتَاءِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَسَخِّطًا عِنْدَ الْإِعْطَاءِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي...} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حُبَّ الْمَالَ وَهُوَ
مَا روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – بأسانيد جيدة مرفوعا- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ فَقَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمَلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ؛ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ –موقوفا- فِي قوله تعالى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} قَالَ: أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَأْمَلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْر. [SUP]([13])[/SUP]
قلتُ- جامعه: ومثل هذه الآية في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} وهنا يرجح توجيه أنه على حب الله تعالى من أجل تصريح اللحاق في الآية بعدها بذلك المعنى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} (الإنسان: 8 – 10)
مسألة فقهية اجتماعية حول الحقوق المالية على الأغنياء في الإسلام.
وهنا مسألةٌ فقهيةٌ للمتأملين يطرحها الجصاص وغيره، وعنه ننقل: يجيب عن سؤال هل المقصود هنا في {وآتى المال} الزكاة الواجبة أو الصدقة والتطوع؟
وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى} يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ (الزكاة)، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ.
يقول: وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْوَاجِبَةُ وَإِنَّمَا فِيهَا حَثٌّ على الصدقة ووعد بالثواب عليها.
وذلك لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّهَا مِنْ الْبِرِّ وَهَذَا لَفْظٌ يَنْطَوِي عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ إلَّا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَنَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الزَّكَاةَ لقوله تعالى بعدها: {وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ} فَلَمَّا عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّكَاةَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ أَرَادَ بِهِ حُقُوقًا وَاجِبَةً فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ نَحْوَ وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ إذَا وَجَدَ رحمه ذَا ضُرٍّ شَدِيدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَدْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ التَّلَفُ فَيَلْزَمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ.
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ"، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ. [SUP]([14])[/SUP]
قلتُ: وهو حديثٌ ضعيفٌ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ:" إنَّ فِيهَا حَقًّا. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا وَمِنْحَةُ سَمِينِهَا". رواه مسلم في الصحيح، وغيره [SUP]([15])[/SUP] . وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا: قعا عليها وضربها. وإطراق الفحل: إعارته للضِّراب لإخصاب أنثى الحيوان.
فَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ] الْآيَةَ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ مَا يَلْزَمُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْمَحَارِمِ الْفُقَرَاءِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِوَالِدَيْهِ وَذَوِي مَحَارِمِهِ إذَا كانوا فقراء عاجز بن عَنْ الْكَسْبِ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ إطعامِ الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَقًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَا وَاجِبًا، إذْ لَيْسَ قَوْلُهُ فِي الْمَالِ حَقٌّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إذْ مِنْ الْحُقُوقِ مَا هُوَ نَدْبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ فَرْضٌ.
قلتُ-متأمله الفقير: وقد صرح القرآن العظيم بنوعين من الحقوق المالية أحدها الحق المعلوم المحسوب للزكاة، والثاني الحق المندوب إليه وهو متروك لظروف صاحبه ومقدار إيمانه وإحسانه.
ففي النوع الأول قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وفي الثاني قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]، وفرَّق بينهما بالتخصيص والبيان للحق في الأول بأنه (معلوم)، فتأمل رحمك الله.
قال الجصاص-رحمه الله: -بسنده -عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ). [SUP]([16])[/SUP]
فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَائِرُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ فَإِنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ-رضى الله عنه-حَسَنُ السَّنَدِ، وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا إثْبَاتَ نَسْخِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً بِالزَّكَاةِ.
وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم إيَّاهُ عَلَيْهِ.
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ مِنْ الصَّدَقَاتِ صَدَقَاتٍ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً ابْتِدَاءً بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي لُزُومَ إخْرَاجِهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}.
قلتُ-متأمله: على رأى مَن يرى نسخ هذه الآية بآية المواريث.
قال الجصاص: وَنَحْوَ مَا رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ] أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ حَقُّ وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ الزَّكَاةِ
فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِالزَّكَاةِ مِثْلَ هَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُ مِنْ نَحْوِ الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ فَإِنَّ هَذِهِ فُرُوضٌ لَازِمَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِالزَّكَاةِ.
وَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي تَجِبُ بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ نَحْوَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّكَاة لَمْ تَنْسَخْهَا. انتهى كلام الجصاص رحمه الله. [SUP]([17])[/SUP]
والخلاصة بعد هذا النقاش العلمي الدسم أن الإسلام في عظمته التشريعية ومن أجل بناء دولة الإيمان لم يغفل الأمن الاجتماعي كحجر زاوية في بناء الدولة، بل إنه فرض التكافل الاجتماعي كوسيلة لتأمين المجتمع ضد الحقد والانهيار، فأوجب الإسلام حقوقا مالية على الأغنياء تُرَدُّ على الفقراء وقسم هذه الحقوق بين الواجب الفرض، وبين المندوب المستحب.
فجعل الزكاة، وكذلك إطعام الموشك على الهلاك، والقريب، وإعانة المضطر، وحقوق التراحم، والكفارات والنذور من الواجبات في مال الله الذي رزقه العباد.
كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوٍ إِلَى جَنْبِهِ».
وجعل الصدقات وجبر خواطر الناس فيما زاد عن الزكاة والواجبات من المندوب إليها التي ترفع الإيمان في قلوب الأسخياء الجياد وتنشر المبرة والخير والمحبة والطمأنينة في ربوع المجتمع المسلم.
وتالله أننا دفعنا المجتمع لهاويةٍ سحيقةٍ يومَ أنْ بخل الغني بحق الله في ماله، وتوزعت القساوة في المجتمع بين فقيرٍ حاقدٍ ناقمٍ، وبين غنىٍ جاحدٍ غليظ القلب ضعيف اليقين.
وما أجمل ما قاله الحكماء: إذا رأيتَ فقيرا معدما طال به الفقر والعوز، فاعلم أن هناك غنياً بخل بحق الله فيه فسرقه في بطنه.
ولذلك يقول رسولنا الكريم-كما في صحيح مسلم وغيره-: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أُقْعِد لها يوم القيامة بقاعٍ قرقرٍ تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. [SUP]([18])[/SUP]
قال صلى الله عليه وسلم: ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع [SUP]([19])[/SUP] يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه، ويُقال هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل " [SUP]([20])[/SUP] الحديث.
ويا له من مشهدٍ قوىٍ مؤثِّرٍ في عذاب أولئك الذين استأثروا برزق الله عليهم ولم يؤدوا حقه.
قال صاحب المنار:
ومشروعية البذل لهذه الأصناف من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن، ولا بامتلاك نصاب محدود، ولا بكون المبذول مقدارا معينا بالنسبة إلى ما يملك ككونه عشرا أو ربع العشر أو عشر العشر مثلا، وإنما هو أمر مطلق بالإحسان موكول إلى أريحية المعطي وحالة المعطى.
ووقاية الإنسان المحترم من الهلاك والتلف واجبة على من قدر عليها، وما زاد على ذلك فلا تقدير له. وقد أغفل أكثر الناس هذه الحقوق العامة التي حث عليها الكتاب العزيز لما فيها من الحياة الاشتراكية المعتدلة الشريفة، فلا يكادون يبذلون شيئا لهؤلاء المحتاجين إلا القليل النادر لبعض السائلين، وهم في هذا الزمان أقل الناس استحقاقا ; لأنهم اتخذوا السؤال حرفة وأكثرهم واجدون، ولو أقاموها لكان حال المسلمين في معايشهم خيرا من سائر الأمم، ولكان هذا من أسباب دخول الناس في الإسلام، وتفضيله على جميع ما يتصور الباحثون من مذاهب الاشتراكيين والماليين. [SUP]([21])[/SUP]
نعود للآية.
قال تعالى: {ذوي القربى} وقدَّم ذوي القربى لأنهم أحقُّ وألصق بقلب المرء، وأقرب في النظر إليه وأولى بترقيق قلوبهم. قال عليه الصلاة والسلام: «صدقتك على المسكين صدقة. وعلى ذي رحمك اثنتان لأنها صدقة و صِلَة» [SUP]([22])[/SUP]
وقال عليه الصلاة والسلام: «أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح». [SUP]([23])[/SUP] والكاشح الذي يضمر لك العداوة. وذلك لأنها حينئذ تكون علامةً على إخلاصها لله، وكذلك ربما ترقق قلبه. كما قال الشاعر:
أحسِنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبهمُ.... فلطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ.
{واليتامى} أى الذين فقدوا آباءهم صغاراً. قال الزمخشري: وأطلق ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى والمراد الفقراء منهم لعدم الالتباس. يقصد أنها مُقيَّدة بقرينة الحال.
قال: و{المساكين}: جمع مسكين وهو الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له، كالمسكير: للدائم السكر. [SUP]([24])[/SUP]
قال الفخر: إِنَّ الْمَسَاكِينَ أَهْلُ الْحَاجَةِ، ثُمَّ هُمْ ضَرْبَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُفُّ عَنِ السؤال وهو المراد هاهنا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ وَيَنْبَسِطُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالسَّائِلِينَ وَإِنَّمَا فَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ يَظْهَرُ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمَسْكَنَةُ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ يَعْرِفُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ. [SUP]([25])[/SUP]
{وَابْنَ السَّبِيلِ} هو المسافر المنقطع. وجُعل ابنا للسبيل لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق. وقيل: هو الضيف، لأنّ السبيل يظهره للمقيمين.
قال الرازي: وَالْأَوَّلُ أشبهُ، لأن السبيل لِلطَّرِيقِ وَجُعِلَ الْمُسَافِرُ ابْنًا لَهُ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ كَمَا يُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ: ابْنُ الْمَاءِ وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ: ابْنُ الْأَيَّامِ. وَلِلشُّجْعَانِ: بَنُو الْحَرْبِ. وَلِلنَّاسِ: بَنُو الزَّمَانِ. انتهى
{وَالسَّائِلِينَ} الذين اضطُّروا فسألوا الطعام.
{وَفِي الرِّقابِ} وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل في فك الأسارى. وفي تطبيقاتها العملية المحبوسين لدينٍ عليهم كما قرر ذلك الفقهاء المعاصرون.
قال الرازي رحمه الله: لَكِنْ مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ؟
قُلْنَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى.
لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا كَانَ قَرِيبًا فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ جَامِعًا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ أَوْكَدِ الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهِ حتى جعله القرآن مستحقا للوثية من التركة عَلَى مَا قَالَ تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...} [آل عمران: 180] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ قَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً إِلَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ قَدَّمَ ذَا الْقُرْبَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِالْيَتَامَى، لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا كَاسِبَ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ إِذْ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ عِنْدَ اشْتِدَادِ رَغْبَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. [SUP]([26])[/SUP]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا} أي وهم الموفون خبرا عن مبتدأ محذوفٍ معطوفٍ (= منسوقٍ) على معنى {من آمن...}. واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى؛ كاليمين والنَّذر، وما أشبهه، أو بينه وين رسول الله؛ كالبيعة؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، او بينه وبين النَّاس، وقد يكون ذلك واجباً، مثل: ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم، والرَّهن وغيره، وقد يكون مندوباً؛ مثل: الوفاء بالعهد في بذل الماء، والإخلاص في المناصرة.فقوله {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} يتناول كل هذه الأقسام؛ فلا تقتصر الآية على بعضها، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون، فقالوا: هم الذين إذا وعدوا، أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا، وفَّوا، وإذا قالوا، صدقوا، وإذا ائتمنوا، أدَّوا.
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ} الْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْفَقْرُ. وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. [SUP]([27])[/SUP]
والصابرين منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره وأخص، أو أمدح، كما فصَّلنا من لغة العرب وعرفهم في بلاغتهم، (ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه: جامعاً للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ -غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد)؛ وهذا كلام حسن قاله الراغب رحمه الله.
{وَحِينَ الْبَأْسِ} منصوب بالصَّابِرِينَ، أي: الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة، والبأْسُ: شدَّة القتال خاصَّة، بؤس الرَّجل، أي: شجع. قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: يريد القتال في سبيل الله. [SUP]([28])[/SUP]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَصَفَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالتَّقْوَى فِي أُمُورِهِمْ وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا جَادِّينَ فِي الدِّينِ، وَهَذَا غاية الثناء أنهم صَدَقُوا في القول والفعل والعزيمة.
اللهم اجعلنا من أهل الصدق والبر.
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) قال ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (24/ 333):
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَّصِلُ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
([2])رواه أحمد في المسند"2/ 291و392" والترمذي "2004"في البر والصلة، والحاكم في المستدرك "4/ 324"وصححه، ووافقه الذهبي. وابن ماجه رقم "4246"في الزهد، وابن حبان رقم "476"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده حسن.
([3])رواه أحمد في المسند" 2/ 250" وأبو داود رقم "4682"في السنة، والترمذي رقم" 1162" في الرضاع، والبغوي في شرح السنة رقم"3495"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
([4])رواه أحمد في المسند "6/ 90و94"، وأبو داود رقم "4798"في الأدب، والحاكم" 1/ 60" من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح.
[5] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 588)
([6])وعن وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "جئت تسأل عن البر؟ ", قلت: نعم. قال: "استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". قال النووي في الأربعين: حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدرامي بإسناد حسن.
([7]) شرح النووي على مسلم (16/ 111).
قال العلامة ابن دقيق العيد:
يعني: أن حسن الخلق أعظم خصال البر كما قال: "الحج عرفة" 1 أما البر فهو الذي يبر فاعله ويلحقه بالأبرار وهم المطيعون لله عز وجل. والمراد بحسن الخلق الإنصاف في المعاملة والرفق في المحاولة والعدل في الأحكام والبذل في الإحسان وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} (سورة الأنفال: الآية 2 -4).
وقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ}. إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة التوبة: الآية 112)
وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (سورة المؤمنون: الآية 1 – 10).
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} (سورة الفرقان: الآية 63). إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميعها علامة حسن الخلق وفقد جميعها علامة سوء الخلق ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده.
ولا يظن ظان أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش والمعاصي فقط وأن من فعل ذلك فقد هذب خلقه بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين والتخلق بأخلاقهم.
ومن حسن الخلق احتمال الأذى فقد ورد في الصحيحين: "أن أعرابياً جذب برد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشيته في عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك وأمر له بعطاء".
وقوله: "والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" يعني: هو الشيء الذي يورث نفرة في القلب وهذا أصل يتمسك به لمعرفة الإثم من البر: إن الإثم ما يحوك في الصدر ويكره صاحبه أن يطلع عليه الناس، والمراد بالناس والله أعلم أماثلهم ووجوههم لا غوغاؤهم، فهذا هو الإثم فيتركه والله أعلم. انتهى من شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 94)
[8])) اللباب في علوم الكتاب (3/ 193)
[9])) نقلا عن اللباب في علوم الكتاب لابن عادل(3/ 193)
([10]) راجع التبيان في إعراب القرآن (1/ 143) وتفسير القرطبي (2/ 237).
([11])تفسير القرطبي (2/ 240)
([12])تفسير القرطبي (2/ 241) بتصرف
([13])راجع أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (1/ 162)
([14]) حديث ضعيف والصحيح أنه من قول الشعبي. والله أعلم.. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (9/ 370) يقول الألباني رحمه الله: أخرجه الترمذي (1/ 128)، والدارمي (1/ 385)، وابن عدي (193/ 1) عن جمع، عن شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس مرفوعاً. وقال الترمذي:
"إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور؛ يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله، وهو أصح". ميمون ضعيف؛ كما أفاده الترمذي، وجزم به في "التقريب".
وشريك - وهو ابن عبد الله القاضي -؛ سيىء الحفظ.
([15])حديث صحيح. انظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5/ 346) للألباني رحمه الله يقول: أخرجه مسلم (3/74) والنسائي (1/339-340) والدارمي (1/379-380) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن.
قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله.
ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه، ويقال هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل " ثم أخرجه مسلم والدارمي وأحمد (3/321) من طريق بن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره نحوه.
وأخرجه أبو داود (1661) بنحوه ولم يسق لفظه بتمامه.
([16]) أخرجه الدَّارَقُطْنِي في الصيد والذبائح، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنه فِي الْأُضْحِيَّةِ عَنْ الْمُسَيِّبِ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ الْيَقْظَانِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ، وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَنَسَخَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ، وَنَسَخَتْ الْأَضَاحِيُّ كُلَّ ذَبِيحٍ"، انْتَهَى. وَضَعَّفَاهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ الْيَقْظَانِ مَتْرُوكَانِ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ.
راجع نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي- جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: 762هـ) ( 4/ 208)
([17])انظر أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي بدءا من (1/ 162)، بتصرف يسير وتعليقات.
([18]) قال العلماء يقصد أن عذابه أن ينكفئ على أرض ملساء مستوية ( = قاع قرقر) تمر عليه الإبل والبقر والغنم التي منع حقها بأظلافها تمزقه تروح وتجىء، ثم تنطحه إلى أن تقوم الساعة.
([19]) الشجاع الأقرع هو الثعبان أو الحية القوية التي تقف على ذيلها مبارزةً
([20]) أي أدخل يده في فم الحية تقضمها حين لا يستطيع الفرار منها.
[21])) تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا(2/ 94)
([22])حديث صحيح. أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والدارمي كلهم من حديث سلمان بن عامر بلفظ «الصدقة على المسكين حسنة...» الترمذي. وفي الباب عن ابن طلحة وأبى أمامة.
([23])حديث حسن. قال ابن حجر: أخرجه عبد الرزاق والحاكم والبيهقي والطبراني من رواية ابن عيينة عن الزهري. عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة. ورواه أبو عبيد في كتاب الأموال من رواية ابراهيم بن يزيد المكي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة. وأخرجه من طريق عقيل عن الزهري مرسلا. لم يذكر أبا هريرة ورواه أحمد من رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام ورواه أيضاً هو وإسحاق والطبراني من طريق الحجاج بن أرطاة عنه عن حكيم بن بشير عن أبى أيوب. فهذه الطرق كلها تدور على الزهري، مع اختلاف عليه، وأحفظهم سفيان بن عنبسة، وعقيل أحفظ منه. وروايته أشبه بالصواب.»
([24])تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 219)
([25])تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 217)
([26]) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 216) بتصرف
[27])) والمشهور لغةً أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرَّ. يقال بَئُس يبْأَس، إذا افتقر؛ قال الشاعر:
وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً ... يُنَاغِي غَزَالاً سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ.
[28])) وأصل البأس في اللغة: الشِّدَّة؛ يقال: لا بأس عليك في هذا، أي: لا شدَّة و {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (الأعراف: 165) أي: شديد، ثم يسمَّى الحرب بأساً، لما فيه من الشِّدَّة، والعذاب يسمَّى بأساً؛ لشدَّته، قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} (غافر: 84) {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} (الأنبياء: 12]) {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} (غافر: 29).