محمد عبد المعطي محمد
New member
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168، 169]
انتقالٌ لطيفٌ في منهج التربية الإيمانية من أجل بناء دولة الإيمان بين المسلمين؛ انتقالٌ من بناء حقائق الإيمان في القلوب توحيداً لله وحباً وطاعةً وولاءاً إلى تشييد منهج السماء على الأرض.
وقد يُقال أنه خطاب للناس كافةً ... اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله، وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أندادا، ويتبع رؤساء الكفرة أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم. [SUP]([1])[/SUP]
فذكر ذلك في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا، أي: مُسْتَطابا في نفسه غير ضارٍ للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل (=أشياء كانوا يحرموها ) ونحوها مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: إن كل ما أمنحه عبادي فهو لهم حلال" وفيه: "وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم [SUP]([2])[/SUP] عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم" .
عن عطاء، عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال. "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به". [SUP]([SUP][3][/SUP])[/SUP]
قوله : {حلالا طيبا} يقول اللغويون: الحلال من حَلِّ العقدة وهو فكَّها. وحَلَّ بالمكان أي حل أحماله ومكث فيه. وحلَّ الدين، أي حل عقد المطالبة به وصار يلزم سداده. وحل من إحرامه أي حل ما عقده على نفسه بالإحرام مما لا يجوز له فعله فجاز. وتحلة اليمين: ما تنحل به عقدة اليمين. واتساع معناه ليعني ما حُلَّت عنه عقدة الحظر وصار في حيز المباح شرعاً.
الطيب عند الإمام مالك: هو الحلال نفسه، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ، وهو عند الشافعي: المُسْتلَذ، غير القذر والخبيث، وهو ما تستطيبه الشهوة المستقيمة والعقول الصحيحة.
ولذلك يمنع في مذهبه أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث، ومما يؤيد ما ذهب إليه أن المُقدَّم في الفاظ القرآن هو التأسيس بمعنى إفادة جديد للمعنى لا التأكيد، وكذلك قوله تعالى: { ...وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ... الآية} [الأعراف: 157]
قال الراغب:
والحلال أعم من الطيب، والحرام أعم من الخبيثة فقد يكون حراما مالا يكون خبيثاً في نفسه بالعقل كتحريم ما يقسم بالأزلام، واستعمال الذهب والفضة، ولبس الحرير على الذكور، وجمع بين الحلال والطيب في الآية ليفيد أن ما استطابه الطبع أباحه الشرع، وأن ما يزينه الشيطان لبعض الناس ليس بالطبع الصحيح طيباً، كعادة المخنث. [SUP]([4])[/SUP]
قلتُ: وقد ذكرت في القرآن {حلال طيبا} أربع مرات: البقرة/168، المائدة/88، الأنفال/69، النحل/114.
قال ابن عطية في تفسيره "المحرر": وخُطُواتِ جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي. [SUP]([5])[/SUP]
قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ مَا سَنَّ مِنَ الْمَعَاصِي. يُقَالُ: اتَّبَعَ زَيْدٌ خُطُوَاتِ عَمْرٍو وَوَطِئَ على عقبيه، إذا سَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي أَحْوَالِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُطُوَاتُهُ أَعْمَالُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَطَايَاهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: طَاعَتُهُ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: مَا يَنْقُلُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ، حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ الْمَعَاصِي، مَأْخُوذٌ مِنْ خَطْوِ الْقَدَمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: طُرُقَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُحَقَّرَاتُ الذُّنُوبِ. وَقَيل: آثَارُهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: زَلَّاتُهُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى صَدَرَتْ مِنْ قَائِلِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. وَالْمَعْنَى بِهَا كُلِّهَا النَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، نَهَاهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَعَنِ التَّخَطِّي إِلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي إِلَى الْمَرْءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ، فَيُزَيِّنُ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ، فَزَجَرَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَالشَّيْطَانُ هَنَا إِبْلِيسُ. [SUP]([6])[/SUP]
واللفظ وإن كان جمعا (خطوات) الشيطان فالنهى عن اتباع أي خطوة له؛ النهى-إذن-عن أدنى معصية تجر لأختها. وقد قال العلماء الربانيّون: إن من علامات قبول الطاعةِ الطاعةُ تليها، وأن من علامات الارتكاس بالمعصية المعصية على إثرها. نعوذ بالله من الارتكاس.
قال الراغب: كقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ}، وقد تقدم أن لا فرق بين أن يقال " اتبع فلان الهوى " وبين " اتبع الشهوة أو الشيطان أو الحياة الدنيا في أنالمقصد بجميع ذلك متابعة ما يصد عن سبيل الله-عز وجل. انتهى
وقوله: {إنه لكم عدو مبين} عداوته لا تخفى على ذي بصيرة، وفيه من رحمة الله تعالى بنا تنفيرٌ عنه وتحذير من الشيطان الرجيم، كما قال: {إنَّ الشيطانَ لكم عدوٌ فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6] وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌ بئس للظالمين بدلا} [الكهف: 50].
قال تعالى مبيناً عداوة الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}
لأن العدو قد يأمر بالخير (ولو على سبيل المكر والحيلة) وهذا العدو لا يأمر إلا بالشر... (قاله ابن عرفة)
وأورد الزمخشري على هذا قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} يقول كيف يتسلط عليهم فيأمرهم مع هذه الآية؟
وأجاب عن ذلك بأنَّه شبّه تزيينه وبعثه على الشّر بالأمر وقبول العباد وساوسه بامتثال الأمر.
قال ابن عرفة: أو يُجاب بأن تلك مقيدة بالسّلطان وهو الحجة (والإجبار على قبول وساوسه). أو تم تقييد المعنى بلفظ (عبادي)، فعباد الرحمن لا يتسلط عليهم الشيطان ولا تقوم له عليهم حجة ولذلك أضافهم الله إليه إضافة تشريف.[SUP]([7])[/SUP]
والسوء والفحشاء هي كل قبيح من نحو الزنا، والسرقة، والسكر، والقتل، والخيانة، والكذب والحسد والجهل... وتباينت أقوال المفسرين في المراد بالسوء والفحشاء فقيل إن السوء صغائر الذنوب والفحشاء كبارها، وقيل الفحشاء ما كان فيه الحد الشرعي والسوء ما لم يكن.. والتحقيق أنه سبحانه نبَّه أن الشيطان يريد من ابن السقوط في الشرك وكبار الخطايا؛ فإن كان وإلا رضى بصغار الذنوب أملا أن تجر لكبارها... فلا ييأس منا ولا ييأس المؤمن من رحمة الله وقبول توبته، ويؤيده ما روى النسائي في سننه الكبرى والصغرى- بسند صحيح- واللفظ لابن أبي شيبة عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهَةٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقُهُ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَدَعُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ؟ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ مَوْلِدَكَ فَتَكُونُ كَالْفَرَسِ فِي طُولِهِ (أي وحيدا)؟ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَتُقْتَلُ فَتَتَزَوَّجُ امْرَأَتُكَ وَتَقْسِمُ مِيرَاثَكَ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ (أي خالف الشيطان) ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ إِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ غَرَقًا أَوْ حَرْقًا فَأَكَلَهُ السَّبُعُ». [SUP]([8])[/SUP]
قال تعالى: { ... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ قَوْلُهُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وقيل ذلك لما حرمه المشركون على أنفسهم من الوصيلة والحام وغيره مما اخترعوه وليس من الدين. وقيل لما اخترعوه من العقائد الباطلة فجعل التقول على الله تعالى في العقائد بما لا برهان ولا نقل فيه من عمل الشيطان وأمره، وبذلك انتظم كل البدع في العقائد.
قال العلامة الراغب: إن قيل: إن كان التقول على الله عز وجل بما لا يعلم من عمل
الشيطان، فكيف يصح الحكم بغالب الظن في كثير من الأحكام، فإن عامة فروع الفقه مبنية علي غلبة الظن؟
قيل الرد: أولاً: فرَّق العلماء بين الأحكام العلمية وبين الأحكام العملية. وقالوا: كل ما كان من الأحكام العلمية، وهي التي لا عمل لها كالإيمان بالله وملائكة وكتبه ورسله، فإنه لا يجوز إن يحكم فيه أحدٌ ألا بالعلم المصون عن الشوائب.
وما كان من الأحكام العملية فأصولها كذلك محفوظة بالعلم اليقيني.
وأما فروعها: فيجور الحكم فيها لغلبة الظن لتفسيح صاحب الشرع لنا في ذلك، فصار حكمنا فليه من هذا الوجه حكماً بالعلم، لأنه إذا قال لنا: إذا غلب في ظنك أن القبلة في هذا الجانب، فصلِّ إليه، وإذا شهد عندك شاهدان مزكَّيَان فاحكم بشهادتهما صرنا
عالمين بأن هذا الحكم واجب علينا في الظاهر، وهذه المسألة قد أحكمت في أصول الفقه. [SUP]([9])[/SUP]
قلتُ: راجع المقدمة الأولى في أول كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي ستجد ما يشفيك.
[1])) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 185)
[2])) قال في "النهاية": فاجتالتهم، أي: بالجيم، أي: استخفتهم فجالوا معهم في الضلال.
[3])) انظر تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 478)
[4])) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 365) بتصرف يسير.
ونقل صاحب البحر المحيط في التفسير (2/ 100):
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ {طَيِّبًا}: طَاهِرًا مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ.
وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: حَلَالًا مُطْلَقَ الشَّرْعِ، طَيِّبًا مُسْتَلَذَّ الطَّبْعِ.
وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحَلَالُ: الَّذِي انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَةُ الْخَطَرِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا لِجِنْسِهِ كَالْمَيْتَةِ، وَإِمَّا لَا لِجِنْسِهِ كَمِلْكِ الْغَيْرِ، إِذْ لَمْ يُأْذَنْ فِي أَكْلِهِ. وَالطَّيِّبُ لُغَةً الطَّاهِرُ، وَالْحَلَّالُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ، كَمَا أَنَّ الْحَرَامَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ، وَالْأَصْلُ فِي الطِّيبِ مَا يُسْتَلَذُّ، وَوُصِفَ بِهِ الطَّاهِرُ وَالْحَلَالُ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ النَّجِسَ تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، وَالْحَرَامَ لَا يُسْتَلَذُّ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَالثَّابِتُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الطَّاهِرُ مِنَ الدَّنَسِ. قَالَ:
وَلِيَ الْأَصْلُ الَّذِي فِي مِثْلِهِ ... يُصْلِحُ الآبر زرع المؤتَبِر.
طيبوا الْبَاءَةِ سَهْلٌ وَلَهُمْ ... سُبُلٌ إِنْ شِئْتَ فِي وَحْشٍ وَعِر.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَلَالُ الطَّيِّبُ: هُوَ مَا لَا يسأل عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:الْحَلَالُ الَّذِي لَا تَبِعَةَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَبَالَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: الْحَلَالُ مَا يُجَوِّزُهُ الْمُفْتِي، وَالطَّيِّبُ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقَلْبُ بِالْحِلِّ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى، فلابد مِنْ إِذْنِهِ فِيمَا يُتَنَاوَلُ مِنْهَا، وَمَا عَدَا مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ يَبْقَى عَلَى الْحَظْرِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ الْحِلِّ وَالطَّيِّبِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي أَكْلِهِ. أمَّا تَمَلُّكُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، أَوِ ادِّخَارُهُ، أَوْ سَائِرُ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ غَيْرَ الْأَكْلِ، فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ. فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ إِجْمَاعٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ، أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَكْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ.
[5])) وجاء في البحر المحيط في التفسير (2/ 98): الْخُطْوَةُ، بِضَمِّ الْخَاءِ: مَا بَيْنَ قَدَمَيِ الْمَاشِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَطْوَةُ، بِفَتْحِهَا: الْمَرَّةُ مِنَ الْمَصْدَرِ. يقال: خطا يخطو خَطْوًا: مَشَى. وَيُقَالُ: هُوَ وَاسِعُ الْخَطْوِ. فَالْخُطْوَةُ بِالضَّمِّ، عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَخْطُو فِيهَا، كَالْغُرْفَةِ وَالْقَبْضَةِ، وَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَغرُوفِ وَالْمَقْبُوضِ.
[6][SUP])[/SUP][SUP]) البحر المحيط في التفسير (2/ 101)[/SUP]
[7])) انظر تفسير ابن عرفة (2/ 498) بتصرف
[8])) وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه وَابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه فِي أول الْجِهَاد وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان فِي الْجِهَاد.
[9])) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 366)
انتقالٌ لطيفٌ في منهج التربية الإيمانية من أجل بناء دولة الإيمان بين المسلمين؛ انتقالٌ من بناء حقائق الإيمان في القلوب توحيداً لله وحباً وطاعةً وولاءاً إلى تشييد منهج السماء على الأرض.
وقد يُقال أنه خطاب للناس كافةً ... اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله، وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أندادا، ويتبع رؤساء الكفرة أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم. [SUP]([1])[/SUP]
فذكر ذلك في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا، أي: مُسْتَطابا في نفسه غير ضارٍ للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل (=أشياء كانوا يحرموها ) ونحوها مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: إن كل ما أمنحه عبادي فهو لهم حلال" وفيه: "وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم [SUP]([2])[/SUP] عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم" .
عن عطاء، عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال. "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به". [SUP]([SUP][3][/SUP])[/SUP]
قوله : {حلالا طيبا} يقول اللغويون: الحلال من حَلِّ العقدة وهو فكَّها. وحَلَّ بالمكان أي حل أحماله ومكث فيه. وحلَّ الدين، أي حل عقد المطالبة به وصار يلزم سداده. وحل من إحرامه أي حل ما عقده على نفسه بالإحرام مما لا يجوز له فعله فجاز. وتحلة اليمين: ما تنحل به عقدة اليمين. واتساع معناه ليعني ما حُلَّت عنه عقدة الحظر وصار في حيز المباح شرعاً.
الطيب عند الإمام مالك: هو الحلال نفسه، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ، وهو عند الشافعي: المُسْتلَذ، غير القذر والخبيث، وهو ما تستطيبه الشهوة المستقيمة والعقول الصحيحة.
ولذلك يمنع في مذهبه أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث، ومما يؤيد ما ذهب إليه أن المُقدَّم في الفاظ القرآن هو التأسيس بمعنى إفادة جديد للمعنى لا التأكيد، وكذلك قوله تعالى: { ...وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ... الآية} [الأعراف: 157]
قال الراغب:
والحلال أعم من الطيب، والحرام أعم من الخبيثة فقد يكون حراما مالا يكون خبيثاً في نفسه بالعقل كتحريم ما يقسم بالأزلام، واستعمال الذهب والفضة، ولبس الحرير على الذكور، وجمع بين الحلال والطيب في الآية ليفيد أن ما استطابه الطبع أباحه الشرع، وأن ما يزينه الشيطان لبعض الناس ليس بالطبع الصحيح طيباً، كعادة المخنث. [SUP]([4])[/SUP]
قلتُ: وقد ذكرت في القرآن {حلال طيبا} أربع مرات: البقرة/168، المائدة/88، الأنفال/69، النحل/114.
قال ابن عطية في تفسيره "المحرر": وخُطُواتِ جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي. [SUP]([5])[/SUP]
قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ مَا سَنَّ مِنَ الْمَعَاصِي. يُقَالُ: اتَّبَعَ زَيْدٌ خُطُوَاتِ عَمْرٍو وَوَطِئَ على عقبيه، إذا سَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي أَحْوَالِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُطُوَاتُهُ أَعْمَالُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَطَايَاهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: طَاعَتُهُ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: مَا يَنْقُلُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ، حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ الْمَعَاصِي، مَأْخُوذٌ مِنْ خَطْوِ الْقَدَمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: طُرُقَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُحَقَّرَاتُ الذُّنُوبِ. وَقَيل: آثَارُهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: زَلَّاتُهُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى صَدَرَتْ مِنْ قَائِلِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. وَالْمَعْنَى بِهَا كُلِّهَا النَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، نَهَاهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَعَنِ التَّخَطِّي إِلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي إِلَى الْمَرْءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ، فَيُزَيِّنُ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ، فَزَجَرَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَالشَّيْطَانُ هَنَا إِبْلِيسُ. [SUP]([6])[/SUP]
واللفظ وإن كان جمعا (خطوات) الشيطان فالنهى عن اتباع أي خطوة له؛ النهى-إذن-عن أدنى معصية تجر لأختها. وقد قال العلماء الربانيّون: إن من علامات قبول الطاعةِ الطاعةُ تليها، وأن من علامات الارتكاس بالمعصية المعصية على إثرها. نعوذ بالله من الارتكاس.
قال الراغب: كقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ}، وقد تقدم أن لا فرق بين أن يقال " اتبع فلان الهوى " وبين " اتبع الشهوة أو الشيطان أو الحياة الدنيا في أنالمقصد بجميع ذلك متابعة ما يصد عن سبيل الله-عز وجل. انتهى
وقوله: {إنه لكم عدو مبين} عداوته لا تخفى على ذي بصيرة، وفيه من رحمة الله تعالى بنا تنفيرٌ عنه وتحذير من الشيطان الرجيم، كما قال: {إنَّ الشيطانَ لكم عدوٌ فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6] وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌ بئس للظالمين بدلا} [الكهف: 50].
قال تعالى مبيناً عداوة الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}
لأن العدو قد يأمر بالخير (ولو على سبيل المكر والحيلة) وهذا العدو لا يأمر إلا بالشر... (قاله ابن عرفة)
وأورد الزمخشري على هذا قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} يقول كيف يتسلط عليهم فيأمرهم مع هذه الآية؟
وأجاب عن ذلك بأنَّه شبّه تزيينه وبعثه على الشّر بالأمر وقبول العباد وساوسه بامتثال الأمر.
قال ابن عرفة: أو يُجاب بأن تلك مقيدة بالسّلطان وهو الحجة (والإجبار على قبول وساوسه). أو تم تقييد المعنى بلفظ (عبادي)، فعباد الرحمن لا يتسلط عليهم الشيطان ولا تقوم له عليهم حجة ولذلك أضافهم الله إليه إضافة تشريف.[SUP]([7])[/SUP]
والسوء والفحشاء هي كل قبيح من نحو الزنا، والسرقة، والسكر، والقتل، والخيانة، والكذب والحسد والجهل... وتباينت أقوال المفسرين في المراد بالسوء والفحشاء فقيل إن السوء صغائر الذنوب والفحشاء كبارها، وقيل الفحشاء ما كان فيه الحد الشرعي والسوء ما لم يكن.. والتحقيق أنه سبحانه نبَّه أن الشيطان يريد من ابن السقوط في الشرك وكبار الخطايا؛ فإن كان وإلا رضى بصغار الذنوب أملا أن تجر لكبارها... فلا ييأس منا ولا ييأس المؤمن من رحمة الله وقبول توبته، ويؤيده ما روى النسائي في سننه الكبرى والصغرى- بسند صحيح- واللفظ لابن أبي شيبة عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهَةٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقُهُ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَدَعُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ؟ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ مَوْلِدَكَ فَتَكُونُ كَالْفَرَسِ فِي طُولِهِ (أي وحيدا)؟ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَتُقْتَلُ فَتَتَزَوَّجُ امْرَأَتُكَ وَتَقْسِمُ مِيرَاثَكَ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ (أي خالف الشيطان) ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةَ إِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ غَرَقًا أَوْ حَرْقًا فَأَكَلَهُ السَّبُعُ». [SUP]([8])[/SUP]
قال تعالى: { ... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ قَوْلُهُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وقيل ذلك لما حرمه المشركون على أنفسهم من الوصيلة والحام وغيره مما اخترعوه وليس من الدين. وقيل لما اخترعوه من العقائد الباطلة فجعل التقول على الله تعالى في العقائد بما لا برهان ولا نقل فيه من عمل الشيطان وأمره، وبذلك انتظم كل البدع في العقائد.
قال العلامة الراغب: إن قيل: إن كان التقول على الله عز وجل بما لا يعلم من عمل
الشيطان، فكيف يصح الحكم بغالب الظن في كثير من الأحكام، فإن عامة فروع الفقه مبنية علي غلبة الظن؟
قيل الرد: أولاً: فرَّق العلماء بين الأحكام العلمية وبين الأحكام العملية. وقالوا: كل ما كان من الأحكام العلمية، وهي التي لا عمل لها كالإيمان بالله وملائكة وكتبه ورسله، فإنه لا يجوز إن يحكم فيه أحدٌ ألا بالعلم المصون عن الشوائب.
وما كان من الأحكام العملية فأصولها كذلك محفوظة بالعلم اليقيني.
وأما فروعها: فيجور الحكم فيها لغلبة الظن لتفسيح صاحب الشرع لنا في ذلك، فصار حكمنا فليه من هذا الوجه حكماً بالعلم، لأنه إذا قال لنا: إذا غلب في ظنك أن القبلة في هذا الجانب، فصلِّ إليه، وإذا شهد عندك شاهدان مزكَّيَان فاحكم بشهادتهما صرنا
عالمين بأن هذا الحكم واجب علينا في الظاهر، وهذه المسألة قد أحكمت في أصول الفقه. [SUP]([9])[/SUP]
قلتُ: راجع المقدمة الأولى في أول كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي ستجد ما يشفيك.
[1])) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 185)
[2])) قال في "النهاية": فاجتالتهم، أي: بالجيم، أي: استخفتهم فجالوا معهم في الضلال.
[3])) انظر تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 478)
[4])) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 365) بتصرف يسير.
ونقل صاحب البحر المحيط في التفسير (2/ 100):
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ {طَيِّبًا}: طَاهِرًا مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ.
وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: حَلَالًا مُطْلَقَ الشَّرْعِ، طَيِّبًا مُسْتَلَذَّ الطَّبْعِ.
وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحَلَالُ: الَّذِي انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَةُ الْخَطَرِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا لِجِنْسِهِ كَالْمَيْتَةِ، وَإِمَّا لَا لِجِنْسِهِ كَمِلْكِ الْغَيْرِ، إِذْ لَمْ يُأْذَنْ فِي أَكْلِهِ. وَالطَّيِّبُ لُغَةً الطَّاهِرُ، وَالْحَلَّالُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ، كَمَا أَنَّ الْحَرَامَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ، وَالْأَصْلُ فِي الطِّيبِ مَا يُسْتَلَذُّ، وَوُصِفَ بِهِ الطَّاهِرُ وَالْحَلَالُ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ النَّجِسَ تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، وَالْحَرَامَ لَا يُسْتَلَذُّ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَالثَّابِتُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الطَّاهِرُ مِنَ الدَّنَسِ. قَالَ:
وَلِيَ الْأَصْلُ الَّذِي فِي مِثْلِهِ ... يُصْلِحُ الآبر زرع المؤتَبِر.
طيبوا الْبَاءَةِ سَهْلٌ وَلَهُمْ ... سُبُلٌ إِنْ شِئْتَ فِي وَحْشٍ وَعِر.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَلَالُ الطَّيِّبُ: هُوَ مَا لَا يسأل عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:الْحَلَالُ الَّذِي لَا تَبِعَةَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَبَالَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: الْحَلَالُ مَا يُجَوِّزُهُ الْمُفْتِي، وَالطَّيِّبُ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقَلْبُ بِالْحِلِّ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى، فلابد مِنْ إِذْنِهِ فِيمَا يُتَنَاوَلُ مِنْهَا، وَمَا عَدَا مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ يَبْقَى عَلَى الْحَظْرِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ الْحِلِّ وَالطَّيِّبِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي أَكْلِهِ. أمَّا تَمَلُّكُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، أَوِ ادِّخَارُهُ، أَوْ سَائِرُ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ غَيْرَ الْأَكْلِ، فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ. فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ إِجْمَاعٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ، أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَكْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ.
[5])) وجاء في البحر المحيط في التفسير (2/ 98): الْخُطْوَةُ، بِضَمِّ الْخَاءِ: مَا بَيْنَ قَدَمَيِ الْمَاشِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَطْوَةُ، بِفَتْحِهَا: الْمَرَّةُ مِنَ الْمَصْدَرِ. يقال: خطا يخطو خَطْوًا: مَشَى. وَيُقَالُ: هُوَ وَاسِعُ الْخَطْوِ. فَالْخُطْوَةُ بِالضَّمِّ، عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَخْطُو فِيهَا، كَالْغُرْفَةِ وَالْقَبْضَةِ، وَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَغرُوفِ وَالْمَقْبُوضِ.
[6][SUP])[/SUP][SUP]) البحر المحيط في التفسير (2/ 101)[/SUP]
[7])) انظر تفسير ابن عرفة (2/ 498) بتصرف
[8])) وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه وَابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه فِي أول الْجِهَاد وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان فِي الْجِهَاد.
[9])) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 366)