من بدائع التحرير و التنوير : في قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض"(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مستعينا بالله و مستجيبا لاقتراح أخينا عبد الرحمن الشهري- وفقه الله - أبدأ الحلقة الأولى من وقفات على إشارات مميزة في التحرير و التنوير . و الله الموفق و عليه التكلان .
فقد فسر الجمهور الأمانة بـ " كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر و نهي و شأن دين و دنيا . فالشرع كله أمانة."
و روي عن ابن مسعود قوله : هي أمانات المال ( الودائع ...) و الفرائض .
و عن أبي بن كعب أنها ائتمان المرأة على فرجها .
و عن أبي الدرداء أنها غسل الجنابة .
و عن الضحاك أنها الدين .
كما فسرت الأمانة بالطاعة : لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء ( الزمخشري )
و فسرها آخرون بالتكليف ( و قبول الأوامر و النواهي بشرطها ) و سمي أمانة لأن من قصََر فيه فعليه الغرامة و من وفََر فيه فله الكرامة .
و قال آخرون إنها الأعضاء : العين و الأذن و اليد و الرجل و الفرج و اللسان .
و فسرها ابن عجيبة بــ " ما أخذ عليهم ( بني آدم ) من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته " .
وقد ذكر ابن عاشور أن المفسرين - رحمهم الله و إياه - اختلفوا في معنى الأمانة على عشرين قولا , و بعضها متداخل في بعض ( من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية ) .
أما قوله تعالى " إنه كان ظلوما جهولا " فقد فُـسر بظلم الإنسان نفسه في خطيئته و بجهله بربه أو بجهله بعاقبة ما تحمـََل .
ثانيا : ما قاله ابن عاشور :
ركز ابن عاشور على أربعة آراء في معنى الأمانة و هي مرتبة حسب ما بدا لي من ترجيحه هو :
1- الأمانة هي العقل :وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة تودع عند من يحتفظ بها.
والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها. وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به. فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره. وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان.
2 - الأمانة هي الخلافة :وهي تندرج تحت معنى العقل أيضا . فهو يقول : خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى:{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }[البقرة: 30] ثم قوله:{ وعلم آدم الأسماء كلها }[البقرة: 31] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها.
3 - الأمانة هي الإيمان أي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى:{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } الأعراف [172]. فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة مُلازِمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإِدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قولُه:{ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات }[الأحزاب: 73]، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمان بوحدانية الله.
4 - الأمانة هي ما يؤتمن عليه : وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث: " إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة " أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال.
وفي تفسيره لقوله عز و جل " إنه كان ظلوما جهولا " يبين - رحمه الله - أن هذه جملة اعتراضية و معناها استئناف بياني . ثم ينفي أن تكون هذه الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الانسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه و جهله . فمعنى { كان ظلوماً جهولاً } أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً: بعضُه عن عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ باسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولاً، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل.
وفي الختام أرجو من الإخوة أن يمدوني بنصائحهم في طريقة العرض هذه . كما أطلب منهم أن يضيفوا ما يرونه صالحا أو مخالفا لرأي ابن عاشور من خلال ما علموه من تفاسير أخرى .
و الله أسأل أن ينفعني و إياكم بما علمنا إنه ولي ذلك و القادر عليه .
بارك الله فيك أخي الفاضل ، وأشكرك على الشروع في تنفيذ فكرتك حول تفسير ابن عاشور . لعلك تقوم بوضع رقم لكل حلقة حتى يتسنى مستقبلاً ترتيبها حسب كتابتك لها. وفقك الله ونفعنا وإياك بالعلم.
شكر ألله لك أبا زينب هذا المشروع ، ولعلك تختار بعض الآيات المشكلة وتعرض رأي الطاهر بن عاشور فيها .
اما هذه الآية التي هي من الآيات المشكلة في التفسير ، فإني قد استعرضت أراء المفسرين فيها ، وقد ظهر لي بعد ذلك أن ( أل ) في الأمانة للعهد ، وهذا العهد لمن كُلِّم أولاً بهذا الخطاب من الخلق ـ وهم السموات والأرض والجبال والإنسان ـ فاختار الإنسان حمل هذه الأمانة ، واعتذرت عنها هذه المخلوقات .
والأمانة ـ فيما ظهر لي ـ هي أمانة التكليف ، وهي حرية الاختيار في قبول الأمروالنهي ، وإذا تأملت أقوال المفسرين في الأمانة وجدتها أمثلة لأمور تكليفية ، وليس مرادهم أن هذا الممثل به هو الأمانة المعروضة فقط ، بل أرادوا أن ينبهوا على جنس الأمانة المعروضة ، والله أعلم .
وإذا تدبرت حال المخلوقات وجدت أن كل المخلوقات سوى الإنسان ـ والجِنُّ تبعٌ لهم ـ يفعلون الأمر ، ولا يمكن لهم المعصية ، فليس لهم اختيار في ذلك ، كذا هي عبوديتهم التي خلقهم الله لها .
أما الإنسان فله حرية الاختيار في الأمر الشرعي ، حرية أن يفعل أو لا يفعل ، لذا كان الناس على فريقين : أهل الإيمان ، وأهل الكفر .
فعبودية المخلوقات لله تختلف ، ولا يخرج أحد عن عبودية الله ، لكن كلٌ بحسبه ، لذا أخبرنا الله عن سجود الخلق وعن تسبيحهم ، وعن بعض أعمال الطاعات الأخرى لهم ، فهم يعملونها طوعًا ، وليس لهم اختيارفي أن يفعلوا أو لا يفعلوا كما هو الحال في الإنسان .
فوائد متممة :
الأولى : إن الجن تبع للإنس في الأحكام الشرعية ، وهم من جنس الإنس في التكليف ، كما أنه مخاطبون بما يُخاطب به الإنس من التكاليف ، فكل تكليف خوطب به الإنس فالجنُّ تبع لهم ، وهذا ظاهر باستقراء حال الجن ومرتبهم من الإنس ، لذا لو استشكل مستشكل لم لم يُذكر الجن في حمل الأمانة مع أنهم مثل الإنس في هذا الأمر ، فهذا التنبه هو الجواب المناسب له ، والله أعلم .
الثانية : الأمر في القرآن على قسمين :
الأول : الأمر الكوني القدري ، وهذا لا يمكن لأحد من الخلق كائنًا من كان أن يخرج عنه أو يستطيع مخالفته ، ومن أمثلته قوله تعالى : ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها ) ، وهذا الأمر القدري الكوني لا يستطيع أحد ردَّه ولا مخالفته ، لذا قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام ( يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك) .
الثاني : الأمر الشرعي ، ويدخل فيه جميع أوامر الله الشرعية التي أمر الله بها المكلفين من عباده أن يفعلوها ، والناس في هذه الأوامر الشرعية على قسمين : بعضهم يفعل فيكون من المطيعين ، وبعضهم لا يفعل فيكون من العاصين ، وهذا القسم هو الذي يدخله اختيار الإنسان ، وبه صار مكلَّفا ، والله أعلم .
هل أفهم من كلام العلامة إبن عاشور أن العرض للأمانة على السماوات والأرض والجبال كان عرضا حقيقيا؟؟
((إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ))
هل من الممكن أن يفهم مفسر أن الكلام عن العرض على السماوات والارض والجبال كان للدلالة على عظم أمر الامانة المعروضة؟---وإلا فهل يملك مخلوق أن يأبى ما عرض عليه المولى؟؟
أستاذنا و شيخنا مساعد الطيار بارك الله فيك و في علمك
كنت و مازلت أنتظر و أتابع مداخلاتكم القيمة لما فيها من فوائد مهمة و نصائح جمة .
فجزاكم الله كل خير و زادكم من فضله .
أخي الفاضل جمال
جوابا على أسئلتك الثلاثة أقول :
1-هل أفهم من كلام العلامة إبن عاشور أن العرض للأمانة على السماوات والأرض والجبال كان عرضا حقيقيا؟؟
لاشك أخي جمال أنك اطلعت على كلام ابن عاشور فهو يؤكد أن هذا العرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوعِ الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإِنسان علم أن المراد بالإِنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لمَا كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباطٌ بتعذيب المنافقين والمشركين، ولَمَا كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانةَ حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى. فتعريف { الإنسان } تعريف الجنس، أي نوع الإِنسان
2-هل من الممكن أن يفهم مفسر أن الكلام عن العرض على السماوات والارض والجبال كان للدلالة على عظم أمر الامانة المعروضة؟
الجواب هنا أيضا نعم .فهو يقول : وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص { السماوات والأرض } بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف الجبال على{ الأرض } وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي شاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله }
[الحشر: 21].
3- هل يملك مخلوق أن يأبى ما عرض عليه المولى؟؟
الإباء هنا لم يكن من باب العصيان كإباء إبليس ( في قوله تعالى : "إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين " الحجر31 ) و ذلك لسببين ( الرازي) :
• أولا : الأمانة هنا كانت عرضا بينما الأمر بالسجود لآدم كان فرضا .
• ثانيا :إباء إبليس كان استكبارا و إباء السموات و الأرض كان استصغارا بدليل أنهن أشفقن منها .
و أكمل بلطيفة ذكرها الرازي : في قوله " و حملها الإنسان " إشارة إلى أن في الأمانة مشقة لذلك لم يقل فأبين أن يقبلنها و قبلها الإنسان . ثم إن في الحمل إشارة إلى استحقاق الأجر عليه أي على حمل الأمانة بل و استحقاق الزيادة في حال رعايتها حق الرعاية .
أخي الهاوي
مرحبا بك بين أهلك . أرجو المعذرة لتأخري في الرد على تساؤلاتك . أعدك بالجواب في أقرب وقت بإذن الله ( غدا ؟ )
يقول الله سبحانه و تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} الأحزاب 72.
وقع خلاف بين العلماء في كيفية العرض و حقيقته .فمنهم من رأى أن العرض حقيقة , وقع على السموات و الأرض و الجبال و الإنسان . و منهم من رأى أن العرض مجاز و تمثيل: فالمعنى أن الله قايس ثقل الأمانة بقوة السموات و الأرض و الجبال فرأى أنها لا تطيقها و أنها لو تكلمت لأبت و أشفقت فعبر عن هذا المعنى بقوله " إنا عرضنا الأمانة " و هذا كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه . و أنت تريد قايستُ قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه.
كما وقع الخلاف في المراد بالإنسان هل هو آدم فقط ؟ أم نوع الإنسان كجنس ؟ أم قابيل قاتل أخيه هابيل ؟ أم المنافق و الكافر ؟.
وهو نفس الخلاف الذي وقع في تفسير قوله تعالى: " و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " الأعراف 172.
أي أن الله أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم و خلقهم على فطرة التوحيد و الإسلام .و أشهد كل واحد على نفسه من هؤلاء الذرية قائلا لهم قول إرادة و تكوين لا قول وحي و تبليغ : ألست بربكم فقالوا بلسان الحال لا بلسان المقال : بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة .
و سبب هذا الإشهاد ألا يعتذروا يوم القيامة إذا أشركوا : إنا كنا عن التوحيد غافلين أي لم ينبهنا إليه أحد . فلا عذر بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله و وجود العقل و تكوين الفطرة .
و خلْق الناس على فطرة التوحيد مقرر في آية أخرى وهي قوله تعالى : " فأفم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " – الروم 30- . و في الصحيحين ما يؤيد ذلك فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " .
و قد اختلف العلماء في هذه الآية على رأيين :
* رأي السلف الذين قالوا : إن الله خلق آدم و أخرج من ظهره ذريته كالذر و أحياهم و جعل لهم عقلا و إدراكا و ألهمهم ذلك الحديث و تلك الإجابة و أخذ عليهم العهد بأنه ربهم فأقروا بذلك .
* رأي الخلف الذين قالوا : هذا من قبيل التمثيل و المجاز و الاستعارة فلا سؤال و لا جواب و إنما أقام الله الأدلة الكونية على وحدانيته و ربوبيته للكون كله . و شهدت بها عقولهم و بصائرهم التي ركبها فيهم و جعلها مميزة بين الضلال والهدى فكأنه قال للخلق : أقروا بأني ربكم و لا إله غيري. و كأنه أشهدهم على أنفسهم و قال لهم ألست بربكم فقالوا : بلى .
و ربما كان هناك رأي ثالث وهو أن القصة كانت في عالم الأرواح : لما أراد الله أن يشهدهم على أنفسهم أمر إسرافيل فنفخ في الصور فحصل للأرواح هول عظيم مثل ما يحصل للناس يوم القيامة عند نفخة البعث . ثم سألهم و أشهدهم على أنفسهم و عند ذلك افترقت الأرواح بحسب قوة أنوارها و ضعفها فمن الأرواح من أجاب محبة و هي أرواح المؤمنين و منها من أجاب كرها وهي أرواح الكافرين .
فالمراد من الآية أن الله تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم و لهذا قال "أن تقولوا " أي لئلا تقولوا يوم القيامة " إنا كنا عن هذا " أي التوحيد "غافلين" أي لم ننبه إليه .
ثانيا :
يقول الله عز وجل : { و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } –الذاريات 56-
يتبين من الآية أن الخلق ليس إلا للعبادة فالمقصود من إيجاد الثقلين العبادة. فاللام في " ليعبدون" لام العلة أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي. و التقدير لإرادتي أن يعبدون . و يدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان " ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون " .
و لكن ابن عاشور رحمه الله يقول : .. فالحصر المستفاد من قوله : " وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون " قصر على علة خلق الله الإنس و الجن على إرادته أن يعبدوه و الظاهر أنه قصر إضافي –أي إلا ليعبدوني وحدي أي لا يشركوا غيري في العبادة فهو رد للإشراك – و ليس هو قصرا حقيقيا فإن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا نحيط بها . فقد ذكر حٍِكَما للخلق غير هذه : " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم"- هود 118- بل ذكر حكمة خلق بعض الإنس كقوله في خلق عيسى " و لنجعله آية للناس و رحمة منا " – مريم21- . اهــ
ثالثا :
أما محاورك الملحد فلن يفيده الإنكار شيئا .فكلامه حجة عليه
اسأله : أليس هو حيوان ناطق ؟ من الذي أنطقه ؟ لقد زرع الله فينا خاصية الكلام و جعل تعلم الكلام من فطرتنا . فهل ينكر هذا ؟
ضع أي طفل في بيئة تتكلم العربية سيصبح عربي اللغة و لو وضعته في بيئة تتكلم الإنكليزية لأصبح إنكليزي اللغة و هكذا .. فالله زرع في فطرتنا الإيمان به شئنا أم أبينا . فلو وضعنا صغيرا في بيئة تؤمن بالله لأصبح مؤمنا به و لو وضعناه في بيئة تؤمن باتباع الهوى لأصبح كذلك ( " أرأيت من اتخذ إلهه هواه .." الفرقان 43 ) .
كذلك الرضيع من الذي غرس فيه خاصية الرضاعة ؟ إنه الخالق الحكيم .فكما أودع فيك فطريا حب الرضاعة كي تعيش فقد أودع فيك فطريا آيات التوحيد كي تعبده . شعر الرضيع بذلك أم لم يشعر . و اعترفت بذلك أم أنكرت .
جزاكم الله خيراً أخي الكريم (أبوزينب) . جهد موفق ما شاء الله . وأؤيد هذا الاقتراح من الشيخ عبدالرحمن الشهري فكتاب التحرير والتنوير سفر نفيس ، وكثير من المتخصصين يعرفه معرفة عامة مبهمة ، دون معرفة مميزاته وجوانب تفرده. أرجو لك التوفيق في تتبع فرائد التحرير والتنوير . ولا تنقطع بارك الله فيك فنحن نتابع هذه الحلقات .
((وعندي أنّ ضمير { به } راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل
{ رفعه الله إليه }
[النساء: 158]، ويعمّ قولُه { أهللِ الكتاب } اليهودَ، والنّصارى، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب.
والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى ـ عليه السلام ـ.))
لاحظوا قوله--هو يريد أن يكون آيمان الكتابي بعيسى عليه السلام قبل وفاة الكتابي آيمانا بالرفع --أي آيمان بأن عيسى لم يصلب بل رفعه الله إليه
أما أنا فمع تقديري لرأيه إلا أنني أميل إلى رأي إبن عطية ومن حمل نفس رأيه من المفسرين والقائلين بعودة الضميرفي (قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى الكتابي كما يرى الجمهور إلا أنهم يذكرون أن الكتابي يؤمن تحت العذاب بنبوة عيسى وأنه بشر وليس ربا
قال إبن عطية في المحرر الوجيز((وقوله تعالى: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به قبل موته } اختلف المتأولون في معنى الآية فقال ابن عباس وأبو مالك والحسن بن أبي الحسن وغيرهم: الضمير في { موته } راجع إلى عيسى، والمعنى أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد إذا نزل عيسى إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى كما يؤمن سائر البشر، وترجع الأديان كلها واحداً، وقال مجاهد وابن عباس أيضاً وغيرهما: الضمير في { به } لعيسى وفي { موته } للكتابي الذي تضمنه قوله { وإن من أهل الكتاب } التقدير: وإن من أهل الكتاب أحد، قالوا: وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى روح الله، ويعلم أنه نبي ولكن عند المعاينة للموت، فهو إيمان لا ينفعه، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند المعاينة،
____________