الحمد لله عظيم التنزيل ، والصلاة والسلام على المعلم الجليل ، المؤيد بجبريل ، والمذكور في التوراة والإنجيل ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم جيلاً بعد جيل ، وبعد :
فليس هناك من شكٍ في أن القرآن الكريم كتاب الله المُعجز ، وأن آياتُه كلها مُعجزةٌ بلفظها ومعناها ، وإذا كان القرآن الكريم مصدراً رئيساً للتربية الإسلامية بعامة - كما يُجمع على ذلك العُلماء والكُتاب والباحثين في هذا المجال - ؛ فإن هناك آياتٍ قرآنيةٍ مُعجزةٍ بلفظها ومعناها ؛ لكونها اشتملت على الكثير من المعاني والمضامين والمنطلقات والدروس التربوية التي يمكن استنباطها منها.
ومن هذه الآيات المُعجزة ثلاث آياتٍ جاءت في ثلاثة مواضع مختلفة من سور القرآن الكريم ، هي على الترتيب :
= الآية الأولى قوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } ( سورة البقرة : الآية رقم 151) ..
= الآية الثانية قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بَعَثَ فِيهم رَسُولاً مِن أنفسهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ( آل عمران : 164) .
= الآية الثالثة قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ( الجمعة : 2 ) .
وهذه الآيات الثلاث جاءت مُتقاربةً في معناها الإجمالي الذي يُشير إلى المنهج التربوي الإسلامي الذي أنزله الخالق العظيم سبحانه على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، والذي جاء مُطابقاً لدعوة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أوردها القرآن الكريم في قوله تعالى : { ربنا وابَعَثَ فِيهم رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِك وَيُزَكِّيهِمْ إنك أنت العزيز الحكيم } ( البقرة : 129) .
وهو ما أكّده الحديث الذي روي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إني عند الله مكتوبٌ بخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدلُ في طينته ، وسأُخبركم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبِشارةُ عيسى ، ورؤيا أُمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام " ( ابن حبان ، مج 14 ، ص 313 ، الحديث رقم 6404 ) .
أما أبرز الملامح التربوية في مجموع هذه الآيات الكريمات فيمكن الإشارة إليها فيما يلي :
أولاً / تحديد مصدر إرسال هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى لهذه الأُمة هادياً ومُبشراً ونذيراً ، وهو ما يتضح في قوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } وقوله سبحانه : { إذ بَعَثَ فِيهم } ، وقوله جل في علاه : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ } . وجميع هذه الألفاظ القرآنية الكريمة تدُل وتؤكد أن الله سبحانه وتعالى - وهو الرب العظيم والخالق الكريم - هو الذي أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ليكون معلماً ومُربياً للأُمة .
ثانياً / تحديد هوية هذا الرسول المعلم الذي ارسله الحق جل في عُلاه إلى الأُمة . وهو ما يُشير إليه قوله تعالى في وصف هذا الرسول : { رَسُولاً مِنْكُمْ } ، وقوله سبحانه : { رَسُولاً مِن أنفسهم } ، وقوله جل جلاله : { رَسُولاً مِنْهُمْ } . وجميع هذه الألفاظ القرآنية تُشير إلى أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان مُرسلٌ من الله تعالى إلى أُمته ، وأنه لا يختلف عنهم في الجانب الإنساني فليس ملكَاً أو مخلوقاً من جنسٍ آخر ؛ وفي هذا إشارةٌ إلى أن هذه التربية التي جاء بها هذا النبي الكريم تربيةٌ إنسانية ، وصالحةٌ تماماً لطبيعة الجنس البشري ، وتتفق تماماً مع فطرته الإنسانية التي فُطر عليها وهو ما يُشير إليه أحد الكتاب بقوله : " لأن الرسول في حياته كإنسان يُوحى إليه من الله ، يُمثل إنسانية هذه التربية " ( عبد الحميد الهاشمي ، 1405هـ ، ص 7 ) .
ثالثاً / بيّنت الآيات الكريمات وظيفة ومهمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحددتها في وظائف ثلاثٍ جاءت على النحو التالي :
= الوظيفة الأولى هي التلاوة : ويُقصد بها أن يبدأ هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن الكريم على قومه قراءةً مرتلةً ليُبلِغَهم ما فيه ويُعلمهم إياه ، ولتكون تلك التلاوة سبيلاً لإقامة الحُجة عليهم ، ووسيلةً لحفظ كتابه وآياته ، إضافةً إلى التعبد لله تعالى بتلاوته . وهذا فيه بُعدٌ تربوي يُشير إلى أن " الهدف من تلاوة الآيات هو غرس الولاء للإسلام بين المُتعلمين عقيدةً وسلوكاً ، وإبراز شواهد الأُلوهية والربوبية ، وغرس الاتجاهات الإيمانية " ( نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 189 ) .
= الوظيفة الثانية هي التزكية : وهي احد المرادفات التُراثية التي استعملها بعض سلفنا الصالح للدلالة على معنى التربية الإسلامية الشامل والدّال على محاسبة النفس والعناية بها ، والعمل على الارتقاء بجميع جوانبها ( الروحية ، والجسمية ، والعقلية ) إلى أعلى المراتب وأرفع الدرجات ، وقد ورد أن المقصود بتفسير قوله تعالى : { وَيُزَكِّيكُمْ } " أي " يُطهر أخلاقكم ونفوسكم ، بتربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتنـزيهها عن الأخلاق الرذيلة " ( عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، 1417هـ ، ص 57 ) .
وهنا لا بُد من التأكيد على أن مصطلح التزكية يمتاز بشموليته لمعنى العملية التربوية الكاملة التي تُعنى بمختلف جوانب النفس البشرية ، وهو ما يؤكده أحد عُلماء السلف بقوله :
" يعني أنه يُزكِّي قلوبهم ويُطهرها من أدناس الشرك والفجور والضلال ؛ فإن النفوس تزكو إذا طهُرت من ذلك كله ، ومن زكت نفسه فقد أفلح وربح ، كما قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } ( سورة الشمس : الآية رقم 9 ) . وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } ( سورة الأعلى : الآية رقم 14) " ( ابن رجب الحنبلي ، 1421هـ ، ص 168 ) .
وهنا يمكن ملاحظة أن الله تعالى في هذه الآيات الثلاث قد قدَّم التزكية على التعليم ، وفي ذلك إعجازٌ تربويٌ يتضح عندما نعلم أن العملية التربوية تسبق العملية التعليمية ، وأن حصول التزكية عند الإنسان يُسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في تسهيل وتيسير وتمام عملية تعليمه .
= الوظيفة الثالثة هي التعليم : وهي وظيفةٌ تأتي بعد أن تتم عمليتي التلاوة والتزكيه ، وبذلك يتم التعليم المقصود كأحسن ما يكون ، وهو ما يُشير إليه أحد الباحثين بقوله :
" هذه الخطوة التربوية ( أي التعليم ) تترتب على الخطوتين السابقتين – تلاوة الآيات وتزكية النفس والعقل والجسم – ، وهنا يكون الإنسان مؤهلاً لاستيعاب المعارف والمبادئ والتشريعات التي يشتمل عليها القرآن الكريم والسُنة المطهرة " ( نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 195 ) .
ولأن عملية التعليم تحتاج إلى مصادر واضحة ومُحددة لها ؛ فقد تكفلت الآيات الكريمات ببيان هذه المصادر وتحديدها بدقة ، وحصرت هذه المصادر في مصدرين رئيسيين هما : ( الكتاب والحكمة ) ، ويُقصد بهما : القرآن الكريم و السُنة النبوية ؛ فهما المصدران الإلهيان اللذان نصّت عليهما الآيات الكريمات . لما فيهما من الوحي الإلهي الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( سورة الحجر : 9 ) .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الآيات في مجموعها قد تضمنت إلماحاً تربوياً مُعجزاً إلى الجانبين الرئيسين اللذين تقوم عليهما العملية التربوية بعامة ، وهما :
= الجانب الفكري ( النظري ) : ويتمثل في الجانب المصدري النظري الذي جاء وحياً من عند الله تعالى ، وعبّرت عنه الآيات بالتلاوة .
= الجانب العملي ( التطبيقي ) : ويتمثل في الجانب السلوكي العملي الذي يقوم به الإنسان ويُمارسه بنفسه ، والذي عبّرت عنه الآيات بالتزكية أولاً ثم التعليم ثانياً .
وقد أشار أحد الباحثين إلى ذلك في وصفه للتعبيرات القرآنية الثلاثة بقوله : "نجد أنها تتضمن جانبي العقل والنقل ، أو جانبي الغيب الذي لا يُناقش ، وإنما هو محل الإيمان المُطلق لأن العقل البشري قاصرٌ عن فهمه ؛ وهنا يُكتفى بتلاوة الآيات من المُتعلم أو مُتلقي التربية وهذا هو الجانب الأول . أما الجانب الثاني فهو الذي يتمثل في تعبير " يُزكيهم " و " يُعلمهم " فكلاهما يُشير إلى عمليةٍ بشريةٍ تتعلق ببناء السلوك وتشكيله وتغييره ، وتفسح المجال أمام العقل والملاحظة والتجريب " ( نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 198 ) .
وبعد ؛ فإذا كانت هذه الآيات القرآنية قد أشارت في مجموعها إلى ملامح المنهج التربوي الإسلامي الذي جاء به معلم الإنسانية وأُستاذ البشرية النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم من عند الخالق العظيم ( جل في عُلاه ) ؛ فإن القرآن الكريم زاخرٌ في آياته البينات بالكثير من الدروس والمضامين والمعاني والمبادئ والقيم التربوية التي تكفل للإنسانية جمعاء الخير والسعادة في كل زمانٍ وأي مكان متى تم استنباطها والعمل بها في واقع الحياة ، وهو ما نرجوه ونؤمله ونسعى لتحقيقه سائلين المولى عز وجل التوفيق والسدّاد ، والهداية والرشاد ، والحمد لله رب العباد .
----------------------
المراجع :
- القرآن الكريم .
- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري . ( 1419هـ / 1999م ) . صحيح البخـاري . ط ( 2 ) . الرياض : دار السلام للنشر والتوزيع .
- أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري . ( 1419هـ / 1998م ) . صحيح مسـلم . الرياض : دار السلام للنشر والتوزيع .
- مالك بن أنس . ( د . ت ) . الموطـأ . تصحيح وتخريج وتعليق : محمد فؤاد عبد الباقي . القاهرة : دار الحديث .
- سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني . ( د . ت ) . سُنـن أبي داود . تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد . بيروت : دار الفكر .
- أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي . ( 1406هـ / 1986م ) . سُـنن النـسائي ( المُجـتبى ) . تحقيق / عبد الفتاح أبو غدة . ط ( 2 ) . حلب : مكتب المطبوعات الإسلامية .
- أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي . ( د . ت ) . الجامع الصحيح ( سُـنن الترمذي ) . تحقيق / أحمد محمد شاكر وآخرون . بيروت : دار إحياء التُراث العربي .
- محمد ناصر الدين الألباني . ( 1415هـ / 1994م ) .صحيح الأدب المفرد للإمام البُخاري . ط ( 2 ) ، الجبيل : دار الصديق .
- إبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي . ( 1421هـ / 2001م ) . لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف . تحقيق / ياسين محمد السّواس . ط ( 6 ) . دمشق – بيروت : دار ابن كثير .
- نبيل السمالوطي . ( 1406هـ / 1986م ) . التنظيم المدرسي والتحديث التربوي ( دراسة في اجتماعيات التربية الإسلامية ) . ط ( 2 ) . جدة : دار الشروق .
[align=center]الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية[/align]
المصـــــدر هنا
فليس هناك من شكٍ في أن القرآن الكريم كتاب الله المُعجز ، وأن آياتُه كلها مُعجزةٌ بلفظها ومعناها ، وإذا كان القرآن الكريم مصدراً رئيساً للتربية الإسلامية بعامة - كما يُجمع على ذلك العُلماء والكُتاب والباحثين في هذا المجال - ؛ فإن هناك آياتٍ قرآنيةٍ مُعجزةٍ بلفظها ومعناها ؛ لكونها اشتملت على الكثير من المعاني والمضامين والمنطلقات والدروس التربوية التي يمكن استنباطها منها.
ومن هذه الآيات المُعجزة ثلاث آياتٍ جاءت في ثلاثة مواضع مختلفة من سور القرآن الكريم ، هي على الترتيب :
= الآية الأولى قوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } ( سورة البقرة : الآية رقم 151) ..
= الآية الثانية قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بَعَثَ فِيهم رَسُولاً مِن أنفسهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ( آل عمران : 164) .
= الآية الثالثة قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ( الجمعة : 2 ) .
وهذه الآيات الثلاث جاءت مُتقاربةً في معناها الإجمالي الذي يُشير إلى المنهج التربوي الإسلامي الذي أنزله الخالق العظيم سبحانه على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، والذي جاء مُطابقاً لدعوة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أوردها القرآن الكريم في قوله تعالى : { ربنا وابَعَثَ فِيهم رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِك وَيُزَكِّيهِمْ إنك أنت العزيز الحكيم } ( البقرة : 129) .
وهو ما أكّده الحديث الذي روي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إني عند الله مكتوبٌ بخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدلُ في طينته ، وسأُخبركم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبِشارةُ عيسى ، ورؤيا أُمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام " ( ابن حبان ، مج 14 ، ص 313 ، الحديث رقم 6404 ) .
أما أبرز الملامح التربوية في مجموع هذه الآيات الكريمات فيمكن الإشارة إليها فيما يلي :
أولاً / تحديد مصدر إرسال هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى لهذه الأُمة هادياً ومُبشراً ونذيراً ، وهو ما يتضح في قوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } وقوله سبحانه : { إذ بَعَثَ فِيهم } ، وقوله جل في علاه : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ } . وجميع هذه الألفاظ القرآنية الكريمة تدُل وتؤكد أن الله سبحانه وتعالى - وهو الرب العظيم والخالق الكريم - هو الذي أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ليكون معلماً ومُربياً للأُمة .
ثانياً / تحديد هوية هذا الرسول المعلم الذي ارسله الحق جل في عُلاه إلى الأُمة . وهو ما يُشير إليه قوله تعالى في وصف هذا الرسول : { رَسُولاً مِنْكُمْ } ، وقوله سبحانه : { رَسُولاً مِن أنفسهم } ، وقوله جل جلاله : { رَسُولاً مِنْهُمْ } . وجميع هذه الألفاظ القرآنية تُشير إلى أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان مُرسلٌ من الله تعالى إلى أُمته ، وأنه لا يختلف عنهم في الجانب الإنساني فليس ملكَاً أو مخلوقاً من جنسٍ آخر ؛ وفي هذا إشارةٌ إلى أن هذه التربية التي جاء بها هذا النبي الكريم تربيةٌ إنسانية ، وصالحةٌ تماماً لطبيعة الجنس البشري ، وتتفق تماماً مع فطرته الإنسانية التي فُطر عليها وهو ما يُشير إليه أحد الكتاب بقوله : " لأن الرسول في حياته كإنسان يُوحى إليه من الله ، يُمثل إنسانية هذه التربية " ( عبد الحميد الهاشمي ، 1405هـ ، ص 7 ) .
ثالثاً / بيّنت الآيات الكريمات وظيفة ومهمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحددتها في وظائف ثلاثٍ جاءت على النحو التالي :
= الوظيفة الأولى هي التلاوة : ويُقصد بها أن يبدأ هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن الكريم على قومه قراءةً مرتلةً ليُبلِغَهم ما فيه ويُعلمهم إياه ، ولتكون تلك التلاوة سبيلاً لإقامة الحُجة عليهم ، ووسيلةً لحفظ كتابه وآياته ، إضافةً إلى التعبد لله تعالى بتلاوته . وهذا فيه بُعدٌ تربوي يُشير إلى أن " الهدف من تلاوة الآيات هو غرس الولاء للإسلام بين المُتعلمين عقيدةً وسلوكاً ، وإبراز شواهد الأُلوهية والربوبية ، وغرس الاتجاهات الإيمانية " ( نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 189 ) .
= الوظيفة الثانية هي التزكية : وهي احد المرادفات التُراثية التي استعملها بعض سلفنا الصالح للدلالة على معنى التربية الإسلامية الشامل والدّال على محاسبة النفس والعناية بها ، والعمل على الارتقاء بجميع جوانبها ( الروحية ، والجسمية ، والعقلية ) إلى أعلى المراتب وأرفع الدرجات ، وقد ورد أن المقصود بتفسير قوله تعالى : { وَيُزَكِّيكُمْ } " أي " يُطهر أخلاقكم ونفوسكم ، بتربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتنـزيهها عن الأخلاق الرذيلة " ( عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، 1417هـ ، ص 57 ) .
وهنا لا بُد من التأكيد على أن مصطلح التزكية يمتاز بشموليته لمعنى العملية التربوية الكاملة التي تُعنى بمختلف جوانب النفس البشرية ، وهو ما يؤكده أحد عُلماء السلف بقوله :
" يعني أنه يُزكِّي قلوبهم ويُطهرها من أدناس الشرك والفجور والضلال ؛ فإن النفوس تزكو إذا طهُرت من ذلك كله ، ومن زكت نفسه فقد أفلح وربح ، كما قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } ( سورة الشمس : الآية رقم 9 ) . وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } ( سورة الأعلى : الآية رقم 14) " ( ابن رجب الحنبلي ، 1421هـ ، ص 168 ) .
وهنا يمكن ملاحظة أن الله تعالى في هذه الآيات الثلاث قد قدَّم التزكية على التعليم ، وفي ذلك إعجازٌ تربويٌ يتضح عندما نعلم أن العملية التربوية تسبق العملية التعليمية ، وأن حصول التزكية عند الإنسان يُسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في تسهيل وتيسير وتمام عملية تعليمه .
= الوظيفة الثالثة هي التعليم : وهي وظيفةٌ تأتي بعد أن تتم عمليتي التلاوة والتزكيه ، وبذلك يتم التعليم المقصود كأحسن ما يكون ، وهو ما يُشير إليه أحد الباحثين بقوله :
" هذه الخطوة التربوية ( أي التعليم ) تترتب على الخطوتين السابقتين – تلاوة الآيات وتزكية النفس والعقل والجسم – ، وهنا يكون الإنسان مؤهلاً لاستيعاب المعارف والمبادئ والتشريعات التي يشتمل عليها القرآن الكريم والسُنة المطهرة " ( نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 195 ) .
ولأن عملية التعليم تحتاج إلى مصادر واضحة ومُحددة لها ؛ فقد تكفلت الآيات الكريمات ببيان هذه المصادر وتحديدها بدقة ، وحصرت هذه المصادر في مصدرين رئيسيين هما : ( الكتاب والحكمة ) ، ويُقصد بهما : القرآن الكريم و السُنة النبوية ؛ فهما المصدران الإلهيان اللذان نصّت عليهما الآيات الكريمات . لما فيهما من الوحي الإلهي الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( سورة الحجر : 9 ) .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الآيات في مجموعها قد تضمنت إلماحاً تربوياً مُعجزاً إلى الجانبين الرئيسين اللذين تقوم عليهما العملية التربوية بعامة ، وهما :
= الجانب الفكري ( النظري ) : ويتمثل في الجانب المصدري النظري الذي جاء وحياً من عند الله تعالى ، وعبّرت عنه الآيات بالتلاوة .
= الجانب العملي ( التطبيقي ) : ويتمثل في الجانب السلوكي العملي الذي يقوم به الإنسان ويُمارسه بنفسه ، والذي عبّرت عنه الآيات بالتزكية أولاً ثم التعليم ثانياً .
وقد أشار أحد الباحثين إلى ذلك في وصفه للتعبيرات القرآنية الثلاثة بقوله : "نجد أنها تتضمن جانبي العقل والنقل ، أو جانبي الغيب الذي لا يُناقش ، وإنما هو محل الإيمان المُطلق لأن العقل البشري قاصرٌ عن فهمه ؛ وهنا يُكتفى بتلاوة الآيات من المُتعلم أو مُتلقي التربية وهذا هو الجانب الأول . أما الجانب الثاني فهو الذي يتمثل في تعبير " يُزكيهم " و " يُعلمهم " فكلاهما يُشير إلى عمليةٍ بشريةٍ تتعلق ببناء السلوك وتشكيله وتغييره ، وتفسح المجال أمام العقل والملاحظة والتجريب " ( نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 198 ) .
وبعد ؛ فإذا كانت هذه الآيات القرآنية قد أشارت في مجموعها إلى ملامح المنهج التربوي الإسلامي الذي جاء به معلم الإنسانية وأُستاذ البشرية النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم من عند الخالق العظيم ( جل في عُلاه ) ؛ فإن القرآن الكريم زاخرٌ في آياته البينات بالكثير من الدروس والمضامين والمعاني والمبادئ والقيم التربوية التي تكفل للإنسانية جمعاء الخير والسعادة في كل زمانٍ وأي مكان متى تم استنباطها والعمل بها في واقع الحياة ، وهو ما نرجوه ونؤمله ونسعى لتحقيقه سائلين المولى عز وجل التوفيق والسدّاد ، والهداية والرشاد ، والحمد لله رب العباد .
----------------------
المراجع :
- القرآن الكريم .
- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري . ( 1419هـ / 1999م ) . صحيح البخـاري . ط ( 2 ) . الرياض : دار السلام للنشر والتوزيع .
- أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري . ( 1419هـ / 1998م ) . صحيح مسـلم . الرياض : دار السلام للنشر والتوزيع .
- مالك بن أنس . ( د . ت ) . الموطـأ . تصحيح وتخريج وتعليق : محمد فؤاد عبد الباقي . القاهرة : دار الحديث .
- سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني . ( د . ت ) . سُنـن أبي داود . تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد . بيروت : دار الفكر .
- أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي . ( 1406هـ / 1986م ) . سُـنن النـسائي ( المُجـتبى ) . تحقيق / عبد الفتاح أبو غدة . ط ( 2 ) . حلب : مكتب المطبوعات الإسلامية .
- أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي . ( د . ت ) . الجامع الصحيح ( سُـنن الترمذي ) . تحقيق / أحمد محمد شاكر وآخرون . بيروت : دار إحياء التُراث العربي .
- محمد ناصر الدين الألباني . ( 1415هـ / 1994م ) .صحيح الأدب المفرد للإمام البُخاري . ط ( 2 ) ، الجبيل : دار الصديق .
- إبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي . ( 1421هـ / 2001م ) . لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف . تحقيق / ياسين محمد السّواس . ط ( 6 ) . دمشق – بيروت : دار ابن كثير .
- نبيل السمالوطي . ( 1406هـ / 1986م ) . التنظيم المدرسي والتحديث التربوي ( دراسة في اجتماعيات التربية الإسلامية ) . ط ( 2 ) . جدة : دار الشروق .
[align=center]الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية[/align]
المصـــــدر هنا