الحسن محمد ماديك
New member
ملاحظة: هذا هو الجزء الثاني
بيان قوله قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن لفظ النور حيث وقع في الكتاب المنزل فإن له أكثر من دلالة إذ يقع على :
1. نور خارق معجز تشرق به الأرض يوم القيامة كما في قوله وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب الزمر 69
2. نور في يوم القيامة يهتدي به المكرمون إلى حيث يأمنون كما في قوله :
• يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا التحريم 8
• والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم الحديد 19
• يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم الحديد 12
• يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم الحديد 13
3 . نور كالموصوف في سورة النور وعد به الله في القرآن سيرى في الدنيا كما في قوله أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس الأنعام 122 وبينته في بيان القرآن .
4 . ويقع على تبين ما في الكتاب المنزل والاهتداء به أي في مقابلة الظلمات وهي كل سلوك ومنهج اختاره الإنسان لنفسه مخالفا لهدي الكتاب المنزل كما في قوله :
• ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور إبراهيم 5
• الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات البقرة 257
• فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور الطلاق 10 ـ 11
5 . وأما قوله :
• قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس الأنعام 91
• إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور المائدة 44
• وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور المائدة 46
فيعني أن كلا من التوراة والإنجيل قد تضمن موعودات نبأ الله بها موسى وعيسى لن تقع إلا متأخرة كثيرا ، وكذلك النور يقع على البعيد فتراه رغم ظلمات الغيب ، ومما نبأ الله به موسى قوله وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين المائدة 20 ، ووقعت نبوة موسى هـذه بعده فجعل الله فيهم أنبياء بعده وجعل فيهم ملوكا كطالوت وداوود وسليمان وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ومنه أن علم داوود وسليمان منطق الطير وآتاهما من كل شيء ، ومما نبأ الله به عيسى قوله ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد الصف 6
6 . وإن المثاني في قوله :
• وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الشورى 52
• يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين المائدة 15
• فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا التغابن 8
• يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا النساء 174
• فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الأعراف 157
لتعني أن القرآن نور أنزل من عند الله وكلف الناس بالاهتداء به ، إذ يقع على موعودات بعيدة يوم نزل القرآن على النبي الأمي وكذلك النور يقع على البعيد فيتراءى لك قبل أن تصل إليه ، وسيعلم الناس رأي العين في الدنيا يوم تقع موعودات القرآن فتصبح شهادة بعد أن كانت غيبا يوم نزل القرآن أن القرآن قول ثقيل ألقي على خاتم النبيين وأنه قرآن عجب يهدي إلى الرشد وإلى التي هي أقوم إذ سيهتدي به يوم تقع موعوداته أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ، وسيزداد به الذين في قلوبهم مرض رجسا إلى رجسهم وضلالا إلى ضلالهم .
بيان قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني
ولعل من بيان القرآن والله أعلم أن قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني الحجر 87 ليعني أن السبع من المثاني هي الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن ، فالحديث المتفق عليه ومنه لفظ البخاري عن عمر مرفوعا " إن هـذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه " اهـ حديث صحيح غير أن القراء لم يفهموه إذ حسبوا الأحرف السبعة تعني لغات العرب واختلاف الألفاظ ، ولم يفقهوا أن النبي قد أرشد الأمة إلى السبع من المثاني التي تضمنها القرآن وهي غاية الأمر بالاستماع للقرآن والأمر بقراءته وتدبره ، وسينتفع بحرف منها على الأقل من قرأ ما تيسر له من القرآن ، فقوله فاقرأوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 يعني أن من قرأ ما تيسر له من القرآن فقد قرأ حرفا من الأحرف السبعة أو أكثر ، ويعني الحديث النبوي أن إدراك الأحرف السبعة وتبينها في كل موعود من موعودات القرآن في الدنيا هو الغاية التي من أجلها كلفت الأمة كلها بتدبر القرآن والتفكر فيه .
ولعل الأحرف السبعة والله أعلم هي :
1. الأسماء الحسنى
2. الغيب في القرآن
3. الوعد في الدنيا
4. النبوة
5. القول
6. الأمثال
7. الذكر
فإن لم تكن هـذه هي الأحرف السبعة مجتمعة بذاتها فلقد اجتهدت ونحوت نحوها نحوا والعلم عند الله ، وليجدن من تدبر القرآن أن كل موعود في القرآن ـ وهو كل حادثة ستقع في الدنيا قبل انقضائها ـ قد تضمنها كل حرف من هـذه الأحرف السبعة ، وتضمن كل حرف منها ما شاء الله من المثاني ، وتضمنت كل واحدة من المثاني ذكرا من الأولين ووعدا في الآخرين ، فمتى يعقل أولوا الألباب أن القرآن قول فصل وما هو بالهزل وأن رب العالمين قد فصله على علم ، وأن الأمة لا تزال أمية لم تتدارسه بعد .
ولقد نحا الأولون قريبا من مما فهمت لكنهم لم يستطيعوا التفرقة بين الكتاب والقرآن ولا بين أحكام الكتاب كالناسخ والمنسوخ والحلال والحرام والعام والخاص والمجمل والمبين وبين خصائص القرآن كالأمثال والوعد في الدنيا والخبر بمعنى القصص .
إن الحديث النبوي الذي تضمن التمثيل بالأسماء الحسنى " عليما حكيما غفورا رحيما" ليعني أن الأسماء الحسنى حرف من الأحرف السبعة بيّنه النبي الأمي أحسن البيان فمثّل بواحد منها كما سيأتي قريبا إثباته .
بيان قوله أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
إن قوله :
• أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا النساء 82
• وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون الروم 4
• ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين يونس 48 ، يـس 48 ، الأنبياء 38 ، النمل 71 ، سبأ 29 ، الملك 25
• ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين السجدة 28
• وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين الحجر 6/7
• ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد الرعد 31
• ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده الحج 74
• ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد آل عمران 194
ويعني حرف النساء أن القرآن تضمن موعودات في الدنيا ستقع كلها بعد نزول القرآن لا يختلف شيء منها عما أخبر الله به في القرآن من قبل وأن لو كان القرآن من عند غير الله لوجدوا اختلافا كثيرا بين موعوداته والحوادث المنتظرة بعده كما يجد الناس اختلافا كثيرا بين ما يقوله الكهنة والمشعوذون وبين ما يقع من الحوادث بعد .
ولقد فرغت بحمد الله من الجزء الأول من بيان القرآن وضمنته من موعودات القرآن ما شاء الله مما لم يقع بعد وسيقع في الدنيا وجميعه من ثوابت العقيدة الإسلامية التي آمن بها الصحابة فمن بعدهم إجمالا كما هو مقتضى إيمانهم بالغيب ، وإيمان كل مؤمن بالغيب ، وأثبتّ كل موعود منها بهـذه السبع من المثاني وضمنت كل واحدة منها ما شاء الله من المثاني حسب ما أبصرت ـ بفضل الله ـ من بصائر القرآن المنزل على النبي الأمي .
وكذلك دلالة استعجال المشركين نفاذ موعودات القرآن ليتأتى للرسول به وللمؤمنين معه ادعاء أنهم من الصادقين ، وهكذا فقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن ينجز وعده ليصدقه المتأخرون الذين سيشهدون نفاذ الوعد من الله على لسان إبراهيم بعدما كذبه المعاصرون الذين لم يحضروا نفاذها بل كانت لهم غيبا بعيدا كما هي دلالة قوله واجعل لي لسان صدق في الآخرين الشعراء 84 ودلالة قوله ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا مريم 49 ـ50 ويعني أن الله قد أنجز في المتأخرين ما وعدهم به على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأن المتأخرين قد علموا صدق كل منهم .
وكذلك دلالة حرف آل عمران الذي يعني تكليف المؤمنين بالغيب الإيمان بأن ما وعدهم الله به مأتي ينتظرونه ويدعون الله ليصبح شهادة يشهدونه ويؤمنون له بعد أن كانوا مؤمنين به .
أما ما وعد الله به محمدا في القرآن فلن يجد الناس فيه ـ يوم يصبح شهادة في الدنيا ـ اختلافا بينه وبين وعد الله في القرآن كما هي دلالة قوله :
• قل صدق الله آل عمران 95
• اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته الكهف 27
• ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين الأنعام 34
• وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم الأنعام 115
• ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم يونس 62 ـ 64
• والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع
ويعني حرف آل عمران أن من القول في القرآن وهو الذي سيتم نفاذه بعد حياة النبي أن سيعلم الناس صدق الله فيما أخبر به في القرآن أي سيشهدون ويحضرون مطابقة الغيب مع ما أخبر الله منه في القرآن ، ومنه أن سيسمعون التوراة تتلى عليهم ومنها قوله كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة . وكما سيأتي بيانه في من أصول التفسير وفي كلية الكتاب
ويعني حرف الكهف أن من سنة النبي الأمي التي كلف بها أن يتلو الكتاب المنزل عليه ، ولما كانت تلاوة النبي كتاب ربه المنزل عليه مما كلف به أي من سنته كما بينت في حوار مع الأصوليين فإن جميع المؤمنين به تبع له مكلفون كذلك بتلاوة القرآن وتدبره وانتظار نفاذ كلمات ربنا التامات أي التي سيتم نفاذها ، ولن يتخلف عن تلاوة القرآن وتدبره إلا من رغب منهم عن سنة نبيه ، وأما قوله لا مبدل لكلماته فهو مما وعد الله به في الكتاب المنزل أن يتم نفاذ موعوداته وأن لا مبدل لها.
ويعني أول الأنعام أن من كلمات الله أي موعوداته أن نصر الله قد تنزل من قبل على الرسل بالآيات بعد صبرهم على التكذيب والإيذاء وأن ذلك الوعد لا مبدل له بعد نزول القرآن بل لا يزال منتظرا كما بينت في كلية الرسالة .
ويعني ثاني الأنعام أن جميع الغيب في القرآن سيصبح شهادة في ظل الذين سيؤتيهم ربهم الكتاب ويومئذ يعلمون رأي العين أن محمدا مرسل من ربه بالقرآن إذ قد تمت أي نفذت موعوداته صدقا وعدلا ، والقطع كذلك بأنها لا مبدل لها هو من الوعد في القرآن .
ويعني حرف يونس أن من كلمات الله أي موعوداته قوله عز وجل ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فهو من وعد الذي وعد به ولا تبديل له كما بينته في كلية ليلة القدر .
وسيأتي ضمن بيان الأحرف السبعة أن كلمات الله وكلمات ربنا في سياق الوعد في الدنيا هي من حرف الوعد في الدنيا ، وأما في سياق اليوم الآخر فهي من الوعد في الكتاب .
ويعني حرف الذاريات القسم من الله على أن الوعد في الكتاب المنزل وعد صادق أي لا اختلاف بينه يوم نفاذه وبين ما وصفه الله به في القرآن قبل عشرات القرون .
بيان الأحرف السبعة
الحرف الأول : الأسماء الحسنى
دلالة الاسمين الله رب العالمين
إن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن اسم } الله { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما لبيان عبادة وتكليف من الله المعبود يسع جميع المخاطبين بها الطاعة والعصيان ، أو لبيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين ، أو لبيان أثر الإيمان والطاعة ، والكفر والمعصية على المكلفين في الدنيا ، أو لبيان الحساب والجزاء في الآخرة .
وإن اسم } رب العالمين { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما ليقوم به أمر أو فعل خارق يعجز العالمون عن مثله وإيقاعه كما يعجزون عن دفعه أو لبيان نعمه التي لا كسب للمخلوق فيها وما يجب له من العبادة والشكر ، ولاستعانته ليهب لنا في الدنيا ما لا نبلغه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر .
ولهـذه القاعدة في الكتاب تقييد له دلالات عميقة كرزق الله الذي يقع على ما لا كسب للمخلوق فيه ورزق ربنا الذي يقع على ما اكتسبه المخلوق بجهده من تمام نعمة ربه عليه .
وإنما أسند الرزق إلى الله في الكتاب المنزل على ما لم يكتسبه المرزوق به بجهده كما في قوله :
• ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا { الطلاق 11
• زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب { البقرة 212
• يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب { النور 38
• ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله { الأعراف 50
ولا تخفى دلالته على نعيم أهل الجنة الذين أدخلوها بفضل الله .
وكما في قوله :
• وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا وشربوا من رزق الله { البقرة 60
• وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هـذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب { عمران 37
• وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها { الجاثية 5
• وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم { العنكبوت 60
وكان الماء الذي انفجر من الحجر لما ضربه موسى بعصاه هو والمنّ والسلوى الذي نزل على بني إسرائيل مع موسى هما رزق الله بغير جهد منهم ولا كسب ، أمروا أن يأكلوا ويشربوا منه ، وكان ما يلقى إلى مريم من رزق وهي في المحراب هو رزق الله إياها من غير كسب منها ولا جهد ، وكان الماء الذي نزله الله من السماء هو رزق الله الدواب والناس من غير جهد منهم ولا كسب .
وإنما وقع في الكتاب رزق ربنا على ما اكتسبه المكلف من تمام نعم ربه عليه كما في قوله :
• لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15
• قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا { هود 88
ويعني أن أهل سبإ كانوا يحرثون ويأكلون من الجنتين ويعني أن شعيبا كان قويا كاسبا يأكل من كسبه ولم يكن متسولا يسألهم رزقا .
فأما بيان ما كلف الله به من العبادة فكما في قوله } اعبدوا الله { وقوله } اتقوا الله { وقوله } وقوموا لله قانتين { البقرة 232 .
وأما بيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين وأعانهم بها ليعبدوه فكما في قوله } فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له { العنكبوت 17 من قول إبراهيم يعني اسألوا الله أن يرزقكم لتقوى أجسامكم على الطاعة والعبادة ، وقوله } وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين { الذاريات 56 ـ 58 يعني أن الله يرزق الإنس والجن ليتمكنوا بالرزق والقوت من العبادة ، وكما في قوله } خلق الله السماوات والأرض بالحق { العنكبوت 44 أي لأجل أن يعبد ويذكر فيهما .
وأما أثر الطاعة على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } ويزيد الله الذين اهتدوا هدى { مريم 76 وقوله } فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين { الفلاح 28 وقوله } هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين { يونس 22 فكانت نجاتهم بسبب أثر طاعتهم في دعوتهم الله مخلصين له الدين .
وأما بيان أثر المعصية على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم { البقرة 7 أي بسبب كفرهم وإعراضهم عن النذير عوقبوا بذلك ، وقوله } إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون { البقرة 159 فلعنة الله إنما كانت بسبب أن كانوا يكتمون ما جاء به النبيون من البينات والهدى في الكتاب ، وقوله } كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب { الأنفال 52 والمعنى أنهم بسبب كفرهم بنعم الله التي أنعم عليهم بها ليعبدوه ويطيعوه عذبهم في الدنيا .
وأما بيان الحساب بعد البعث فكما في قوله } ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب { النور 39 وقوله } يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين { النور 25 .
وأما بيان الجزاء فكما في قوله } فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين { المائدة 85 وقوله } ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون { فصلت 28 .
وأما بيان أن كل فعل أو أمر أسند إلى ربنا فإنما هو أمر خارق يعجز العالمون عن مثله فكما في قوله } قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر { الإسراء 102 من قول موسى في وصف الآيات المعجزة التي أرسله ربه بها وكما في قوله } قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم { فصلت 9 ـ 12 ، ولا يخفى أن عاقلا من العالمين لا يستطيع ادعاء مثل هذا .
وأما بيان أمر ربنا الذي يعجز العالمون عن دفعه فكما في قوله } يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود { هود 76 من قول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا بعذاب قوم لوط وكما في قوله } وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر { القمر 50 .
وأما بيان نعم ربنا التي لا كسب للمخلوق فيها فكما في قوله } ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله { الإسراء 66 وقوله } ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره { الزخرف 9 ـ 13 .
وأما بيان ما يجب لربنا من العبادة والشكر على نعمه فكما في قوله } ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون { الزخرف 13 ـ 14 ، وقوله } لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15 وقوله } يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم { البقرة21 ـ 21 .
وأما بيان ما يجب علينا من استعانته ليهب لنا في الدنيا والآخرة من نعمه ويصرف عنا من الضر والكرب ما لا نستطيعه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر القليل فكما في دعاء النبيين وضراعتهم لربهم حيث وقعت في القرآن كما في قوله } وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم { الأنبياء 83 ـ 84 .
إن قوله } باسم الله { حيث وقع في الكتاب فإنما هو للدلالة على عبادة وتكليف من الله يجب أن يقوم به المكلف العابد مستعينا ومبتدئا باسم الله الذي شرع له ذلك الفعل ومخلصا له فيه من غير إشراك معه وكما بدأ طاعته بإعلان أنها باسم الله المعبود الذي شرعها له ، وهكذا ركب نوح ومن معه في السفينة كما في قوله } وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها { هود 41 فأطاع أمر الله حين أوحي إليه قوله } قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن { هود 40 فجرت بهم الفلك على الماء الطوفان وجرت بعدها كل سفينة على الماء والعادة أن تستقر عليه وتغرق فكان جريانها في البحر بما ينفع الناس إنما هو باسم الله الذي أوجب على من في السفينة وعلى الناس أن يستعينوا بالسفن وبمنافعها في طاعة الله وعبادته ، ولو قال نوح باسم ربي مجراها ومرساها لم تجر سفينة على البحر بعدها إلا لمثله ، إذ ما كان باسم ربنا هو الآية الخارقة المعجزة مع رسله من الملائكة والبشر .
وهكذا لم يحل من الذبائح والصيد البري إلا ما ذكر اسم الله عليه كما في المائدة وثلاثة كل من الأنعام والحج .
إن حرف الأنعام } ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق { الأنعام 121 ليعني أن إزهاق الحياة في الطير والدواب إنما يجب أن يكون باسم الله الذي شرع لنا أكلها لنحيى ونقوى على العبادة ، أما ما لم يذكر اسم الله عليه منها فتجرد من هذا القصد والنية فهو فسق خرج به الإنسان عن الوحي الذي جاء به النبيون وعن مقتضى العبودية إلى المعصية والعبث فحرم على المسلمين أكله ، ولئن كان النهي عن الأكل من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي منها بإنهار دمه وذكر اسم الله عليه فما ظنك بقتل الصحيح من الطير والأنعام عبثا وما ظنك بقتل الإنسان إذا لم يكن من المكلف به طاعة لله ورسوله .
إن الذي يقول " باسم الله " قبل طعامه وشرابه المباح قد أطاع الله في قوله } وكلوا واشربوا ولا تسرفوا { الأعراف 31 ، أما الذي يقول " باسم الله " ويأكل الخنزير والميتة والدم غير مضطر فقد افترى على الله كذبا وادعى أن الله قد شرع ذلك ، وإن الذي يقول " باسم الله " ويطأ زوجته فقد أطاع الله في قوله } وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين { النساء 24 فهي كلمة الله التي استحللنا بها فروج النساء وأما الذي يقول " باسم الله " ويزني فقد افترى على الله وادعى أن الله شرع له الزنا وكلفه به وما أشبهه بسلفه من القرامطة الذين كانوا يقرأون القرآن لابتداء الليالي الحمراء فإذا سكت القارئ أطفئت المصابيح ووقع كل رجل على من تقع يده عليها ولو كانت أخته أو أمه كما سنه علي ابن الفضل الجدني القرمطي في آخر القرن الثالث الهجري في اليمن .
إن قوله } باسم الله الرحمن الرحيم { ليعني أن قائلها ككاتبها يشهد على نفسه ويقر بأنه يبتدئ فعلا هو من تكليف الله تماما كما تعني رسالة سليمان إلى ملكة سبإ والملإ معها من قومها } إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين { النمل 30 ـ 31 أن سليمان رسول الله إلى الناس وأن كتابه هذا هو من رسالته إليهم وهم أعم من بني إسرائيل فزيادة التكليف بقدر زيادة التمكين كما بينت في فقه المرحلية ، ويأتي لاحقا سبب ابتداء فاتحة الكتاب كالسور بـ } باسم الله الرحمن الرحيم { وسبب إيراد اسم الرحمة فيها وفي كتاب سليمان وإنما يتم المعنى في ما تقدم باسم الله إذ هو من تكليف الله عباده فهو من مقدوراتهم ويسع كلا الطاعة والعصيان .
ولقد تضمن الكتاب الأمر بذكر الله بأسمائه الحسنى ودعائه بها ومنه } في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه { النور 36 ومن المثاني معه قوله } ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها { البقرة 114 ، ومنه ما تضمنت سورة الأعراف والإسراء وطه والحشر من الأمر بدعاء الله بأسمائه الحسنى .
وأما فاتحة العلق } اقرأ باسم ربك الذي خلق { فلإظهار أن قراءة النبي الأمي r القرآن من أوله إلى آخره كما نزله جبريل على قلبه هي خارقة معجزة لا يقدر عليها أحد من العالمين وإنما تمت باسم ربه الذي خلق كما أن خلق الإنسان من علق لا يقدر عليه غير ربه فكذلك قراءة النبي الأمي r القرآن لا يقدر على إيقاعها غير ربه ، وقد يحسب الجاهل ذلك مبالغة بل لو أبدل النبي الأمي r اسما من أسماء الله الحسنى بآخر منها أو حرفا بآخر ولو كان من فواتح السور التسع والعشرين لانخرمت المثاني في الكتاب ولفسد نظم الكلام ومعناه ولوقع فيه اختلاف كثير كما سأثبته إن شاء الله ولبطل وصف البدل بأنه من كلام الله .
إن القرآن هو من عند الله وإنما محمد r رسول الله به وخاتم النبيين بلغ وحي الله ولم يزده حرفا أو ينقصه منه رغم أنه كان أميا لا علم له بالكتاب والإيمان قبل نزول الوحي عليه كما في قوله } بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين { يوسف 3 ومن المثاني معه قوله } وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان { الشورى 52 ، وهكذا كانت قراءة النبي الأمي r قد تمت باسم ربه لأنها خارقة معجزة ، وكانت قراءة القرآن بعدها غير خارقة فابتدئت الفاتحة كما السور بقوله } باسم الله الرحمن الرحيم { وتعني أنها كسائر العبادات يسع كلا طاعتها وعصيانها .
الأسماء الحسنى
إن الوعد غير المكذوب كما في قوله } فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب { هود 65 هو الوعد الحسن كما في قوله } أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه { القصص 61 وكما في قوله } قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا { طه 86 .
وإن قوله } ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون { القصص 5 ـ 6 لمن الوعد الحسن أي غير المكذوب ، وقد وقع لما وافق الأجل الذي جعل الله له كما في قوله } وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون { الأعراف 137 ويعني أن كلمة ربنا الحسنى التي تمت أي نفذت هي وعده المذكور في القصص .
وإن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن الأسماء الحسنى حيث وقعت في الكتاب والقرآن فإنما لبيان وعد وعده الله سيتم إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد ، ولو عقل الناس لانتظروا الميعاد وسيلاقون وعد الله ويجدونه وعدا حسنا غير مكذوب ، وهكذا فلم يأت في الكتاب والقرآن ذكر أسماء الله الحسنى في سياق ما مضى وانقضى من القدر وإنما في سياق المنتظر منه ، وما وجدته كذلك في سياق الماضي المنقضي فهو وعد أن يقع مثله بعد نزول القرآن وإن من تفصيل الكتاب أنه مسبوق بقوله } وكان { وكما سيأتي بيانه مفصلا .
الرحمان الرحيم
ومن الأسماء الحسنى اسمه الرحمان الرحيم ويعني حيث وقع في القرآن أن وعدا حسنا غير مكذوب سيلاقيه في الدنيا المرحوم من الرحمان الرحيم فلا يعذب أو سيكشف عنه الضر ، ويعني حيث وقع في الكتاب أن وعدا حسنا غير مكذوب سيلاقيه المرحوم من الرحمان الرحيم فينجيه من العذاب الموعود في اليوم الآخر برحمته كما في قوله :
• قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين { الأنعام 15 ـ 16
• وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم { غافر 9
ويعني حرف الأنعام أن المرحوم في اليوم الآخر هو من صرف عنه العذاب .
ويعني حرف غافر أن المرحوم في يوم القيامة هو من وقاه الله السيئات فلم تعرض عليه ولم يحاسب بها .
وكما في قوله :
• قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين { هود 43
• ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم { الإسراء 54
• يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون { العنكبوت 21
• قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي { الأعراف 156 ـ 157
• قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا { الملك 28
ويعني حرف هود أن الطوفان الذي عذب به قوم نوح إنما نجا منه من رحمه الله ، أي أن المغرقين به لم يرحمهم الرحمان بل عذبهم ولن يقدر أحد من العالمين أن يصيب برحمة من لم يرحمه الرحمان كما في قوله } أمن هـذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا في غرور { الملك 20 .
ويعني حرف الإسراء والعنكبوت والأعراف أن الرحمان إنما يصيب بعذابه من لم يدخله في رحمته بل حرمه منها وأن المرحوم برحمة الرحمان هو الذي يسلم من عذابه .
ويعني حرف الملك أن الإهلاك وهو العذاب المحيط بصاحبه فلا ينجو منه إنما يقع على من حرم من الرحمة وكذلك دلالة قوله :
• يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا { مريم 45
• وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون { يـس 22 ـ 24
ويعني حرف مريم أن المحروم هو من لم يرحمه الرحمان وعذبه .
ويعني حرف يـس أن من أراده الرحمان بضر لن يغني عنه أحد كائنا من كان ولن ينقذه مما أراده به الرحمان من الضر والعذاب .
ولن يحرم من رحمة الرحمان إلا من لا خير فيه ممن هم أضل من الأنعام لهم قلوب لا يفقهون بها ما جاء به النبيون من العلم والهدى والبينات ، ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات الله وهي تتلى عليهم كما في قوله :
• بسم الله الرحمان الرحيم {
• وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين { الشعراء 5
• ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين { الزخرف 36
• وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهـذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون { الأنبياء 36
وتعني البسملة في أوائل السور أن من لم ينتفع بقراء القرآن فهو محروم من رحمة الرحمان كما هي دلالة قوله } وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون { الأعراف 204 ويعني أن قراءة القرآن والاستماع له والإنصات هي أسباب تعقل الذكر ، ومن عقل الذكر فهو حري أن يخشى الرحمان بالغيب لينجو برحمته من العذاب الموعود في الدنيا وفي الآخرة .
وتعني البسملة في ابتداء الطاعات أن من لم ينتفع بطاعته فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم .
ويعني حرف الشعراء تخويف الناس من الإعراض عن ذكر الرحمان الذي يؤدي إلى تكذيب موعودات الكتاب المنزل يوم تقع ويومئذ لن يرحم الرحمان المعرضين المكذبين بل سيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون أي سيعذبون في الدنيا والآخرة ولا يرحمون .
ويعني حرف الزخرف أن من لم يبصر الحق والهدى في ذكر الرحمان وهو الكتاب المنزل فهو محروم من رحمة الرحمان ووليه الشيطان .
ويعني حرف الأنبياء أن الكافرين بذكر الرحمان لن يرحمهم من دونه أحد .
القادر القدير المقتدر
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن اسمه القادر القدير المقتدر حيث وقع في الكتاب فإنما لبيان وعد حسن غير مكذوب سيتم نفاذه بعد نزول القرآن وكذلك دلالة قوله :
• أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا { الإسراء 99
• أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم { يـس 81
• ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير { العنكبوت 20
• وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير { النحل 77
ويعني أن الله سيفني السماوات والأرض وما فيهما ويعدمهما حتى كأن لم يخلقا من قبل وينشئهما النشأة الآخرة بعد الأولى وهي خلق مثلهم يوم تقوم الساعة كما في المثاني معه في قوله } يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات { إبراهيم 48 .
وإن قوله :
• ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير { الحج 6
• ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير { فصلت 39
• فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير { الروم 50
• أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير { الشورى 9
• أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير { الأحقاف 33
• أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى { خاتمة القيامة
• أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هـذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على أعلم أن الله على كل شيء قدير { البقرة 259
وشبهه ليعني أن إحياء الموتى وعد حسن من الله في الكتاب سيتم نفاذه يوم البعث .
وإن قوله :
• أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إنه على كل شيء قدير { البقرة 148
• ومن آياته خلق الساوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير { الشورى 29
• إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير { هود 4
• إنه على رجعه لقادر { الطارق 8
وشبهه ليعني أن جمع من في السماوات والأرض في يوم الجمع هو وعد حسن من الله في الكتاب .
وإن قوله :
• ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وهو على كل شيء قدير { المائدة 40
• لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير { البقرة 284
• إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر { خاتمة القمر
وشبهه ليعني أن الحساب والمغفرة والعذاب وعد حسن من الله في الكتاب سيتم نفاذه في يوم يقوم الحساب وفي اليوم الآخر .
وإن قوله :
• والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير { النور 45
• وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا { الفرقان 54
• ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير { المائدة 17
• الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما { خاتمة الطلاق
وشبهه ليعني أن خلق كل دابة من ماء وأن الله سيخلق ما يشاء وأن الأمر سيتنزل بين سبع سماوات ومن الأرض مثلهن حتى يعلمه الناس رأي العين بعد نزول القرآن لوعد حسن من الله في الكتاب سيقع نفاذه في الدنيا .
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن اسمه القادر القدير المقتدر حيث وقع في القرآن فإنما لبيان وعد حسن غير مكذوب سيتم نفاذه قبل انقضاء الحياة الدنيا وكذلك دلالة قوله :
• فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير { البقرة 109
• إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا { النساء 133
• ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير { البقرة 106
• إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير { التوبة 39
• الحمد لله فاطر السماوات جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير { فاطر
وسيأتي بيانه في بيان القرآن .
الغفور الغفار
ومن الأسماء الحسنى اسمه الغفور الغفار فهو غافر الذنب أي يستره يوم القيامة فلا يعرض على صاحبه بل يغفره الغفور ، وما ستره الله يومئذ من السيئات فلن يكتبه الملائكة الكرام الكاتبون يوم يقوم الحساب ولن يعذب به العبد ، كما هي دلالة قوله :
• قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم { القصص 16
• يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا { التحريم 8
• إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم { القتال 34
• والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين { الشعراء 82
• ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب { إبراهيم 41
• مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر لذة للشاربين ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم { القتال 15
وتعني أن يوم الحساب هو يوم مغفرة الذنوب ، وحرف القصص صريح في أن الله غفر ذنب موسى ولا يخفى انتشار خبر قتله القبطي في الدنيا وخروجه هربا من القصاص ، وإنما سأل موسى ربه أن يستر ذنبه في الآخرة وأجيبت دعوته فلن يعرض عليه يوم الحساب قتله القبطي ولن يكتبه الكاتبون ولن يؤاخذ به .
وحرف التحريم صريح في وصف يوم القيامة ، وكذلك حرف القتال لأنه بعد الموت ، وذكر بصيغة المستقبل ، وإبراهيم يطمع أن يستر الله خطيئته يوم الدين فلا تعرض عليه ، ودعاؤه صريح في أن محل المغفرة إنما هو يوم يقوم الحساب .
ويعني حرف القتال أن للمتقين في الجنة مغفرة من ربهم أي أن أعمالهم السيئة في الدنيا لن تعرض عليهم بل قد غفرها الله لهم وسترها عنهم فلا يضيقون بها ذرعا ولا تنغص عليهم ما هم فيه من الكرامة ودار الخلود خلافا لأهل النار الذين تعرض عليهم سيئاتهم وهم في النار ليزدادوا حسرة وقنوطا من الرحمة كما في قوله } كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار { البقرة 167 .
وإن قوله :
• ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم { هود 52
• هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب { هود 61
• واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود { هود 90
ليعني أن كلا من هود وصالح وشعيب أمر قومه أن يسألوا ربهم أن يغفر لهم في يوم الحساب ما سلف من كفرهم إذ الإيمان بالله واليوم الآخر هو الخطوة أولى من الإيمان ثم يتبعون ذلك بالتوبة إلى ربهم أي الرجوع إليه بالعمل الصالح في الدنيا ، ومن المثاني معهما قوله } وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله { هود 3 في خطاب المخاطبين بالقرآن وسيأتي بيانه في كلية خلافة على منهاج النبوة وكلية الكتاب .
بيان قوله } إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم {
إن من العجب أن من الكتاب ما لم تفهمه البشرية بعد ومنه قوله :
• إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين { يس 12
• أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا { مريم 77 ـ 79
• لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق { عمران 181
• وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون { الزخرف 19
• ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون { الأنبياء 94
• وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون { الانفطار 10 ـ 12
وتعني هـذه المثاني وغيرها أن أعمال المكلفين لن تكتب في حياتهم الدنيا وإنما بعد البعث حين يقع الحساب كما هو صريح حرف يس أن كتابة أعمال المكلفين هي مما يستقبل بعد نفاذ الوعد بإحياء الموتى .
ويعني حرف مريم أن الذي كفر بآيات ربه وزعم أن لو بعث فسيؤتى مالا وولدا ـ وهو مما مضى يوم نزل الكتاب على خاتم النبيين r ـ لم تقع بعد كتابة ما قال وإنما سيكتب ما يقول بصيغة المستقبل إذ سيعرض عليه يوم الحساب فيراه بأم عينيه فيكتبه الحفظة الكرام الكاتبون وهم الشهود عليه في الدنيا ويعذب ويمد له العذاب مدا .
ويعني حرف عمران أن الذين قالوا إن الله فقير ووصفوا أنفسهم بأنهم أغنياء وقتلوا النبيين بغير حق ـ ولا يخفى أنهم كانوا قبل خاتم النبيين r بعدة قرون ـ لم يكتب قولهم ولا قتلهم الأنبياء بعد ، وإنما سيكتب يوم الحساب وهم يرون أعمالهم تعرض عليهم ويقول ذوقوا عذاب الحريق أي يعذبهم في نار جهنم ولا يظلم ربنا أحدا .ويعني حرف الزخرف أن الله وعد أن تكتب يوم القيامة شهادة الذين جعلوا الملائكة إناثا ويسألون عنها حينئذ ، وكانوا من المشركين قبل النبي الأمي r ومن معاصريه .
ويعني حرف الانفطار أن الملائكة الذين يحفظون العبد في الدنيا هم الشهود عليه يوم الحساب لأنهم يعلمون ما يفعل في الدنيا أي يرونه لا يغيب عنهم منه شيء ، ولا يعني علمهم ما يفعله العباد كتابته في الدنيا .
إن الله أحكم الحاكين لم يأمر الملائكة الكرام الكاتبين بكتابة أعمال المكلفين إلا قبيل الجزاء بها ، وهكذا أخر عن أكثر الناس كتابة أعمالهم إلى يوم الحساب لتعرض عليهم والملائكة الشهود حاضرون فإن أقر كتبت وإن أنكر ختم على فمه وينطق الله الذي أنطق كل شيء جلودهم وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ثم يوبق بما عرض عليه من أعماله السيئة أي بما لم يغفره الله منها .
ولهـذا الإطلاق استثناء كما في قوله :
• ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون { النساء 81
• أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون { الزخرف 79 ـ 80
• ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون { يونس 20 ـ 21
ويعني حرف النساء أن المنافقين الذين يخادعون نبيه r لن يغفر لهم وأن الله الذي سيحاسبهم يوم القيامة سيكتب ما يبيتون من المكر والنفاق ، ولن يمحى ما كتب الله ولن يغفر ويلهم ما أصبرهم على النار .
وسيأتي بيان حرف الزخرف ويونس في كلية النصر في ليلة القدر أي أن ما كتبه الملائكة من أعمال العباد في الدنيا فلن يؤخر عنهم العذاب به إلى يوم الحساب بل سيعذبون به في الدنيا .
الغفور الرحيم
إن من تفصيل الكتاب أن الاسمين } الغفور الرحيم { حيث وقعا في الكتاب المنزل مسندين إلى الله فإنما للدلالة على ذنب سيغفره } الغفور { فلا يعرضه على صاحبه ولا يعذب به بل سيرحمه الله } الرحيم { كما في قوله :
• ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم { النور 30
• إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم { البقرة 173
• قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم { الزمر 53
• فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم { البقرة 182
ويعني حرف النور أن المكرهة على الزنا سيغفر الله في يوم الحساب لها زناها في الدنيا فلا يعرضه عليها بل يستره وسيرحمها فلا يعذبها به ، ويعني أن زنا المكرهة لا ينقلب إلى مباح .
ويعني حرف البقرة أن الجائع الذي لم يجد غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فاضطر إلى الأكل منها سيغفر الله له ذنب الأكل منها فلا يعرضه عليه في يوم الحساب وسيرحمه فلا يعذبه به إن كان غير متلبس بنية البغي والعدوان كالذي يأكل منها ليحيا ويقوى فيبغي على الناس ويعدو عليهم كقطاع الطرق واللصوص المقيمين في الفيافي والصحاري فلا يرخص لهم أكل المحرمات المفصلات في سورة النحل والبقرة والمائدة لأنهم يبغون ويعتدون .
وإن من تفصيل الكتاب أن الاسمين } الغفور الرحيم { حيث وقعا في الكتاب المنزل مسندين إلى رب العالمين فإنما للدلالة على أن ما قبلهما هو أمر خارق معجز لا يقدر العالمون على مثله وأن رب العالمين قد أذن لعباده بدعائه أن يبلغهم ما عجزوا عن مثله لأنفسهم فيغفر لهم عجزهم ويرحمهم مما هم فيه من القصور والضعف كما في قوله :
• قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم { الأنعام 145
• وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم { يوسف 53
• وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي غفور رحيم { هود 41
• وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم { الأعراف 167
• وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا { الكهف 58
ويعني حرف الأنعام أمر المضطر إلى أكل المحرمات غير باغ ولا عاد بدعاء ربه الغفور الرحيم ليرزقه رزقا حسنا غير الميتة والدم ولحم الخنزير والفسق الذي أهل به لغير الله .
ويعني حرف يوسف أن يوسف لم يزك نفسه ولم يبرئها وإنما كان ما كان منه من إيثار السجن على الشهوة الحرام بما بلغه ربه الغفور الرحيم ما لم يكن قادرا على مثله لنفسه فربه الغفور غفر له عجزه وستره ورحم ضعفه فبلغه من الزكاة ما شاء الله .
ويعني حرف هود أن جريان السفينة على الطوفان لم يكن بجهد نوح والذين آمنوا معه وإنما كان بمغفرة ربهم ورحمته التي بلغوا بها ما لم يقدروا على مثله لأنفسهم كما هي دلالة قوله } قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم { هود 43 .
ويعني حرف الأعراف أن الذي سيبعثه رب العالمين ليسوم بني إسرائيل سوء العذاب هو رجل من عامة الناس سيبلغه ربه الغفور الرحيم من الأسباب والتمكين ما يبلغ به من الملك أكثر وأكبر مما أوتيه بنو إسرائيل من قبل وما لم يكن يقدر على مثله لنفسه
كما بينت في كلية الآيات وكلية النصر في القتال في سبيل الله .
ويعني حرف الكهف أن تأخير العذاب عن المكذبين الذيم عاصروا نزول القرآن وعن أهل الأرض بما كسبوا من الظلم إنما بمغفرة ربنا ورحمته ولا يقدر على مثله أهل الأرض لأنفسهم .
يتواصل
الحسن ولد ماديك
باحث أكاديمي في علوم القرآن
متخصص منذ 1981 في الحركات الباطنية عبر التاريخ
متخصص منذ 1981 في الجماعات الإسلامية
متخصص منذ 1989 في القراءات العشر الكبرى
متفرغ منذ 2001 لتفسير القرآن تحت الطبع
انواكشوط ـ موريتانيا
الجوال : 002226728040
المكتب : 002225210953
E.MAIL : [email protected]
بيان قوله قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن لفظ النور حيث وقع في الكتاب المنزل فإن له أكثر من دلالة إذ يقع على :
1. نور خارق معجز تشرق به الأرض يوم القيامة كما في قوله وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب الزمر 69
2. نور في يوم القيامة يهتدي به المكرمون إلى حيث يأمنون كما في قوله :
• يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا التحريم 8
• والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم الحديد 19
• يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم الحديد 12
• يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم الحديد 13
3 . نور كالموصوف في سورة النور وعد به الله في القرآن سيرى في الدنيا كما في قوله أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس الأنعام 122 وبينته في بيان القرآن .
4 . ويقع على تبين ما في الكتاب المنزل والاهتداء به أي في مقابلة الظلمات وهي كل سلوك ومنهج اختاره الإنسان لنفسه مخالفا لهدي الكتاب المنزل كما في قوله :
• ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور إبراهيم 5
• الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات البقرة 257
• فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور الطلاق 10 ـ 11
5 . وأما قوله :
• قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس الأنعام 91
• إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور المائدة 44
• وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور المائدة 46
فيعني أن كلا من التوراة والإنجيل قد تضمن موعودات نبأ الله بها موسى وعيسى لن تقع إلا متأخرة كثيرا ، وكذلك النور يقع على البعيد فتراه رغم ظلمات الغيب ، ومما نبأ الله به موسى قوله وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين المائدة 20 ، ووقعت نبوة موسى هـذه بعده فجعل الله فيهم أنبياء بعده وجعل فيهم ملوكا كطالوت وداوود وسليمان وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ومنه أن علم داوود وسليمان منطق الطير وآتاهما من كل شيء ، ومما نبأ الله به عيسى قوله ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد الصف 6
6 . وإن المثاني في قوله :
• وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الشورى 52
• يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين المائدة 15
• فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا التغابن 8
• يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا النساء 174
• فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الأعراف 157
لتعني أن القرآن نور أنزل من عند الله وكلف الناس بالاهتداء به ، إذ يقع على موعودات بعيدة يوم نزل القرآن على النبي الأمي وكذلك النور يقع على البعيد فيتراءى لك قبل أن تصل إليه ، وسيعلم الناس رأي العين في الدنيا يوم تقع موعودات القرآن فتصبح شهادة بعد أن كانت غيبا يوم نزل القرآن أن القرآن قول ثقيل ألقي على خاتم النبيين وأنه قرآن عجب يهدي إلى الرشد وإلى التي هي أقوم إذ سيهتدي به يوم تقع موعوداته أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ، وسيزداد به الذين في قلوبهم مرض رجسا إلى رجسهم وضلالا إلى ضلالهم .
بيان قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني
ولعل من بيان القرآن والله أعلم أن قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني الحجر 87 ليعني أن السبع من المثاني هي الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن ، فالحديث المتفق عليه ومنه لفظ البخاري عن عمر مرفوعا " إن هـذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه " اهـ حديث صحيح غير أن القراء لم يفهموه إذ حسبوا الأحرف السبعة تعني لغات العرب واختلاف الألفاظ ، ولم يفقهوا أن النبي قد أرشد الأمة إلى السبع من المثاني التي تضمنها القرآن وهي غاية الأمر بالاستماع للقرآن والأمر بقراءته وتدبره ، وسينتفع بحرف منها على الأقل من قرأ ما تيسر له من القرآن ، فقوله فاقرأوا ما تيسر من القرآن المزمل 20 يعني أن من قرأ ما تيسر له من القرآن فقد قرأ حرفا من الأحرف السبعة أو أكثر ، ويعني الحديث النبوي أن إدراك الأحرف السبعة وتبينها في كل موعود من موعودات القرآن في الدنيا هو الغاية التي من أجلها كلفت الأمة كلها بتدبر القرآن والتفكر فيه .
ولعل الأحرف السبعة والله أعلم هي :
1. الأسماء الحسنى
2. الغيب في القرآن
3. الوعد في الدنيا
4. النبوة
5. القول
6. الأمثال
7. الذكر
فإن لم تكن هـذه هي الأحرف السبعة مجتمعة بذاتها فلقد اجتهدت ونحوت نحوها نحوا والعلم عند الله ، وليجدن من تدبر القرآن أن كل موعود في القرآن ـ وهو كل حادثة ستقع في الدنيا قبل انقضائها ـ قد تضمنها كل حرف من هـذه الأحرف السبعة ، وتضمن كل حرف منها ما شاء الله من المثاني ، وتضمنت كل واحدة من المثاني ذكرا من الأولين ووعدا في الآخرين ، فمتى يعقل أولوا الألباب أن القرآن قول فصل وما هو بالهزل وأن رب العالمين قد فصله على علم ، وأن الأمة لا تزال أمية لم تتدارسه بعد .
ولقد نحا الأولون قريبا من مما فهمت لكنهم لم يستطيعوا التفرقة بين الكتاب والقرآن ولا بين أحكام الكتاب كالناسخ والمنسوخ والحلال والحرام والعام والخاص والمجمل والمبين وبين خصائص القرآن كالأمثال والوعد في الدنيا والخبر بمعنى القصص .
إن الحديث النبوي الذي تضمن التمثيل بالأسماء الحسنى " عليما حكيما غفورا رحيما" ليعني أن الأسماء الحسنى حرف من الأحرف السبعة بيّنه النبي الأمي أحسن البيان فمثّل بواحد منها كما سيأتي قريبا إثباته .
بيان قوله أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
إن قوله :
• أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا النساء 82
• وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون الروم 4
• ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين يونس 48 ، يـس 48 ، الأنبياء 38 ، النمل 71 ، سبأ 29 ، الملك 25
• ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين السجدة 28
• وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين الحجر 6/7
• ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد الرعد 31
• ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده الحج 74
• ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد آل عمران 194
ويعني حرف النساء أن القرآن تضمن موعودات في الدنيا ستقع كلها بعد نزول القرآن لا يختلف شيء منها عما أخبر الله به في القرآن من قبل وأن لو كان القرآن من عند غير الله لوجدوا اختلافا كثيرا بين موعوداته والحوادث المنتظرة بعده كما يجد الناس اختلافا كثيرا بين ما يقوله الكهنة والمشعوذون وبين ما يقع من الحوادث بعد .
ولقد فرغت بحمد الله من الجزء الأول من بيان القرآن وضمنته من موعودات القرآن ما شاء الله مما لم يقع بعد وسيقع في الدنيا وجميعه من ثوابت العقيدة الإسلامية التي آمن بها الصحابة فمن بعدهم إجمالا كما هو مقتضى إيمانهم بالغيب ، وإيمان كل مؤمن بالغيب ، وأثبتّ كل موعود منها بهـذه السبع من المثاني وضمنت كل واحدة منها ما شاء الله من المثاني حسب ما أبصرت ـ بفضل الله ـ من بصائر القرآن المنزل على النبي الأمي .
وكذلك دلالة استعجال المشركين نفاذ موعودات القرآن ليتأتى للرسول به وللمؤمنين معه ادعاء أنهم من الصادقين ، وهكذا فقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن ينجز وعده ليصدقه المتأخرون الذين سيشهدون نفاذ الوعد من الله على لسان إبراهيم بعدما كذبه المعاصرون الذين لم يحضروا نفاذها بل كانت لهم غيبا بعيدا كما هي دلالة قوله واجعل لي لسان صدق في الآخرين الشعراء 84 ودلالة قوله ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا مريم 49 ـ50 ويعني أن الله قد أنجز في المتأخرين ما وعدهم به على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأن المتأخرين قد علموا صدق كل منهم .
وكذلك دلالة حرف آل عمران الذي يعني تكليف المؤمنين بالغيب الإيمان بأن ما وعدهم الله به مأتي ينتظرونه ويدعون الله ليصبح شهادة يشهدونه ويؤمنون له بعد أن كانوا مؤمنين به .
أما ما وعد الله به محمدا في القرآن فلن يجد الناس فيه ـ يوم يصبح شهادة في الدنيا ـ اختلافا بينه وبين وعد الله في القرآن كما هي دلالة قوله :
• قل صدق الله آل عمران 95
• اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته الكهف 27
• ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين الأنعام 34
• وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم الأنعام 115
• ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم يونس 62 ـ 64
• والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع
ويعني حرف آل عمران أن من القول في القرآن وهو الذي سيتم نفاذه بعد حياة النبي أن سيعلم الناس صدق الله فيما أخبر به في القرآن أي سيشهدون ويحضرون مطابقة الغيب مع ما أخبر الله منه في القرآن ، ومنه أن سيسمعون التوراة تتلى عليهم ومنها قوله كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة . وكما سيأتي بيانه في من أصول التفسير وفي كلية الكتاب
ويعني حرف الكهف أن من سنة النبي الأمي التي كلف بها أن يتلو الكتاب المنزل عليه ، ولما كانت تلاوة النبي كتاب ربه المنزل عليه مما كلف به أي من سنته كما بينت في حوار مع الأصوليين فإن جميع المؤمنين به تبع له مكلفون كذلك بتلاوة القرآن وتدبره وانتظار نفاذ كلمات ربنا التامات أي التي سيتم نفاذها ، ولن يتخلف عن تلاوة القرآن وتدبره إلا من رغب منهم عن سنة نبيه ، وأما قوله لا مبدل لكلماته فهو مما وعد الله به في الكتاب المنزل أن يتم نفاذ موعوداته وأن لا مبدل لها.
ويعني أول الأنعام أن من كلمات الله أي موعوداته أن نصر الله قد تنزل من قبل على الرسل بالآيات بعد صبرهم على التكذيب والإيذاء وأن ذلك الوعد لا مبدل له بعد نزول القرآن بل لا يزال منتظرا كما بينت في كلية الرسالة .
ويعني ثاني الأنعام أن جميع الغيب في القرآن سيصبح شهادة في ظل الذين سيؤتيهم ربهم الكتاب ويومئذ يعلمون رأي العين أن محمدا مرسل من ربه بالقرآن إذ قد تمت أي نفذت موعوداته صدقا وعدلا ، والقطع كذلك بأنها لا مبدل لها هو من الوعد في القرآن .
ويعني حرف يونس أن من كلمات الله أي موعوداته قوله عز وجل ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فهو من وعد الذي وعد به ولا تبديل له كما بينته في كلية ليلة القدر .
وسيأتي ضمن بيان الأحرف السبعة أن كلمات الله وكلمات ربنا في سياق الوعد في الدنيا هي من حرف الوعد في الدنيا ، وأما في سياق اليوم الآخر فهي من الوعد في الكتاب .
ويعني حرف الذاريات القسم من الله على أن الوعد في الكتاب المنزل وعد صادق أي لا اختلاف بينه يوم نفاذه وبين ما وصفه الله به في القرآن قبل عشرات القرون .
بيان الأحرف السبعة
الحرف الأول : الأسماء الحسنى
دلالة الاسمين الله رب العالمين
إن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن اسم } الله { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما لبيان عبادة وتكليف من الله المعبود يسع جميع المخاطبين بها الطاعة والعصيان ، أو لبيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين ، أو لبيان أثر الإيمان والطاعة ، والكفر والمعصية على المكلفين في الدنيا ، أو لبيان الحساب والجزاء في الآخرة .
وإن اسم } رب العالمين { حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما ليقوم به أمر أو فعل خارق يعجز العالمون عن مثله وإيقاعه كما يعجزون عن دفعه أو لبيان نعمه التي لا كسب للمخلوق فيها وما يجب له من العبادة والشكر ، ولاستعانته ليهب لنا في الدنيا ما لا نبلغه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر .
ولهـذه القاعدة في الكتاب تقييد له دلالات عميقة كرزق الله الذي يقع على ما لا كسب للمخلوق فيه ورزق ربنا الذي يقع على ما اكتسبه المخلوق بجهده من تمام نعمة ربه عليه .
وإنما أسند الرزق إلى الله في الكتاب المنزل على ما لم يكتسبه المرزوق به بجهده كما في قوله :
• ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا { الطلاق 11
• زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب { البقرة 212
• يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب { النور 38
• ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله { الأعراف 50
ولا تخفى دلالته على نعيم أهل الجنة الذين أدخلوها بفضل الله .
وكما في قوله :
• وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا وشربوا من رزق الله { البقرة 60
• وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هـذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب { عمران 37
• وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها { الجاثية 5
• وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم { العنكبوت 60
وكان الماء الذي انفجر من الحجر لما ضربه موسى بعصاه هو والمنّ والسلوى الذي نزل على بني إسرائيل مع موسى هما رزق الله بغير جهد منهم ولا كسب ، أمروا أن يأكلوا ويشربوا منه ، وكان ما يلقى إلى مريم من رزق وهي في المحراب هو رزق الله إياها من غير كسب منها ولا جهد ، وكان الماء الذي نزله الله من السماء هو رزق الله الدواب والناس من غير جهد منهم ولا كسب .
وإنما وقع في الكتاب رزق ربنا على ما اكتسبه المكلف من تمام نعم ربه عليه كما في قوله :
• لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15
• قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا { هود 88
ويعني أن أهل سبإ كانوا يحرثون ويأكلون من الجنتين ويعني أن شعيبا كان قويا كاسبا يأكل من كسبه ولم يكن متسولا يسألهم رزقا .
فأما بيان ما كلف الله به من العبادة فكما في قوله } اعبدوا الله { وقوله } اتقوا الله { وقوله } وقوموا لله قانتين { البقرة 232 .
وأما بيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين وأعانهم بها ليعبدوه فكما في قوله } فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له { العنكبوت 17 من قول إبراهيم يعني اسألوا الله أن يرزقكم لتقوى أجسامكم على الطاعة والعبادة ، وقوله } وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين { الذاريات 56 ـ 58 يعني أن الله يرزق الإنس والجن ليتمكنوا بالرزق والقوت من العبادة ، وكما في قوله } خلق الله السماوات والأرض بالحق { العنكبوت 44 أي لأجل أن يعبد ويذكر فيهما .
وأما أثر الطاعة على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } ويزيد الله الذين اهتدوا هدى { مريم 76 وقوله } فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين { الفلاح 28 وقوله } هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين { يونس 22 فكانت نجاتهم بسبب أثر طاعتهم في دعوتهم الله مخلصين له الدين .
وأما بيان أثر المعصية على المكلفين في الدنيا فكما في قوله } إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم { البقرة 7 أي بسبب كفرهم وإعراضهم عن النذير عوقبوا بذلك ، وقوله } إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون { البقرة 159 فلعنة الله إنما كانت بسبب أن كانوا يكتمون ما جاء به النبيون من البينات والهدى في الكتاب ، وقوله } كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب { الأنفال 52 والمعنى أنهم بسبب كفرهم بنعم الله التي أنعم عليهم بها ليعبدوه ويطيعوه عذبهم في الدنيا .
وأما بيان الحساب بعد البعث فكما في قوله } ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب { النور 39 وقوله } يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين { النور 25 .
وأما بيان الجزاء فكما في قوله } فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين { المائدة 85 وقوله } ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون { فصلت 28 .
وأما بيان أن كل فعل أو أمر أسند إلى ربنا فإنما هو أمر خارق يعجز العالمون عن مثله فكما في قوله } قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر { الإسراء 102 من قول موسى في وصف الآيات المعجزة التي أرسله ربه بها وكما في قوله } قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم { فصلت 9 ـ 12 ، ولا يخفى أن عاقلا من العالمين لا يستطيع ادعاء مثل هذا .
وأما بيان أمر ربنا الذي يعجز العالمون عن دفعه فكما في قوله } يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود { هود 76 من قول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا بعذاب قوم لوط وكما في قوله } وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر { القمر 50 .
وأما بيان نعم ربنا التي لا كسب للمخلوق فيها فكما في قوله } ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله { الإسراء 66 وقوله } ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره { الزخرف 9 ـ 13 .
وأما بيان ما يجب لربنا من العبادة والشكر على نعمه فكما في قوله } ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون { الزخرف 13 ـ 14 ، وقوله } لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور { سبأ 15 وقوله } يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم { البقرة21 ـ 21 .
وأما بيان ما يجب علينا من استعانته ليهب لنا في الدنيا والآخرة من نعمه ويصرف عنا من الضر والكرب ما لا نستطيعه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر القليل فكما في دعاء النبيين وضراعتهم لربهم حيث وقعت في القرآن كما في قوله } وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم { الأنبياء 83 ـ 84 .
إن قوله } باسم الله { حيث وقع في الكتاب فإنما هو للدلالة على عبادة وتكليف من الله يجب أن يقوم به المكلف العابد مستعينا ومبتدئا باسم الله الذي شرع له ذلك الفعل ومخلصا له فيه من غير إشراك معه وكما بدأ طاعته بإعلان أنها باسم الله المعبود الذي شرعها له ، وهكذا ركب نوح ومن معه في السفينة كما في قوله } وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها { هود 41 فأطاع أمر الله حين أوحي إليه قوله } قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن { هود 40 فجرت بهم الفلك على الماء الطوفان وجرت بعدها كل سفينة على الماء والعادة أن تستقر عليه وتغرق فكان جريانها في البحر بما ينفع الناس إنما هو باسم الله الذي أوجب على من في السفينة وعلى الناس أن يستعينوا بالسفن وبمنافعها في طاعة الله وعبادته ، ولو قال نوح باسم ربي مجراها ومرساها لم تجر سفينة على البحر بعدها إلا لمثله ، إذ ما كان باسم ربنا هو الآية الخارقة المعجزة مع رسله من الملائكة والبشر .
وهكذا لم يحل من الذبائح والصيد البري إلا ما ذكر اسم الله عليه كما في المائدة وثلاثة كل من الأنعام والحج .
إن حرف الأنعام } ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق { الأنعام 121 ليعني أن إزهاق الحياة في الطير والدواب إنما يجب أن يكون باسم الله الذي شرع لنا أكلها لنحيى ونقوى على العبادة ، أما ما لم يذكر اسم الله عليه منها فتجرد من هذا القصد والنية فهو فسق خرج به الإنسان عن الوحي الذي جاء به النبيون وعن مقتضى العبودية إلى المعصية والعبث فحرم على المسلمين أكله ، ولئن كان النهي عن الأكل من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي منها بإنهار دمه وذكر اسم الله عليه فما ظنك بقتل الصحيح من الطير والأنعام عبثا وما ظنك بقتل الإنسان إذا لم يكن من المكلف به طاعة لله ورسوله .
إن الذي يقول " باسم الله " قبل طعامه وشرابه المباح قد أطاع الله في قوله } وكلوا واشربوا ولا تسرفوا { الأعراف 31 ، أما الذي يقول " باسم الله " ويأكل الخنزير والميتة والدم غير مضطر فقد افترى على الله كذبا وادعى أن الله قد شرع ذلك ، وإن الذي يقول " باسم الله " ويطأ زوجته فقد أطاع الله في قوله } وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين { النساء 24 فهي كلمة الله التي استحللنا بها فروج النساء وأما الذي يقول " باسم الله " ويزني فقد افترى على الله وادعى أن الله شرع له الزنا وكلفه به وما أشبهه بسلفه من القرامطة الذين كانوا يقرأون القرآن لابتداء الليالي الحمراء فإذا سكت القارئ أطفئت المصابيح ووقع كل رجل على من تقع يده عليها ولو كانت أخته أو أمه كما سنه علي ابن الفضل الجدني القرمطي في آخر القرن الثالث الهجري في اليمن .
إن قوله } باسم الله الرحمن الرحيم { ليعني أن قائلها ككاتبها يشهد على نفسه ويقر بأنه يبتدئ فعلا هو من تكليف الله تماما كما تعني رسالة سليمان إلى ملكة سبإ والملإ معها من قومها } إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين { النمل 30 ـ 31 أن سليمان رسول الله إلى الناس وأن كتابه هذا هو من رسالته إليهم وهم أعم من بني إسرائيل فزيادة التكليف بقدر زيادة التمكين كما بينت في فقه المرحلية ، ويأتي لاحقا سبب ابتداء فاتحة الكتاب كالسور بـ } باسم الله الرحمن الرحيم { وسبب إيراد اسم الرحمة فيها وفي كتاب سليمان وإنما يتم المعنى في ما تقدم باسم الله إذ هو من تكليف الله عباده فهو من مقدوراتهم ويسع كلا الطاعة والعصيان .
ولقد تضمن الكتاب الأمر بذكر الله بأسمائه الحسنى ودعائه بها ومنه } في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه { النور 36 ومن المثاني معه قوله } ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها { البقرة 114 ، ومنه ما تضمنت سورة الأعراف والإسراء وطه والحشر من الأمر بدعاء الله بأسمائه الحسنى .
وأما فاتحة العلق } اقرأ باسم ربك الذي خلق { فلإظهار أن قراءة النبي الأمي r القرآن من أوله إلى آخره كما نزله جبريل على قلبه هي خارقة معجزة لا يقدر عليها أحد من العالمين وإنما تمت باسم ربه الذي خلق كما أن خلق الإنسان من علق لا يقدر عليه غير ربه فكذلك قراءة النبي الأمي r القرآن لا يقدر على إيقاعها غير ربه ، وقد يحسب الجاهل ذلك مبالغة بل لو أبدل النبي الأمي r اسما من أسماء الله الحسنى بآخر منها أو حرفا بآخر ولو كان من فواتح السور التسع والعشرين لانخرمت المثاني في الكتاب ولفسد نظم الكلام ومعناه ولوقع فيه اختلاف كثير كما سأثبته إن شاء الله ولبطل وصف البدل بأنه من كلام الله .
إن القرآن هو من عند الله وإنما محمد r رسول الله به وخاتم النبيين بلغ وحي الله ولم يزده حرفا أو ينقصه منه رغم أنه كان أميا لا علم له بالكتاب والإيمان قبل نزول الوحي عليه كما في قوله } بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين { يوسف 3 ومن المثاني معه قوله } وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان { الشورى 52 ، وهكذا كانت قراءة النبي الأمي r قد تمت باسم ربه لأنها خارقة معجزة ، وكانت قراءة القرآن بعدها غير خارقة فابتدئت الفاتحة كما السور بقوله } باسم الله الرحمن الرحيم { وتعني أنها كسائر العبادات يسع كلا طاعتها وعصيانها .
الأسماء الحسنى
إن الوعد غير المكذوب كما في قوله } فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب { هود 65 هو الوعد الحسن كما في قوله } أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه { القصص 61 وكما في قوله } قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا { طه 86 .
وإن قوله } ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون { القصص 5 ـ 6 لمن الوعد الحسن أي غير المكذوب ، وقد وقع لما وافق الأجل الذي جعل الله له كما في قوله } وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون { الأعراف 137 ويعني أن كلمة ربنا الحسنى التي تمت أي نفذت هي وعده المذكور في القصص .
وإن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن الأسماء الحسنى حيث وقعت في الكتاب والقرآن فإنما لبيان وعد وعده الله سيتم إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد ، ولو عقل الناس لانتظروا الميعاد وسيلاقون وعد الله ويجدونه وعدا حسنا غير مكذوب ، وهكذا فلم يأت في الكتاب والقرآن ذكر أسماء الله الحسنى في سياق ما مضى وانقضى من القدر وإنما في سياق المنتظر منه ، وما وجدته كذلك في سياق الماضي المنقضي فهو وعد أن يقع مثله بعد نزول القرآن وإن من تفصيل الكتاب أنه مسبوق بقوله } وكان { وكما سيأتي بيانه مفصلا .
الرحمان الرحيم
ومن الأسماء الحسنى اسمه الرحمان الرحيم ويعني حيث وقع في القرآن أن وعدا حسنا غير مكذوب سيلاقيه في الدنيا المرحوم من الرحمان الرحيم فلا يعذب أو سيكشف عنه الضر ، ويعني حيث وقع في الكتاب أن وعدا حسنا غير مكذوب سيلاقيه المرحوم من الرحمان الرحيم فينجيه من العذاب الموعود في اليوم الآخر برحمته كما في قوله :
• قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين { الأنعام 15 ـ 16
• وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم { غافر 9
ويعني حرف الأنعام أن المرحوم في اليوم الآخر هو من صرف عنه العذاب .
ويعني حرف غافر أن المرحوم في يوم القيامة هو من وقاه الله السيئات فلم تعرض عليه ولم يحاسب بها .
وكما في قوله :
• قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين { هود 43
• ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم { الإسراء 54
• يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون { العنكبوت 21
• قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي { الأعراف 156 ـ 157
• قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا { الملك 28
ويعني حرف هود أن الطوفان الذي عذب به قوم نوح إنما نجا منه من رحمه الله ، أي أن المغرقين به لم يرحمهم الرحمان بل عذبهم ولن يقدر أحد من العالمين أن يصيب برحمة من لم يرحمه الرحمان كما في قوله } أمن هـذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا في غرور { الملك 20 .
ويعني حرف الإسراء والعنكبوت والأعراف أن الرحمان إنما يصيب بعذابه من لم يدخله في رحمته بل حرمه منها وأن المرحوم برحمة الرحمان هو الذي يسلم من عذابه .
ويعني حرف الملك أن الإهلاك وهو العذاب المحيط بصاحبه فلا ينجو منه إنما يقع على من حرم من الرحمة وكذلك دلالة قوله :
• يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا { مريم 45
• وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون { يـس 22 ـ 24
ويعني حرف مريم أن المحروم هو من لم يرحمه الرحمان وعذبه .
ويعني حرف يـس أن من أراده الرحمان بضر لن يغني عنه أحد كائنا من كان ولن ينقذه مما أراده به الرحمان من الضر والعذاب .
ولن يحرم من رحمة الرحمان إلا من لا خير فيه ممن هم أضل من الأنعام لهم قلوب لا يفقهون بها ما جاء به النبيون من العلم والهدى والبينات ، ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات الله وهي تتلى عليهم كما في قوله :
• بسم الله الرحمان الرحيم {
• وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين { الشعراء 5
• ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين { الزخرف 36
• وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهـذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون { الأنبياء 36
وتعني البسملة في أوائل السور أن من لم ينتفع بقراء القرآن فهو محروم من رحمة الرحمان كما هي دلالة قوله } وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون { الأعراف 204 ويعني أن قراءة القرآن والاستماع له والإنصات هي أسباب تعقل الذكر ، ومن عقل الذكر فهو حري أن يخشى الرحمان بالغيب لينجو برحمته من العذاب الموعود في الدنيا وفي الآخرة .
وتعني البسملة في ابتداء الطاعات أن من لم ينتفع بطاعته فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم .
ويعني حرف الشعراء تخويف الناس من الإعراض عن ذكر الرحمان الذي يؤدي إلى تكذيب موعودات الكتاب المنزل يوم تقع ويومئذ لن يرحم الرحمان المعرضين المكذبين بل سيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون أي سيعذبون في الدنيا والآخرة ولا يرحمون .
ويعني حرف الزخرف أن من لم يبصر الحق والهدى في ذكر الرحمان وهو الكتاب المنزل فهو محروم من رحمة الرحمان ووليه الشيطان .
ويعني حرف الأنبياء أن الكافرين بذكر الرحمان لن يرحمهم من دونه أحد .
القادر القدير المقتدر
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن اسمه القادر القدير المقتدر حيث وقع في الكتاب فإنما لبيان وعد حسن غير مكذوب سيتم نفاذه بعد نزول القرآن وكذلك دلالة قوله :
• أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا { الإسراء 99
• أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم { يـس 81
• ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير { العنكبوت 20
• وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير { النحل 77
ويعني أن الله سيفني السماوات والأرض وما فيهما ويعدمهما حتى كأن لم يخلقا من قبل وينشئهما النشأة الآخرة بعد الأولى وهي خلق مثلهم يوم تقوم الساعة كما في المثاني معه في قوله } يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات { إبراهيم 48 .
وإن قوله :
• ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير { الحج 6
• ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير { فصلت 39
• فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير { الروم 50
• أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير { الشورى 9
• أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير { الأحقاف 33
• أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى { خاتمة القيامة
• أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هـذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على أعلم أن الله على كل شيء قدير { البقرة 259
وشبهه ليعني أن إحياء الموتى وعد حسن من الله في الكتاب سيتم نفاذه يوم البعث .
وإن قوله :
• أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إنه على كل شيء قدير { البقرة 148
• ومن آياته خلق الساوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير { الشورى 29
• إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير { هود 4
• إنه على رجعه لقادر { الطارق 8
وشبهه ليعني أن جمع من في السماوات والأرض في يوم الجمع هو وعد حسن من الله في الكتاب .
وإن قوله :
• ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وهو على كل شيء قدير { المائدة 40
• لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير { البقرة 284
• إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر { خاتمة القمر
وشبهه ليعني أن الحساب والمغفرة والعذاب وعد حسن من الله في الكتاب سيتم نفاذه في يوم يقوم الحساب وفي اليوم الآخر .
وإن قوله :
• والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير { النور 45
• وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا { الفرقان 54
• ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير { المائدة 17
• الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما { خاتمة الطلاق
وشبهه ليعني أن خلق كل دابة من ماء وأن الله سيخلق ما يشاء وأن الأمر سيتنزل بين سبع سماوات ومن الأرض مثلهن حتى يعلمه الناس رأي العين بعد نزول القرآن لوعد حسن من الله في الكتاب سيقع نفاذه في الدنيا .
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن اسمه القادر القدير المقتدر حيث وقع في القرآن فإنما لبيان وعد حسن غير مكذوب سيتم نفاذه قبل انقضاء الحياة الدنيا وكذلك دلالة قوله :
• فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير { البقرة 109
• إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا { النساء 133
• ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير { البقرة 106
• إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير { التوبة 39
• الحمد لله فاطر السماوات جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير { فاطر
وسيأتي بيانه في بيان القرآن .
الغفور الغفار
ومن الأسماء الحسنى اسمه الغفور الغفار فهو غافر الذنب أي يستره يوم القيامة فلا يعرض على صاحبه بل يغفره الغفور ، وما ستره الله يومئذ من السيئات فلن يكتبه الملائكة الكرام الكاتبون يوم يقوم الحساب ولن يعذب به العبد ، كما هي دلالة قوله :
• قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم { القصص 16
• يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا { التحريم 8
• إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم { القتال 34
• والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين { الشعراء 82
• ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب { إبراهيم 41
• مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر لذة للشاربين ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم { القتال 15
وتعني أن يوم الحساب هو يوم مغفرة الذنوب ، وحرف القصص صريح في أن الله غفر ذنب موسى ولا يخفى انتشار خبر قتله القبطي في الدنيا وخروجه هربا من القصاص ، وإنما سأل موسى ربه أن يستر ذنبه في الآخرة وأجيبت دعوته فلن يعرض عليه يوم الحساب قتله القبطي ولن يكتبه الكاتبون ولن يؤاخذ به .
وحرف التحريم صريح في وصف يوم القيامة ، وكذلك حرف القتال لأنه بعد الموت ، وذكر بصيغة المستقبل ، وإبراهيم يطمع أن يستر الله خطيئته يوم الدين فلا تعرض عليه ، ودعاؤه صريح في أن محل المغفرة إنما هو يوم يقوم الحساب .
ويعني حرف القتال أن للمتقين في الجنة مغفرة من ربهم أي أن أعمالهم السيئة في الدنيا لن تعرض عليهم بل قد غفرها الله لهم وسترها عنهم فلا يضيقون بها ذرعا ولا تنغص عليهم ما هم فيه من الكرامة ودار الخلود خلافا لأهل النار الذين تعرض عليهم سيئاتهم وهم في النار ليزدادوا حسرة وقنوطا من الرحمة كما في قوله } كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار { البقرة 167 .
وإن قوله :
• ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم { هود 52
• هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب { هود 61
• واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود { هود 90
ليعني أن كلا من هود وصالح وشعيب أمر قومه أن يسألوا ربهم أن يغفر لهم في يوم الحساب ما سلف من كفرهم إذ الإيمان بالله واليوم الآخر هو الخطوة أولى من الإيمان ثم يتبعون ذلك بالتوبة إلى ربهم أي الرجوع إليه بالعمل الصالح في الدنيا ، ومن المثاني معهما قوله } وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله { هود 3 في خطاب المخاطبين بالقرآن وسيأتي بيانه في كلية خلافة على منهاج النبوة وكلية الكتاب .
بيان قوله } إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم {
إن من العجب أن من الكتاب ما لم تفهمه البشرية بعد ومنه قوله :
• إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين { يس 12
• أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا { مريم 77 ـ 79
• لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق { عمران 181
• وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون { الزخرف 19
• ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون { الأنبياء 94
• وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون { الانفطار 10 ـ 12
وتعني هـذه المثاني وغيرها أن أعمال المكلفين لن تكتب في حياتهم الدنيا وإنما بعد البعث حين يقع الحساب كما هو صريح حرف يس أن كتابة أعمال المكلفين هي مما يستقبل بعد نفاذ الوعد بإحياء الموتى .
ويعني حرف مريم أن الذي كفر بآيات ربه وزعم أن لو بعث فسيؤتى مالا وولدا ـ وهو مما مضى يوم نزل الكتاب على خاتم النبيين r ـ لم تقع بعد كتابة ما قال وإنما سيكتب ما يقول بصيغة المستقبل إذ سيعرض عليه يوم الحساب فيراه بأم عينيه فيكتبه الحفظة الكرام الكاتبون وهم الشهود عليه في الدنيا ويعذب ويمد له العذاب مدا .
ويعني حرف عمران أن الذين قالوا إن الله فقير ووصفوا أنفسهم بأنهم أغنياء وقتلوا النبيين بغير حق ـ ولا يخفى أنهم كانوا قبل خاتم النبيين r بعدة قرون ـ لم يكتب قولهم ولا قتلهم الأنبياء بعد ، وإنما سيكتب يوم الحساب وهم يرون أعمالهم تعرض عليهم ويقول ذوقوا عذاب الحريق أي يعذبهم في نار جهنم ولا يظلم ربنا أحدا .ويعني حرف الزخرف أن الله وعد أن تكتب يوم القيامة شهادة الذين جعلوا الملائكة إناثا ويسألون عنها حينئذ ، وكانوا من المشركين قبل النبي الأمي r ومن معاصريه .
ويعني حرف الانفطار أن الملائكة الذين يحفظون العبد في الدنيا هم الشهود عليه يوم الحساب لأنهم يعلمون ما يفعل في الدنيا أي يرونه لا يغيب عنهم منه شيء ، ولا يعني علمهم ما يفعله العباد كتابته في الدنيا .
إن الله أحكم الحاكين لم يأمر الملائكة الكرام الكاتبين بكتابة أعمال المكلفين إلا قبيل الجزاء بها ، وهكذا أخر عن أكثر الناس كتابة أعمالهم إلى يوم الحساب لتعرض عليهم والملائكة الشهود حاضرون فإن أقر كتبت وإن أنكر ختم على فمه وينطق الله الذي أنطق كل شيء جلودهم وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ثم يوبق بما عرض عليه من أعماله السيئة أي بما لم يغفره الله منها .
ولهـذا الإطلاق استثناء كما في قوله :
• ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون { النساء 81
• أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون { الزخرف 79 ـ 80
• ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون { يونس 20 ـ 21
ويعني حرف النساء أن المنافقين الذين يخادعون نبيه r لن يغفر لهم وأن الله الذي سيحاسبهم يوم القيامة سيكتب ما يبيتون من المكر والنفاق ، ولن يمحى ما كتب الله ولن يغفر ويلهم ما أصبرهم على النار .
وسيأتي بيان حرف الزخرف ويونس في كلية النصر في ليلة القدر أي أن ما كتبه الملائكة من أعمال العباد في الدنيا فلن يؤخر عنهم العذاب به إلى يوم الحساب بل سيعذبون به في الدنيا .
الغفور الرحيم
إن من تفصيل الكتاب أن الاسمين } الغفور الرحيم { حيث وقعا في الكتاب المنزل مسندين إلى الله فإنما للدلالة على ذنب سيغفره } الغفور { فلا يعرضه على صاحبه ولا يعذب به بل سيرحمه الله } الرحيم { كما في قوله :
• ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم { النور 30
• إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم { البقرة 173
• قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم { الزمر 53
• فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم { البقرة 182
ويعني حرف النور أن المكرهة على الزنا سيغفر الله في يوم الحساب لها زناها في الدنيا فلا يعرضه عليها بل يستره وسيرحمها فلا يعذبها به ، ويعني أن زنا المكرهة لا ينقلب إلى مباح .
ويعني حرف البقرة أن الجائع الذي لم يجد غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فاضطر إلى الأكل منها سيغفر الله له ذنب الأكل منها فلا يعرضه عليه في يوم الحساب وسيرحمه فلا يعذبه به إن كان غير متلبس بنية البغي والعدوان كالذي يأكل منها ليحيا ويقوى فيبغي على الناس ويعدو عليهم كقطاع الطرق واللصوص المقيمين في الفيافي والصحاري فلا يرخص لهم أكل المحرمات المفصلات في سورة النحل والبقرة والمائدة لأنهم يبغون ويعتدون .
وإن من تفصيل الكتاب أن الاسمين } الغفور الرحيم { حيث وقعا في الكتاب المنزل مسندين إلى رب العالمين فإنما للدلالة على أن ما قبلهما هو أمر خارق معجز لا يقدر العالمون على مثله وأن رب العالمين قد أذن لعباده بدعائه أن يبلغهم ما عجزوا عن مثله لأنفسهم فيغفر لهم عجزهم ويرحمهم مما هم فيه من القصور والضعف كما في قوله :
• قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم { الأنعام 145
• وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم { يوسف 53
• وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي غفور رحيم { هود 41
• وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم { الأعراف 167
• وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا { الكهف 58
ويعني حرف الأنعام أمر المضطر إلى أكل المحرمات غير باغ ولا عاد بدعاء ربه الغفور الرحيم ليرزقه رزقا حسنا غير الميتة والدم ولحم الخنزير والفسق الذي أهل به لغير الله .
ويعني حرف يوسف أن يوسف لم يزك نفسه ولم يبرئها وإنما كان ما كان منه من إيثار السجن على الشهوة الحرام بما بلغه ربه الغفور الرحيم ما لم يكن قادرا على مثله لنفسه فربه الغفور غفر له عجزه وستره ورحم ضعفه فبلغه من الزكاة ما شاء الله .
ويعني حرف هود أن جريان السفينة على الطوفان لم يكن بجهد نوح والذين آمنوا معه وإنما كان بمغفرة ربهم ورحمته التي بلغوا بها ما لم يقدروا على مثله لأنفسهم كما هي دلالة قوله } قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم { هود 43 .
ويعني حرف الأعراف أن الذي سيبعثه رب العالمين ليسوم بني إسرائيل سوء العذاب هو رجل من عامة الناس سيبلغه ربه الغفور الرحيم من الأسباب والتمكين ما يبلغ به من الملك أكثر وأكبر مما أوتيه بنو إسرائيل من قبل وما لم يكن يقدر على مثله لنفسه
كما بينت في كلية الآيات وكلية النصر في القتال في سبيل الله .
ويعني حرف الكهف أن تأخير العذاب عن المكذبين الذيم عاصروا نزول القرآن وعن أهل الأرض بما كسبوا من الظلم إنما بمغفرة ربنا ورحمته ولا يقدر على مثله أهل الأرض لأنفسهم .
يتواصل
الحسن ولد ماديك
باحث أكاديمي في علوم القرآن
متخصص منذ 1981 في الحركات الباطنية عبر التاريخ
متخصص منذ 1981 في الجماعات الإسلامية
متخصص منذ 1989 في القراءات العشر الكبرى
متفرغ منذ 2001 لتفسير القرآن تحت الطبع
انواكشوط ـ موريتانيا
الجوال : 002226728040
المكتب : 002225210953
E.MAIL : [email protected]