يقول الله سبحانه و تعالى في الآية 101 من سورة النحل :
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
و قد اتفق المفسرون على أن التبديل هنا هو النسخ و استدلوا بالآية :" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " ( البقرة -106 ).
و أنقل هنا أنموذجا لتلك الآراء من تفسير الخازن ( لباب التأويل في معاني التنزيل ). يقول رحمه الله :
وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكماً آخر والله أعلم بما ينزل اعتراض دخل في الكلام، والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه، وبما يغير ويبدل من أحكامه أي هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى { قالوا إنما أنت مفتر } أي تختلقه من عندك، والمعنى: إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ؟ وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد، كما يقال: إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمر بغيره لما يرى فيه من المصلحة .
أما الشيخ ابن عاشور فقد فسر التبديل بـ :
" مطلقُ التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها ".
ثم بين سبب نزول الآية عندما وصف تعمد المشركين " التّمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفاً لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام. والمغايرة باللين والشدّة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلّق بها، فيتّخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محاملهُ مغامز يتشدّقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطراباً من القول ويزعمونه شاهداً باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشىء عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسموّ معانيه، وبعضه ناشىء عن تعمّد للتجاهل تعلّقاً بظواهر الكلام يلبّسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم، ولذلك قال تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون } ، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.
روي عن ابن عباس أنه قال: «كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمرٍ وغداً ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه» .
وهذه الكلمة أحسن ما قالهُ المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية " .
و عمد إلى تقسيم التبديل إلى قسمين موضحا كل قسم بالأمثلة :
القسم الأول : نسخ الأحكام , مثل نسخ قوله تعالى:{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }[سورة الإسراء: 110] بقوله تعالى:
{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين }[سورة الحجر: 94]. وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكوّنت الجامعة الإسلامية، وأما نسخُ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكّة فمن فسّر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.
القسم الثاني : التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسّر بعضه بعضاً ويؤوّل بعضه بعضاً، كقوله تعالى:{ والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض }في سورة الشورى (5) مع قوله تعالى:{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا }في سورة المؤمن (7)، فيأخذون بعموم{ ويستغفرون لمن في الأرض }[سورة الشورى: 5] فيجعلونه مكذّباً لخصوص{ ويستغفرون للذين آمنوا }[سورة غافر: 7] فيزعمونه إعراضاً عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.
وكذلك قوله تعالى:{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً }[سورة المزمل: 10] يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.
وكذلك قوله تعالى:{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم }[سورة الأحقاف: 9] مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }[سورة الإسراء: 15] مع قوله تعالى:{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم }[سورة النحل: 25]
ومن هذا ما يبدو من تخالف بادىء الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض{ ثم استوى إلى السماء }في [سورة فصلت: 11] مع قوله تعالى:{ والأرض بعد ذلك دحاها }من سورة النازعات (30)، فيحسبونه تناقضاً مع الغفلة عن محمل بعد ذلك من جعل (بعد) بمعنى (مع) وهو استعمال كثير، فهم يتوهّمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوَحَدات الثمانية المقرّرة في المنطق.
و لزيادة إيضاخ معنى التبديل في الآية يضيف - رحمه الله - قائلا : " فالتبديل .... هو التعويض ببدل، أي عوض. والتعويض لا يقتضي إبطال المعوّض ـ بفتح الواو ـ بل يقتضي أن يجعل شيء عوضاً عن شيء. وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوّض ـ بفتح الواو ـ جعل عِوضاً عن مثل لفظ العوض ـ بالكسر ـ في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطراباً لأن مثله قد كان بُدل ولا يتأملون في اختلاف الأغراض " .
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
و قد اتفق المفسرون على أن التبديل هنا هو النسخ و استدلوا بالآية :" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " ( البقرة -106 ).
و أنقل هنا أنموذجا لتلك الآراء من تفسير الخازن ( لباب التأويل في معاني التنزيل ). يقول رحمه الله :
وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكماً آخر والله أعلم بما ينزل اعتراض دخل في الكلام، والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه، وبما يغير ويبدل من أحكامه أي هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى { قالوا إنما أنت مفتر } أي تختلقه من عندك، والمعنى: إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ؟ وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد، كما يقال: إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمر بغيره لما يرى فيه من المصلحة .
أما الشيخ ابن عاشور فقد فسر التبديل بـ :
" مطلقُ التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها ".
ثم بين سبب نزول الآية عندما وصف تعمد المشركين " التّمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفاً لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام. والمغايرة باللين والشدّة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلّق بها، فيتّخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محاملهُ مغامز يتشدّقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطراباً من القول ويزعمونه شاهداً باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشىء عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسموّ معانيه، وبعضه ناشىء عن تعمّد للتجاهل تعلّقاً بظواهر الكلام يلبّسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم، ولذلك قال تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون } ، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.
روي عن ابن عباس أنه قال: «كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمرٍ وغداً ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه» .
وهذه الكلمة أحسن ما قالهُ المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية " .
و عمد إلى تقسيم التبديل إلى قسمين موضحا كل قسم بالأمثلة :
القسم الأول : نسخ الأحكام , مثل نسخ قوله تعالى:{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }[سورة الإسراء: 110] بقوله تعالى:
{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين }[سورة الحجر: 94]. وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكوّنت الجامعة الإسلامية، وأما نسخُ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكّة فمن فسّر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.
القسم الثاني : التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسّر بعضه بعضاً ويؤوّل بعضه بعضاً، كقوله تعالى:{ والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض }في سورة الشورى (5) مع قوله تعالى:{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا }في سورة المؤمن (7)، فيأخذون بعموم{ ويستغفرون لمن في الأرض }[سورة الشورى: 5] فيجعلونه مكذّباً لخصوص{ ويستغفرون للذين آمنوا }[سورة غافر: 7] فيزعمونه إعراضاً عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.
وكذلك قوله تعالى:{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً }[سورة المزمل: 10] يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.
وكذلك قوله تعالى:{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم }[سورة الأحقاف: 9] مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }[سورة الإسراء: 15] مع قوله تعالى:{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم }[سورة النحل: 25]
ومن هذا ما يبدو من تخالف بادىء الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض{ ثم استوى إلى السماء }في [سورة فصلت: 11] مع قوله تعالى:{ والأرض بعد ذلك دحاها }من سورة النازعات (30)، فيحسبونه تناقضاً مع الغفلة عن محمل بعد ذلك من جعل (بعد) بمعنى (مع) وهو استعمال كثير، فهم يتوهّمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوَحَدات الثمانية المقرّرة في المنطق.
و لزيادة إيضاخ معنى التبديل في الآية يضيف - رحمه الله - قائلا : " فالتبديل .... هو التعويض ببدل، أي عوض. والتعويض لا يقتضي إبطال المعوّض ـ بفتح الواو ـ بل يقتضي أن يجعل شيء عوضاً عن شيء. وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوّض ـ بفتح الواو ـ جعل عِوضاً عن مثل لفظ العوض ـ بالكسر ـ في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطراباً لأن مثله قد كان بُدل ولا يتأملون في اختلاف الأغراض " .