من سورة البقرة: حقيقة الإيمان، و مشهد الخذلان.

إنضم
06/03/2015
المشاركات
51
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مصر
حقيقة الإيمان، و مشهد الخذلان.

يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 165 - 167]
انتقالٌ لطيفٌ لتمثيل قضية الإيمان بشتى حدودها في نفوس المؤمنين؛ أولئك الذين قررنا ابتداءاً أن سورة البقرة في سياقها العام تبني دولة الإيمان في نفوسهم. ولأن القرآن العظيم وفي هذه السورة بخصوصها ذكر أنه" هدى للمتقين" فكان مُتقَناً جدا في موضعه أن ينتقل من قضية التوحيد -في صميم حملة تصحيح المفاهيم والشعائر-إلى دعم ركيزة التوحيد والاستدلال عليه، ثم إلى فهم جوهر التوحيد والإيمان في النفوس وبيان أثره في قلوب المؤمنين وحركاتهم واتجاهاتهم ومواقفهم وحتى شعورهم الداخلي.
فحين يخبرنا كتاب الله أنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} يبين أن هذا الأمر يخالف أصل الإيمان في القلب، فالإيمان لا يكون ادعاءً، ولا محض تعبدات يقوم بها الجسد، ولا أقوال يخالفها موالاة أعداء الله وحبهم وحب طريقتهم، لأن الحقيقة الكبرى التي قررها القرآن هنا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}. ويبينها من صحيح السنة: "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ». [SUP]([/SUP][SUP][SUP][1][/SUP][/SUP][SUP])[/SUP]
وفي " المسند " عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الإيمان، فقال: أن تحب لله وتبغض لله وتُعمِل لسانك في ذكر الله ". وفيه -أيضا -عن عمرو بن الجموح، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله، وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله ".
وفيه: عن البراء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أوثق عرى الإيمان: أن تحب في الله وتبغض في الله.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي ذر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أفضل الأعمال: الحب في الله والبغض في الله".
يقول شيخ الإسلام في رسالة "العبودية": وَإِنَّمَا عبد الله من يرضيه مَا يُرْضِي الله ويسخطه مَا يسْخط الله، وَيُحب مَا أحبه الله وَرَسُوله وَيبغض مَا أبغضه الله وَرَسُوله، ويوالي أَوْلِيَاء الله ويعادي أَعدَاء الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتكْمل الْإِيمَان كَمَا فِي الحَدِيث: " من أحب لله وَأبْغض لله وَأعْطى لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان ".[SUP]([2])[/SUP]
وقال العلامة ابن رجب [SUP]([3])[/SUP] رحمه الله:
يجبُ على المؤمن محبةُ الله ومحبةُ من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً، ولهذا كان مِنْ علامات وجود حلاوة الإيمان أنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، ويُحرمُ موالاةُ أعداءِ الله. ومن يكرهه الله عموماً، وقد سبق ذلك في موضع آخر، وبهذا يكونُ الدِّينُ كلُّه لله.
ومن كان حُبُّه وبُغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب، فيجب عليه التَّوبةُ من ذلك، والرُّجوع إلى اتِّباع ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم -من تقديم محبة الله ورسوله، وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفوس ومراداتها كلها.
قال وُهيب بنُ الورد: بلغنا -والله أعلم -أنَّ موسى -عليه السلام -، قال: يا ربِّ أوصني؟ قال: أوصيك بي، قالها ثلاثاً حتى قال في الآخرة: أوصيك بي ألا يعرض لك أمرٌ إلا آثرت فيه محبتي على ما سواها، فمن لم يفعل ذلك لم أُزكِّه ولم أرحمه.[SUP] ([4])[/SUP] انتهى
فالإيمان في الحقيقة معنى شامل لإقرار القلب وحركته في الاتجاه إلى الله تعالى، تلك الحركة التي تُتَرجَم عملياً إلى حركة اللسان والجوارح في نصرة هذا الدين، ورفع راية منهجه في النفس والأهل وبين الناس.
وإن الجدل في تعريف الإيمان واقتصاره على الإقرار أو تعديه لجانب الفعل والعمل لهو حديثٌ عقيمٌ يفترض خطأً الانفصال بين القلب وحركته وبين الجوارح والأفعال، وكونها انعكاساً له وكونه محركاً لها.
فلا يتصور عاقلٌ أن يكون للقلب اتجاهٌ وللعمل اتجاهٌ آخرٌ إلا استثناءً أو قهرا ولا يدوم أبداً، فالعمل ترجمان رغبات القلوب، وعلى ذلك فلابد ممن يدعي حب الله تعالى والإيمان به أن يبين معنى هذا الحب في فعله وتركه لله تعالى.
تعصي الإله وأنت تزعمُ حبَّهُ.... هذا لعمري في القياسِ بديعُ.
لو كنتَ تصدُقَ حبه لأطعتَهُ.... إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ.
قال الحافظ ابن حجر:
لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله له، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله وموالاته له ومعاداته له، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه، وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، وكذلك من الأشخاص، ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض، فمن أحبه الله أكرمه وعامله بالعدل والفضل، ومن أبغضه لله أهانه بالعدل، ولهذا وصف الله المحبين له بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54] . وكان من دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يبلغني إلى حبك ".
فلا تتم محبة الله ورسوله إلا بمحبة أوليائه وموالاتهم وبغض أعدائه ومعاداتهم. وسئل بعض العارفين: بما تنال المحبة؟ قال: بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، وأصله الموافقة. [SUP]([5])[/SUP]
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خلَقَك".
*****
تحليل الآية

وفي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ....} الآية واتصالها في الخط المنطقي مع الآيات نقول هذه الآية وردت لاستعظام ما وقع من بعض بني آدم من الكفر بعد ثبوت البراهين القطعية، كأن الله يقول: أعجبوا لكفر بعض العبيد مع ثبوت الأدلة على وحدانيته تعالى في الآية السابقة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ...} [الْبَقَرَة: 164].(أفاده الصاوي على الجلالين).
قوله: {يتخذ مِن دُونِ اللَّهِ} هي في الأصل ظرف مكان للمكان الأدنى، يقال: جلس فلان في مكان دون مكان زيد يعني أدنى منه، ثم أُطلق (دون) وأريد به معنى (غير). وأرى أن هناك نكتة في اختيار (دون) وعدم اختيار(غير) للتعبير هنا؛ فالدلالة صارخة أنَّ أولئك المغبونون قد استبدلوا بالله العظيم غيره ممن هم دونه، بل لا مقارنة بينهم وبين الله تعالى مما جعل اتخاذهم لهم (أندادا) أى أقراناً وأشباها هو طعنٌ في عقولهم وبصيرتهم.
يقول العلامة عباس محمود العقاد: العقيدة في الإله رأس العقائد الدينية بجملتها وتفصيلها. من عرف عقيدة قوم في إلههم فقد عرف نصيب دينهم من رفعة الفهم والوجدان، ومن صحة المقاييس التي يقاس بها الخير والشر وتُقدَّر بها الحسنات والسيئات؛ فلا يهبط دين وعقيدته في الإله عالية، ولا يعلو دين وعقيدته في الإله هابطة ليست مما يناسب صفات الموجود الأول الذي تتبعه جميع الموجودات....
وجاء الإسلام في جوف الصحراء العربية بأسمى عقيدة في الإله الواحد الأحد،
صححت فكرة الفلسفة النظرية كما صححت فكرة العقائد الدينية؛ فكان تصحيحه لكلٍّ من هاتين الفكرتين في جانب النقص منها أعظم المعجزات التي أثبتت له في حكم العقل المنصف والبديهة الصادقة أنه وحي من عند ….إلخ كلامه [SUP]([6])[/SUP]
والحقيقة أن دقة استخدام الألفاظ في هذه الآية بديع في دلالاته؛ فتأمل معي (يتخذ) و(دون) لتجد الأولى تدل على أن هذا هو تزيين عقول القوم الفاسدة التي عدلت عن ربها لتصنع له في قلوبها الخربة أندادا، والثانية تدل على أنهم اختاروا الأدنى وتركوا الأعلى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}أي: يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له.
و (الأنداد) هي: إمّا الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا منها النفع والضرّ، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور وقرّبوا لها القرابين. وإمّا الرؤساء لذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لا سيما في الأوامر والنواهي. ورجح هذا، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] وذلك لا يليق إلّا بمن اتخذ الرجال أندادا وأمثالا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من المشركين لأندادهم، لأنّ أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلّها لله، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيس، عام المجاعة. [SUP]([7])[/SUP]
{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}.
أشد حبا للّه، حبا مطلقا من كل موازنة، ومن كل قيد. أشد حبا للّه من كل حب يتجهون به إلى سواه.
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنه تعبير صادق. فالصلة بين المؤمن الحق وبين اللّه هي صلة الحب. [SUP]([8])[/SUP]
وَلِحُبِّهِمْ لِلَّهِ وَتَمَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ، وَتَوْقِيرِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ لَهُ، لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، بَلْ يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجؤون فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلَيْهِ.
ومن حبهم لله أحبوا أولياء الله تعالى، لتنشأ تلك الرابطة المتينة بين المؤمنين، وتقام دولة الإيمان والحب في أرض الله تعالى.
ثم يأتي على النقيض مشهدٌ مروعٌ نابضٌ بالحياةِ لدولة الظلم والكفران التي وإن اجتمعت أفرادها على المصالح المادية الفانية والرغبات المريضة، فإنها سرعان ما تنقضي في الدنيا وتملأ القلوبَ الضغائنُ، وإلا ففي الآخرة يتبرأون من بعضهم البعض يوم لا مادة ولا مصالح ولا طغيان، يوم الملك لله فقط.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)} [البقرة: 166،165]، {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]
إنها لحظة انكشاف الحقائق وزوال الباطل والزور والوهم.. إنهم يقفون جميعا في قلب الحدث الذي بلَّغته أنبياء الله ورسله ووصفته كتبه المُنزَّلة؛ حينئذٍ لا مناص من صرخةٍ مدويةٍ تنكشف عن خذلانٍ عظيمٍ لنفوسٍ لم تحسب لذلك اليوم حساباً، ولم ترَ الله تعالى في شىءٍ من حركات حياتها الدنيا لتقف أمام قوة الله المتفردة بالأمر حيث لا قوةَ ولا شفاعةَ ولا نصير من دون الله {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر: 16].
وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلا على وقاية تابعيها. وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام اللّه وأمام العذاب.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وفي قراءةٍ {ولو ترى}قرأها نافع وابن عامر «ترى» بالتاء من فوق، أي يا محمد أو أيها التالي لكتاب الله المؤمن بالحساب.
والمعنى في (يرى الذين ظلموا) بالياء (من أسفل) كما قرأ بها (حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن كثير) أي يعلمون (كما أفاده المبرِّد والأخفش)، أوتأويله: ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالهم في الآخرة إذ يرون العذاب لعلموا أن القوة لله جميعا.
. {إذ} حرف يفيد استحضار الموقف مشهداً لبصائر المؤمنين {يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} يعاينون حقيقة ما أخبرت به الرسل والكتب المنزلة من الله بالنذير والوعيد للظلم والظالمين، يعلمون ويقرون ساعتها أن ما ملكوه في دار الفناء، واستغلوه أسوأ استغلال ليس القوة الحقيقة، فالقوة لله جميعا في دارٍ سرمديةٍ لا نهاية للعذاب فيها، الذي وصفته الآية بأنه عذابٌ شديدٌ.
هنا يبدأ التخبط والشتات والخذلان {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}.. تخذلهم شياطين الإنس الذين اتبعوهم في الدنيا وكانوا عصيهم وأيديهم التي مارسوا بها أفحش الظلم... يتبرأون منهم، يقولون لهم: ما أرغمناكم على اتباعنا، ولكن خفة عقولكم، وطمعكم، ودناءة طموحاتكم جعلت منكم عبيدا مخلصين، ولا حاجة لنا بكم اليوم {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} أَي المواصل والمودات. فجميعهم سيذوقون العذاب، ولا يوجد ما يتلقون به. انقطعت بهم كل وسيلةٍ للنجاة وكل رابطٍ دنىءٍ ربطهم في الدنيا. والسبب في الأصل هو الحبل، قَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال للطريق الْموصل إِلَى الشَّيْء سَبَب، وللحبل سَبَب، وللباب، وَلكُل شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى شَيْء سَبَب. وَمِنْه قَوْله (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) :(كل سَبَب يَنْقَطِع إِلَّا سببي) أَي وصلتي (أي باتباع سنته وشرعه).[SUP] ([9])[/SUP]
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كما تبرأوا منا}..
هذه الحسرة التي تنضح من قلوب الأتباع الذين أفنوا حياتهم خدمةً للظلم والظالمين.. يودون لو أنَّ لهم عودةً فيستطيعون أن يتبرأوا من أولئك الذين أغووهم بالظلم ثم تركوهم عند الحساب... {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}.. ما تبقى لهم سوى الحسرات.. ليست حسرةً واحدةً وإنما حسراتٍ تتوالى وتخلد معهم في عذابٍ مقيم.. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}. لأنه يومَ لا تنفع الندامة ولا تُقبَل توبة.
تذييلٌ يؤكد نهاية الظالمين الأبدية بحيث لا تشملهم الرحمة الإلهية التي حرموا الناس منها في الدنيا.
وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية. (قاله الطبري)
ولهذا الموقف الشديد والمشهد الخطير تفصيلٌ أكثر حدةً في سورة سبأ، يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سَبَأٍ: 31-33]
وقال أبو جعفر الطبري-رحمه الله-:
والمعنى: وقال أتباع الرجال -الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله، ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم، إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة-:"لو أن لنا كرة". يعني "بالكرة"، الرجعةَ إلى الدنيا، من قول القائل: "كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا"، و"الكرَّة" المرة الواحدة، وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم (يُقال: كَرَّةٌ بعد فَرَّة).
وقوله: "فنتبرأ منهم" منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب"الفاء". لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، و (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأنعام: 27].
ومعنى قوله: "كذلك يُريهمُ الله أعمالهم"، أي كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله: "ورأوا العذاب"، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا، فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله "حسرات عليهم" يعني: نَدامات.وقيل: إن "الحسرة" أشد الندامة.
ثم ذكر الطبري بإسنادٍ صححه الشيخ شاكر في تحقيقه على تفسير الطبري حديثا موقوفا على عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه وله حكم المرفوع لأنه مما لا يُقال بالظن قال فيه: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار، وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة، فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار، فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم!
وقال آخرون (ورجَّحه الطبري): كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟
قال ابن زيد في قوله: "أعمالهم حسرات عليهم" قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ فجعلها حسراتٍ عليهم. قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم، وقرأ قول الله: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) [سورة الحاقة: 24].[SUP] ([10])[/SUP]
******


[1] حسن بالشواهد والمتابعات كما قال الألباني: فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل. والله أعلم. سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 307)

[2] أخرجه: أبو داود (4681) عن أبي أمامة الباهلي، به مرفوعاً، وهو صحيح.

[3] جامع العلوم والحكم ت ماهر الفحل (3/ 1152)

[4] أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/141 - 142. وأخرجه: أحمد في " الزهد ": 59 عن كعب بن علقمة.)

[5])) فتح الباري لابن رجب (1/ 56)

[6])) عباس محمود العقاد في كتابه الرائع (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) ص 30 وما بعدها، ط هنداوي

[7])) تفسير القاسمي = محاسن التأويل (1/ 461)

[8])) فى ظلال القرآن ـ سيد قطب . الشاملة موافقا للمطبوع (1/ 154)

[9])) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 202) للقاضي عياض.

[10])) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 293) باختصار.
 
عودة
أعلى