يقول الله سبحانه و تعالى في الآية 69 من سورة المائدة :
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
"موقع الآية دقيق و معناها أدق و إعرابها تابع لدقة الأمرين " هكذا بدأ ابن عاشور رحمه الله تفسيره لهذه الآية .
و قد اختلف القراء في قراءة كلمة" الصابئون "و المفسرون في معناها و إعرابها:
فقد قرئت :
الصابئون :قرأها الجمهور بالرفع
الصابون : قرأها نافع و أبو جعفر.
الصابئين : قرأها ابن مسعود و ابن كثير و أبي بن كعب.
الصابيون: عن الحسن بن أبي الحسن و الزهري ( و حمزة وقفا ).
الصابين :قرأها عثمان بن عفان و عائشة و أبي بن كعب و سعيد بن جبير و الجحدري.
ويروى عن عبد الله (ابن مسعود ) أنه قرأ " يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا و الصابئون و النصارى..."
ما جاء في تفسير الأية :
معنى " الصابئون " :
قيل عنهم أنهم :
* فئة تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه و سلم و عبدت الله وحده على غير نحلة معينة( الظلال ) .
* طائفة من النصارى و المجوس ليس لهم دين , قاله مجاهد . و قال قتادة :هم قوم يعبدون الملائكة و يصلون إلى غير القبلة و يقرؤون الزبور ( ابن كثير و الألوسي )
* قوم يعبدون الكواكب، و لهم قولان. الأول: أن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمربتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه، وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم، ( الرازي )
*الصابون : من صبا يصبو : لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات و لم يتبعوا شرعا و لا عقلا ( الشوكاني و البيضاوي ) .
تفسير الآية :
1 - "إن الذين آمنوا ":
روي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم أي المنافقون ( و كذلك عن الزجاج ) .
و روي عن القاضي أنهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه و سلم مخلصون أو منافقون .
2 -" و الصابئون" :
ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال: والصابئين و لذلك وقع الاختلاف بين المفسرين :
1- قال ابن كثير : لما طال الفصل حسن العطف بالرفع .
2- ذهب الرازي مذهبين :
الأول : وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصابئون بالابتداء على نية التأخير، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك، فحذف خبره، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً، فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأزال ذنبهم، حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك. (وافقه الشوكاني و الألوسي )
الثاني: وهو قول الفراء أن كلمة { إن } ضعيفة في العمل ههنا، وبيانه من وجوه:
الأول: أن كلمة { إن } إنما تعمل لكونها مشابهة للفعل، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة.
الثاني: أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعمل في الاسم فقط، أما الخبر فإنه بقي مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير، وهذا مذهب الكوفيين.
الثالث: أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها، والأمر ههنا كذلك، لأن الاسم ههنا هو قوله { ٱلَّذِينَ } وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض. أي إنه إذا كان اسم { إن } لا يظهر فيه أثر الإعراب، جاز للمعطوف عليه النصب على إعمال حرف إن ، و جاز الرفع على إسقاط عمله،
ثم ذكر الرازي رأيا ثالثا فقال : يجوز بعد ذكر الاسم و خبره الرفع و النصب في المعطوف عليه . و جاز هذا في المعطوف عليه لأن له خبر مضمر و حكم الخبر المضمر الرفع بالابتداء .
3- القرطبي: يقول :
«إنّ» بمعنى «نَعَم» فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات:
بَكرَ العواذِلُ في الصَّبا حِ يَلُمْنَني وأَلُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلاَ كَ وقد كبِرت فقلت إنّهْ
قال الأخفش: «إنَّه» بمعنى «نَعَم»، وهذه «الهاء» أدخلت للسكت.
4- الزمخشري:
وهذه إضافة لطيفة منه رحمه الله إذ أنه يتساءل : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ ثم يجيب : فائدته التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظنّ بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، أي خرجوا.
3 - " من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا "
الجملة في محل رفع مبتدأ و خبره " فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون" أو في محل نصب بدل من اسم " إن " و ما عطف عليه , و هو بدل بعض و لا بد فيه من الضمير .
4 - " فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون "
الخوف يتعلق بالمستقبل و الحزن بالماضي فقال " لا خوف عليهم " بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة . " ولا هم يحزنون " بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم و أشرف و أطيب مما كانت حاصلة لهم في الدنيا ( الرازي )
ما جاء في التحرير و التنوير:
يبدأ رحمه الله بالتذكير بدقة موقع الآية و معناها و إعرابها فيقول :
موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين. فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة (62) . ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعاً لدقّة موقع هذه. وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله: { والصابئون } بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم { إنّ } في ظاهر الكلام.
فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها.
أولا : موقع الآية :
لموقع الآية وجهان :
الوجه الأول أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقوله: { قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل }[المائدة: 68] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام: هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ؛ فوقع قوله: { إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا } الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر. والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون. وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هَادوا والصابون والنّصارى .
الوجه الثاني أن تكون هذه الجملة مؤكِّدة لجملة { ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا } [المائدة: 65] ، فبعد أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيداً للوعد، ووصلاً لربط الكلام، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم.
أما سبب التصدير بذكر الذين آمنوا في طليعة المعدودين فيرجعه الشيخ محمد الطاهر إلى إدماج التنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم (كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله: " إنّ الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه " ) فكان المسلمون، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، أوّلين في هذا الفضل.
ثانيا معنى الآية:
1 - يستهل تفسير الآية بشرح موقع "إن " في الآية : فافتتاحها بحرف { إنّ } هنا للاهتمام بالخبر لعروّ ( خلو ) المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد
2- من هم المعنيون في قوله : " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " ؟ يجيب قائلا: تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: { من آمن بالله واليوم الآخر } ، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلاّ بالله واليوم الآخر؟ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب: .... والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً.
3 – الصابئة
والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أوما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي «دائرة المعارف الإسلامية» أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص ب ع) أي غطس عرفت به طائفة (المنديا) وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى....
وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا: إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى رُوحانياتها .
4- و كعادة الشيخ ابن عاشور تناول الآية بالتشريح فكتب:
فالّذي أراه أن يجعل خبر (إنّ) محذوفاً. وحذفُ خبر (إنّ) وارد في الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه في «كتابه». وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله: { فلا خوف عليهم } إلخ. ويكون قوله: { والّذين هادوا } عطفَ جملة على جملة، فيجعل { الّذين هادوا } مبتدأ، ولذلك حقّ رفع ما عُطف عليه، وهو { والصابُون }. وهذا أولى من جعل { والصابون } مَبْدأ الجملة وتقدير خبر له، أي والصابون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأنّ ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك، ويكون قوله: { من آمن بالله } مبتدأ ثانياً، وتكون (من) موصولة، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً، أي من آمن منهم، وجملة { فلا خوف عليهم } خبراً عن (مَن) الموصولة، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط. وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى:{ إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم }[البروج: 10] الآية، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن (مَن) الموصولة وليس خبر ـ إنّ ـ على عكس قول ضابي بن الحارث:
ومن يَك أمسى بالمدينة رحلُه فإنّي وقبّار بها لغريب
فإنّ وجود لام الابتداء في قوله: «لغريب» عيَّن أنّه خبر (إنّ) وتقديرَ خبر عن قبّار، فلا ينظّر به قوله تعالى: { والصابون }.
ومعنى { من آمن بالله واليوم الآخر } من آمن ودَام، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكارِ البعث؛ فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة. ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب.
ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: { نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه }[المائدة: 18] وقولِهم{ لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة } [البقرة: 80]، وقول النّصارى: إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها.
5 – و كأنه رحمه الله علم بما قد يدور في أذهان بعض المشككين أو الطاعنين فانبرى يدافع عن القرآن و الرسول صلى الله عليه و سلم و المسلمين فقال و أبدع :
فممّا يجب أن يُوقن به أنّ هذا اللّفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النّبيء صلى الله عليه وسلم وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرؤوه، وكُتب في المصاحف، وهم عَرب خلّص، فكان لنا أصلاً نتعرّف منه أسلوباً من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالاً غير شائع لكنّه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أنّ من الشائع في الكلام أنّه إذا أتي بكلام موكّد بحرف (إنّ) وأتي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفاً هو غريب عن ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعاً ليدلّوا بذلك على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدّرَ السامع خبراً يقدّره بحسب سياق الكلام.
ومن ذلك قوله تعالى:{ أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه }[التوبة: 3]،
أي ورسوله كذلك، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً، كان الإتيان بلفظهم مرفوعاً تنبيهاً على ذلك. لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعاً إلاّ بعد أن تستوفي (إنّ) خبرها، إنَّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّراً، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاظر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضاً استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين، وهما للدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم. والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود. فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفاً على اسم (إنّ) فلم يكن عطفه عطف جملة.وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحجّ مقدّماً على النّصارى ومنصوباً، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنّهم أمام عدل الله يساوون غيرهم.
ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله: { وعمل صالحاً } ، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن، به، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى:{ وما أدراك ما العقبة ..... ثم كان من الّذين آمنوا }[البلد: 12 ـ 17].
اهـــ .
و الله أعلم .
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
"موقع الآية دقيق و معناها أدق و إعرابها تابع لدقة الأمرين " هكذا بدأ ابن عاشور رحمه الله تفسيره لهذه الآية .
و قد اختلف القراء في قراءة كلمة" الصابئون "و المفسرون في معناها و إعرابها:
فقد قرئت :
الصابئون :قرأها الجمهور بالرفع
الصابون : قرأها نافع و أبو جعفر.
الصابئين : قرأها ابن مسعود و ابن كثير و أبي بن كعب.
الصابيون: عن الحسن بن أبي الحسن و الزهري ( و حمزة وقفا ).
الصابين :قرأها عثمان بن عفان و عائشة و أبي بن كعب و سعيد بن جبير و الجحدري.
ويروى عن عبد الله (ابن مسعود ) أنه قرأ " يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا و الصابئون و النصارى..."
ما جاء في تفسير الأية :
معنى " الصابئون " :
قيل عنهم أنهم :
* فئة تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول صلى الله عليه و سلم و عبدت الله وحده على غير نحلة معينة( الظلال ) .
* طائفة من النصارى و المجوس ليس لهم دين , قاله مجاهد . و قال قتادة :هم قوم يعبدون الملائكة و يصلون إلى غير القبلة و يقرؤون الزبور ( ابن كثير و الألوسي )
* قوم يعبدون الكواكب، و لهم قولان. الأول: أن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمربتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه، وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم، ( الرازي )
*الصابون : من صبا يصبو : لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات و لم يتبعوا شرعا و لا عقلا ( الشوكاني و البيضاوي ) .
تفسير الآية :
1 - "إن الذين آمنوا ":
روي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم أي المنافقون ( و كذلك عن الزجاج ) .
و روي عن القاضي أنهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه و سلم مخلصون أو منافقون .
2 -" و الصابئون" :
ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال: والصابئين و لذلك وقع الاختلاف بين المفسرين :
1- قال ابن كثير : لما طال الفصل حسن العطف بالرفع .
2- ذهب الرازي مذهبين :
الأول : وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصابئون بالابتداء على نية التأخير، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك، فحذف خبره، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً، فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأزال ذنبهم، حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك. (وافقه الشوكاني و الألوسي )
الثاني: وهو قول الفراء أن كلمة { إن } ضعيفة في العمل ههنا، وبيانه من وجوه:
الأول: أن كلمة { إن } إنما تعمل لكونها مشابهة للفعل، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة.
الثاني: أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعمل في الاسم فقط، أما الخبر فإنه بقي مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير، وهذا مذهب الكوفيين.
الثالث: أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها، والأمر ههنا كذلك، لأن الاسم ههنا هو قوله { ٱلَّذِينَ } وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض. أي إنه إذا كان اسم { إن } لا يظهر فيه أثر الإعراب، جاز للمعطوف عليه النصب على إعمال حرف إن ، و جاز الرفع على إسقاط عمله،
ثم ذكر الرازي رأيا ثالثا فقال : يجوز بعد ذكر الاسم و خبره الرفع و النصب في المعطوف عليه . و جاز هذا في المعطوف عليه لأن له خبر مضمر و حكم الخبر المضمر الرفع بالابتداء .
3- القرطبي: يقول :
«إنّ» بمعنى «نَعَم» فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات:
بَكرَ العواذِلُ في الصَّبا حِ يَلُمْنَني وأَلُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلاَ كَ وقد كبِرت فقلت إنّهْ
قال الأخفش: «إنَّه» بمعنى «نَعَم»، وهذه «الهاء» أدخلت للسكت.
4- الزمخشري:
وهذه إضافة لطيفة منه رحمه الله إذ أنه يتساءل : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ ثم يجيب : فائدته التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظنّ بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، أي خرجوا.
3 - " من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا "
الجملة في محل رفع مبتدأ و خبره " فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون" أو في محل نصب بدل من اسم " إن " و ما عطف عليه , و هو بدل بعض و لا بد فيه من الضمير .
4 - " فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون "
الخوف يتعلق بالمستقبل و الحزن بالماضي فقال " لا خوف عليهم " بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة . " ولا هم يحزنون " بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم و أشرف و أطيب مما كانت حاصلة لهم في الدنيا ( الرازي )
ما جاء في التحرير و التنوير:
يبدأ رحمه الله بالتذكير بدقة موقع الآية و معناها و إعرابها فيقول :
موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين. فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة (62) . ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعاً لدقّة موقع هذه. وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله: { والصابئون } بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم { إنّ } في ظاهر الكلام.
فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها.
أولا : موقع الآية :
لموقع الآية وجهان :
الوجه الأول أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقوله: { قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل }[المائدة: 68] فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام: هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ؛ فوقع قوله: { إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا } الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر. والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون. وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هَادوا والصابون والنّصارى .
الوجه الثاني أن تكون هذه الجملة مؤكِّدة لجملة { ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا } [المائدة: 65] ، فبعد أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيداً للوعد، ووصلاً لربط الكلام، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم.
أما سبب التصدير بذكر الذين آمنوا في طليعة المعدودين فيرجعه الشيخ محمد الطاهر إلى إدماج التنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم (كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله: " إنّ الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه " ) فكان المسلمون، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، أوّلين في هذا الفضل.
ثانيا معنى الآية:
1 - يستهل تفسير الآية بشرح موقع "إن " في الآية : فافتتاحها بحرف { إنّ } هنا للاهتمام بالخبر لعروّ ( خلو ) المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد
2- من هم المعنيون في قوله : " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " ؟ يجيب قائلا: تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: { من آمن بالله واليوم الآخر } ، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلاّ بالله واليوم الآخر؟ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب: .... والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً.
3 – الصابئة
والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أوما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي «دائرة المعارف الإسلامية» أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص ب ع) أي غطس عرفت به طائفة (المنديا) وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى....
وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا: إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى رُوحانياتها .
4- و كعادة الشيخ ابن عاشور تناول الآية بالتشريح فكتب:
فالّذي أراه أن يجعل خبر (إنّ) محذوفاً. وحذفُ خبر (إنّ) وارد في الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه في «كتابه». وقد دلّ على الخبر ما ذكر بعده من قوله: { فلا خوف عليهم } إلخ. ويكون قوله: { والّذين هادوا } عطفَ جملة على جملة، فيجعل { الّذين هادوا } مبتدأ، ولذلك حقّ رفع ما عُطف عليه، وهو { والصابُون }. وهذا أولى من جعل { والصابون } مَبْدأ الجملة وتقدير خبر له، أي والصابون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأنّ ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك، ويكون قوله: { من آمن بالله } مبتدأ ثانياً، وتكون (من) موصولة، والرّابط للجملة بالّتي قبلها محذوفاً، أي من آمن منهم، وجملة { فلا خوف عليهم } خبراً عن (مَن) الموصولة، واقترانها بالفاء لأنّ الموصول شبيه بالشرط. وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى:{ إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم }[البروج: 10] الآية، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبراً عن (مَن) الموصولة وليس خبر ـ إنّ ـ على عكس قول ضابي بن الحارث:
ومن يَك أمسى بالمدينة رحلُه فإنّي وقبّار بها لغريب
فإنّ وجود لام الابتداء في قوله: «لغريب» عيَّن أنّه خبر (إنّ) وتقديرَ خبر عن قبّار، فلا ينظّر به قوله تعالى: { والصابون }.
ومعنى { من آمن بالله واليوم الآخر } من آمن ودَام، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكارِ البعث؛ فإنّ كثيراً من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة. ومنهم من جعل عُزيراً ابناً لله، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب.
ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: { نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه }[المائدة: 18] وقولِهم{ لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّاماً معدودة } [البقرة: 80]، وقول النّصارى: إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها.
5 – و كأنه رحمه الله علم بما قد يدور في أذهان بعض المشككين أو الطاعنين فانبرى يدافع عن القرآن و الرسول صلى الله عليه و سلم و المسلمين فقال و أبدع :
فممّا يجب أن يُوقن به أنّ هذا اللّفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النّبيء صلى الله عليه وسلم وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرؤوه، وكُتب في المصاحف، وهم عَرب خلّص، فكان لنا أصلاً نتعرّف منه أسلوباً من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالاً غير شائع لكنّه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أنّ من الشائع في الكلام أنّه إذا أتي بكلام موكّد بحرف (إنّ) وأتي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفاً هو غريب عن ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعاً ليدلّوا بذلك على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدّرَ السامع خبراً يقدّره بحسب سياق الكلام.
ومن ذلك قوله تعالى:{ أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه }[التوبة: 3]،
أي ورسوله كذلك، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً، كان الإتيان بلفظهم مرفوعاً تنبيهاً على ذلك. لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعاً إلاّ بعد أن تستوفي (إنّ) خبرها، إنَّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّراً، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاظر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضاً استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين، وهما للدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم. والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود. فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفاً على اسم (إنّ) فلم يكن عطفه عطف جملة.وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحجّ مقدّماً على النّصارى ومنصوباً، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنّهم أمام عدل الله يساوون غيرهم.
ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله: { وعمل صالحاً } ، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن، به، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى:{ وما أدراك ما العقبة ..... ثم كان من الّذين آمنوا }[البلد: 12 ـ 17].
اهـــ .
و الله أعلم .