محمد عبد المعطي محمد
New member
كتمان العلم جريمةٌ الجرائم.
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
هذه الآيات متصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين، فإذا كان الكلام لا يزال في محاجة اليهود وأمثالهم فالأمر ظاهر، وإذا قلنا: إن الكلام قد دخل في سرد الأحكام تكون مقررة لحكم منها، وهو ظاهر أيضا، فقد تقدم أن قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض) تقرير لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل، وبينا ما كان عليه أهل الكتاب والمشركون في الأكل، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق الأحكام، وإباحة الطيبات للناس بشرط أن يشكروه عليها، وعلى هذا تكون الآيات جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرم الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه، سواء كان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك كما قال تعالى: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) (الانعام/ 91) وفي حكمهم كلُّ من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته لا لإظهار الحق وتأييده، فالعبرة بعموم اللفظ وإن خُصَّ بالسبب علماء اليهود هنا وهذا هو ما عبر عنه بقوله: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا) أي: الذين يخفون شيئا مما أنزل الله من كتابه فلا يبلغونه للناس مهما يكن موضوعه، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم واجتهادهم، كما فعل علماء اليهود في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي-صلى الله عليه وسلم-أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب (الحدود).
أولئك الخاسرون يأخذون بما يكتمونه ثمنا قليلا من متاع الدنيا الفاني كالرِشوة، والجُعْل [SUP]([1])[/SUP]
على الفتاوى الباطلة، أو قضاء الحاجات عند الله تعالى-كما يزعمون ليخدعوا الجهلاء من العوام.
والتعبير ب(يشترون) فيه من الدلالة والإيحاء العميق بتلك الصفقة الخاسرة التي تجشمها أولئك الفاسدون، فهم باعوا علمهم الذي مَنَّ الله به عليهم والذي يجب أن يكون سبيلهم وسبيل غيرهم ممن يثق فيهم ويستفتيهم في أمور دينهم إلى النعيم الأبدي، باعوه بثمنٍ بخسٍ عبر عنه القرآن بأنه قليل مهما بلغ.. فهو قليلٌ في مقابل ما خسروه، وهو قليلٌ لأنه زائلٌ، وهو قليل لأنهم زائلون عنه.
والتنكير في قوله تعالى: {ثمنا قليلا} يفيد التحقير لهذه الصفقة البائسة، فحتى بمنطق المادية والصفقات هم خاسرون خسرانا بيِّناً، ولهذا ترى عظمة التعبير الموحي في هذه الآية التي تكتمل بصورةٍ بلاغيةٍ خطيرةٍ يرسمها المجاز في قوله تعالى: { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} فهم يأكلون السحت الذي يودي بهم إلى النار فكأنهم يأكلون النار [SUP]([2])[/SUP]
، أو أن الحديث على حقيقته يوم القيامة حين يأكلون النار في جهنم كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وإن كان التعبير على المجاز أليق في بلاغته بهذا الموضع.
وذُكِرت البطون في أكلهم المؤدي إلى النار دلالةً على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل: أكل فلان أرضي ونحوه، وفي ذكر البطن أيضا تنبيه على مذمتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى دناءتهم بطاعة بطونهم. وربما لأن العُرف اللغوي أن يُقال لمبتلعي الحقوق من الظالمين أنهم يملئون بطونهم من الحرام، فناسب ذلك ذكر أنها النار التي تملأ هذه البطون في الآخرة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، والتعبير موحٍ ومنسجمٌ غاية الانسجام في موضعه بعد أحكام الأكل في الآيات السوابق.
وأما قوله: {ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة}، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم -إذا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} الآيتين [سورة المؤمنون: 107-108]وفيها إيحاءٌ بليغٌ بغضب الله-سبحانه-عليهم وإزالة الرضى عنهم، فتكون هذه الآية بمنزلة قولك: فلانٌ لا يكلمه السلطان ولا يلتفت إليه. وأنت إنما تعبر عن انحطاط منزلته لديه واحتقار قدره عنده.
وأما قوله: {ولا يُزكِّيهم}، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، فإنهم لما تركوا ما أراد الله منهم من تزكية الناس بعلمهم الذي علمهم الله تعالى؛ رفع الله عنهم تزكيته جزاءً بفعلهم الخبيث.
{ولهم عذاب أليم}، يعني: مُوجع مؤلم. فهذه أربعة أشياء خوَّف الله بها الذين يكتمون الحق وهم يعلمون لينالوا عَرَضاً خبيثاً من الدنيا الدنيئة.
****
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}
يعود الإيحاء قوياً في اتجاه تصوير تلك الصفقة الخاسرة التي تولاها تجار الدين الذين يأكلون الدنيا بالدين، ويخونون علمهم، يتملقون الناس من أجل ملء بطونهم، وينافقون الحكام من أجل الحظوة عندهم {أولئك} بضمير البعيد للتحقير {الذين اشتروا الضلالة} أي الحيدة عن الحق والنجاة؛ استبدلوها ب{الهدى} فتركوه خلف ظهروهم، والباء تدخل على المتروك المُستبدَل.
وكذلك استبدلوا {العذاب} ب{المغفرة} قال الطبري: أخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر "العذاب" و"المغفرة"، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. انتهى. وهو من باب الإيجاز البليغ.
{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار. قاله قتادة. أو المعنى فما أجرأهم على النار.
وقيل المعنى: فما أعجب توهمهم صبرهم على النار، ولا يستطيع أن يصبر على عذابها أحد. وهو تعجيبٌ للمؤمنين، أي هم أهل أن تعجبوا منهم من جرأتهم في باطلهم، وتماديهم في فعل ما يدخلهم جهنم، ولا أحد يصبر عليها.كما قال تعالى ذكره: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [سورة عبس: 17]، تعجيبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
وقيل: هذا استفهام. والمعنى ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟
والمعنى متقارب في أن أولئك المُبعَدِين اختلت موازين عقولهم فارتكبوا ما يصليهم عذاباً لا يحتملونه وهم الذين علموا ودرسوا فسبحان مَن أضلهم على علمٍ. نسأل الله الهداية.
****
ثم انتقلت الآيات إلى بيان الحجة عليهم، وأنهم لم يكن لهم عذرٌ في ترك الحق والعدول عنه إلى الباطل والضلال فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
والمعنى كما قال المحققون:ذَلِكَ الْعَذَابُ حَاصِلٌ لَهُمْ بِكِتْمَانِ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنِ الْكِتَابِ الْمَصْحُوبِ بِالْحَقِّ، أَوِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ الله ينطق بِالْحَقِّ.
فإن الله تعالى نزَّل الكتاب أي التوراة والإنجيل – على قول بعض المفسرين، أو الكتب السماوية كلها ومنها القرآن على أنها لجنس كتب الله تعالى-على قول آخرين... نزل الله كتبه بالحق الواضح الذي لا جدال فيه، وفيها نعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وصفته وعقاب المؤمنين به وعقاب الكافرين، وفيها منهاج الهدى الذي ينصلح به حال الناس ودنياهم، ويكسبون نجاتهم في الآخرة، ولكن خالف واختلف العلماء المُضِلُّون في الكتاب، وإن أولئك الضالون المضللون في نزاعٍ واختلافٍ بعيد؛ أىفِي مُعَادَاةٍ وَتَنَافُرٍ يكفر بعضهم بعضا إلى يوم القيامة، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّبَاغُضِ وَالتَّبَايُنِ، كَمَا أَنَّ الِائْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّحَابِّ وَالِاجْتِمَاعِ. [SUP]([3])[/SUP]
قال العلامة الألوسي: تفسير الألوسي = روح المعاني (1/ 442)
قوله تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} أي في جنسه- بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض- أو في التوراة، ومعنى اخْتَلَفُوا تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها- أو في القرآن- واختلافهم فيه قول بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين.
[1])) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا. وله في الفقه بابٌ لأحكامه.
[2])) قال الإمام الطبري: كما قال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: 10] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر"النار" وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر"ما يوردهم، أو يدخلهم". تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 329)
[3])) قال صاحب البحر المحيط في التفسير (2/ 127):
قوله تعالى: {لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ}: تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَصِيرُ فِي شِقٍّ وَهَذَا فِي شِقٍّ، أَوْ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَكَنَّى بِالشِّقَاقِ عَنِ الْعَدَاوَةِ، وَوَصَفَ الشِّقَاقَ بِالْبُعْدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، أَوْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْأُلْفَةِ. أَوْ كَنَّى بِهِ عَنِ الطُّولِ، أَيْ فِي مُعَادَاةٍ طَوِيلَةٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ هُوَ سَبَبُ اعْتِقَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ أَنَّ كِتَابَهَا هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ غَيْرَهُ افْتِرَاءٌ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ. كُتُبُ اللَّهِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. انتهى.
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
هذه الآيات متصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين، فإذا كان الكلام لا يزال في محاجة اليهود وأمثالهم فالأمر ظاهر، وإذا قلنا: إن الكلام قد دخل في سرد الأحكام تكون مقررة لحكم منها، وهو ظاهر أيضا، فقد تقدم أن قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض) تقرير لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل، وبينا ما كان عليه أهل الكتاب والمشركون في الأكل، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق الأحكام، وإباحة الطيبات للناس بشرط أن يشكروه عليها، وعلى هذا تكون الآيات جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرم الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه، سواء كان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك كما قال تعالى: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) (الانعام/ 91) وفي حكمهم كلُّ من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته لا لإظهار الحق وتأييده، فالعبرة بعموم اللفظ وإن خُصَّ بالسبب علماء اليهود هنا وهذا هو ما عبر عنه بقوله: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا) أي: الذين يخفون شيئا مما أنزل الله من كتابه فلا يبلغونه للناس مهما يكن موضوعه، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم واجتهادهم، كما فعل علماء اليهود في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي-صلى الله عليه وسلم-أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب (الحدود).
أولئك الخاسرون يأخذون بما يكتمونه ثمنا قليلا من متاع الدنيا الفاني كالرِشوة، والجُعْل [SUP]([1])[/SUP]
على الفتاوى الباطلة، أو قضاء الحاجات عند الله تعالى-كما يزعمون ليخدعوا الجهلاء من العوام.
والتعبير ب(يشترون) فيه من الدلالة والإيحاء العميق بتلك الصفقة الخاسرة التي تجشمها أولئك الفاسدون، فهم باعوا علمهم الذي مَنَّ الله به عليهم والذي يجب أن يكون سبيلهم وسبيل غيرهم ممن يثق فيهم ويستفتيهم في أمور دينهم إلى النعيم الأبدي، باعوه بثمنٍ بخسٍ عبر عنه القرآن بأنه قليل مهما بلغ.. فهو قليلٌ في مقابل ما خسروه، وهو قليلٌ لأنه زائلٌ، وهو قليل لأنهم زائلون عنه.
والتنكير في قوله تعالى: {ثمنا قليلا} يفيد التحقير لهذه الصفقة البائسة، فحتى بمنطق المادية والصفقات هم خاسرون خسرانا بيِّناً، ولهذا ترى عظمة التعبير الموحي في هذه الآية التي تكتمل بصورةٍ بلاغيةٍ خطيرةٍ يرسمها المجاز في قوله تعالى: { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} فهم يأكلون السحت الذي يودي بهم إلى النار فكأنهم يأكلون النار [SUP]([2])[/SUP]
، أو أن الحديث على حقيقته يوم القيامة حين يأكلون النار في جهنم كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وإن كان التعبير على المجاز أليق في بلاغته بهذا الموضع.
وذُكِرت البطون في أكلهم المؤدي إلى النار دلالةً على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل: أكل فلان أرضي ونحوه، وفي ذكر البطن أيضا تنبيه على مذمتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى دناءتهم بطاعة بطونهم. وربما لأن العُرف اللغوي أن يُقال لمبتلعي الحقوق من الظالمين أنهم يملئون بطونهم من الحرام، فناسب ذلك ذكر أنها النار التي تملأ هذه البطون في الآخرة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، والتعبير موحٍ ومنسجمٌ غاية الانسجام في موضعه بعد أحكام الأكل في الآيات السوابق.
وأما قوله: {ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة}، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم -إذا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} الآيتين [سورة المؤمنون: 107-108]وفيها إيحاءٌ بليغٌ بغضب الله-سبحانه-عليهم وإزالة الرضى عنهم، فتكون هذه الآية بمنزلة قولك: فلانٌ لا يكلمه السلطان ولا يلتفت إليه. وأنت إنما تعبر عن انحطاط منزلته لديه واحتقار قدره عنده.
وأما قوله: {ولا يُزكِّيهم}، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، فإنهم لما تركوا ما أراد الله منهم من تزكية الناس بعلمهم الذي علمهم الله تعالى؛ رفع الله عنهم تزكيته جزاءً بفعلهم الخبيث.
{ولهم عذاب أليم}، يعني: مُوجع مؤلم. فهذه أربعة أشياء خوَّف الله بها الذين يكتمون الحق وهم يعلمون لينالوا عَرَضاً خبيثاً من الدنيا الدنيئة.
****
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}
يعود الإيحاء قوياً في اتجاه تصوير تلك الصفقة الخاسرة التي تولاها تجار الدين الذين يأكلون الدنيا بالدين، ويخونون علمهم، يتملقون الناس من أجل ملء بطونهم، وينافقون الحكام من أجل الحظوة عندهم {أولئك} بضمير البعيد للتحقير {الذين اشتروا الضلالة} أي الحيدة عن الحق والنجاة؛ استبدلوها ب{الهدى} فتركوه خلف ظهروهم، والباء تدخل على المتروك المُستبدَل.
وكذلك استبدلوا {العذاب} ب{المغفرة} قال الطبري: أخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر "العذاب" و"المغفرة"، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. انتهى. وهو من باب الإيجاز البليغ.
{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار. قاله قتادة. أو المعنى فما أجرأهم على النار.
وقيل المعنى: فما أعجب توهمهم صبرهم على النار، ولا يستطيع أن يصبر على عذابها أحد. وهو تعجيبٌ للمؤمنين، أي هم أهل أن تعجبوا منهم من جرأتهم في باطلهم، وتماديهم في فعل ما يدخلهم جهنم، ولا أحد يصبر عليها.كما قال تعالى ذكره: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [سورة عبس: 17]، تعجيبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
وقيل: هذا استفهام. والمعنى ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟
والمعنى متقارب في أن أولئك المُبعَدِين اختلت موازين عقولهم فارتكبوا ما يصليهم عذاباً لا يحتملونه وهم الذين علموا ودرسوا فسبحان مَن أضلهم على علمٍ. نسأل الله الهداية.
****
ثم انتقلت الآيات إلى بيان الحجة عليهم، وأنهم لم يكن لهم عذرٌ في ترك الحق والعدول عنه إلى الباطل والضلال فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
والمعنى كما قال المحققون:ذَلِكَ الْعَذَابُ حَاصِلٌ لَهُمْ بِكِتْمَانِ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنِ الْكِتَابِ الْمَصْحُوبِ بِالْحَقِّ، أَوِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ الله ينطق بِالْحَقِّ.
فإن الله تعالى نزَّل الكتاب أي التوراة والإنجيل – على قول بعض المفسرين، أو الكتب السماوية كلها ومنها القرآن على أنها لجنس كتب الله تعالى-على قول آخرين... نزل الله كتبه بالحق الواضح الذي لا جدال فيه، وفيها نعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وصفته وعقاب المؤمنين به وعقاب الكافرين، وفيها منهاج الهدى الذي ينصلح به حال الناس ودنياهم، ويكسبون نجاتهم في الآخرة، ولكن خالف واختلف العلماء المُضِلُّون في الكتاب، وإن أولئك الضالون المضللون في نزاعٍ واختلافٍ بعيد؛ أىفِي مُعَادَاةٍ وَتَنَافُرٍ يكفر بعضهم بعضا إلى يوم القيامة، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّبَاغُضِ وَالتَّبَايُنِ، كَمَا أَنَّ الِائْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّحَابِّ وَالِاجْتِمَاعِ. [SUP]([3])[/SUP]
قال العلامة الألوسي: تفسير الألوسي = روح المعاني (1/ 442)
قوله تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} أي في جنسه- بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض- أو في التوراة، ومعنى اخْتَلَفُوا تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها- أو في القرآن- واختلافهم فيه قول بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين.
[1])) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا. وله في الفقه بابٌ لأحكامه.
[2])) قال الإمام الطبري: كما قال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: 10] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر"النار" وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر"ما يوردهم، أو يدخلهم". تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 329)
[3])) قال صاحب البحر المحيط في التفسير (2/ 127):
قوله تعالى: {لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ}: تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَصِيرُ فِي شِقٍّ وَهَذَا فِي شِقٍّ، أَوْ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَكَنَّى بِالشِّقَاقِ عَنِ الْعَدَاوَةِ، وَوَصَفَ الشِّقَاقَ بِالْبُعْدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، أَوْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْأُلْفَةِ. أَوْ كَنَّى بِهِ عَنِ الطُّولِ، أَيْ فِي مُعَادَاةٍ طَوِيلَةٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ هُوَ سَبَبُ اعْتِقَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ أَنَّ كِتَابَهَا هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ غَيْرَهُ افْتِرَاءٌ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ. كُتُبُ اللَّهِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. انتهى.