من تأويل : { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً }

إنضم
18/08/2005
المشاركات
506
مستوى التفاعل
10
النقاط
18
العمر
67
الإقامة
مصر
من تأويل : { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً }

قرأت الكلام الآتي بعد في أحد الملتقيات ، فأحببت طرحه هنا و عرضه للمدارسة و المراجعة ، تمحيصا للقول و إثراء للبحث ، قال كاتبه أو نقل ما يلي :

[[.... فالنسخ بمعناه الاصطلاحي مأخوذ من المعنى الثاني الذي ذكره لنا أئمة اللغة كما تقدم، يقول الامام ابن قدامة المقدسي رحمه الله:
"فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير"

ثم يعرفه لنا فيقول:
"وحده رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه ، ومعنى الرفع إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتا"(روضة الناظر)

ودعني أوضح لك هذا التعريف:
• قوله "الحكم الثابت": اي ثبت من قبل بخطاب شرعي من كلام الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا يدخل فيه ما كان على أصله(البراءة الأصلية) ونزل فيه من بعد حكم شرعي، مثلا تحريم الربا لا يسمى نسخا لان حلها لم يثبت بخطاب شرعي قبلها وانما جاء الاسلام و الناس يأكلون الربا.أما تحريم الخمر فيسمى نسخا لانه قد ثبت اباحتها بنص كلام الله ثم حرم بعد ذلك. ]] . انتهى قوله


* * *



- و قد سألت أحد الإخوة عن القول المذكور أعلاه : (( أما تحريم الخمر فيسمى نسخا لانه قد ثبت اباحتها بنص كلام الله ثم حرم بعد ذلك )) - فأجاب بما مفاده صحة هذا القول ، مستشهدا بقول الله تعالى : { تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا } أن السكر هنا : الخمر ، و أن الله لا يمتن على عباده إلا بمباح .

- و هذا الجزء الأخير صحيح ، و لكن القول إن الخمر قد ثبت إباحتها بنص كلام الله غير صحيح ، و لا دلالة من الآية على ذلك ،

و هناك فرق بين المباح بالنص عليه و بين المباح بالعفو عنه قبل نزول التحريم ، على ما هو مقرر في علم الأصول .

فالخمر لم تثبت إباحتها بالنص أبدا ، و لكن جاء الإسلام و وجد القوم يشربونها ، فتدرج في التحريم . شأنها في ذلك شأن الربا ،
و أما المغايرة بينهما في ذلك ، فلا يبين لها وجه معتبرا ، والقول في الخمر من هذه الناحية عين ما قيل في الربا : ( تحريم الربا لا يسمى نسخا لان حلها لم يثبت بخطاب شرعي قبلها وانما جاء الاسلام و الناس يأكلون الربا )

- هذا و قد قال بعض المفسرين إن الآية منسوخة ، و قال البعض الآخر إنها محكمة ، و الثانى أولى ، لأن الخمر وردت الأحاديث بالإخبار أنها : أم الكبائر ، و أم الفواحش ، و أم الخبائث ،
و الأخبار الشرعية لا يدخلها النسخ ، إذ هي إخبار عن حقيقة شرعية ، فلا يدخلها النسخ ، و لا ليست إخبارا عن حكم شرعي ،
هذا من ناحية
و من ناحية أخرى : لا يصار إلى القول بالنسخ إلا إذا توارد الحكمين الشرعيين المتعارضين على محل واحد و موضوع واحد ، أما إذا أمكن التوفيق بينهما و لو بتأويل يحتمله أحدهما فلا يقال بالنسخ ، فإعمال النصين أولى من إهمال أحدهما ، وفق القاعدة الأصولية المعروفة ،

قال الإمام القرطبي في تفسيره :

""
الثانية ـ قوله تعالى: { سَكَراً } السَّكَر ما يُسْكِر؛ هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسَّكَر الخمر، وبالرزق الحسن جميعَ ما يؤكل ويشرب حلالاً من هاتين الشجرتين. وقال بهذا القول ابن جُبير والنَّخعِيّ والشَّعبِيّ وأبو ثور. وقد قيل: إن السَّكَر الخَلُّ بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام. وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسُمِّيَ سَكَراً لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. قال ابن العربي: «أسَدّ هذه الأقوال قولُ ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرّم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقاً أو قصداً إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة؛ فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني».

قلت: فعلى أن السَّكَر الخَلُّ أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمّون الخلّ السَّكَر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبي لَيْلى والكَلْبِيّ وغيرهم ممن تقدّم ذكرهم، كلهم قالوا: السَّكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكَر اسم للخمر وما يُسكر، وأنشدوا:
بئس الصُّحاة وبئس الشَّربُ شَربهُم إذا جرى فيهم المُزّاء والسّكَر
والرزق الحسن: ما أحله الله من ثمرتيهما. وقيل: إن قوله «تتخذُون مِنه سَكَراً» خبرٌ معناه الاستفهام بمعنى الإنكار؛ أي أتتخذون منه سكراً وتَدعون رزقاً حسناً الخلَّ والزبيبَ والتمر؛ كقوله: { فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكَر الطُّعم، يقال: هذا سَكَر لك أي طُعم. وأنشد:
جعلـتَ عَيْـبَ الأكْرَمِين سَكَـراً
أي جعلتَ ذمهم طُعماً. وهذا اختيار الطبري أن السّكَر ما يُطعم من الطعام وحَلّ شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد؛ مثل
{ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ }
[يوسف:86] وهذا حسن ولا نسخ .." . انتهى

و بيان اختيار الإمام الطبري المذكور ما يلي :

" وقال آخرون: السَّكَرَ: هو كلّ ما كان حلالاً شربه، كالنبـيذ الـحلال والـخـلّ والرطَب. والرزق الـحسن: التـمر والزبـيب. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي داود الواسطيّ، قال: ثنا أبو أسامة، قال: أبو رَوْق: ثنـي قال: قلت للشعبـيّ: أرأيت قوله تعالـى: { تَتَّـخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } أهو هذا السَّكَر الذي تصنعه النَّبَط؟ قال: لا، هذا خمر، إنـما السكر الذي قال الله تعالـى ذكره: النبـيذ والـخـلّ والرزق الـحسن: التـمر والزبـيب.

حدثنـي يحيى بن داود، قال: ثنا أبو أسامة، قال: وذكر مـجالد، عن عامر، نـحوه.

حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن لـيث، عن مـجاهد: { تَتَّـخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } قال: ما كانوا يتـخذون من النـخـل النَّبـيذ، والرزق الـحسن: ما كانوا يصنعون من الزبـيب والتـمر.

حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن أبـي رَوْق، عن الشعبـيّ، قال: قلت له: ما تتـخذون منه سَكَراً؟ قال: كانوا يصنعون من النبـيذ والـخـلّ قلت: والرزق الـحسن؟ قال: كانوا يصنعون من التـمر والزبـيب.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير، عن مـجالد، عن الشعبـيّ، قال: السَّكَر: النبـيذ والرزق الـحسن: التـمر الذي كان يؤكل.

وعلـى هذا التأويـل، الآية غير منسوخة، بل حكمها ثابت.

وهذا التأويـل عندي هو أولـى الأقوال بتأويـل هذه الآية، وذلك أن السكر فـي كلام العرب علـى أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثانـي: ما طُعِم من الطعام، كما قال الشاعر:
جَعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا
أي طعماً. والثالث: السُّكُون، من قول الشاعر:
جَعَلَتْ عينْ الـحَرُورِ تَسْكُرُ
وقد بيَّنا ذلك فـيـما مضى. والرابع: الـمصدر من قولهم: سَكِرَ فلان يَسْكَرُ سُكْراً وسَكْراً وسَكَراً. فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراماً بـما قد دللنا علـيه فـي كتابنا الـمسمى: «لطيف القول فـي أحكام شرائع الإسلام» وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان الـمنسوخ هو ما نَفَـى حكمه الناسخ وما لا يجوز اجتـماع الـحكم به وناسخه، ولـم يكن فـي حكم الله تعالـى ذكره بتـحريـم الـخمر دلـيـل علـى أن السَّكَر الذي هو غير الـخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام إذ كان السكر أحد معانـيه عند العرب، ومن نزل بلسانه القرآن هو كلّ ما طعم، ولـم يكن مع ذلك، إذ لـم يكن فـي نفس التنزيـل دلـيـل علـى أنه منسوخ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت علـيه الأمة، فوجب القول بـما قلنا من أن معنى السَّكَرَ فـي هذا الـموضع: هو كلّ ما حلّ شربه مـما يتـخذ من ثمر النـخـل والكرم، وفسد أن يكون معناه الـخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج من أن يكون معناه السَّكَر نفسه، إذ كان السَّكَر لـيس مـما يتـخذ من النَّـخْـل والكَرْم، ومن أن يكون بـمعنى السكون.

وقوله: { إنَّ فِـي ذلكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يقول: فـيـما إن وصفنا لكم من نعمنا التـي آتـيناكم أيها الناس من الأنعام والنـخـل والكرم، لدلالة واضحة وآية بـينة لقوم يعقلون عن الله حججه ويفهمون عنه مواعظه فـيتعظون بها " . انتهى

* و كلمة " السكر " الواردة في الآية تحتمل ذلك المعنى ، و تكون ألصق بالسياق ، و أنسب لمعنى الامتنان المسوقة الآيات لبيان بعض وجوهه ، و خروجا مما لا ضرورة القول به من النسخ ،

* جاء في الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ ، كِتَابُ الْمَنَاقِبِ ، فَضْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ :
" رَجُلًا جَلَبَ سَكَرًا إِلَى الْمَدِينَةَ فَكَسَدَ عَلَيْهِ ، فَقَالُوا لَهُ

ح 4146 وقال مسدد : ثنا حماد بن زيد ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين : قال : إن " رجلا جلب سكرا إلى المدينة فكسد عليه ، فقالوا له : ائت عبد الله بن جعفر ، فأتاه فاشتراه منه بده دوازده وقال : من شاء أخذ فقال الرجل : آخذ معهم ؟ قال : خذ " *


هذا و الله تعالى أعلم

و الموضوع الأصل : هل إباحة الخمر - قبل التحريم - ثبتت بنص كتاب الله عزَو جلَ ؟
 
تصويب و استدراك

وقعت بعض الأخطاء سهوا ، و وجب تصحيحها :

فلا يبين لها وجه معتبرا : الصواب : معتبر
و لا ليست إخبارا عن حكم شرعي : الصواب : و ليست
إلا إذا توارد الحكمين الشرعيين المتعارضين : الصواب : الحكمان الشرعيان المتعارضان
و خروجا مما لا ضرورة القول به من النسخ : الصواب : للقول به

فمعذرة ثم معذرة
 
يؤيد ما قال الدكتور (أبو بكر)، فهم عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى وغفر لهما.
قال عبدُ الملك بن عمرَ بن عبد العزيز لأبيه: يا أبتِ، مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القُدور.فقال له: لا تَعجل يا بنيّ، فإن الله تعالى ذَم الخمر في القرآن مرتين وحَرَّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحقّ على الناس جملةً، فيدعوه، وتكونَ فتنة. انظر: العقد الفريد، ابن عبد ربه 1/40.

فعمر هنا اعتبر أن النص في الآية الكريمة ( في سورة النحل) ذم ، وهو صحيح.

فالآية الكريمة تتحدث عن واقع حال الناس الذين كانوا يتخذون من النخيل والأعناب:
1. سكراً (الخمر بحسب من فسره بذلك).
2. رزقا ًحسناً (العنب والتمر ـ بحالات درجة نضجه ـ ونواه والدبس والخل والانتفاع بورق الشجر وساقه.. )

وفي الآية الكريمة تعريض بالخمر بحسب مفهوم المخالفة، والعطف الذي يفيد المغايرة...
فهي ليست " رزقاً حسناً ".

والإشارة بأنها ليست رزقاً حسناً، ذمٌّ لها لا مدح (كما قال عمر).

وتستطيع بعد تقرير ذلك الاستشهاد بآيات وأحاديث تحث على التماس الرزق الطيب والابتعاد عما فيه حرمة أو حتى شبهة، وأنت أستاذنا في ذلك.
 
عودة
أعلى