عبدالرحمن السديس
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام، على قائد الغر المحجلين، نبينا محمد، وآله، وصحبه، ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن العلامة أبا محمد علي بن حزم الأندلسي علم من أشهر أعلام هذه الأمة له مكانة عظمى ومنزلة رفيعة في العلم .. لا تخفى
وقد برع العلامة أبو محمد ابن حزم في علوم شتى : كالفقه ، والحديث ، والأصول ، والأدب والبلاغة والشعر ، والتأريخ والأخبار ، والنسب ، والمنطق ، والطب ....
وقد أوتي جدلا و حجة ، وبلاغة ، يأسر من اطلع على كلامه ، ويملك قبله ، وتقنعه ، أو تفحمه حججه ...
وهو مع ذلك أديب شاعر ... من مهرة الشعراء له قصائد سارت بها الركبان ...
وهو أيضا حكيم مجرب له نظر ثاقب ، وذهن يتوقد ، وقوة ملاحظة ..وسبر ، وتقسيم عجيب لأخلاق الناس ...وآدابهم .
وقد حصلت له خطوب ، وحروب مع مخالفيه من العلماء جرت عليه محن ، وفتن ، وابتلاءات ... كان لها أثر في نفسه ، وخلقه ، وطبعه ، وكشفت له من أمور الناس ، وما تنطوي عليه أخلاقهم وصفاتهم شيئا كثيرا...
فكان نتاج ذلك أن دون ، وكتب كل ما تحصل له من ذلك في كتاب .. محاولة منه في معالجة أخلاق الناس ، وحثهم على الجميل ، وردهم عن القبيح ....
وهذا الكتاب اسمه : الأخلاق والسير في مداواة النفوس.. أو مداواة النفوس ...
يقول في مقدمة كتابه :
... جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة، أفادنيها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال، بما منحني عز وجل من التهمم بتصاريف الزمان، والإشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له، والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس، وعلى الازدياد من فضول المال، وزممت كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب، لينفع الله تعالى به من يشاء من عباده ممن يصل إليه بما أتعبت فيه نفسي، وأجهدتها فيه، وأطلت فيه فكري، فيأخذه عفواً، وأهديته إليه هنيئاً، فيكون ذلك أفضل له من كنوز المال، وعقد الأملاك، إذا تدبره ويسره الله تعالى لاستعماله، وأنا راج في ذلك من الله تعالى أعظم الأجر لنيتي في نفع عباده، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، ومداواة علل نفوسهم، وبالله أستعين .
ولعلي أنتقي لإخواني في هذا المنتدى الطيب المبارك ما استحسنته في هذا الكتاب مع نصيحتي للكل بقراءته كاملا ، فهو بحر طافح بالدرر ، وممتلئ باليواقيت .. لا غنى لطالب العلم عنها ...
والآن وقت الشروع في المقصود :
قال رحمه الله ص 2 :
لذة العاقل بتمييزه، ولذة العالم بعلمه، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده، أعظم من لذة الآكل بأكله، والشارب بشربه، والواطيء بوطئه، والكاسب بكسبه، واللاعب بلعبه، والآمر بأمره، وبرهان ذلك، أن الحكيم العاقل والعالم والعامل واجدون لسائر اللذات التي سمينا، كما يجدها المنهمك فيها، ويحسونها كما يحسها المقبل عليها، وقد تركوها وأعرضوا عنها، وآثروا طلب الفضائل عليها، وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما لا من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر.
ثم قال :
إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك، وانتهيت في آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا، إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط، لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن ،
إما بذهابه عنك ،
وإما بذهابك عنه ،
ولا بد من أحد هذين الشيئين،
إلا العمل لله عز وجل ؛ فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل،
أما العاجل فقلة الهم بما يهتم به الناس، وإنك به معظم من الصديق والعدو،
وأما في الآجل فالجنة.
و قال :
لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى، وفي نصر مظلوم. وباذل نفسه في عرض دنيا، كبائع الياقوت بالحصى.
لا مروءة لمن لا دين له.
العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة.
لإبليس في ذم الرياء حبالة، وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير خوف أن يظن به الرياء.
العقل والراحة هو اطراح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هذا باب العقل، والراحة كلها. من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون.
* من حقق النظر، وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه، لأن مدحهم إياه، إن كان بحق وبلغه مدحهم له، أسرى ذلك فيه العجب، فأفسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فبلغه فسره، فقد صار مسروراً بالكذب، وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه، فإن كان بحق فبلغه، فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم، لا يزهد فيه إلا ناقص، وإن كان بباطل وبلغه فصبر، اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر، وكان مع ذلك غانماً، لأنه يأخذ حسنات من ذمه بالباطل، فيحظى بها في دار الجزاء، أحوج ما يكون إلى النجاة بأعمال لم يتعب فيها، ولا تكلفها، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون. وأما إن لم يبلغه مدح الناس إياه، فكلامهم وسكوتهم سواء، وليس كذلك ذمهم إياه، لأنه غانم للأجر على كل حال، بلغه ذمهم أو لم يبلغه. ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن ذلك عاجل بشرى المؤمن لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل، أكثر من رغبته في المدح بالحق، ولكن إذا جاء هذا القول، فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل، فإنما تجب البشرى بما في الممدوح لا بنفس المدح.
* ليس بين الفضائل والرذائل، ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط. فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات، ونفرد من الرذائل والمعاصي، والشقي من أنست نفسه بالرذائل والمعاصي، ونفرت من الفضائل والطاعات، وليس هاهنا إلا صنع الله تعالى وحفظه.
طالب الآخرة ليفوز في الآخرة متشبه بالملائكة،
وطالب الشر متشبه بالشياطين،
وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع،
وطالب اللذات متشبه بالبهائم،
وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه !
ولكنه يشبه الغدران التي في الكهوف، في المواضع الوعرة، لا ينتفع بها شيء من الحيوان.
فالعاقل لا يغتبط بصفه يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد،
وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات، وهي: التمييز الذي يشارك فيه الملائكة.
فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منهن وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه،
ومن سر بقوة جسمه، فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً،
ومن سر بحمله الأثقال، فليعلم أن الحمار أحمل منه،
ومن سر بسرعة عدوه، فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه،
ومن سر بحسن صوته، فليعلم أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته، فأي فخر وأي سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه.
رأيت أكثر الناس إلا من عصم الله تعالى ـ وقليل ما هم ـ يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا، ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً ! :
من نيات خبيثة يضبون عليها من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار، ومن لا ذنب له،
وتمني أشد البلاء لمن يكرهونه، وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه.
وإنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها، لتعجلوا الراحة لأنفسهم، وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم، ولا قتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد، من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يريدونه، أو يمنع كونه. فأي غبن أعظم من هذه الحال التي نبهنا عليها، وأي سعد أعظم من التي دعونا إليها ؟
العــــــــلـــــــم
لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك، وأن العلماء يحبونك ويكرمونك، لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة!
ولو لم يكن من نقص الجهل، إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبط نظراءه من الجهال، لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار عنه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة!
لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به، إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس، لكان ذلك أعظم داع إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره! ومن أقلها ما ذكرنا مما يحصل عليه طالب العلم،
وفي مثله أتعب ضعفاء الملوك أنفسهم، فتشاغلوا عما ذكرنا بالشطرنج، والنرد، والخمر، والأغاني، وركض الدواب في طلب الصيد، وسائر الفضول التي تعود بالمضرة في الدنيا والآخرة، وأما فائدة، فلا فائدة.
من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه، كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر، وكغارس الشعراء حيث يزكو النخل والزيتون.
نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم، كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى، أو كتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء.
الباخل بالعلم، ألأم من الباخل بالمال، لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده، والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة، ولا يفارقه مع البذل.
من مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه، فيكون كغارس النارجيل بالأندلس، وكغارس الزيتون بالهند، وكل ذلك لا ينجب.
أجل العلوم ما قربك من خالقك تعالى، وما أعانك على الوصول إلى رضاه.
أنظر في المال والحال والصحة إلى من دونك، وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من فوقك.
العلوم الغامضة كالدواء القوي، يصلح الأجساد القوية، ويهلك الأجساد الضعيفة. وكذلك العلوم الغامضة. تزيد العقل القوي جودة وتصفية من كل آفة، وتهلك ذا العقل الضعيف.
لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون، ويقدرون أنهم يصلحون.
من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الإتساء به، بمنّه آمين.
غاظني أهل الجهل مرتين من عمري:
أحدهما: بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي،
والثاني: بسكوتهم عن الكلام بحضرتي، فهم أبداً ساكتون عما ينفعهم، ناطقون فيما يضرهم.
وسرني أهل العلم مرتين من عمري:
أحدهما: بتعليمي أيام جهلي،
والثاني بمذاكرتي أيام عملي.
من فضل العلم والزهد في الدنيا، أنهما لا يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلهما ومستحقهما،
ومن نقص علو أحوال الدنيا من المال والصوت، أن أكثر ما يقعان في غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما.
من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة، والبر، والصدق، وكرم العشيرة، والصبر، والوفاء، والأمانة، والحلم، وصفاء الضمائر، وصحة المودة.
ومن طلب الجاه والمال واللذات، لم يساير إلا أمثال الكلاب الكلبة، والثعالب الخلبة، ولم يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو المعتقد، خبيث الطبيعة.
منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة، وهو أنه يعلم حسن الفضائل فيأتيها ولو في الندرة، ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ولو في الندرة، ويسمع الثناء الحسن فيرغب في مثله، والثناء الرديء فينفر منه، فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل رذيلة،
ولا يأتي الفضائل ممن لم يتعلم العلم إلا صافي الطبع جداً، فاضل التركيب، وهذه منزلة خص بها النبيون عليهم الصلاة والسلام لأن الله تعالى علمهم الخير كله، دون أن يتعلموه من الناس.
وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال ، وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جداً.
ورأيت ممن طالع العلوم ، وعرف عهود الأنبياء عليهم السلام ، ووصايا الحكماء ، وهو لا يتقدمه في خبث السيرة ،وفساد العلانية والسريرة شرار الخلق، وهذا كثير جداً، فعلمت أنهما مواهب ، وحرمان من الله تعالى.
احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك، حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك.
وطّن نفسك على ما تكره، يقل همك إذا أتاك ، ويعظم سرورك ،ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدّرته.
إذا تكاثرت الهموم سقطت كلها.
الغادر يفي للمجدود (المحظوظ)، والوفي يغدر بالمحدود (عديم الحظ)، والسعيد كل السعيد في دنياه من لم يضطره الزمان إلى اختبار الإخوان.
طوبى لمن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم الناس منها.
الصبر على الجفاء ينقسم ثلاثة أقسام:
فصبر عمن يقدر عليك ولا تقدر عليه،
وصبر عمن تقدر عليه ولا يقدر عليك،
وصبر عمن لا تقدر عليه ولا يقدر عليك.
فالأول ذل ومهانة وليس من الفضائل.
والرأي لمن خشي ما هو أشد مما يصبر عليه: المتاركة والمباعدة.
والثاني فضل وبر: وهو الحلم على الحقيقة، وهو الذي يوصف به الفضلاء.
والثالث ينقسم قسمين: إما أن يكون الجفاء ممن لم يقع منه إلا على سبيل الغلط ويعلم قبح ما أتى به ويندم عليه، فالصبر عليه فضل وفرض، وهو حلم على الحقيقة.
وأما من كان لا يدري مقدار نفسه ويظن أن لها حقاً يستطيل به، فلا يندم على ما سلف منه، فالصبر عليه ذل للصابر، وإفساد للمصبور عليه، لأنه يزيد استشراء، والمقارضة له سخف، والصواب إعلامه بأنه كان ممكناً أن ينتصر منه، وإنه إنما ترك ذلك استرذالاً له فقط، وصيانة عن مراجعته ولا يزاد على ذلك.
وأما جفاء السفلة فليس جزاؤه إلا النكال وحده.
من جالس الناس لم يعدم هماً يؤلم نفسه، وإنما يندم عليه في معاده، وغيظاً ينضج كبده، وذلاً ينكس همته، فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم ؟
والعز والراحة والسرور والسلامة في الانفراد عنهم، ولكن أجعلهم كالنار تدفأ بها، ولا تخالطها.
لو لم يكن في مجالسة الناس إلا عيبان لكفيا، أحدهما الاسترسال عند الأنس ، وبالأسرار المهلكة القاتلة، التي لولا المجالسة لم يبح بها البائح، والثاني: مواقعة الغلبة المهلكة في الآخرة، فلا سبيل إلى السلامة من هاتين البليتين إلا بالإنفراد عن المجالسة جملة.
لا تحقر شيئاً من عمل غد أن تحققه بأن تعجله اليوم وإن قل، فإن من قليل الأعمال يجتمع كثيرها، وربما أعجز أمرها عند ذلك فيبطل الكل.
لا تحقر شيئاً مما ترجو به تثقيل ميزانك يوم البعث إن تعجله الآن وإن قل، فإنه يحط عنك كثيراً، لو اجتمع لقذف بك في النار.
الوجع والفقر والنكبة والخوف، لا يحسن أذاها إلا من كان فيها، ولا يعلمه من كان خارجاً عنها.
وفساد الرأي ، والعار ، والإثم لا يعلم قبحها إلا من كان خارجاً عنها، وليس يراه من كان داخلاً فيها.
الأمن والصحة والغنى، لا يعرف حقها إلا من كان خارجاً عنها، وليس يعرف حقها من كان فيها.
وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة، لا يعرف فضلها إلا من كان من أهلها، ولا يعرفه من لم يكن من أهلها.
أول من يزهد في الغادر، من غدر له الغادر، وأول من يمقت شاهد الزور من شهد له به، وأول من تهون الزانية في عينه، الذي يزني بها.
كثرة المال ترغب، وقلته تقنع.
كثرة وقوع العين على الشخص يسهل أمره ويهونه.
لا يغتر العاقل بصداقة حادثة له أيام دولته ؛ فكل أحد صديقه يومئذ.
لا تجب عن كلام نقل إليك عن قائل حتى توقن أنه قاله ، فإن من نقل إليك كذباً رجع من عندك بحق.
ثق بالمتدين وإن كان على غير دينك، ولا تثق بالمستخف وإن أظهر أنه على دينك.
من استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء مما تشفق عليه.
من قبيح الظلم الإنكار على من أكثر الإساءة إذا أحسن في الندرة.
لم أر لإبليس أصيد ، ولا أقبح ولا أحمق من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته: إحداهما: اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله، والثانية، استسهال الإنسان أن يسيء اليوم لأنه قد أساء أمس، أو أن يسيء في وجه ما، لأنه قد أساء في غيره، فقد صارت هاتان الكلمتان عذراً مسهلتين للشر ومدخلتين له .
استعمل سوء الظن حيث تقدر على توفيته حقه في التحفظ والتأهب، واستعمل حسن الظن حيث لا طاقة بك على التحفظ، فتربح راحة النفس.
حد الجود وغايته أن يبذل الفضل كله في وجوه البر، وأفضل ذلك في الجار المحتاج، وذي الرحم الفقير، وذي النعمة الذاهبة، والأحضر فاقة.
ومنع الفضل من هذه الوجوه داخل في البخل، وعلى قدر التقصير والتوسع في ذلك يكون المدح والذم، وما وضع في غير هذه الوجوه فهو تبذير، وهو مذموم.
وما بذلت من قوتك لمن هو أمس حاجة منك فهو فضل وإيثار، وهو خير من الجود، وما منع من هذا فهو لا حمد ولا ذم، وهو انتصاف.
بذل الواجبات فرض، وبذل ما فضل عن القوت جود، والإيثار على النفس من القوت بما لا تهلك على عدمه فضل، ومنع الواجبات حرام ، ومنع ما فضل عن القوت بخل وشح، والمنع من الإيثار ببعض القوت عذر، ومنع النفس أو الأهل القوت أو بعضه نتن ورذالة ومعصية.
والسخاء بما ظلمت فيه ، أو أخذته بغير حقه ظلم مكرر، والذم جزاء ذلك لا الحمد، لأنك إنما تبذل مال غيرك على الحقيقة لا مالك.
حد الشجاعة بذل النفس للموت عن الدين، والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلماً في المال والعرض، وفي سائر سبل الحق، سواء قل من يعارض أو أكثر.
والتقصير عما ذكرنا جبن وخور، وبذلها في عرض الدنيا تهور وحمق.
حد العفة أن تغض بصرك ، وجميع جوارحك عن الأجسام التي لا تحل لك، فما عدا هذا فهو عهر.
حد العدل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه. وحد الجور أن تأخذه ولا تعطيه.
وحد الكرم أن تعطي من نفسك الحق طائعاً، وتتجافى عن حقك لغيرك قادراً، وهو فضل أيضاً، وكل جود كرم ، وفضل وليس كل كرم ، وفضل جوداً. فالفضل أعم، والجود أخص، إذ الحلم فضل وليس جوداً، والفضل فرض زدت عليه نافلة.
كانت في عيوب، فلم أزال بالرياضة، وإطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين ، والمتقدمين في الأخلاق ، وفي آداب النفس، أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق، هو الإقرار بها ليتعظ بذلك متعظ يوماً، إن شاء الله.
فمنها: كلف في الرضاء، وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة، بالكلام والفعل والتخبط، وامتنعت مما لا يحل من الانتصار، وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً، وصبرت على مضض مؤلم، كان ربما أمرضني وأعجزني ذلك في الرضا، وكأني سامحت نفسي في ذلك لأنها تمثلت أن ترك ذلك لؤم.
ومنها دعابة غالية، فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح، وسامحت نفسي فيها، إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر.
ومنها عجب شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها، حتى ذهب كله، ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة، واستعمال التواضع.
ومنها محبة في بعد الصيت والغلبة، فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة، والله المستعان على الباقي.
ومنها إفراط في الأنفة بغضت إلي إنكاح الحرم جملة بكل وجه، وصعبت ذلك في طبيعتي، وكأني توقفت عن مغالبة هذا الإفراط الذي أعرف قبحه لعوارض اعترضت علي، والله المستعان.
ومنها حقد مفرط، قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه، وأما قطعه ألبتة فلم أقدر عليه، وأعجزني معه أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً.
وأما سوء الظن فيعده قوم عيباً على الإطلاق وليس كذلك، إلا إذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة، أو إلى ما يقبح في المعاملة، وإلا فهو حزم، والحزم فضيلة.
... النائل مني لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما، إما أن يكون كاذباً، وإما أن يكون صادقاً. فإن كان كاذباً فلقد عجل الله لي الانتصار منه على لسان نفسه، بأن حصل في جملة أهل الكذب،
وبأن نبه على فضلي بأن نسب إلي ما أنا منه بريء العرض، وما يعلم أكثر السامعين له كذبه، إما في وقته ذلك، وإما بعد بحثهم عما قال.
وإن كان صادقاً فإنه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن أكون شاركته في أمر استرحت إليه استراحة المرء إلى من يقدر فيه ثقة ، وأمانة، فهذا أسوأ الناس حالة، وكفى به سقوطاً وضعة.
وإما أن يكون عابني بما يظن أنه عيب وليس عيباً، فقد كفاني جهله شأنه، وهو المعيب لا من عاب،
وأما أن يكون عابني بعيب هو فيّ على الحقيقة وعلم مني نقصاً أطلق به لسانه، فإن كان صادقاً: فنفسي أحق بأن ألوم منه، وأنا حينئذ أجدر بالغضب على نفسي مني على من عابني بالحق.
وأما أمر إخواني (من نال منهم بحضرته) فإني لست أمسك عن الامتعاض لهم، لكني أمتعض امتعاضا رقيقاً لا أزيد فيه أن أندم القائل منهم بحضرتي، وأجعله يتذمم ويعتذر ويخجل ويتنصل، وذلك بأن أسلك به طريق ذم من نال من الناس، وأن نظر المرء في أمر نفسه والتهمم بإصلاحها أولى به من تتبع عثرات الناس، وبأن أذكر فضل صديقي فأبكته على اقتصاره على ذكر العيب دون ذكر الفضيلة، وأن أقول: إنه لا يرضى بذلك فيك، فهو أولى بالكرم منك، فلا ترض لنفسك بهذا، أو نحو هذا من القول.
وأما أن أهارش القائل فأحميه وأهيج طباعه وأستثير غضبه، فينبعث منه في صديقي أضعاف ما أكره، فأنا الجاني حينئذ على صديقي، والمعرض له بقبيح السب ، وتكراره فيه، وإسماعه من لم يسمعه، والإغراء به، وربما كنت أيضاً في ذلك جانياً على نفسي ما لا ينبغي لصديقي أن يرضاه لي، من إسماعي الجفاء والمكروه، وأنا لا أريد من صديقي أن يذب عني بأكثر من الوجه الذي حددت، فإن تعدى ذلك إلى أن يساب النائل مني حتى يولد بذلك أن يتضاعف النيل، وأن يتعدى أيضاً إليه بقبيح المواجهة وربما إلى أبويّ وأبويه على قدر سفه النائل ، ومنزلته من البذاءة وربما كانت منازعة بالأيدي، فأنا مستنقص لفعله في ذلك زارٍ عليه، متظلم منه، غير شاكر له.
لكني ألومه على ذلك أشد اللوم وبالله تعالى التوفيق.
وجدت أفضل نعم الله تعالى على المرء ، أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحق وإيثاره .
وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه، فلييأس من أن يصلح نفسه أو يُقَوِّم طباعه أبداً ، وليعلم أنه لا يفلح في دين ، ولا في خلق محمود.
وأما الزهو ، والحسد ، والكذب ، والخيانة، فلم أعرفها بطبعي قط ، وكأنني لا حمد لي في تركها، لمنافرة جبلتي إياها، والحمد لله رب العالمين.
من عَيْبِ حبِ الذكر، أنه يحبط الأعمال إذا أحب عاملها أن يذكر بها، فكاد يكون شركاً، لأنه يعمل لغير الله تعالى، وهو يطمس الفضائل، لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير، لكن ليذكر به.
أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك، لأنه نبه على نقصك،
وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك، لأنه نبه على فضلك،
ولقد انتصر لك من نفسه بذلك، وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.
لو علم الناقص نقصه لكان كاملاً.
لا يخلو مخلوق من عيب، فالسعيد من قلت عيوبه ودقت.
الإخوان والنصيحة والصداقة
إستبقاك من عاتبك، وزهد فيك من استهان بسيئاتك.
العتاب للصديق كالسبك للسبيكة، فأما تصفو وإما تطير.
من طوى من إخوانك سره الذي يعنيك دونك، أخون لك ممن أفشى سرك، لأن من أفشى سرك فإنما خانك فقط، ومن طوى سره دونك منهم، فقد خانك واستخونك.
لا ترغب فيمن يزهد فيك، فتحصل على الخيبة والخزي.
لا تزهد فيمن يرغب فيك، فإنه باب من أبواب الظلم، وترك مقارضة الإحسان، وهذا قبيح.
أكتم سر كل من وثق بك، ولا تفشي إلى أحد من إخوانك ولا من غيرهم، من سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه، وإن كان أخص الناس بك.
وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه، وإن لم يعتمدك بالرغبة، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل، ولا تبن إلا على أن من أحسنت إليه أول مضر بك ، وساع عليك ، فإن ذوي التراكيب الخبيثة ، يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم.
لا تنصح على شرط القبول،
ولا تشفع على شرط الإجابة،
ولا تهب على شرط الإثابة،
لكن على سبيل استعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة، وبذل المعروف.
حد الصداقة الذي يدور على طرفي محدوده هو: أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره، فما سفل عن هذا فليس صديقاً، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق، وقد يكون المرء صديقاً لمن ليس صديقه.
وليس كل صديق ناصحاً، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه.
وحد النصيحة هو أن يسوء المرء ما ضر الآخر، ساء ذلك الآخر أو لم يسؤه، وإن يسره ما نفعه، سر الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة.
وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه ، وبماله لغير علة توجب ذلك ، وآثرك على من سواك.
ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان والأصدقاء، فإن ذلك فضيلة تامة متركبة ، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم ، والجود ، والصبر ، والوفاء .. والعفة ... وتعليم العلم، وبكل حالة محمودة.
ولسنا نعني الشاكرية والأتباع أيام الحرمة، فأولئك لصوص الإخوان وخبث الأصدقاء، والذين يظن أنهم أولياء وليسوا كذلك. ودليل ذلك انحرافهم عند انحراف الدنيا. ولا نعني أيضاً المصادقين لبعض الأطماع، .... ، والمتآلفين على النيل من أعراض الناس، والأخذ في الفضول ، وما لا فائدة فيه، فليس هؤلاء أصدقاء. ودليل ذلك أن بعضهم ينال من بعض ، وينحرف عنه عند فقد تلك الرذائل التي جمعتهم، وإنما نعني إخوان الصفاء لغير معنى إلا لله عز وجل، إما للتناصر على بعض الفضائل الجدية، وإما لنفس المحبة المجردة فقط.
ولكن إذا أحصيت عيوب الاستكثار منهم، وصعوبة الحال في إرضائهم، والغرر في مشاركتهم، وما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم، فإن غدرت بهم أو أسلمتهم، لؤمت وذممت، وإن وفيت، أضررت بنفسك، وربما هلكت، وهذا لا يرضى الفاضل بسواه، إذا تنشب في الصداقة، وإذا تفكرت في الهم بما يعرض لهم وفيهم من موت أو فراق أو غدر من يغدر منهم، كاد السرور بهم لا يفي بالحزن الممض من أجلهم.
وليس في الرذائل أشبه بالفضائل من محبة المدح، ودليل ذلك أنه في الوجه سخف ممن يرضى به، وقد جاء في الأثر في المداحين ما جاء، إلا أنه قد ينتفع به في الإقصار عن الشر والتزيد من الخير، وفي أن يرغب في ذلك الخلق الممدوح من سمعه.
بعض أنواع النصيحة يشكل تمييزه من النميمة، لأن من سمع إنساناً يذم آخر ظالماً له، أو يكيده ظالماً له، فكتم ذلك عن المقول فيه والمكيد، كان الكاتم لذلك ظالماً مذموماً ، ثم إن أعلمه بذلك على وجهه كان ربما قد ولد على الذام والكائد ما لم يبلغه استحقاقه بعد من الأذى، فيكون ظالماً له، وليس من الحق أن يقتص من الظالم بأكثر من قدر ظلمه، فالتخلص من هذا الباب صعب إلا على ذوي العقول. والرأي للعاقل في مثل هذا، إن يحفظ المقول فيه من القائل فقط، دون أن يبلغه ما قال، لئلا يقع في الاسترسال زائد فيهلك. وأما في الكيد فالواجب أن يحفظه من الوجه الذي يكاد منه بألطف ما يقدر في الكتمان على الكائد، وأبلغ ما يقدر في تحفيظ المكيد، ولا يزد على هذا شيئاً.
وأما النميمة فهي التبليغ لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلغ إليه ، وبالله التوفيق.
النصيحة مرتان: فالأولى: فرض وديانة، والثانية: تنبيه وتذكير، وأما الثالثة: فتوبيخ وتقريع، وليس وراء ذلك إلا التركل واللطام، اللهم إلا في معاني الديانة، فواجب على المرء تزداد النصح فيها رضي المنصوح أو سخط، تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ.
وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلا بد من التصريح. ولا تنصح على شرط القبول منك، فإذا تعديت هذه الوجوه فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة ،وملك لا مؤدي حق أمانة وأخوة.
وليس هذا حكم العقل، ولا حكم الصداقة، لكن حكم الأمير مع رعيته، والسيد مع عبيده.
لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذل له من نفسك، فإن طلبت أكثر، فأنت ظالم.
ولا تكسب إلا على شرط الفقد. ولا تتول إلا على شرط العزل، وإلا فأنت مضر بنفسك خبيث السيرة.
من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها، أو أردت ابتداءه بقضائها، فلا تعمل له إلا ما يريد هو لا ما تريد أنت، و إلا فأمسك، فإن تعديت هذا كنت مسيئاً لا محسناً، ومستحقاً للوم منه ومن غيره لا للشكر، ومقتضياً للعداوة لا للصداقة.
لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه، ولا ينتفع بمعرفته، فهذا فعل الأرذال.
ولا تكتمه ما يستضر بجهله، فهذا فعل أهل الشر، ولا يسرك أن تمدح بما ليس فيك، بل ليعظم غمك بذلك، لأنه نقصك ينبه الناس عليه، ويسمعهم إياه، وسخرية منك وهزؤ بك، ولا يرضى بهذا إلا أحمق ضعيف العقل.
ولا تأس إن ذممت بما ليس فيك، بل افرح به، فإنه فضلك ينبه الناس عليه، ولكن افرح إذا كان فيك ما تستحق به المدح، وسواء مدحت به أو لم تمدح، واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم، وسواء ذممت به أو لم تذم.
من سمع قائلاً يقول في امرأة صديقه قول سوء، فلا يخبره بذلك أصلاً، لا سيما إذا كان القائل عيابة، وقاعاً في الناس، سليط اللسان، أو دافع معرة عن نفسه، يريد أن يكثر أمثاله في الناس، وهذا كثير موجود. وبالجملة فلا يحدث الإنسان إلا بالحق، وقول هذا القائل لا يدري أحق هو أم باطل، إلا أنه في الديانة عظيم.
فإن سمع القول مستفيضاً من جماعة، وعلم أن أصل ذلك القول شائع وليس راجعاً إلى قول إنسان واحد، أو اطلع على حقيقته إلا أنه لا يقدر أن يوقف صديقه على ما وقف هو عليه، فليخبره بذلك بينه وبينه في رفق، وليقل له: النساء كثير، أو حصن منزلك، وثقف أهلك، أو اجتنب أمراً كذا، وتحفظ من وجه كذا. فإن قبل المنصوح وتحرز فحظ نفسه أصاب، وإن رآه لا يتحفظ ولا يبالي أمسك ولم يعاوده بكلمة، وتمادى على صداقته إياه، فليس في أن لا يصدقه في قوله ما يوجب قطيعته، فإن اطلع على حقيقة وقدر أن يوقف صديقه على مثل ما وقف عليه هو من الحقيقة، ففرض عليه أن يخبره بذلك، وأن يوقفه على الجلية. فإن غير فذلك، وإن رآه لا يغير اجتنب صحبته؛ فإنه رذل لا خير فيه ولا نقية.
ودخول رجل متستر في منزل المرء، دليل سوء لا يحتاج إلى غيره. ودخول المرأة في منزل رجل على سبيل التستر مثل ذلك أيضاً. وطلب دليل أكثر من هذين سخف.
وواجب أن يجتنب مثل هذه المرأة وفراقها على كل حال، وممسكها لا يبعد عن الدياثة .
الناس في أخلاقهم على سبع مراتب، فطائفة تمدح في الوجه وتذم في المغيب، وهذه صفة أهل النفاق من العيابين، وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم، وطائفة تذم في المشهد والمغيب، وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين، وطائفة تمدح في الوجه والمغيب، وهذه صفة أهل الملق والطمع، وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب، وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهدة، ويثنون بالخير في المغيب، أو يمسكون عن الذم. وأما العيابون البرآء من النفاق والقحة، فيمسكون في المشهد، ويذمون في المغيب، وأما أهل السلامة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب ومن كل من أهل هذه الصفات قد شاهدنا وبلونا.
إذا نصحت ففي الخلاء وبكلام لين، ولا تسند سب من تحدثه إلى غيرك فتكون نماماً، فإن خشنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله تعالى "فقولا له قولاً ليناً" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تنفروا" ، وإن نصحت بشرط القبول منك فأنت ظالم، ولعلك مخطئ في وجه نصحك، فتكون مطالباً بقبول خطئك وبترك الصواب.
لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف.
لا تصاهر إلى صديق ولا تبايعه، فما رأينا هذين العملين إلا سبباً للقطيعة، وإن ظن أهل الجهل أن فيهما تأكيداً للصلة فليس كذلك، لأن هذين العقدين داعيان كل واحد إلى طلب حظ نفسه. والمؤثرون على أنفسهم قليل جداً، فإذا اجتمع طلب كل امريء حظ نفسه، وقعت المنازعة، ومع وقوعها فساد المروءة،
الطمع أصل لكل ذل، ولكل هم، وهو خلق سوء ذميم. وضده نزاهة النفس، وهذه صفة فاضلة مركبة من النجدة والجود والعدل والفهم، لأنه رأى قلة الفائدة في استعمال ضدها فاستعملها، وكانت فيه نجدة انتجت له عزة نفسه فتنـزه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس فلم يهتم لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدل حببت إليه القناعة وقلة الطمع.
فإذن، نزاهة النفس متركبة من هذه الصفات. فالطمع الذي هو ضدها متركب من الصفات المضادة لهذه الصفات الأربع، وهي الجبن والشح والجور والجهل. والرغبة طمع مستوفى متزايد مستعمل، ولولا الطمع ما ذل أحد لأحد. وأخبرني أبو بكر بن أبي الفياض قال: كتب عثمان بن محامس على باب داره بأستجة يا عثمان لا تطمع.
من امتحن بقرب من يكره، كمن امتحن ببعد من يحب ولا فرق.
اقنع بمن عندك، يقنع بك من عندك.
السعيد في المحبة هو من ابتلي بمن يقدر أن يلقي عليه قفله، ولا تلحقه في مواصلته تبعة من الله عز وجل ولا ملامة من الناس.
إذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة .
الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل، لأن من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره، وإن يتعدى غيره إلى حرمته ؛ ومن كانت النجدة طبعاً له، حدثت فيه عزة، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتضام.
أخبرني بعض من صحبناه في الدهر عن نفسه، أنه ما عرف الغيرة قط، حتى ابتُلي بالمحبة فغار. وكان هذا المخبر فاسد الطبع، خبيث التركيب، إلا أنه كان من أهل الفهم والجود.
كنا نظن أن العشق في ذوات الحركة والحدة من النساء أكثر، فوجدنا الأمر بخلاف ذلك ، وهو في الساكنة الحركات أكثر، ما لم يكن ذلك السكون بلهاً.