من المنار :بقلم الدكتور حسين الهراوي مفتش صحة مصر القديمة :المستشرقون و الإسلام

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
هذا البحث من 9 فصول ، وفيه رد على المستشرق فنسنك ، وهو يعتبر كتاب كامل ، حصلت عليه من مجلة المنار لرشيد رضا ،المجلد رقم35 وهي موجودة ملفات ورد على الشبكة العنكبوتية (الملف مرفق)​
الكاتب : حسين الهراوي
المحرم - 1354هـ
مارس - 1936م
المستشرقون و الإسلام
بقلم الدكتور حسين الهراوي
مفتش صحة مصر القديمة

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى
آله وصحبه وسلم .
من أحمد نسيم الشاعر إلى الدكتور حسين الهراوي :
قف وقفة بين إجلال وإكبار ... واحمد دفاع طبيب الحي والدار
جلى ( حسين ) بشوط راح ينهبه ... شأن الجواد إذا جلى بمضمار
ما انفك يهدي إلى الإسلام منكره ... والحق أبلج لا يخفى بأنكار
يقظان ما هدأت يومًا شقاشقه ... كالفحل يتبع تهدارًا بتهدار
في كفه قلم لو شاء أترعه ... سم الأساود أو شهدًا لمشتار
مرقق الحد مبري له جدل ... يرضي النبي ويرضي الخالق الباري
يراعه كقناة الخط يرهبها ... سنان كل أصم الكعب خطار
تجري على الطرس آيًا حين تقرأها ... يجرى دم الرشد بالبادي وبالقاري
قويمة في ارتياد الحق أشرعها ... للأخذ بالحق لا للأخذ بالثار
تدفع الصدق من حيزومها ضببًا ... دفع الخضارم تياراً بتيار
من عترة برسول الله مشرقة ... ملء النواظر من زهر وأقمار
الله أنزل في الأحزاب أنهم ... من أهل بيت كرام الخيم أطهار
فما ارتضوا نزعات الإصر مأثمة ... ولا ارتدَوا بُرد آثام وأوزار
ولا تقطع أمر الله بينهم ... ولا أصيب بنقص بعد إمرار
أعظم بهم في مجال الدين من نفر ... مهاجرين ذوي عزم وأنصار
قم يا حسين فأطفئ كل مشعلة ... من الضلال تلظى زندها الواري
عجل لهم قطهم خزيًا إذا حسروا ... عن أوجه سفرت سوداء كالقار
مدوا بأيد تخط البطل فاندحروا ... قهرًا أمام متين الأيد قهار
لولاك لانغمست في الكفر ناشئة ... كادت تغل بجحاد وكفار
سر في طريقك وادمغهم بمحرقة ... تبقي ندوبًا ذات آثار
مستضعفون إذا ذلوا فإن قدروا ... جاءوا بمكر خفي الكيد كبار
شريعة الله والمختار هازئة ... بمفترين على الإسلام أغرار
مستشرقين أثاروا نقع حملتهم ... حتى كأنهم طلاب أوتار
يخفون تحت ستار البحث كيدهم ... وهم على دين قسيسين أحبار
قوم أحق بلبيس النعل مشركة ... ولبس منطقة شدت بزنار
تعصب وأكاذيب ملفقة ... من مقذعين وقاح النقد أشرار
ما بالهم نقدوا القرآن وانصرفوا ... في نقدهم عن أصاحيح وأسفار
وأجهل الناس من يبني عقيدته ... على شفا جرف من زيغه هار
وكيف تطلب منهم رشدة وهم ... في الدين عمي قلوب عمي أبصار
إن أبصروا الخير أخفوه وإن ظفروا ... بالشر أبدوه في جهر وإسرار
وللذين استباحوا البغي ساهرة ... مشبوهة الوقد من ناس وأحجار
في كل يوم ترى منهم أخا خطل ... يقول أذعن غير مختار
ضلت يراعته في نفس باطله ... كما يضل السرى في ظلمه الساري
بشراه بالخزي في دنياه ممتطيًا ... متن الضلال وفي أخراه بالنار
لا نضر الله دارًا بات ساكنها ... ولا سقاها حيا وطفاء مدرار
إن كان للعلم تضليل وشعوذة ... فالعلم أقبح مدعاة إلى العار
حسين هل لك في حمد يردده ... فم الزمان إذا أدلى بأخبار
كأنه باقة في روضة أنف ... شتى الأزاهير من ورد ونوار
جادت عليها العزالى فهي زاهرة ... وكل ناضرة الأكمام معطار
قصيدة تضرب الدنيا بسنبكها ... فتنبه الذكر في بيد وأمصار
أنَّى تسر تترك الآفاق مشرقة ... ككوكب مستفيض الضوء سيار
ضعها بعروتك الوثقي معطرة ... كأنها وردة من ورد آذار
حسبي بمدحك إعلاء وتزكية ... فبالشريف تعالى شعر مهيار
جزاك ربك في آلائه نعمًا ... موصولة بعشي بعد إبكار
أعدك الدين للجلى إذا اشتجرت ... إعداد ليث قوى الزند زآر
دين من الله جلى كل واجبه ... يوم استهل بأضواء وأنوار
كالشمس ما أشرقت بيضاء مسفرة ... تختال ما بين أشراق وأسفار
وبعد فانظر إلى نفسي وما احتملت ... من حاسدين لأهل الفضل أغمار
عمرت فيهم فضاعت مدة سلفت ... عددتها بينهم من شر أعماري
صدوا عن الشدو آذانًا مصلمة ... ليست تصيخ لورق فوق أشجار
إن أنكروك فلا تحزن فقد نكروا ... من قبل فضلك آياتي وأشعاري
أحمد نسيم
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(35/249)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل الأول
أسباب ونتائج

يحدثنا التاريخ أن جزيرة العرب عامة و مكة خاصة ، لم تكن قبل الإسلام
مستعمرة لأحد ، ولم يفتحها فاتح قط [1] ، وكان العرب مدى تاريخهم أحرارًا ،
وكذلك يحدثنا التاريخ أن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم ثقافة ، أو دور تعليم ، ولم
تكن لهم مدينة ولا تاريخ مكتوب غير ما كانت تتناقله الألسن راوية عن راوية ،
وتلك هي ثقافة الفطرة .
ولم يكن للعرب هيئة اجتماعية ، أو نظام حكومي بالمعنى الذي نفهمه الآن ،
وجل تفاخرهم كان بانتصار قبيلة على أخرى ، أو بتحديها ، فكانوا أشتاتا من القبائل
لا تجمعهم إلا ميادين الحروب ، أو أسواق التجارة ، أو مواسم الحج .
ومن البيِّن أنه لم تكن هناك أية فكرة أو ظن بينهم لجمع شتاتهم وتوحيد
مجتمعهم قبل الإسلام .
ومن وسط هذه القبائل المفككة أو من أسحق الأمكنة فيها سطعت أشعة الإسلام ،
وفي مدى عشرين عامًا من حياة النبي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم ،
تكونت أمة تشعر بوجودها الأدبي وتقوم برسالتها في الأمم المجاورة ، فتكتسح
المعتقدات البالية ، وتقضي على ملك الفرس والرومان وترثه .
وليس لهذه النهضة الكبرى والثورة الفكرية العظمى سوى مصدر واحد هو
القرآن ، وأداة واحدة في تأدية الرسالة هي شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم ، ومهما يكن من الظروف التي ظهر فيها الإسلام ، وأحوال العالم في ذلك
الوقت ، فإن ظهور الإسلام من أجدب وسط في العالم ، ومن أوحش صحراء ، ومن
أبعد الأمكنة التي يظن أن العالم ينقذ على يدها - هذا كله يعد معجزة لا شك فيها .
وإذا كانت النهضة العربية ومصدرها الإسلام وحده تعد آية ، فإن اكتساحها
للعالم والمعتقدات وتكوين دولة ترث الرومان والفرس في مدي ثمانين عامًا يعد سرًّا
ليس من السهل أن يعود ، ومن المستحيل أن تجد له مثلاً في التاريخ [2] ، خصوصًا
إذا لاحظت أن هذه الثقافة الجديدة قد هضمت الدول كلها وطبعتها بطابع خاص هو
الطابع الإسلامي .
بل المثير للدهشة والعجب أن تظل هذه الثقافة إلى الآن راسخة ثابتة رغم
العواصف التي واجهتها ، والحروب التي عملت على فنائها .
والتاريخ يحدثنا عن تنازع البقاء الدولي بين الشرق والغرب ، ويصف لنا من
الحوادث مدّها وجزرها ، وكيف بسط الشرق سلطانه وساد ، ثم كيف قاومه الغرب
ورده واكتسحه أو كاد .
وعلى الرغم من كل هذه التقلبات ، فالإسلام دينًا وقانونًا وثقافة اجتماعية
وأخلاقية ، ثبت لكل هذه الموجات والعواصف والتقلبات ثبات الصخر على الشاطئ ،
فذهبت كلها كذهاب الزبد على سطح الماء .
والواقع أن أعداء الإسلام لم تهدأ ثائرتهم ، ولم يفت في عضدهم بقاء الإسلام
قويًّا مكينًا على الرغم من الحروب والدسائس في البلاد الإسلامية التي أثاروها ، بل
كان ذلك مما زاد المسلمين يقينًا وثباتًا واستمساكًا بدينهم ومحافظة على يقينهم ؛ لأن
الإسلام يحفظ القومية ، ويشعر الناس بواجبهم نحو أنفسهم ، ويجمعهم في دائرة
واحدة من العاطفة ، ويوجههم كلهم إلى قبلة واحدة ، هذه القبلة التي تفني إزاءها
القوميات والشعبيات ويتساوى فيها الناس أجمعون من جميع الأجناس والأوساط .
أضف إلى ذلك أن الإٍسلام هو أول مطلع للتفكير الحر ، والتحلل من قيود التقاليد ،
وهو الذي يحث على الأسفار وجوب القفار والمشي في مناكب الأرض ابتغاء
الرزق . وهو في تعاليمه ينافي الاستعمار ، وينافي الخضوع لكائن مَن كان إلا
للواحد الديان .
وفضلاً عن ذلك فإن الإسلام عطف على الأديان الأخرى ، وطبع الشعوب
التي انتشر فيها بطابع آخر هو الطابع العربي . فترى معتنقي الأديان السابقة له
والذين يعيشون في البلاد الإسلامية تجمعهم بالمسلمين رابطة الطابع واللغة ،
ويعطفون على الإسلام بداعي العروبة ، والعروبة هي الطابع الثاني للإسلام لغير
أهله - بما سنه من المعاملة الحسنة ومصاهرة أهل الأديان الأخرى وتقوية روابط
الأسر ، ونشر روح الوئام بين الجماعات ؛ ولذلك اختلطت الأنساب وتنوسيت ،
ولكن الشائع في البلاد الإسلامية هو الأصل العربي ، سواء كان الشخص مسلمًا أو
غير مسلم . فأصبح المؤرخون في حيرة من تسمية هذا الامتزاج وتلك الثقافة ،
فطورًا يسمونها الإسلامية وطورًا يسمونها العربية .
تلك حقيقة ، وذلك واقع ، ولم يخف عن الغرب ، وليس في حاجة إلى دليل
وليس من المستطاع انتزاع تلك العواطف من أفئدة الناس ، وليس من الممكن
استئصالها بحملة عسكرية ، أو إنشاء محكمة تفتيش أندلسية جديدة لمحاربة آراء
الناس ولغاتهم وضمائرهم وعلاقاتهم .
فالمسألة كلها فكرية وعلمية ، ومحاربتها يجب أن تكون على أسلوب نشأتها ،
ثقافة وغزوة فكر .
من أجل هذا نشأ الاستشراق في بلاد الغرب ، وأخذ جماعة من الغربيين
يعكفون على لغات الشرق وتاريخه ودينه دراسة واستذكارًا وحفظًا وتحقيقًا وتغلغلاً
في البحث .
هذا هو منبع المستشرقين ، وهذا هو مصدرهم ، وتلك هي الغاية التي يعملون
لها .
والباحث في هذه الموضوعات لا يعدم موضوعًا جديدًا علميًّا ، ولا يعدم كتابًا
قيمًا مدونًا ، يعيد نشره ، ويحيي ذكره ؛ ليصبغ نفسه بصبغة العالم البريء ، ومنها
اصطبغ اسم المستشرقين بصبغة علمية .
غير أن النواحي الأخرى التي عكفوا عليها وهي غزوة الفكر الشرقي في
قوميته ولغته ودينه كانت واضحة جلية في أعمالهم ؛ لأنها الهدف الأول والغاية
القصوى .
والمستشرقون هم من أساتذة اللغات الشرقية في الجامعات ، وطلبتهم من أبناء
وطنهم ، وهؤلاء الطلبة يعدون أنفسهم للعمل في المستعمرات في الشرق ، وكان
لابد من المحافظة على قومية هؤلاء الطلبة . ولابد للعناية بتربيتهم أن لا يكونوا أداة
عطف على الشرق أو مصدرًا لإذاعة محاسن الإسلام ، ولإدراك ذلك لابد من
تصوير الشرق بصورة بشعة قبيحة في أخلاقه وعاداته وآرائه ، ولابد من تصوير
الإسلام في صورة منفِّرة ، وأن يكون هؤلاء الطلبة حربًا على الشرق والإسلام .
كما لابد من أن يقوم هؤلاء المستشرقون بدورهم في تغذية جمهور أممهم بمثل تلك
التعاليم بنشر مؤلفات يصفون الشرق فيها بصورة مشوهة . ويصمون الإسلام بكل
المخازى التي هو منها براء .
ولذلك أصبحت الهوة بعيدة بين عواطف الغربيين والشرقيين ، وأصبح التفاهم
أبعد منالاً مما يجب .
وقد تأثر الشرق نفسه بتلك الدعاية ، وكأنه من هذا التجريح والتشنيع شعر
بضعفه أمام الغرب ، وألقى فريق من ضعفاء النفس سلاحهم ، فاعتقد الشرقيون
أنفسهم أن عاداتهم وأخلاقهم وقوميتهم وشعوبهم في مستوى أدبي وعقلي أقل من
المستوى الأوربي ، وأصبح الشرقيون لا يثفون بأنفسهم في التفكير ولا في العمل
الحر ولا في إدارة الأعمال ، وأصبحت تراهم إذا قرؤا في الجرائد أي جريمة عادية
أو خبرًا صغيرًا ثاروا وقالوا إن ذلك مستحيل حدوثه في الغرب ؛ ولذلك أخذوا
يقلدون الغربيين في كل شيء ؛ في المعنويات وفي الماديات .
أما في المعنويات فقد شاهدنا اختلاط الألسن في الأسر والبيوت ، ونبذ اللغة
القومية في الطبقات المتفرنجة ، وكذلك في الزي النسائي ، واستحالت الأخلاق ،
وضاعت تلك المودة القويمة وصلة القربى ، وأصبح الشخص ينظر إلى أسرته
المصرية الصميمة من أعلى إلى أسفل ، يحاول خدع نفسه بأنه غربي ، وأنهم
شرقيون ، ورأينا تيارًا جارفًا من الأدب الغربي يكتسح التفكير الشرقي والقومية
الشرقية ، انتشرت القصة المعربة ، وهي قصص لا تخرج عن معاني الحب الساقط ،
وألفاظ الخنا ، وخيانة الزوجة ، وتهوس الشباب ، وسقوط المرأة التي يقابل
الزوج زلتها بالعفو والصفح والغفران .
كان هذا من أثر الدعاية أن العربية ينقصها أدب القصة ، فملأ المعربون هذا
الفراغ بقصص لا تلتئم والشرق الشرقي ، ولا الغيرة الإسلامية ، ولا الآداب القومية ،
ثم هجم جماعة المبشرين على معاقل الإسلام ، مزودين بالمال والعلم والرجال ،
فأصبحنا نرى المخازي والإغراء والقبائح ترتكب باسم الأديان ، وأصبحت الأسرة
الإسلامية يقتنص بعض أفرادها بالمال ، أو بالإغراء ، أو الاستهواء ، أو التنويم
المغناطيسي باسم الدين . وترى ذلك متجليًا في دور التعليم الأجنبية ، وفي
المستشفيات الأجنبية التي تحمل على بابها بالخط العريض أنها بيئة ووكر للمبشرين
في ثوب علمي شفاف . طرق لا يقرها عقل أو ذمة أو ضمير أو وجدان .
أضف إلى ذلك أن كل بلد شرقي استعمر كان لابد له من طلائع تجوس الديار ،
وتستكشف الآثار ، وتكتب التقارير .
وكان لابد لهذا الجاسوس أن يلبس ثوب العالم بلغة البلاد ، وأن يصطنع
البحث العلمي .
وفي حالة دخول الجيش الفاتح لابد لقيام صلة بين الأهالى والجيش المهاجم ،
والتاريخ يحدثنا أن هؤلاء كلهم من المستشرقين .
أما في حالة السلم فلابد من وضع سياسة لمعاجلة هدم الإسلام وتفريق كلمة
أهله ، وإعداد النفوس لقبول التغييرات التي تدخلهم تحت النير .
هذه مسائل علمية محضة ، ويقوم بها المستشرقون .
فلتغيير الدين يجب أن يقال إن الإسلام دين مخترع ملفق ، ولهذا الرأي شيعة
من المستشرقين ، وللسخرية من الإسلام يجب مهاجمة شخصية النبي الكريم ولهذا
أيضا شيعة من المستشرقين ، ولتفكيك روابط العرب يجب أن يفهم الناس أن
العربية الفصحي لا تصلح لشيء ، وأنها لغة قديمة ، وأن اللغات الدارجة أنفع منها .
ولتفكيك روابط القومية والهيئة الاجتماعية الشرقية يجب أن يعتزي كل شعب
إلى أصله ؛ لأن العرب لم يكن لهم فضل في ثقافة أو تاريخ .
ولإضعاف الروح القومية وقتل الاعتماد على النفس يجب أن يفهم الشرقي أنه
غير مؤتمن الجانب ، وأن الاختلاس غريزة فيه ، وأن الشرف بعيد عنه ، وأن
بلاده وتربيته لا تصلح إلا للزراعة ، وأن عقله غير مكون تكوينًا تجاريًّا ، وهذا كله
ليحتكروا التجارة والصناعة ويتركوا للبلاد المستعمرة العمل الزراعي الشاق الذي لا
يدر إلا الخير القليل .
* * *
كل موضوع من الموضوعات التي ذكرناها تخصص لها فريق من
المستشرقين ، وقد أصبحنا نعرف وجهة تخصص كل واحد منهم ، ويمكننا أن نعد
أسماء المخصصين لكل موضوع من هذه الموضوعات كما سيمر بك في هذا الكتاب ،
وكل هذه الموضوعات ذات مرمى سيئ ، وليست من الحقائق العلمية في شيء ؛
ولذلك فإن هؤلاء الناس قد ألبسوا موضوعاتهم الثياب العلمية ، غير أنه لم يتعرض
لهم أحد بنقدها وإظهار ما فيها من غش وخداع وتلبيس ، حتى إن كثيرًا من القراء
قد خدعوا بها ودخلت الحيلة عليهم .
ولذلك يجب تحرير الفكر الشرقي من تلك الغزوة التي طال أمدها وسئمنا
تكرارها ، ويجب أن نبرهن لهؤلاء الناس أنهم خادعون ، وأن الأخلاق الغربية لم
تبلغ إلى الآن المستوى الشرقي ، وأن الزخرف البراق من المعاملة والطلاء
الخارجي للمعاملات العادية لا يغير الواقع ، فالبلاد الغربية كالبلاد الشرقية فيها أحط
الأخلاق وأشنع الجرائم من كل نوع .
وليس الفكر الشرقي بأقل في مستواه من الغربي ، وإنما في استقلال المواهب
نتيجة التربية الاستقلالية التي امتاز بها الغرب ، ونتيجة لازمة للحرية الشخصية
والمساعدة الحكومية التي حرمتها الشعوب الشرقية ، إلا أن أول دعامة في تحرير
الفكر الشرقي أن يعرف أسرار استعباده فيقف دونها حائلاً ، ويطلع على الصواب
فيستزيد من مناهله ، ولا يقبل التغرير ، وأن يواجه هؤلاء المستشرقين بحقيقتهم
ويعلم أن بضاعتهم مغشوشة ولأغراض غير بريئة ، وهي بضاعة زائفة صنعت في
معامل التغرير ؛ ولذلك عمدنا إلى الرد على بعض المستشرقين في هذا الكتاب ،
وجعلنا الرد في أسلوب علمي ليعرف القارئ الحقيقة .
والذي دعانا إلى وضع هذا الكتاب هو تلك الحادثة المشهورة التي اضطرب
لها عقلاء المصريين ، فإنه لما صدر المرسوم الملكي بتأليف المجمع اللغوي الملكي
بالقاهرة ، ووجدنا اسم فنسك من ضمن أعضائه نشرنا شيئًا من مباحثه ، ورددنا
عليه ، وانبنى على ذلك خروجه أو إخراجه من المجمع اللغوي وحلول غيره مكانه ،
وبذلك انفضح جانب عظيم من أعمال المستشرقين وحقيقتهم مما سيتجلى عند
قراءة هذا الموضوع في الصفحات المقبلة .
أضف إلى ذلك أن هذا المبحث الذي خرج من أجله فنسنك كان بعض الناس
سرقه ونسبه لنفسه في كتاب ادعى أنه بحث في الشعر الجاهلي ، وبذلك اتضحت
آفة أخرى من آفات المستشرقين هي أن بعض الناس من المسلمين يجارونهم في
تفكيرهم ويقتبسون آراءهم بغير نسبتها إليهم ؛ ليقال إنهم من العباقرة .
وفوق ذلك فقد عثرنا على بعض سفسطة المستشرقين من أن محمدًا كان على
علم بالأديان السابقة ، وأنه اتصل في سياحته للشام بأهل العلم مما دعاه إلى وضع
قرآنه ، وتلك الفرية قد اتخذت سبيلها في التفكير الشرقي ورددنا على ذلك في حينه
كما سنزيده شرحًا في الفصول القادمة .
والخلاصة : أننا نريد تنبيه الناس إلى طلائع الاستعمار ، ومصدر تغذية
المبشرين ، وأدوات إذلال الشعوب الشرقية وتفريقها ، وتشتيتها ، ونثبت أن هذا كله
من المستشرقين .
ولا ندعي أننا ندافع عن الإسلام بهذا الكتيب فنحن أهون أن تكون لنا هذه
المنزلة الرفيعة ؛ ولكننا نريد أن نهتك سترهم ، ونظهر حقيقتهم دفاعًا عن قوميتنا ،
وعقولنا ، وقديمًا قال عبد المطلب : ( أما الجمال فسأدافع عنها ، وأما البيت فله رب
يحميه ) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مواقف حاسمة الفصل الأول لعنان .
(2) فتوحات الإسكندر ونابليون استغرقت زمنًا يسيرًا ، ولكنها ماتت بموت أبطالها .​
(35/253)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل الثاني
محمد قبل البعث

من البيّن أن مجيء القرآن وأثره في النهضة الفكرية العالمية - كما رأيت -
مسألة مدهشة حقًّا .
وقيام شخص واحد هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة الناجحة
التي اكتسحت العالم مسألة موجبة للحيرة ومعجزة بلا مراء .
والمستشرقون يقفون أمام هذه الحقائق ذاهلين ، ويحاولون الدخول إلى هذا
الصرح العالي من باب التشكيك والتضليل ، أو باب الاستنباط والقياس .
والتاريخ يعلمنا ويعلمهم أن حياة العظماء لها طريق في البحث والدرس ولها
طريق مألوف وهو الابتداء بدراسة الوسط الذي نبغ فيه الرجل العظيم والظروف
المحيطة به ، ثم دراسة طريقة انتزاعه للسلطة أو قيامه على قيادة الأمة .
ثم يأتي بعد ذلك دور تكوين الشخصية وأثر الثقافة المحلية والعالمية في نفسه ،
وأثر هذه الثقافة في أعماله .
وقد أرادوا أن يطبقوا كل هذه النظريات والمباحث على حياة النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم ، كما يدرسون مثلاً حياة نابليون والإسكندر وغيرهما .
وأول ما صادفهم من الخيبة والفشل أن الوسط الذي عاش فيه سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم كان وسطًا فطريًّا ساذجًا ؛ ولكن هناك في محيط ذلك الوسط
وجد بعض النصارى واليهود .
ووجدت ظروف بسيطة في حياته صلى الله عليه وسلم من سفره مرتين إلى
الشام يمكن أن يبنوا عليهما القصور العالية من الأوهام .
ولا بأس من أن يجعلوا من هاتين المسألتين - وجود نصارى ويهود في
الحجاز وسفره إلى الشام مرتين ثانيًا - موضوعًا للتشكيك والتضليل .
ولذلك نقتبس لك أسهل طريقة وأبسط تضليل من كتاب درمنجهام الذي نشر في
السياسة الأسبوعية ورددنا عليه ؛ لأنه كان أول مثار للبحث [1] :
والواقع أن محمدًا منذ الساعة الأولى بل قبل أن ينزل عليه جبريل بالوحي
كان أشد ما يكون نفورًا من الوثنية التي نشأ ونشأ أهله من قريش فيها ، وأشد ميلاً
لهذه المعاني الروحية التي يتحدث عنها النصارى واليهود من أهل الكتاب في أنحاء
شبه جزيرة العرب ممن كان يتصل بهم في أثناء ذهابه إلى الشام وإلى اليمن في
القوافل قبل أن يقوم بتجارة خديجة وبعد أن قام بها .
وهذه المعاني الروحية في اتصالها بنفس محمد صلى الله عليه وسلم المتوثبة
منذ صباها للكمال هي التي دفعته إلى تحنثه بغار حراء شهرًا أو أكثر من شهر .
إن الله - تعالى - رضي للناس الإسلام دينًا مع بقاء الأديان السابقة للقرآن
وحده مندمجة في هذا الكمال الروحي - أي الإسلام - اندماجًا أشار إليه القرآن في
قصص أصحاب هذه الأديان وما جاءوا به من الحق من عند ربهم ، وأشار إليه
حين أراد أن يثبت محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمر ما جاءه كما جاء في سورة
يونس : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ
لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ } ( يونس : 94 ) .
وفي هاتين الفقرتين ملخص لآراء المستشرقين الذين يظنون أنفسهم أهلاً
للبحث والاستنتاج دون أن نرميهم بشيء من سوء النية . ولعل ذلك أهدأ أنواع
ضلال المستشرقين .
ولما تسربت هاتان الفقرتان في الصحافة المصرية وعلى أيدي باحثين مسلمين
رأينا توضيح هذه الطريقة وإظهار ما فيها من خطأ في تطبيق ما يقال عن عظماء
الغرب على حياة نبي عربي عاش في بيئته خاصة وفي محيط لا زال يتمسك بعادته
وأخلاقه إلى اليوم .
ولسنا نتهم هذا الرأي بأقل من أنه استنباط غير موفق ورأي خاطئ نتيجة
الجهل والخطأ في الحكم .
فأنت ترى من هاتين الفقرتين أن سيدنا محمدًا تعمّق في درس الأديان وتلقي
مبادئها على الرهبان في سياحاته ، وأن ذلك العلم هو الذي دفعه إلى التحنث .
أما أنه خالط الرهبان وتشبع بمبادئ الأديان السابقة فذلك ظن ليس له من مؤيد ،
ولو أنه كان كذلك لكان في كل عمل من أعماله دليل على ذلك ، وقد أحصى
القرآن الكريم كل ما وجهه أعداء الإسلام وأعداء محمد صلى الله عليه وسلم له من
التهم ، ومنها الكذب والسحر والشعر وكل ما شئت من صنوف السب والشتم والتهكم
والضرب بالحجارة والتحدي للقتال ، كل هذا قيل ولكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن
يقول له إنك تعلمت هذا العلم على فلان ، ولو كانت هذه الجملة قيلت لكنا على
الأقل وجدنا عليها ردًّا في القرآن .
ولو أن نفس محمد - عليه السلام - اعتنقت دينًا أو مالت لأي دين قبل
الإسلام لوجدنا لذلك أثرًا واضحًا في الحديث ، وقد سأله الناس كل أنواع الأسئلة بلا
خجل ، وكان يرد عليهم بالصدق والأمانة التي اشتهر بها ، ولم يرد ما يؤيد هذا
الزعم ؛ ولذلك استنبطنا - وكنا محقين في هذا الاستنباط - أنه عليه السلام كان
خالي الذهن من جميع الأديان ، وأنه اشتق طريقًا في العبادة لنفسه كما سنبين ذلك
في التحليل النفسي لحياته .
أما الرحل والأسفار في التجارة أو مع عمه فقد كانت رحلته [2] الأولى مع
عمه إلى الشام وهو ابن تسع سنين ، ولم يكن هناك مجال ما لتلقي هذه العلوم فليس
ثمة جامعات وليس للرهبان حلقات درس ، كما أنه لم يكن يومذاك جماعة من
المبشرين الذين نراهم اليوم يغررون بالناس ، وكل ما حصل من الراهب بحيرا أن
تنبأ لهذا الغلام بمستقبل ديني ، وتوسم فيه استعدادًا خالصًا لهذه الرسالة الكبرى .
والرحلة الثانية كانت وهو ابن خمس وعشرين من مكة إلى بصرى ومدة هذه
الرحلة كانت ثلاثة أشهر .
إذن فلنمش في هذا الطريق نفسه ، ولنر ولنستنبط ما يمكن استنباطه ،
ولنتعرف عادات العرب وأخلاقهم .
فأول ظاهرة خفيت عن المستشرقين من عادات العرب أن صغارهم لا
يجالسون كبارهم ، ولا يمكن شاب حديث السن أن يجلس في مجلس الكبار ولا
يناقشهم ، ولا يباح له أن يتحدث في مجالسهم .
ولم يخبرنا التاريخ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم شذَّ عن هذه القاعدة ، وهذا
دليل على أن كبار الرهبان وغيرهم لم يكن لهم من وسيلة لقلب عقيدة هذا الفتى كما
يفعل المبشرون من أذناب المستشرقين في هذه الأيام .
وأما الرحلة نفسها فيجب أن نلم بعمل التاجر الذي تكون مهمته من نوع عمل
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والعادة الجارية في بلاد العرب إلى يومنا هذا
هي أن يقوم التاجر ببضاعته حتى يصل إلى المدينة التي سيبيعها فيها .
ثم يذهب إلى منزل وسيط التجارة فيمكث في منزله بضعة أيام حتى يصرفها
الوسيط ويعطيه الثمن ، ثم يعود قافلاً .
فعمل التاجر في هذا السبيل ينحصر في المحافظة على التجارة في أثناء
الطريق ، ومساومة الوسيط ، وحمل الثمن إلى أصحاب البضائع .
والمسافة بين مكة وبصرى تقطع على ظهور الإبل في نحو أربعين يومًا ذهابًا
ومثلها إيابًا ، ومدة إقامة التاجر في بيت الوسيط هي المدة التي تبقى من ثلاثة
الأشهر التي قضاها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة .
فالوقت كله يقطع في الطريق وكانت رحلة واحدة ، فأي عقل إنساني أو غير
إنساني يمكنه أن يستنبط أن سيدنا محمدًا يمكنه أن يتعلم كل ما أتى به ، أو كل
العلوم التي وردت عنه في وقت كهذا ؟
وأي سخف أدعى للسخرية من مثل هذا الاستنباط الملفق القائل أن سيدنا
محمدًا في أسفاره تعلم من الأحبار .
أضف إلى ذلك ما استنبطه فريدرك شولنهنس عندما جمع ديوان أمية بن أبي
الصلت وطبعه سنة 1911 [3] ، وأظهر في مقدمة هذا الديوان مقدار ما بذله من
الجهد في جمعه من كتب السير ومن شوارد أخبار الكتب ، ورأى أن أمية هذا كان
قد ترهّب ولبس المسوح ونظم قصصًا مصدرها التوراة والإنجيل ، وكان يطمع في
النبوة إذا أشيع وعرف أنه سيبعث نبي في زمنه .
وبعد ذلك بعث محمد - عليه السلام - وأخفقت آمال أمية ، فناوأ الإسلام
وجاهر بعداوة نبيّه .
ليس في الأمر غرابة فليس أمية بأول رجل في مكة أو بلاد العرب عرف
شيئًا عن التوارة والإنجيل ، وليس هو أول من عادى الإسلام والتوراة والإنجيل
والقرآن بين أيدينا شاهد بذلك ، وفي هذه الكتب توافق في بعض النواحي التاريخية
واختلاف في نواحٍ أخرى ؛ فليس من المستغرب أن يعرف شاعر عربي شيئًا عن
التوراة والإنجيل وينظمه شعرًا ؛ ولكن المستغرب حقًّا أن يقول شولنهنس هذا إن
محمداً عليه السلام استقى تلك المعلومات من المصدر نفسه الذي استقى منه أمية .
وليس أدل على الجهالة والتضليل في هذا القول ، وعلى التعصب الأعمى
وقلة الخبرة من أن القرآن ليس بقصصه ؛ ولكن بأحكامه وبقانونه وبإعجازه ،
وبأثره الاجتماعي والفكري ؛ فهل اجتمع كل هذا في أحد ؟ كلا ، ولكن مستشرقًا
يظن نفسه في منزلة علمية يطلق لنفسه العنان ويصدر الأحكام ، فيتلقفها طاعن من
طاعن ، ومبشر عن مستشرق للتشكيك في مصادر القرآن .
ولو طاوعنا هؤلاء فيما زعموا ، وبحثنا عن كل حكم من أحكام القرآن
ومصدره ورأينا حكمًا منها من السند والآخر من الهند والآخر من فارس ومن مصر
ومن أثينا و روما للزم لهذا النبي الكريم آلاف الأسفار والاشتغال بالجامعات عدة
قرون قبل أن يأتي بكتاب لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
مثل هذا التفكير المزري يقول به المستشرقون وتهضم عقولهم أن محمدًا أتى
بما أعجز الإنس والجن في سفره إلى الشام ثلاثة أشهر ، منها ثمانون يومًا ذهابًا
وإيابًا وعشرة إقامة .
ولكنها طريقة من طرق التشكيك وضرب من الهوى لا نشك أن القارئ عرف
مغزاه .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) طبع باسم حياة محمد للدكتور هيكل .
(2) تحقيق الطريق ومسافته ، وعادة العرب هذه رجعنا فيها إلى فؤاد باشا الخطيب وزير خارجية الحجاز سابقا ورئيس ديوان شرق الأردن الآن .
(3) أدب اللغة العربية لمحمد هاشم .​
(35/261)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل الثالث
التحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

نحن ننكر إنكارًا تامًّا أي أثر للأديان السابقة للإسلام في نفس سيدنا محمد ،
وسواء سمع بها ورآها أو خالط أهلها وتعرف بهم ، فإن ذلك لم يترك في نفسه
الشريفة أي أثر ، ولم يعلق بذهنه من مبادئها وتعاليمها ما يجعله يفكر فيها ، أو
يفضل أحدها ، أو يقلدها .
وليس أدل على ذلك من أنه لم يرد في القرآن الكريم الذي أحصى كل التهم
التي وجهها أعداء الإسلام لنبيه الكريم ما يؤيد هذا الزعم [1] .
ومسألة التحنث في الغار ، والطواف بالكعبة ، وتوزيع الصدقات هي نوع
التعبد الذي كان يتخذه عليه السلام قبل بعثه .
فإذا قلنا : إن التحنث في الغار له ما يشبهه في الأديان الأخرى ، فالطواف
بالكعبة لا علاقة له بأي الدينين النصراني أو اليهودي الذي يتعمل جماعة
المستشرفين الأسباب ويخترعون الوسائل للقول باقتباس الدين منهما .
ولقد طبقنا حياته الشريفة على علم النفس الحديث لنتعرف أي سبب دعاه إلى
هذا النوع من العبادة إذا صرفنا النظر عن العامل الإلهي الأكبر في توجيهه إلى هذه
الوجهة .
ولكي يمكن فهم هذا الموضوع سنقدم للقارئ مقدمة وجيزة في علم النفس
والتحليل النفسي لكي يتفهم معنا تطبيق حياته على علمي النفس والوراثة .
لقد قسم فرويد العقل ثلاث مناطق :
1 - العقل الظاهر أو الواعي أو منطقة الوعي .
2 - الذاكرة .
3 - العقل الباطني أو غير الواعي أو منطقة اللاوعي .
فالعقل الظاهر أو منطقة الوعي تحتوي الأشياء التي يدركها العقل في وقت
معلوم ، وهي التي تهيمن على الإنسان في حالة صحوه وعلمه .
والذاكرة تحوي الذكريات الماضية أو ما مر على الإنسان أو حفظه .
والعقل الباطني يحوي الأشياء الممنوعة من الظهور بوساطة الرقيب العقلي ،
وفيها جميع الغرائز الموروثة ورغبات الإنسان التي تدفعه إلى رغباته المتعددة ؛
ولكن يمنعها من الظهور قوة حاجزة تسمى بالرقيب ؛ لأن كثيرًا من رغبات الإنسان
لا تتفق والوسط الاجتماعي .
والغرائز الموروثة في الإنسان تتجلى فيه من السنة الثانية من عمره بإظهار
رغباته ككل الأطفال ؛ ولكنه يجد المقاومة لتلك الرغبات من الوسط المحيط به
والذي يختلف باختلاف السن والوسط .
فإن الوالدين أو المربين والأساتذة هم الذين يتولون إرشاد الطفل في مدى سنيه
الأولى وبذلك يبتدئ التصادم بين غريزته الاجتماعية والغرائز الأخرى كالبهيمية
والأنانية ، فبطبيعة الحال يصبح مضطرًّا - حبًّا في استمرار الألفة بينه وبين
الجميع - إلى اتباع خطة مواجهة للواقع فيتنازل قهرًا عن الأشياء التي يريدها هو
ويستهجنها الناس .
ومن العناصر الأساسية لنظرية فرويد أن الرغائب والميول التي تقمع وتبعد
إلى العقل الباطني أو غير الوعي لا تُمحى بل تبقي حية ولها أثرها في حياة
الشخص ، وتؤثر تأثيرًا واضحًا من مظاهر الوعي بطريق غير مباشر ، فإذا كانت
هذه الغرائز المقموعة سيئة أمكن تهذيبها بالقوة الدافعة المرافقة لتلك العناصر
الفطرية التي في العقل الباطني ، وتوجيهها إلى طريق نافع يساعد على تقدم
الشخص ، ويكون تأثيرها في الوعي نافعًا ، هذا ما يحصل في الأحوال العادية ،
ولكن لنقص في التربية - وخصوصًا المنزلية - قد لا يحصل التهذيب في تلك القوة
الدافعة ، وقد تستعمل في الإضرار بالتطور العقلي من الطفولة إلى المراهقة ، مثل
ذلك إذا تعلق الطفل بوالديه - خصوصًا إذا كان وحيدًا - فيكبر وليس لديه أي
اعتماد على النفس ، وتكون النتيجة رسوخ هذا الميل عنده ، فلا يقوى على احتمال
صعوبات الحياة وحده ، فإذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا أصابه الحنين وكانت عملية
القمع - أو تخفيف لوعة فراقه - مسألة شاقة ومؤلمة ؛ وذلك لأنه بعد أن تعود
الاعتماد على والديه يرى نفسه قد كبر وأصبح في سن خاصة لا تتفق ومركزه
وكرامته أن يكون عالة ، ويتسبب عن ذلك ظهور أعراض مرضية في العقل
الظاهر كالبكاء والحزن .
وكذلك قد تصيب الشخص في حياته وهو صغير صدمات مؤلمة يضطر إلى
قمعها في العقل الباطني ؛ ولكنها تبقي فيه طول الحياة ، وقد تظهر أعراضها في
ظروف مختلفة ؛ إذ لم يستطيع الرقيب قمعها تمامًا ، فإذا فشل الرقيب في قمع هذه
الصدمات تمامًا ظهرت بشكل أفكار تجول في خاطر الشخص ، أو أعمال لا فائدة
منها .
هذه مقدمة سطحية جدًّا في علم النفس يمكنك أن تتفهم منها النتيجة الباهرة
التي وصل إليها فرويد ، وهي أهمية الغرائز في إحداث ظواهر عقلية خاصة في
تصرفات الشخص في الحياة .
وبنظرية العقل الباطني وأثره تفسر الأحلام وتحلل نفسية الأشخاص ، ومهما
يكن من تنافر الآراء بين علماء النفس فإن الجميع ( فرويد و ينج و أولر ) يعترفون
بأن العوامل الخلقية والوراثية لها كل الأثر في الأمراض النفسية وكفايات الشخص .
أما قوانين الوراثة فلم يوضع لها إلى الآن حدود وقواعد ثابتة يمكن تطبيقها
بسهولة ، وهي وإن كانت تفسر لنا الأحوال النفسية التي بين أيدينا ، إلا أن اختلاف
طرق الوارثة في سلالة واحدة لا زال محتاجًا إلى تفسير وشرح ؛ كأن يكون
الأخوان الشقيقان مختلفين في الأخلاق .
إلا أن ذلك لم يمنع المشتغلين بتأصيل الحيوان من تتبع سلالة الهجين وإمكانهم
أن يستخلصوا منها بالتناسل سلالة نقية ، فإنه من الممكن ومن الأمور العادية جدًّا
أن تحصل على جواد عربي أصيل من أم وأب هجينين بتقوية الدم العربي في كل
سلالة ، وذلك بانتقاء الأقرب إلى الأصل الذي تريده .
هذه مقدمة لبحث التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد قبل البعث ، وسترى أنه
يستنبط منها أنه كان في ذاته وشخصيته وحدة كمال مستقلة ، ولم يكن في نفسه أي
أثر للأديان الأخرى ، وأنه كان نسيجَ وحده .
فقد رأيت مما شرحناه لك أن العوامل النفسية في العقل الباطني هي الغرائز
النفسية الكامنة ، أوالتي قمعت ، وأن لها أكبر الأثر في تصرف الشخص .
فلنطبق ذلك على حياته الشريفة :
فسيدنا محمد كان يعيش في وسط عبادة الأوثان ، أو ما تقدم الإسلام من
الأديان ، فكانت هذه هي القاعدة الأساسية في المجتمع الذي كان يعيش فيه ، فإذا
كان محمد صلى الله عليه وسلم قد ورث في نفسه عوامل نفسية تحرضه على
كراهيتها ، كان له أن ينتقم أو يعبث بها ، ولكن عمليات القمع بوساطة الرقيب
العقلي وغريزة الاجتماع وآداب العشرة نهته أن يعادي الناس ؛ فماذا كان شأنه مع
نفسه ؟ هذا ما سوف ننتظره من نتيجة التطبيق العلمي على ما أثر من حياته
الشريفة في كتب السير المعتمدة .
* * *
الحمل والطفولة
إن سلسلة نسبه الشريف تنتهي إلى إسماعيل وإبراهيم من جهة الوالدين وهو
نسب معرق في النبوة والعمل على تطهير العقائد ، وسئل النبي عن نفسه فقال :
أنا دعوة أبي إبراهيم ( ابن هشام ص 155 ) .
ونسبه صلى الله عليه وسلم بانتهائه إلى إسماعيل وإبراهيم ونوح المعترف
بنبوتهم من الأديان الأخرى يجعلنا نطبق قوانين النفس والوراثة الأخلاقية على
شخصه الشريف ، ولو كانت قوانين الوراثة واضحة تمامًا ومحدودة في حدود علمية
تامة - لكان في تطبيقها أكبر لذة علمية ، ولكن الناس يعرفون منها اليوم قوانين
ونتائج لا شك في صحتها ، فيقولون عن السبع أنه يموت عطشًا ولا يلغ من ماء
ولغ فيه الكلب .
وينقلون عن أبناء الملوك المعرقين قصصًا طويلة ونوادر عن الألفة واحترام
النفس ، فلا ننتظر من مثل ذلك النسب إلا وراثة غرائز أرقى من مجموع مستوى
الناس ، على الأقل مما كان يتجلى في آبائه وأجداده ، فإنهم لم يشتهروا بالثروة والغنى ولقد ولد عليه السلام في إملاق ؛ ولكن آباءه اشتهروا بالشرف والنخوة ، وعرف عن
أهله شدة المراس والصلابة فيما يعتقدونه حقًّا ، ولم يرث عليه السلام من آبائه إلا
شرف النفس ، وهو ما نعبر عنه باللسان العلمي بالغرائز والإلهامات الراقية العالية .
يدلنا على ذلك أخلاقه قبل البعث : وقار وحشمة ، واحترام لنفسه ، ولم
يرتكب زلة أدبية مما كانت تبيحه عادات الجاهلية ؛ فلم يسكر ولم ينهب ولم يقتل
إلى غير ذلك مما كانوا يعدونه من ضروب الشهامة .
وكانت أخص صفاته احترام النفس والغير ؛ فلم يعتدِ على أحد ولم يُطلب عنده
حق لغيره .
كان هذا قبل النبوة وقبل أن توجد عداوات وحزازات ، شهدت بها وفود
أعدائه عند ملك الروم .
وهذا أرقى أنواع الغرائز والإلهامات .
ولنتمش قليلاً بعد ميلاده ، فنراه ولد يتيم الأب ، ولم يلتصق بأمه بل بعث به
إلى الصحراء .
مسألة غريبة في هذه الحياة الحافلة ، فقد علمت أن الالتصاق بالوالدين فيه
مضيعة للاعتماد على النفس ، وفيه معنى من معاني الرخاوة في الطباع ، وقد يكون
في الالتصاق بأحدهما مفسدة للأخلاق .
ولقد تيتم من أمه طفلاً ، فلم يكن له أمل في الاعتماد على أحد من الناس
اعتمادًا قد يقتل من عزمه ، أو يفسد من طباعه .
ولننظر إلى اليتم وأثره في النفس :
أنا شخصيًّا جربت ذلك ؛ فقد ولدت يتيم الأب وفي كفالة الأم ، وقد أورثني
ذلك عوامل نفسية مؤلمة ، ما تحدثت بها إلا أمضني الحزن والألم .
إن أول ما يشعر به اليتيم متى شبّ هو الإقرار بالواقع والاستسلام للقضاء
والقدر ، والرضا بما قسم له من نصيب محزن لفقدان عطف الآباء ، والمرشد
الخبير في أوقات حرجة من ظروف الحياة التي تحتاج إلى قرار حاسم من مطّلع
خبير ، ويكون الدافع النفسي موجهًا إلى الخضوع والوحدة ، لا إلى حب السلطان
والمظهر البراق ، كما تتعود النفس الخشونة وعدم العطف ، فلا يتعود اليتيم التدلل
ولا المرح وهما أهم خواص الطفل في سن الصغر ، وذلك كله نتيجة الإخفاق في
إشباع رغبات الطفل ، والفشل المتوالي في نوال كل شيء يطلبه أو يتطلع إليه .
أضف إلى ذلك نوعًا من الشفقة المؤلمة ، ونوعًا من العطف أقتل للنفس من
العقاب الصارم ، ذلك هو الحنان الذي يستجدى كأنه حسنة أو نافلة ؛ إذ ترى قومًا
يظنون أنفسهم على شيء من حسن الصفات يعطفون على اليتيم عطفًا هو أشبه
بالصدقة منه بالعطف ، ويشفعون عطفهم بالإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك ليتم الشخص .
دُعيت مرة إلى مهرجان زواج وأنا غلام صغير ، فوزعت الحلوى على
الرجال والغلمان ، وكان كل والد يحضر لنجله نصيبه من الحلوى ، وخرجت من
الاحتفال وليس معي غير دمعة تترقرق ؛ فلم أصب من الحلوى قليلاً أو كثيرًا ، ولم
يلاحظ إخفاقي إنسان ، فآليت على نفسي بعدها ألا أذهب إلى مهرجان [2] .
وتوفيت إحدى قريباتنا وأنا غلام ، وكانت تحبني لقرابتها من المرحوم والدي ،
وكنت في نحو العاشرة من عمري ، فانسللت وحدي من المنزل لأمشي في
جنازتها اعترافًا بهذا الحنان الذي كانت تظهره نحوي ، وبكيت عليها كثيرًا ؛ لأنها
ما كانت تراني حتى تذكر والدي وتبكيه ، وكانت هذه السيدة أصيبت بشلل ، فكانت
تهتز في بكائها إلى درجة أني كنت أشعر أن نوبة إغماء تعتريها ، فإذا أفاقت قبلتني
فيتبلل وجهي من دمعها .
رأيت وفاء لها أن أسير في جنازتها وأن أشيعها إلى مقرها الأخير بتلك
الدموع التي أرهقتها لذكرى أبي .
ودفنت ، ووقفت على قبرها أبكي ، وكنت ألاحظ أن الناس ينصرفون في
مركبات أعدت لهم ولم يدعني إنسان لمركبته ، وبعد قليل - وكانت الشمس قد
قاربت المغيب - وجدتني وحيدًا بين المقابر ، لم يعرني أحد اهتمامه ، ولم يسأل
عني سائل .
هناك عرفت أن لا نصير لي في الدنيا ، ولا من يسأل عني ، وضربت يدي
إلى جيبي فوجدتني خالي الوفاض ، فافترشت الأرض أنتظر ما قدره لي الله ، لولا أن
أسعفت بمُكارٍ له حمار أعرج ، يسوقه أمامه وسط القبور ، وهو يغني بصوت
متهدج ، فأوصلني إلى البيت على أجر اتفقنا عليه .
بعد تلك الحادثة لم أكن أذهب إلى مكان إلا بعد أن أفكر في طريق العودة
وحدي .
هذه العوامل كلها تورث في الطفل شيئًا كثيرًا من الحسرة والاعتماد على
النفس ، وتعلمه الحياة ومعناها وهو طفل ، فيعوض بنفسه ما فاته من عون والده ؛
ولذلك لم أشك في رواية بحيرى حين قال عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ينبغي
لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا ) لأن مثله يجب أن يكون أستاذ نفسه ولا فضل لأحد
عليه .
على أن هناك عاملاً نفسيًّا قويًّا يختلج في نفس اليتيم ، وهو ذلك الشعور الذي
يتولاه بأنه ضحية القدر ، وأنه بريء مظلوم في العالم ، فقدَ مرح الطفولة وابتسامتها
العذبة ، وسرورها المستمد من عطف الوالدين وإرشاد الوالد ، فينظر إلى العالم
بالمنظار الأسود ، ويفكر في الانتقام من العالم لو استطاع إلى ذلك سبيلاً .
هذا سر من أسرار بعض النفوس ، فغريزة التخريب والهدم كامنة في النفس ،
ولكن عوامل الضعف قد تكبر هذه الغرائز ولا يجمحها غير التربية والوسط ، ولم
يكن محمد صلى الله عليه وسلم في وسط يساعده على تكوين نفسه ؛ ولكن الظروف
هيأت له أن يكون رقيق القلب ، وكأني بهذه الظروف ليست بنت المصادفة ؛ ولكنها
إلهام وتوفيق من قدرة أقوى ، فكيف تهذبت نفسه ؟ وكيف صار بارًّا بالعالم والفقراء
واليتامى ؟ وكيف استطاع أن يعرف نفسه ؟ وكيف تربت نفسه على العظمة ، ولم
تفقد كبرياءها مع اليتم والإملاق ؟
إن نشأته ( راعي غنم ) هي السر في انتصاره على أفكار ثورية تمليها
الطبيعة البشرية ، وغرائز الهدم والتخريب ، وشعوره بظلم الحياة بفقد والديه .
فلما كان غلامًا تحمل مسئولية رعاية الأغنام التي هي مضرب المثل في
الوداعة ، وهي لا تملك لنفسها ضرًّا ولا نفعًا ، وهي أحوج ما تكون لرعايته من
الذئب الذي يهاجمها .
ولقد توافرت في هذه الصناعة كل العوامل التي يحبها اليتيم - كما أسلفنا -
من العزلة عن الناس اتقاء ما يصيب اليتيم منهم من إهمال وعدم عطف ، والزهد
والاعتكاف ؛ حتى لا تتأثر النفس بضعفها في الحياة ، فهي نوع من التربية النفسية
لنمو غريزة المسئولية ، ورعاية الضعيف والعطف على الوداعة والشعور بالسلطان
والاعتماد على النفس .
وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليشعر وهو يرعى الأغنام بأنه ملك صغير له
رعيته وعليه واجبه ، وأهم هذا الواجب هو حمايتها من الذئب أو من اللص ، وهو
في أثناء ذلك يمشي في الأرض ويفكر في الطبيعة بين السهل والوادي ، والجبل
والصحراء ؛ ليبحث عن رزق أغنامه ورزقه ؛ أليس ذلك يصرفه عن البطش بها ؟
أليس يعرف أنه مسئول عن ضياعها ؟ أليست هذه مسئولية تربي في نفس كنفسه
الشريفة كل تقدير للواجب ، وتعده أن يكون راعياً كبيراً ، يرعى الناس فيما بعد ؟
* * *
حياته وهو غلام
في حياته - عليه السلام - أثر واضح للغرائز النبيلة ، وأن عقله الباطني كان
أنشط من عقله الواعي ، وإلهامه الطبيعي أشرف من إلهامات الناس كافة .
لقد عاش في وسط ليس للتربية القويمة أي أثر فيه ، وقد يكون الوسط العربي
في بلاد العرب اليوم مشابهًا له ، أي أن الغلمان لا يجالسون الكبار ، فلم يكن له
فرصة التربية والعملية تلقينًا أو مشاهدة ؛ ولكنه كانت تربيه غرائزه الخاصة ، إذا
صرفنا النظر عن القوة الإلهية التي نعتقد أنها كانت مشرفة على إعداده .
يتجلى لك ذلك في حوادث جمة نسوق لك منها حادثتين : الأولى ما ذكره ابن
هشام وغيره نقلاً عن الحديث الشريف :
( لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان ، وكلنا
قد تعرّى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة ، فإني لأُقبل معهم كذلك
وأدبر إذ لكمني لاكمٌ - ما أراه - لكمة وجيعة [3] ، ثم قال : شُدّ عليك إزارك ، قال :
فأخذته وشددته عليّ ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين
أصحابي ) .
والحادثة الثانية هي الحادثة المشهورة ؛ إذ أراد أن يسمر بمكة ، وتتمتها كما
جاء في قوله عليه السلام : ( فخرجت لأدنى دار من دور مكة فسمعت غناء
وصوت دفوف ومزامير ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : فلان زوّج فلانة لرجل من
قريش ، فلهوت بذلك حتى غلبتني فنمت ) .
فما هو التعليل النفسي لهاتين القصتين إذا صرفنا النظر عن العامل الإلهي
الأكبر ؟ فإن هذا الهاتف وهذه الكلمة هما نشاط العقل الباطن نشاطًا غير معتاد
نتيجة الغرائز الشريفة التي أخفاها الرقيب العقلي على حكم البيئة التي يعيش فيها
عليه السلام ، فسمعه صوتًا وشعر به لكمة وهذا كثير الحصول في الأمراض
العصبية ؛ إذ يرى الشخص أو يسمع أو يشعر بأشياء لا وجود لها نتيجة العقل
الباطني ، وكذلك تعلل الحادثة الثانية بمغالبة دافع السمر بغريزة الاقتصار والرضا
بالواقع ، ومواجهته ، فشغل حتى نام .
وليس هناك فرق بين العقل والجنون إلا قوة الرقيب ، فإذا ظهرت القرائن
التي لا تلائم المجتمع سمينا ذلك مرضًا ، وإذا ظهرت الغرائز التي ترقي المجتمع
وتسمو بالشخص إلى منزلة رفيعة ومثل أعلى سمّينا ذلك شخصية فذّة وعبقرية ،
وعزونا ذلك إلى الغرائز الشريفة الراقية التي لم يستطع الرقيب التغلب عليها بحكم
الوسط ، فالوسط الذي كان فيه عليه السلام يبيح للأطفال تعرية سوءاتهم ، أما غريزته
فكانت أرقى من ذلك ؛ ولذلك نشط عقله الباطني ونهاه عن العري .
ويمكن أن تؤول كل تصرفاته وهو طفل على هذا النحو ، فلا تجد هناك إلا
تعليلاً واحدًا وهو أن غرائزه كانت نبيلة غاية النبل مما اشتهر به من الأمانة
والكياسة إلى غير ذلك من جميل السمات .
* * *
محمد تاجر
هذه الصناعة هي ألصق الصناعات بأخلاق الناس ودراسة نفوسهم ، وفضل
السياحات عظيم في تربية الشخص الخلقية ، وقد ظهرت لك غرائزه في أمانته ،
ولنذكر الآن العناصر الجوهرية في هذا البحث وهي صلة محمد صلى الله عليه
وسلم بالأديان الأخرى ، وهل هي التي أثرت فيه في التحنث بالغار أم لا ؟ يقول لنا
جماعة المستشرقين: إن صلة محمد صلى الله عليه وسلم في سياحاته بالأديان
الأخرى عرفته الشيء الكثير عن تلك الأديان ودراستها ، ويخيّل إليك أنها كانت
دراسة عميقة كدراسة الطالب الذي يتخصص في علم الطب والحقوق مثلاً ومثل
هذه الدراسة لابد أن يلزم الطالب فيها باب أستاذه مدة طويلة جدًّا من الزمن توازي
على الأقل مدة دراسة تلاميذ سقراط ، ولكن ظهر لك أنه لم يصرف في الرحلة
الثانية غير ثلاثة أشهر ، منها نحو ثمانين يومًا في الطريق ، ويلوح لنا أن هذه
الرحلة لم يكن الغرض منها سوى التربية النفسية ، وتحمل مشاق السفر ،
والمحافظة على الأمانة التي عهد إليه القيام بها وهي توصيل التجارة والعودة بالثمن ،
كما بيّنا ذلك مفصلاً في الفصل الثاني الذي مر بك .
ولقد ادعى درمنغام وغيره أنه عليه السلام ذهب إلى اليمن ، ولم تؤيد كتب
السير هذا الزعم ، ولكنها أضيفت فقط للتهويل .
* * *
دين محمد قبيل الوحي
فلننظر ما ذكره ابن هشام ونستنبط منه دين محمد قبيل الوحي ، وهل تعبده له
صلة بالأديان الأخرى أم لا ؟
لم يروِ لنا أحد من المسلمين وأعداء الإسلام شيئًا عن دين سيدنا محمد قبل
الوحي ، بل كل ما قالوه هو أنه صلى الله عليه وسلم ( ابن هشام : صفحة 224 )
كان يجاور في حراء في كل سنة شهرًا ، وكان ذلك مما تحنثت به قريش في
الجاهلية ، والتحنث لغةً هو التحنف .
وقال عبيد - صفحة 225 - : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور
ذلك الشهر من كل سنة ، يطعم من جاءه ، فإذا قضى صلى الله عليه وسلم جواره
من شهره ذلك كان أول ما يبتدئ به إذا انصرف من جواره إلى الكعبة فيطوف بها
قبل أن يدخل بيته .
هذا هو كل ما كان يفعله عليه السلام من التعبد قبل بعثه ، ولنطبق ذلك على
علم النفس أيضًا .
لقد نشأ محمد عليه السلام في الجاهلية التي كانت تحترم الكعبة ، وقد أوجدت
الظروف التي طرأت على بناء الكعبة فرصة انقسام القبائل على حمل الحجر
الأسود ، فكانت فرصة ساخنة له أعطته ميزة الفصل بينهم وأن يكون رداؤه محمل
الحجر ، وأن يكون له ميزة وضعه بيديه الشريفتين مكانه ، فإلهامات محمد صلى
الله عليه وسلم الطبيعية وغرائزه لم تجعله ينفر من الكعبة وهو يجهل ما سيكون لها
من الشأن على يديه مستقبلاً وليس في التوراة والإنجيل ما يدل على أن هذا هو
بيت الله الذي بناه إبراهيم ، فهو على حكم البيئة التي نشأ فيها لم يشذ عن احترام
الكعبة ؛ ولكنه نفر مما حوت من أصنام مما كان المجموع يدين به .
نقف هنا وقفة قليلة لنتأمل هذا الفرق الهائل بين احترامه للكعبة ونفوره من
الأصنام : فالكعبة كما رأيت لا تمت بصلة لليهودية ولا للنصرانية ؛ ولكن العرب
كانوا يحترمونها احترامًا متوارثًا ، وكانوا يعرفون أنها بيت إبراهيم .
ولقد روى الكلبي في كتابه ( الأصنام ) أن منشأ هذه الأصنام هو شدة تعلق
أبناء إسماعيل بالكعبة ، فكانوا كلما كثروا ورحلوا إلى جهة أخذوا حجرا من الكعبة
ووضعوه في مكانهم الجديد وطافوا به تبركًا .
ثم دار الزمن بهم فعبدوا ما استحبوا ، ونسوا ما كانوا عليه .
فأنت ترى من هذا أن احترام الكعبة موروث في أبناء إسماعيل ومنهم محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ ولكنه نَفَر من الأصنام ، وهذا فارق كبير .
وتاريخه عليه السلام يكاد يحوي كل صغيرة وكبيرة من تعبده ، بل كان يُسأل
بعد الإسلام عن كل شيء ، ولم نجد في عمل من أعماله دليلاً على اتصاله بالأديان
الأخرى .
ولكن هناك أمر واحد تمحّك فيه جماعة المبشرين بعد أن غذاهم به فريق
المستشرقين ، تلك هي القبلة الأولى ، وزعيم هذه الفرقة هو ستوك هرجرونيه
وفنسنك طريد المجمع اللغوي الملكي ، وسنبين هذه الشعوذة عند الكلام عن هذا
الرجل الذي وقفنا معه موقفًا خالدًا في هدم المستشرقين ، على أن ذلك كان بعد
البعث ولا شأن له بموضوعنا الآن ، وعلى أن الأعمال الثلاثة التي كان يدين بها
قبل البعث هي المجاورة في الغار ، وإطعام المساكين والفقراء ، فإذا انتهى ذلك
الشهر طاف بالكعبة سبعًا .
فهل هذه الأعمال تمُت بالصلة لأي دين من الأديان السابقة ؟
إذا كان هذا التعبد - إن صحت تسميته بهذا الاسم - مصدره الغريزة والإلهام
وحدهما ، فهو - على حكم الوراثة من جده الأعلى إبراهيم وإسماعيل - قد شق له
طريقًا وحده .
ولم يقل لنا المستشرقون ومن جرى مجراهم أنواع هذه الصلة التي قالوا عنها ،
بل اكتفوا بهذا الوضع للتشكيك لا غيره ، وإلا فإني أتحدى من يقول بأن هذه
الأعمال التي كان يقوم بها محمد صلى الله عليه وسلم متخذة من الأديان السابقة ،
اللهم إلا دين الحنيفية دين الإسلام وملة إبراهيم ، ومحمد بغرائزه وإلهامه شق له
طريقًا وحده ولم يتشيع لدين ما قبل بعثه ، وإلا لكان الكافرون من أهل زمانه حاجّوه
بما كان يعترف به أو يعمله ، وليس في القرآن إشارة ما إلى ذلك مع أنهم حاجّوه
بكل أنواع الحجج ، وطعنوه بجميع أنواع المطاعن إلا هذا ، فهل ما خفي عن
معاصريه اكتشفه المستشرقون في آخر الزمان ؟
... ... ... ... ... ... سبحانك هذا بهتان عظيم .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بل وجد فيه وصفه بالأمي ووصف قومه بالأميين ، ووجد فيه (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ) (العنكبوت : 48) .
(2) ولعل أمثال هذه الحادثة هي التي جعلته - عليه السلام - يرضى بالواقع فلم يذهب إلى سمر ولم يحضر ناديًا .
(3) يظهر أن الرواية بالمعنى ، وإلا ففي استعمال وجيعة نظر .​
(35/267)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل الرابع
محمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

رأيتَ في الفصل السابق أن دين محمد صلى الله عليه وسلم وتصرفاته قبل
البعث كانت كلها من منبع الغرائز والإلهامات العالية .
وقديمًا قال الحكماء : إن السر في عدم إنجابه ذكرًا أن أي ولد يخرج من صلبه
كان محتومًا أن يكون في درجة من النقاء يصل بها إلى درجة النبوة ، وموت أولاده
الذكور كان قضاء وقدرًا ؛ لأنه معد لتلك الرسالة العظمى التي ختمت به .
ويقول لنا درمنجهام إن موت أبنائه قد زعزع عقيدة زوجته السيدة خديجة في
الأصنام وأتى لنا بقصص كلها خرافية جديرة بأن نهملها [1] .
والآن نقف وجهًا لوجه مع جماعة المستشرقين كلهم الذين كتبوا ويكتبون عن
حياته كرجل عظيم ، ونريد أن يتمشى معنا القارئ في هذا الفصل لنرى هل كان
محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب أم نبيًّا ورسولاً ؟ ولو وجدت عبقرية
عظماء الرجال في عصره وفي بيئته كانت تقوم بما قام به أم لا ؟
رأى الباحثون من المؤرخين أن العالم كان في وقت البعث في حالة انحلال
أدبي وسياسي عمّ الكرة الأرضية .
ففي الشرق كانت الصين والتبت تمزقهما الحروب الداخلية ، والهند كانت في
فوضى أخلاقية نتيجة انتشار المذهب البرهمي الذي يعد من أركانه هبة البنات
الأبكار للآلهة وأن يقوم البرهمي في دور الآلهة في الاستمتاع بالعذارى مما لا
يزال له أثر حتى اليوم ، بهبة البنات للاستمتاع الديني في المعابد ويطلق عليهن
اسم فتيات المعبد .
وكان شمال غربي آسيا في حاله ركود وغموض ، وشمال إفريقية في حالة
يرثى لها من الظلم الفاضح على أيدي فلول الرومان التي فقدت سمعتها الأدبية ولم
يبق منها بقية أنفاس تتردد كما تتردد آخر أنفاس المشرف على الموت .
وكانت اليونان تعاني ما تعانيه بقية البلدان لتبعيتها للدولة البيزنطية التي كانت
مشتبكة في حروب مع الفرس الذين كانت جنودهم تعيث في أرض الروم فسادًا حتى
انحلت أمة الفرس نفسها .
* * *
ومن هذا يتضح لك أن العالم كان في غمرة انحلال أدبي وسياسي ومادي
وأخلاقي ولا يمكن نجدته إلا بقوة خارقة تهديه سواء السبيل ، على أن العالم لم يكن
خاليًا من بذور الإصلاح فقد كانت اليهودية معروفة ، والنصرانية لها بابوية روما ،
ومازال هذان الدينان منتشرين للآن كما توجد أنقاض المدنيتين اليونانية والرومانية .
هنا نقف بالقارئ قليلاً لنستعرض الآراء التي يقول بها منكرو رسالة محمد
صلى الله عليه وسلم ونتمشى معهم قليلاً في استنباطاتهم لنرى إذا كانت تهيئ لهم مثل
تلك الدعوى .
قال المستشرقون ومن لف لفهم : إن محمدًا كان على اتصال علمي بالأديان
الأخرى ، وإنه استقى معارفه ومعلوماته من سياحته في الشام وباحتكاكه بمن
يحضرون إلى مكة للتجارة ، وقد زاد الغامزون اللامزون بأنه يحسن القراءة
والكتابة ( مرجوليث ) بدليل الآية الكريمة : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } ( العلق : 3 )
وادّعوا أن هذا اعتراف بأنه كان يعلمها ، وأنه قرأ عن كل شيء .
إن تصديق مثل هذا الكلام فيه كل العبث بالعقل البشري ، أما سياحاته في
الشام فقد سبق عنها الكلام في الفصلين السابقين .
وهناك رأي آخر يقول به بعض المستشرقين وهو أن محمدًا كان يقتدي
بموسى عليهما السلام ، وأن دعوته كانت لحب السلطان .
يقول هذا القول المستشرق مرجوليث في كتاب تاريخ العالم العام ونقول ردًّا
على هذا : إن غرائزه وإلهاماته كانت واضحة تمام الوضوح ، ولتصرفات الشخص
في صغره دليل على غرائزه وميوله ، ولم يكن في غرائزه - عليه السلام - ما
يؤخذ منه حب السلطان وحب المال والتملك ، أو غرائز الهدم والإفساد وحب
الظهور وهي أظهر الغرائز في حياة الأطفال الذين يرجح أن يكون لهم شأن في
المستقبل ، بل بالعكس كانت غرائزه العاملة هي التواضع والوحدة ونفي الخلاف ،
ولم يعرف عنه أنه استغل سلطانه في الاستفادة المادية وهي أهم ما يطمح إليه
العظماء .
كذلك لم يشتهر بالشعر ولا بالدعاية لنفسه وهما أقوى المؤثرات في عصره
وفي كل عصر مما كان يهيئ له أن يجمع حوله جماعة الأنصار يعد بها العدة
للمستقبل الذي يتهيأ له لو أنه شخص ذو مطامع .
هذان هما الرأيان السائدان في كتب المستشرقين ، وهناك رأي ثالث يستنبطه
بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة وهو أن محمدًا - عليه السلام - كان على علم قليل
بالأديان السابقة ، غير أنه رأى أن العالم محتاج للإصلاح المعنوي والنفسي ، وأن
لا وسيلة لإصلاح المجتمع إلا بهدم الخرافات والمعتقدات الزائفة فبدأ بالدعوة لهدم
كل هذا .
وإنك لتجد في هذا الرأي أثرًا واضحًا للثقافة والتعليم الراقي ، فأصحاب هذا
الرأي ما حكموا هذا الحكم إلا بعد الاطلاع على تاريخ العالم الذي لخصناه لك في
أول هذا الفصل ، ثم درسوا المعتقدات التي كانت شائعة في ذلك العهد وكذلك تعلموا
الموازنة بين الأديان ، ثم درسوا التاريخ السياسي والاقتصادي للأمم كلها حتى
القرن العشرين ؛ ولذلك كان هذا الاستنباط لا يعد استنباطًا بل يعد تقريرًا لما حصل
ووليد الاطلاع على الأسباب والنتائج ، وهو تفسير لسر الدعوة التي قام بهم الإسلام .
فهل كان يتسنى لرجل عاش في الجاهلية الأولى أن يعلم كل ذلك على غير
معلم في صحراء قاحلة ؟ وهل من الممكن لعقل بشري أن يسع كل هذا التحصيل
والإنتاج والتشريع وحده من غير معين من الأساتذة أو الجهابذة ، مع ما علَّمنا علم
النفس اليوم أن للعقل طاقة وللذاكرة احتمالات لا يمكن تجاوزها من غير أن يختل
توازنها اختلالاً عصبيًّا .
فأصحاب هذا الرأي يعرفون المقدمات والنتائج بأجمعها ، فينسبون له - عليه
السلام - قوة لا يتسنى لأحد من البشر إدراكها في ذلك الوقت الذي بدأ فيه الوحي ،
وهنا سر اختلال هذا المنطق وهذا الرأي ؛ ففرق كبير بين أن تدرك الأمر من أوله
وبين أن تعرفه بعد نهايته بأربعة عشر قرنًا ، وأن تعرف أسباب نجاح الدعوة
وتضيف إليها استنباطًا من عندك بعد أن تقرأ كل ذلك في كتاب واحد مأخوذ من
آلاف المصادر .
ولو أدت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نتيجة عكس ما أدت إليه لما عدم
أصحاب هذا الرأي ألف حجة على خطئها وعدم ثقافة الداعي لها مما سنشرحه فيما
بعد .
وهنالك رأي أخير وهو - على ما فيه من تهاون - جدير بالذكر والتمحيص ،
وهذا رأي أصحاب الفلسفة الحرة أيضًا ، وهو : أن ليس لعظماء الرجال حاجة إلى
التعليم ، وإن أكثر العظماء لم يكونوا من المثقفين ، بل يكفي للنجاح فكر صافٍ ،
وقلب طاهر جبار ، وعزيمة صادقة ، وإخلاص حر عميق ، وإيمان ثابت .
وإنا لنقف برهة أمام هذا الرأي لنقلبه ونقف على كنهه ؛ لأن نواحي عظمة
الرجال متعددة ، فإذا صدق هذا القول عن رجل سياسي يقيم ثورة ، أو يهدم عرشًا ،
أو يفتتح دولة ، أو يستأثر بسلطة - فإنه لا ينطبق على صاحب دين أساسه قوة الحجة
وسلامة المنطق ، ويتناول التاريخ القديم والحديث في زمنه فينفي ويثبت ويناقش
ويجادل ، ولابد لهذا كله من ثقافة واطلاع لا وسيلة للإلمام بهما .
فإذا كانت الإلهامات والإخلاص والإيمان وحدها هي مصدر كل هذه
المعلومات فإننا لا نشك أن مسافة الخلاف بين منكري النبوة والمؤمنين قد قربت
إلى أدنى حد ؛ لأن الإلهامات التي تتحدث بالغيب ، وتعلم المجهول ، وتحيط بتاريخ
الأوائل والأواخر ، وتنفي وتثبت بطريق القطع والصواب ، هذه الإلهامات هي
فيض من فيض الرحمن ، ورسالة من الملأ الأعلى .
وليس الصدق الصرف والإخلاص الحر والإيمان الثابت الذي لا يتحدث به
صاحبه ، ولا يكتسب به شيئًا من حطام الدنيا ، بل احتمل مرارتها لهداية البشر
وإنقاذ البشرية - ليس ذلك كله إلا مرتبة من مراتب النبوة .
وهناك مسألة جديرة بالنظر والتفكير ، وهي أن الإسلام ليس للزهد والآخرة
فحسب ، بل نظم أعمال الإنسان في الدنيا لتكون وسيلة إلى الآخرة ، وشرّع من
القوانين في الحياة المدنية ما ينظم الهيئة الاجتماعية وعلاقات الأفراد والأمم ، وهذه
ليست طريقة عظماء الرجال رجال الدول أو رجال السيف ، بل المعروف عن كل
عظيم أنه استعان بالأحكام العسكرية ليمنع حرية الناس في حدود القوانين التي
يضعها لصالح الدولة أو الفكرة التي يقيمها ، وهذا هو الأمر الشاذ في دعوة الإسلام
فلقد كانت مبادئه عامة .
ولننتقل الآن إلى مسألة أخرى جديرة بالنظر والبحث ، وهي أننا لو فرضنا
محمدًا صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب هل كان يتّبع تلك الخطة التي اتبعها
في نشر دعوته ؟ وهل كان ينتخب لها ذلك الوسط والزمن اللذين قام فيهما ؟ وهل
كان من صالحه أن يقوم بهذا النوع من الدعوة لله ؟
لقد أجمع المؤرخون أن مكة كانت وثنية حقًّا ، ولكن ما الضرر الذي يصيب
العالم من عبادة الأوثان أو الأحجار ما دام ذلك لا يؤثر في حياتهم ومعاشهم ، وهذه
أمة اليابان مثلاً تغلغلت في الوثنية إلى العهد الحديث ومع ذلك طفرت إلى المجد
طفرة واحدة ، فالضرر الذي يحصل من عبادة الأوثان إن هو إلا ضرر في نوع من
أنواع التفكير الصحيح ، وإذا كان الدين هو معرفة حقيقة الله فقط من غير أن يكون
وراء هذه الحقيقية مبادئ أخرى تنقذ البشرية من براثن الأوهام واستغلال العقول
لتساوت جميع الأديان ، وهناك أديان تكاد تلمس التوحيد ولكنها خالية من روح
المنطق ، فترى في هذه الأديان أن البقر معبود يقدس ويعد روثها بركة وتشرب
أبوالها ، في حين تعد فريقًا من الناس نجسًا لا يصح لمسه وتجعل هذا الفريق من
الناس محكومًا عليه أن يعمل في الأقذار والأوساخ ، فما الفائدة التي تعود على العالم
من مثل هذا غير العبث بالإنسانية .
وهناك بعض الفرق التي اخترعت لها مذاهب في الأديان السماوية ورجعت
بالإنسان القهقرى إلى أنواع عبادة الأصنام والأشخاص ، فيوزن صاحب المذهب
بالذهب كل عام ويؤخذ هذا الذهب من أتباع مذهبه ، ومن هذا يتضح لك أن التوحيد
هو تحرير الفكر من كل شيء ، ولنرجع إلى ما كان سائدًا في مكة :
فالمهم والواضح أن اليهود - اتباع الدين الإلهي الأول - كانوا يستغلون
أموال هؤلاء الوثنيين بالربا الفاحش إلى حد استعباد الناس ، ودفعهم ببناتهم للبغاء
تسديدًا للديون الباهظة التي جرها الربا الفاحش .
وقد كانت حالة العرب الوثنيين من الفقر والإملاق والبؤس والتشريد مما
يستوقف النظر العادي ، وكانت مصيبتهم الاقتصادية والأدبية مما يبعث على التفكير
في هدم اليهودية لا الوثنية ، فإذا أضفت إلى ذلك أن مكة ليست بلدًا زراعيًّا بل وادٍ
غير ذي زرع تكتنفه الجبال والصحاري ، علمت أن كل أرزاق الناس كانت من
التجارة ورعاية الماشية في الأماكن البعيدة .
ومكة على حالها الآن أهون بكثير من مكة قبل الإسلام ؛ فمورد مياهها الآن
متوفر من ( عين زبيدة ) الذي جر إليها بعد الإسلام وكانت قبل بلقعًا جافًّا .
وإذا عرفنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان تاجرًا ، فإن هناك مسألة لا بد
أنه كان يعرفها ، وهي أنه رأى بعينيه وسمع بأذنيه مصدر ألم الناس وفقرهم هذا
الفقر الذي يقاسيه أهله وعشيرته من الربا والإملاق نتيجة طغيان أصحاب
رؤوس الأموال من اليهود الذين استأثروا بتشريع القوانين بمكة ، فأذلوا بهذا التشريع
أعناق العرب ، ودفعوهم دفعًا إلى استثمار أعراضهم في البغاء [2] .
فالرجل العظيم الذي يوجد في مثل هذه الظروف لو كان غير محمد صلى الله
عليه وسلم ونصب نفسه للدفاع عن المظلوم ونصرة الضعيف فإنه كان يتخذ طريقًا
مباشرًا للقضاء على أصل الداء من منابته ، والتاريخ يدلنا على أن عظماء الرجال
الذين عاشوا في مثل تلك العهود وجهوا جهودهم لأقصر الطرق فقاموا بالدعوة
للاشتراكية ومحاربة أصحاب رؤوس الأموال ، أو البلشفية أو غير ذلك مما تراه
مفصلاً في كتب التاريخ عندما يستأثر بعض الناس بالأمر ويستبدون بالنفوس ، ولعل
دراسة أعاظم الرجال تدعونا إلى تأييد هذا الرأي ، فنابليون مثلاً لما رأى الثورات
تمزق فرنسا لم يقم بالدعوة إلى الزهد ، بل عمل على حصر السلطة في يده من
طريق الحرب والقيادة ، وانتظم في سلك الجنود حتى وجه الأنظار إلى مهارته كقائد ،
وأظهر نفسه وكبر من شأن عبقريته بفتح إيطاليا ، ثم عمد إلى كل الطرق التي
تجعله قنصلاً فإمبراطورًا .
ومحمد علي باشا عمل مثل هذا أيضًا .
وكان أسهل طريق أمام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يستغل عبادة
الأوثان ولم يكن فيها وفي مبادئها شيء عن الربا ، فإذا جمع القلوب حوله وقبض
على ناصية السلطة ضرب نفوذه على ما حوله واستغله في الإصلاح ، وأول ما
يوجه نظره هو الحالة الاقتصادية والأدبية من طريق مباشر يمنع كل ما كان يشكو
منه الناس .
والمطلِّع على تاريخ العرب في الجاهلية يرى أن الدعوة كانت ممهدة لمثل هذا
الرأي ، وما كان عليه إلا أن يستثير عواطف الناس في سوق من أسواق العرب
ويدعوهم إلى دعوة اقتصادية صرفه فيلتف حوله جماعة من أشداء السواعد ومفتولي
العضل ويهاجم بها بيوت اليهود فيأخذ أموالهم ويطردهم ويحرر الناس من رقهم
المادي . ويدلنا على صحة هذا الرأي ما نراه متجلّيًا من روح الكراهية لأصحاب
رؤوس الأموال ، وانتشار الدعوة إلى الرفق بالمظلوم ، فقد كانت الشعراء والخطباء
مهدت فعلاً الطريق إلى مثل هذه الدعوة ، وتألَّف فعلاً أنصار لمن يقومون بمثل
هذه الدعوة ، يدلك على ذلك أشتات من قصائد وأشعار جاهلية في وصف هذه الحالة ،
كقول بشر بن المغيرة عن اليهود :
وكلهم قد نال شبعًا لبطنه ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
وقال الأعشى :
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
كما يدلك على ذلك عادة وأد البنات في طبقة الأشراف ضنًّا بهن أن يكن في
يوم من الأيام موضع استغلال للبغاء .
فمن من عظماء الرجال يكون في مثل تلك الظروف ولا يقوم بحرب مباشرة
ويستغل هذا الشعور الملتهب ويضرب في الصميم بنهب اليهود وقتلهم ، هذا هو
الرأي الذي توحيه الظروف ، معاداة اليهود وكراهيتهم وطردهم ، ولكن جماعة
المستشرقين يقلبون الحقائق ويقولون إن محمدًا أراد استغلال اليهود ، وهذا هو
المنطق المعكوس والكلام الهراء الذي لا يقوم عليه برهان ، فالعلل التي كانت
تشكو منها الإنسانية لم تكن متجهة إلى العقيدة بل إلى أنواع المعاملات المدنية
والاجتماعية .
أما أن يقوم محمد صلى الله عليه وسلم ويفكر في طريق شاق ملتوٍ ويبدأ بمعاداة
أهله في عقائدهم ، يسفِّه جيرانه وقومه في آرائهم ويهزأ بعقليتهم - فأول ما يقابل به
هذا النوع من التفكير في تلك الظروف هو تلك التهمة التي اتهموه هم أنفسهم بها
أنه مجنون ؛ لأن هذا يثير الرأي العام عليه وما كان يقول به عاقل حكيم لو كان -
عليه السلام - مستسلمًا لنفسه وحدها من غير قوة عليا تؤيده ، وتوحي إليه ،
وتدفعه دفعًا إلى هذا الطريق الشائك المملوء بالمخاطر .
كما أن مكة البعيدة السحيقة لم تكن أصلح مكان لمثل هذه الدعوة ؛ لأن
الشخص العادي الذي ينظر إلى إصلاح العالم لا ينتخب أقل البلدان عمرانًا لدعوته ،
وماذا يكون رأي العقلاء لو قام رجل في أقل قرى الصعيد شأنًا ليدعو دعوة
إصلاح سياسي أو عمراني في مصر كافة ، أو في العالم أجمع ؟
ومن المدهش أن الدعوة من أولها انبثت على مبدأ واحد هو الدعوة لله وحده ،
أليست هذه طريقة ملتوية ؟ وما الذي جعله يتمسك بدعوته هذه بعد أن سعى إليه
زعماء العرب وأهله يولونه رياستهم ويعرضون عليه السلطان المطلق في الأمر
والنهي ، فأبى ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ؟
لقد كان في استغلال شعورهم هذا ملكًا كبيرًا ، ودولة يطرد بها مصادر
ألم العرب وشقائهم ، وكانت فرصة ذهبية لجمع القلوب حوله وضرب المرابين
وأصحاب رءوس الأموال ومفسدي الأعراض .
لنقف قليلاً ولنتدبر ، ألم يستغل كل عظماء الرجال مثل هذا الظرف ؟ ألم
يخلق نابليون ومحمد علي وكرومول ، وغيرهم مثل هذا الظرف ؟ وإن تاريخ
عظماء الرجال يخبرنا أن أول عمل يقومون به هو استغلال عواطف الناس لا
معاداتهم في عقائدهم وأخلاقهم .
أما أن يبدأ شخص ما بمعادة الناس وتحديهم كلهم ، وضرب كرامتهم وعزتهم
وعقولهم فضرب من السياسة لم يعرف قبل سيدنا محمد ولم يعرف بعده .
وهذا تاريخ سيدنا موسى ، وسيدنا عيسى أمامنا وإنا لنرى أن دعوتهما تخالف
هذا كل المخالفة ، ولكل نبي ظروف وآية .
والخلاصة :
( 1 ) أن نفسية أي رجل عادي عاش في ذلك الزمن ما كانت لتتخذ من
وسائل الإصلاح مثل هذا الطريق الشاذ .
( 2 ) أن أسهل الطرق لاستغلال الشعور لم يكن قاعدة ، بل كانت القاعدة
تحدي الناس أجمعين ، وهذا ضرب من الإعجاز .
( 3 ) إن الذين يعترفون بالإلهامات العالية في نفسية سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم يقتربون من الحقيقة لو عرفوا أن هذه الإلهامات فوق مستوى البشرية .
( 4 ) الذين يحكمون اليوم على السيرة الشريفة بأسبابها ونتائجها لو عاشوا
في ذلك الزمن لكان لهم رأي آخر .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يقول درمنجهام : إن سبب زعزعة عقيدة السيدة خديجة في الأصنام أنها كانت تقدم النذور والحلي لتلك الأصنام طلبًا لحياة أبنائها الذكور من سيدنا محمد ، ولما لم تفلح هذه القرابين تزعزعت ثقتها وأغرت سيدنا محمدًا بهدم كيانها على أن الواقع أن أولاده الذكور كلهم ماتوا بعد الإسلام ، فلو كان استنتاج درمنجهام حقيقيًّا وينطبق على نفسيته - عليه السلام - لكان موت إبراهيم آخر أنجاله سببًا في ثورته - عليه السلام - على العالم أجمع ، ومع ذلك فكل ما قال معاصرو النبي عند موت أولاده الذكور أن الله قلى محمدًا ، فنزلت سورة : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى : 1 - 3) .
(2) نعم ، إن البغاء كان فاشيًا في الإماء ، وكن يُشترين للاتجار بأعراضهن ، لذلك نزل النهي في القرآن : ( وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور : 33) وقلما كانت تزني حرة .​
(35/280)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل الخامس
التوحيد هو روح الحرية

كان بودي أن أجعل مقدمة البحث في التوحيد ملخصًا لنشأة فكرة الأديان في
العالم وأن أتناول بالتحليل كل دور من أدوار التفكير الإنساني الأول على ثقافته
الضئيلة ليعثر على سر الوجود ، ويتفهم تلك القوة المسيطرة على العالم فتسير به
على هذا النمط المحكم الذي أدهش عقل الإنسان منذ تكوينه إلى الآن .
إلا أن هذا البحث يعد من قبيل المعلومات العامة في التاريخ القديم وكثير منها
معروف ، وفيه الدليل على أن فكرة الإنسان في وجود قوة أكبر من قوته تكاد تكون
في قدمها وعهدها كعهد الإنسان على ظهر البسيطة ، وأن العقل أدرك بفطرته أن
هذه القوة موجودة ، ولما أعيته الحيل في حسها ولمسها جهد أن يدركها من مظاهرها
وأثرها في الحياة ، فعبد النيل لأنه يقوت الشعب ويعود بالخير والبركات ، وعبد
النار لأنها مصدر قوة عظمى ويشعر بضررها فعبدها خوفًا منها ، وعبد الحيوانات
المائية كالتماسيح لأنه ظن أن الروح القوية أو روح القوة تحل فيها ، وقدس الأبقار
لأن في لبنها قوة له ، ثم عبد أشخاص الأبطال في صور من تماثيلهم ؛ لأنه رأى
فيهم قوة إنسانية تفوق قوة الإنسان العادية ، ثم فكر في أقوى المؤثرات في الكون
فعبد الشمس وحدها .
كان الإنسان في كل هذه الظروف يتلمس إيجاد سر الوجود ، والعثور على
معرفة الحقيقة لروح الحياة .
يقول بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة : إن الإنسان لم يبحث بغريزته عبثًا عن
مصدر تلك القوة إلا لأنه ضعيف في كثير من أوقات حياته ، وقليل الحيلة فيما ليس
من قدرته ، وقليل الإدراك لظواهر الطبيعة التي تبهر نفسه ؛ فهو في حال المرض
لا يقوى بنفسه على محاربة الداء ، وفي حال الجدب لا يقدر على إنزال الماء من
السماء ، فلجأ من ضعفه أن يستمد العون من قوة أخرى تخيلها أنها أكبر منه سلطانًا
على الوجود ، ورمز لها بتماثيل يسجد بين يديها يستمد العون منها ولو تمشينا قليلاً
مع هذه النظرية والفرض لخرجنا منها بنتيجة لا تقبل الشك ، وهي اعتراف
الإنسان اعترافًا صريحًا بعجزه منذ القدم إلى يومنا هذا في حل سر الوجود بعقله
المطلق وفكره الشخصي مهما علت ثقافته ومهدت أمامه أسباب العلم .
وهذه نتيجة هامة فليتذكرها القارئ ؛ لأننا سنعود إليها فيما بعد ، غير أننا
نشير الآن إلى أن اعتراف الإنسان صراحة بعجزه وضعفه جعله ينظر إلى العالم
نظرة فلسفية من غير أن يشعر ، فقد اعتقد أنه لم يوجد لا ليكون ضعيفًا ذليلاً
فتناهى في طلب الذل والتقشف والزهد والخنوع ، فأخذ يتلمس طرق إرضاء خياله
عن القوة المسيرة للعالم من طريق إذلال النفس وقتلها بأنواع شتى من التعذيب ،
ترى صورًا منها في الأديان القديمة التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم ، كفقراء
الهنود الذين يتعبدون بالجلوس على المسامير ، أو رفع أيديهم إلى أعلى حتى تجف
أو تتقدد ، أو غرس شص من الحديد في ظهورهم ، أو يعلقون على الأشجار ، وقد
تغالى الإنسان في زعمه هذا منذ القدم حتى قدم الدم الإنساني قربانًا لاستجلاب
الرضا .
وقد يقال : إن العالم تطور كثيرًا ، ووجد فيه من العلماء والفلاسفة من أرشدوه
إلى معرفة شيء عن النفس الإنسانية ، ومع ذلك لا نشك أن فطرة الإنسان قد جعلته
يفكر في القوة التي أوجدت هذه الكائنات ، وكانت فكرة الدين جزءًا من عقلية
الإنسان ، ونرى ذلك متجليًا عند استكشاف ( كورتس ) لأمريكا الوسطى وتوغله في
بلاد المكسيك لأول مرة ؛ حيث حدثنا عن وجود ديانات فيهم لا تختلف كثيرًا عن
ديانات العالم القديم ، ووصف لنا المذابح البشرية قربانًا للآلهة مما يدل على أن
فكرة الدين واحدة في العالم القديم والجديد متأصلة وجزء من تكوين الإنسان ، وإن
كان الطريق للعبادة مرسومًا على قدر تفهم الإنسان معنى الحياة كما يوحيه إليه
ضعفه وعجزه ، والتماس معرفة تلك القوة العظمى التي أوجدته وصيرت العالم بذلك
النظام البديع الذي بهر نفسه .
وإذا تتبعت تاريخ هذا التطور وجدت أنه حتى بعد ظهور أديان سماوية استمر
تعذيب النفس واحتمال الأذى ، وكانت منتشرة في أوربا في البلاد التي يفتحها
المسلمون ؛ حيث يحدثنا التاريخ أن بعض المتقشفين أخذوا يعذبون أنفسهم تقربًا لله
بأنواع من العذاب كربط الساق حتى يتغنغر ويفسد ويتساقط منه الدود ، وكعدم
الاستحمام وعدم تغيير الملابس حتى تتساقط من نفسها ، وكالجوع المستمر حتى
الإشراف على الموت ، أو غير ذلك من ضروب الاحتمال للآلام [1] .
وفي كل ظرف من هذه الظروف نرى ظاهرة أخرى في تفكير الإنسان ،
وهي أن هناك واسطة بين الإنسان وتلك القوة القادرة التي تخيلها ، فاستغل قديمًا
جماعة الكهنة في مصر ذلك حتى نازعوا الملوك سلطانهم ، وفي البلاد التي ما زالت
في الوحشية الأولى أقامت أمثالهم مقام السحرة ، أو غير ذلك مما يطول شرحه .
وفي الهند نرى سلطان كهنة المنبوذين يكاد يشاطر الرجل رزقه ، وأنهم يعيشون
عالة على الناس من قبيل الاستهواء الديني .
بعد هذه المقدمة الوجيزة لتاريخ فكرة الدين نعتذر عن عدم الإطالة ؛ لأن هذا
الموضوع من المعلومات العامة التي يستطيع الباحث أن يجدها في الكتب المتعلقة
بهذا الموضوع ، ولعله يستطيع إذا اطلع عليها أن يلم بها إلمامًا تامًّا ، وأن يعرف
أن التوحيد في الله كان معروفًا حتى قبل ظهور الإسلام ؛ لأن هناك أديانًا سماوية
سبقت ، ولكن كبار عقول الفلاسفة حتى بعد ظهور الأديان أخذوا يتلمسون أسبابًا
منطقية ليقنعوا أنفسهم بوجود خالق .
ويطول بنا أيضًا شرح هذا ، إلا أننا نشير إلى أنهم انقسموا ثلاث فرق :
( 1 ) فريق نظر إلى الأديان بفكره الفاحص فقط ثم اقتنع .
( 2 ) وفريق فرض الشك وأراد أن يقنع نفسه من طريق التشكيك في كل ما
أمامه من الأديان .
( 3 ) وفريق ترك كل هذا وأراد أن يبحث عن سر الوجود بنفسه .
فأما الفريق الذي اقتنع بنفسه ببحث الأديان التي أمامه فلا مناقشة لنا معه .
وأما الفريق الذي أخذ يتشكك ليقنع نفسه من طريق الشك فعلى رأسه
( ديكارت ) وهذا مذهب أقل ما فيه أنه مبني على زعزعة المنطق ، وأن الرجل
يفرض نفسه مثلاً أعلى في الكمال العقلي فيريد أن يقنع نفسه بنفسه لا من طريق
تفهم الشيء بذاته بل طريق التشكيك فيه ، وهنا لابد أن تعترض الشخص أمور
أكثر تعقيدًا من أن يحلها بنفسه ، ولنضرب لك مثلاً : ديكارت نفسه لا يعرف شيئًا
من العربية فلا يمكن أن يعرف إعجاز القرآن ، وديكارت لا يعرف شيئًا من علم
الفلك فلا يمكنه أن يفسر الآيات التي تعد إعجازًا في علم الفلك ، كما توجد آيات
أخرى تعد إعجازًا في الطب لا يمكنه فهمها .
ومن عيوب العقل الإنساني أنه كثير الزهو بنفسه وإن الفيلسوف يظن نفسه
بطلاً في كل شيء ، مع أن دينًا كالدين الإسلامي تناول كل أنواع التفكير والتشريع ،
وهذا أكثر من أن يحكم عليه إنسان واحد .
أما فريق الماديين فليس من موضوعنا مناقشتهم ؛ لأننا نرى في القرآن
إعجازًا يقنعهم ، وأن الإسلام يتمشى مع العلم جنبنًا إلى جنب ، وأن في آيات :
{ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ( العلق : 2 ) و { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ } (الأنعام :
2 ) و { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ( نوح : 14 ) لأدلة إذا تفهمها هؤلاء الناس
لخروا ساجدين ، إلا أننا لا نتكلم في هذا البحث الآن ؛ وإنما نقتصر على الإعجاز
النفسي في الإسلام ، على أننا نرى من وجهة أخرى أن الموضوعات العلمية الفنية
تتمشى جنبًا إلى جنب مع الإسلام ، فأول آية من آيات القرآن الكريم : { اقْرأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *
عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ( العلق : 1 - 5 ) .
فأنت ترى أن أول نداء للإسلام كان على دعامتين : الله والعلم ، وترى كثيرًا
من آيات القرآن أحالت على تعلم وتفهم دقائق الحياة وعناصرها ، وتركت للعقل
البشري حريته في البحث والاستقصاء ، وتركت للفكر والسمع والبصر والأفئدة
سبيلاً لمعرفة الله عن طريق العلم { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ... } (فصلت : 53 ) ولقد قامت الدعوة الإسلامية على مناقشة الحجة بالحجة والبرهان
بالبرهان .
والظاهرة الغريبة جدًّا أن الإسلام لم يجعل فاصلاً بين المرء وربه ، وجعل
الناس كلهم سواسية : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ( الحجرات : 13 ) { وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } ( آل عمران : 144 ) وهو إنسان
كجميع الناس لولا أنه نبي كريم ، وبهذا ترى أن التوحيد ضرب الحجر على العقول
ضربة قاضية ، وضرب استضعاف المرء لنفسه ضربة قاتلة ، وساوى بين الناس
جميعهم ، كما هدم كل أساس للأفكار الخيالية في التقرب من الله بطريق تعذيب
النفس ( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ) كما ضرب الوساطة بين العبد
وخالقه ضربة لا قيام لها .
انظر وتأمل هذا النبي الكريم على جلاله وعظمته ، وعلى مكانته عند الله
والناس لما رأى رجلاً مقبلاً يرتعد رهبة قال - عليه السلام - : ( خفّض عليك ،
أنا ابن امرأه كانت تأكل القديد بمكة ) .
في هذه الحادثة وحدها ، وفي هذا الحديث وحده كل معاني الحرية وكل معاني
المساواة وكل معاني حكمة الإسلام في الحرية الشخصية .
ولنذكر لك أثر التوحيد في تكوين النفس ، وكيف تطور الفكر الإنساني بمبدأ
التوحيد ، ونبتت عند الناس فكرة الحرية الشخصية والدينية منذ الساعة الأولى التي
قرع سمع العالم هذا النداء الإسلامي .
لقد كان طبيعيًّا أن تصادم هذه الدعوة الحرية - بكل معانيها - بالعقائد
التقليدية التي سبقت الإسلام ، وهي عبارة عن اعتراف الإنسان بضعفه اعترافًا
صريحًا - كما تقدم - وإقراره بحدود ضيقة لعقله لفهم تلك القوة الهائلة المسيطرة
على العالم ، وعبادة البطولة والأبطال والقوة في رموز من التماثيل يستلهمها وقت
الضيق ، ويتقرب منها عند الحاجة ، فقام نزاع شديد بين هذه التقاليد الموروثة في
الجمود الفكري .
ورأى الناس الدعوة الله والعلم عن طريق الفهم والحجة والبرهان والعقل ،
فنشبت معركة هائلة بين العقل والقوة ، ومظاهر القوة مادية محصنة فلجأ المكذبون
إلى إيذاء النبي وصحبه وإنزال العذاب بهم مما يشيب لهوله الولدان ، بالضرب
وبالحرق ، والكي ، بكل أنواع الوحشية .
ذلك لأن عقول هؤلاء الناس لم تكن في أدمغتهم ؛ ولكن في أيديهم وفي أدوات
اعتداءاتهم ، كما رباهم على ذلك هؤلاء الناس الذين استعلوا ضعفهم الفكري ،
فاستغلوا عواطفهم لاستدرار الأموال منهم .
ولقد صبر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الأذى والعذاب ، وهذا
الصبر والثبات في موضعهما ضرب من ضروب تطور الفكر الإنساني من حال
إلى حال ؛ فالناس قبل الإسلام كانوا يحتملون العذاب تقربًا من الله ، ويحتملون
الأذى الفكري من غير فكرة معينة عن الله ، ولكن إصرار المسلمين على عقيدتهم ،
واحتمالهم الآلام في سبيلها ، هو دفاع عن حرية الرأي والعقيدة ، دفاع عن حرية
التفكير ، دفاع عن الحرية بكامل معانيها ، فصاروا يقبلون العذاب في مقاومة
العادات والأخلاق الموروثة ، وفي سبيل تحرير الفكر .
وهناك ظاهرة غريبة أغرب مما يتصوره العقل ، فقد مضت ثلاثة أعوام على
دعوته صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه إلا ثلاثة عشر شخصًا ، وهذا يدلك على مقدار
جمود الفكر في تلك الأيام ، وإذا قست ذلك بما يحصل في زمننا هذا لوجدت فرقًا
كبيرًا ؛ فإن حرية التفكير الآن تجعل كثيرًا من الناس يعتنقون المبادئ الحديثة أيًّا
كانت ، حتى المبشرين والمستشرقين تجد لهم أتباعًا وأنصارًا .
على أن الغريب في هذه الظاهرة - في ثبات أصحاب النبي على الأذى - أنه
لم يكن بيديه شيء ما من حطام الدنيا ، ولم يكن لديه من المغريات ما يغريهم لهذا
الاحتمال ، ولو كان رجلاً عظيمًا فقط كما يدعي المستشرقون لغيّر من خطته ،
وحبب دعوته إلى الناس بتغيير وجهتها لأقرب طريق إلى عقولهم .
ولكن هكذا كان ، فالأديان التي سبقت الإسلام كان لها زعماء من رجالاتها قد
استغلوا العقول ، فقضوا على التفكير قضاء يكاد يكون مبرمًا ؛ ولذلك كانت رسالة
محمد صلى الله عليه وسلم شاقة في بناء التفكير الإنساني من أساسه على مبادئ
صحيحة هي توحيد الله ، وأما ما بقي من الدنيا فقد صار مباحًا للعقل والفكر في
حدود المنطق الحكيم .
ولقد رأيت فيما قدمنا من أحوال العالم وقت البعثة أن العالم كان في حالة
جمود فكري وركود سياسي ، وأن المرأة كانت في الدرك الأسفل ، وأن الرأسمالية
كانت قد طغت على العالم وملكت أزمته ، ولم يكن هناك وسيلة لإنهاض العالم من
عثرته .
ولما وردت كلمة التوحيد والعلم والتفكير ، عرف العقل مكانه ومقامه ومركزه
في الوجود ، وعرف الناس أنهم كلهم سواء لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ،
وأن لا سلطان على العقل ولا رياسة للعقائد ، وأن الثواب والعقاب ليس بيد إنسان
كائنًا من كان ، والجنة لا تباع ولا توهب ، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة ( اطلبوا العلم ولو بالصين ) .
وهكذا تحررت العقول وعرف الناس قدر أنفسهم ، وأنه لا فارق بينهم ولا
شيء يسيطر على أفهامهم غير العلم ووحي الضمير عن طريق الفهم والحجة .
هذه هي المبادئ التي لا توافق الاستعمار ، التي يعمل المستشرقون منذ القدم
على مقاومتها ، وهي التي قال عنها ( سيكارد ) : ( إن الإسلام في روحه الخاصة
ينافي مصلحتنا فيجب التقليل منه بين الشعوب الخاضعة لنا ) .
هذه هي المبادئ التي جعلت للإسلام أعداء من المسيطرين على البلاد الإسلامية ،
فربوا فريق المستشرقين لكي يناهضوها .
وهذه المبادئ هي الحرية والإخاء ، والمساواة التي تمخضت عنها الثورة
الفرنسوية بعد عشرات السنين من الهول والمذابح البشرية ، وبعد اثني عشر قرنًا
من ظهور الإسلام ، وبعد أن قررها القرآن حقًّا من حقوق الإنسان ، وجعلها أساس
العقيدة ، وفرضها على الناس دينًا وإيمانًا قبل أن تكون مبادئ .
ثم انظر إلى قرارة الآلام البشرية التي ولدت في الثورة الفرنسوية ما سموه
حقوق الإنسان في الوجود والحرية الشخصية والفكرة .
على أن هذه الثورة لم تكن إلا لانتزاع حرية الناس من أيدي العابثين بها
ووازن بين ذلك وبين المبدأ الأسمى الذي وضعه القرآن في الحرية الشخصية
والمساواة بين الناس ، حتى النبي نفسه لم يدع سلطانًا ولا سيطرة ، ولا يملك لنفسه
شيئاً إلا ما شاء الله : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ
أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ } ( الأعراف : 188 ) .
أليست هذه هي مبادئ المساواة بأوسع معانيها خصوصًا إذا أضفنا إلى ذلك آية :
{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } (هود:31) .
قلنا : إن الإنسان الأول اعترف صراحة بضعفه ، وتمثل القوة العليا في الأشياء
البارزة القوة والفائدة كالشمس وفي الأبطال فصورهم تماثيل يتذكرهم بها ويتقدم إلى
هذه التماثيل بالقرابين والخشوع والاستذلال ، وكان أول معجزات التوحيد محو هذا
أيضًا ليكون الفكر حر من مؤثرات الأشباح التي تلوح دائمًا للعين فتؤثر في العقيدة
وحرية الفكر ، ولئن كان في الأديان الأخرى شيء من ذلك فإن من قاموا بعداوات
التماثيل [2] سموا أبطالاً للإصلاح الفكري الديني ، وهذا جزء قليل من أجزاء
التوحيد وعنصر من عناصره ، أفلا ترى بعد ذلك التأثير النفسي للتوحيد وأثره في
حرية الفكر والصراحة في تحرير الفكر من كل قيد يؤثر فيه ؟
وهلا ترى معي أثر تكريم بعض الأشخاص بإقامة أضرحة وقباب عالية من
قبيل الذكرى التاريخية فقط بين المسلمين قد جر السذج والهمل من الناس إلى
الاعتقاد بأمور تتنافى ودينهم ؟ .
إذن فالتوحيد الصريح أساس المساواة بين الناس ، وجعلهم كلهم طبقة واحدة
وهذا هو الإخاء الإنساني للشعوب جمعيها ، ولم تتمخض الأجيال كلها عنه إلا بعد
الحرب العظمى في جمعية الأمم وإن كانت هذه الفكرة لم تبد صريحة للآن إلا أن
التربية والتهذيب والرقي الفكري سيجر العالم إلى المبادئ الإسلامية على رغم من
يتبجحون بإنكاره ، وعلى رغم أنف الجمود الفكري الذي طغى على العالم بتأثير قوم
يستفيدون ويستمدون نفوذهم من تقييد العقل وتضليله وعدم تحريره .
ويقول بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة : لماذا يعتمد الإنسان على الدين في
فهم الفضيلة والإخاء ؟ ولماذا لا يبلغ ذلك بالتعليم وأن يعمل الخير لأنه عمل إنساني
وأن يأنف من الشر لأنه عمل وحشي ؟
وهذا القول على ظاهره مسحة من العقل ولكن منطقه ناقص وغير سليم ؛ لأن
العقول البشرية تتفاوت في تقديرها للخير والشر ، وما تراه بعض الأمم خيرًا يراه
غيرها شرًّا في العادات البسيطة ، وقد مر بك أن الأمم التي لم تتمدن جعلت الذبائح
البشرية قربانًا للآلهة عملاً خيرًا ، وقد تدهش إذا علمت أن الرقي والتعليم مهما كان
تقدمًا لم يغيرا شيئًا من عقائد البوذيين في الهند ، وأن أكبر الزعماء كغاندي على
علمه وفضله يقول : ( إن الزلازل غضبة من الله ) ولا مانع من الاعتقاد بذلك -
وإن كان لها أسباب طبيعية معروفة - وقد يكون ذلك من باب موافقة أقدار لا قدر ،
ولا زالت المرأة التي في حالة النفاس قذرة تعامل بالإهمال في أقذر مكان ، ولا
زالت القابلة التي تولدها تدخل عليها بأقذر الثياب ، ولا يزال للكهنة على كل شيء
ضريبة حتى أصبح ربع السكان من الكهنة الذين يعيشون على هذه الأموال ، وكذلك
نرى في حياة المرأة حتى في اليابان أمرًا لم تألفه النفوس في جميع أصقاع الأرض ،
وهو تقديم صاحب البيت زوجته هدية لضيفه إذا بات في منزله [3] ، مع أن
اليابان من أرقى البلاد مدنية وتعليمًا ، وهذا يدلنا على أنه لا يوجد ضابط للتعليم ولا
حد للعادات .
ومن هذا كان الدين الإسلامي عالميًّا ، يضع حدود الغرائز والعادات ، ويضع
قوانين لمعنى الإنسانية ومعني البشرية ، وإن العالم الآن مدين بنشاطه الحاضر إلى
تحرير الفكر الذي أوجده الإسلام ولو كره المبطلون .
وهنا قد يعترضنا إنسان فيقول لنا : إن تحرير الفكر كان جزءًا من الفلسفة
اليونانية ومن ضمن تعاليم سقراط وأفلاطون وأرسطو . ثم يكرر أن الأقوال التي
نقرأها دائمًا في الكتب الغربية من أن العالم مدين بحرية الفكر لليونان ، وأن فضل
العرب لم يكن إلا نقل الثقافة اليونانية وتسليمها إلى أوروبا الحديثة وأن العرب
أنفسهم مدينون للفلسفة اليونانية ، ونحن نعلم ذلك حق العلم ولكننا نقول إن حرية
التفكير شيء ومبادئ العلوم الطبيعية والمنطقية شيء آخر ، وأن دساتير اليونان
القديمة ومناقشاتهم الجدلية كانت ضربًا من التجارب الأولى ، كان بعضها ناجحًا
وكثير منها كان خطأ صريحًا كما ترى في علوم العناصر المكونة للعالم ، والأمزجة
البشرية ، فالفلسفة اليونانية هي مبادئ العلوم ، ولكن حرية الفكر وتحديد الإيمان
على وجهة واحدة ، وجعل العلم مرتبطًا بالإيمان ، وأن لا حرج على العقل أن
ينشط من عقاله ، وأن تكون هناك شريعة بالقدر الذي يكفل الفضيلة ويمحو الضعف
ويساوي بين الناس في حقوقهم المدنية والدينية ، فهذه أمور لم تكن معروفة من قبل
في أي شريعة أو دين .
أضف إلى ذلك أن الفلسفة اليونانية قد خدمتها أوروبا ، وخدمها العرب قبلهم
خدمة جليلة ؛ فمباحثها مستفيضة ، ولها الكتب الكثيرة المؤلفة بروح الإنصاف
والتضخيم والتكبير والشرح والتفسير ، فكانت هذه دعاية لتلك الفلسفة قد غطت
على سمعة فلسفة أجل منها ، وسأعطيك مثلاً ترى معه أثر هذه الدعاية :
فأنت تعلم أن الإسلام وإن كان دينًا تامًّا إلا أنه في الحقيقة تشريع يعامل
الغرائز الطبيعية ونزعات النفس في حدود العقل والحكمة ، وترى أن مدارس
الحقوق في العالم العربي تدرس القوانين الرومانية ونظام التشريع الدستوري في
اليونان والرومان درسًا مستفيضًا ، وأما التشريع الإسلامي على ما فيه من جلال
فليس موضوع دراسة علمية فنية ، ولا يعرفه أحد من المتشرعين الأجانب ، أفلا
ترى معي الآن أن الدعاية للقانون الروماني والدستور اليوناني أكبر من قيمتها
بالقياس على القانون الإسلامي المدني ، والجنائي ، ودستور الشورى ، والحكومة
الديمقراطية ؟
أليس هذا من قبيل تعصب أوربا لأصلها اللاتيني حتى في الدراسات الحرة ؟
وقل لي كم متشرع في مقارنة القوانين يعرف ما في الإسلام من قانون مدني وجعله
موضوع بحث في رسالة خاصة .
ألست ترى معي أن دراسة حرية الفكر الإسلامية على مبادئ التوحيد موضوع
جدير بالنظر والبحث المستفيض ؟ ألم يكن للتوحيد ذلك الفضل العظيم في جمع
القلوب فيكون وحدة بشرية بين الممالك المختلفة التي دخلها العرب ولا زالت هذه
الوحدة باقية إلى اليوم على رغم تلك الخلافات التي يوقد لظاها المستشرقون
والمبشرون ، وخلق مشاكل للأقليات الدينية ؟ ولم يكن الفضل في كل ذلك إلا لفكرة
التوحيد التي - متى اقتبستها الأفهام واستوعبتها الأفئدة - كانت كلها في اتجاه واحد
نحو الوحدة الإنسانية ، والنهضة العقلية التي لا تفهم رجعية .
إن المستشرقين والمستعمرين يفهمون ذلك حق الفهم ؛ ولذلك هم يعملون على
مقاومة الإسلام .
ولنتحدث لك الآن عن طرق تضليلهم .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) جاء في صحيفة 603 من كتاب دنيانا الغربية - أن المسيحية في القرنين الأولين منها كانت تعد تعذيب الجسم أرقى صفات التقى ، فالقديس هيلاريون لم يحلق إلا مرة في العام في عيد الفصح ، ولم يغتسل أبدًا حتى صار جسده كالحجر الخفاف ، ولم يغير ملابسه حتى تتساقط من نفسها والقديس مكاريوس كان يحمل دائما ثمانين رطلا من الحديد ، وينام في مستنقع لكي تلدغه الهوام ، والقديس يوزيس عاش ثلاثين سنة في بئر جافة ، وكان يحمل مائة وخمسين رطلاً من الحديد ، إلى غير ذلك من أنواع التعذيب ـ wonderful world p 603 والحكيم العربي يقول : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا ، وجاء في الأثر : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تُبغِّض لنفسك عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى .
(2) مارثن لوثر صاحب مذهب البروتستنت .
(3) وأبطلت هذه العادة حديثًا من كثرة نقد الأوربيين (جولة في ربوع الشرق) لمحمد ثابت .​
(35/290)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل السادس
أثر التوحيد الاجتماعي

لم يكن الفضل في مبادئ الإسلام لشخص معين ، قد علمت أن محمدًا - عليه
السلام - كان يضع نفسه موضع الإنسان ، لا موضع صاحب السلطان ، وكان
وحده المثل الكامل في البذل وفي العدل ؛ فلم يستغل يومًا مركزه ودعوته العظمى
لنفسه ولا لشيء من حطام الدنيا ، بل كانت دعوته خالصة لله ولتحرير الفكر ، فلم
يأخذ نصيبًا من غنيمة يزيد على نصيب سواه ، ولم يدِّع لنفسه شيئًا خارقًا ، ولم
يقل أن صلته بالله - تعالى - تزيد على صلة العبد - وكلنا عبيد لله - ولم يفضل
الناس إلا بأنه رسول الله ، وهذه منزلة اختاره لها الله ، سبحانه وتعالى .
وكان أصحابه - عليه السلام - ينظرون إليه هذه النظرة أيضًا ؛ ولذلك قال
أبو بكر حين توفي - عليه السلام - ودهش الناس للخبر : ( من كان يعبد محمدًا
فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ) .
وفي حياته - عليه السلام - لم يكن مستبدًّا برأيه في أمور الدنيا ، بل كانت
أمور المسلمين شورى ، وكان أصحابه يختلفون معه في الرأي ، والتاريخ يدلنا على
أن سيدنا عمر اختلف في الرأي مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نحو عشرين
مسألة وعزز الوحي رأي عمر دون رأي رسول الله ، أشهرها : مسائل قتل أسرى
بدر ، ومسألة الحجاب ، ومسألة الخمر ، ومسألة الاستغفار للمنافقين ، إلى غير ذلك .
هذه الحقيقة ترشدنا إلى مغزى كبير ، وغاية كبرى من مغازي التوحيد والنظر
إلي أن الإسلام لا يجعل سلطانًا على النفوس والعقول والأفهام إلا الله وحده ، وما
دون ذلك فالجميع سواء وآراء الناس كلهم قابلة للشورى والفحص ولو كان الرأي
لرسول الله نفسه .
وليس بعد ذلك وضوح لتقديس حرية الفكر ، التي هي دعامة من الدعامات
الأصلية في الإنسان وهذا هو أظهر معنى من معاني الإسلام .
ولكن جماعة المستشرقين يعمدون إلى القاموس ويتفهمون منها معنى كلمة
الإسلام ، ويقولون عنه ما قال مرجوليث إن معناه ( الذل والخضوع ) ومع ذلك لا
يقولون أنه استسلام لله ، بل يقولون أنه الخضوع فقط .
ولقد رأيت في فصل التوحيد أن المعنى الذي تعبر عنه كلمة الإسلام هو معنى
تضيق به صفحات الكتب الضخمة ، وأن له معني روحيًّا أو اجتماعيًّا كما سبق ذلك .
ولذلك كان أول أثر من آثار توحيد الله وترك المعتقدات القديمة هذا التوحيد
بين القلوب في قبائل العرب ، وهذا التوحيد في الإخاء بين الشعوب المتفرقة ،
وهذه النهضة الكبرى التي جمعت الأمم كلها تحت طابع واحد حين افتتح العرب
الأقطار وورثوا ملك الفرس والرومان .
وإنك إذا تصفحت التاريخ لعلمت أن الأمم الفاتحة الغازية لا تخرج عن واحدة
من ثلاث :
1 - أمة تتخذ الحرب صناعة وحرفة وموردًا للرزق كالأتراك الأقدمين في
فتوحاتهم ؛ فلا يعمرون ما يفتحون .
2 - أمة تجارية كالفينيقيين وإنجلترا تغزو الممالك لفتح أسواق لتجارتها .
3 - أمة تطلب السعة من الأرض لضيق أهلها بها ؛ فتغزو البلاد طلبًا لمنفذ
جديد يعيش أهلها فيه .
وهناك من الأمم من يفتتح الممالك حبًّا في الفتح ، كالإسكندر ، ونابليون
وأمثالهما ، وهؤلاء تموت فتوحاتهم بموتهم .
ولم يحدثنا التاريخ أن أمة من الأمم فتحت الممالك لأجل بث فكرة ، أو نشر
مبدأ غير العرب بعد الإسلام ، فالعرب قاموا بفتوحاتهم لنشر المبدأ والفكر ،
وتعميم الوحدة البشرية .
يتجلى لك ذلك من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للملوك والأكاسرة ،
ولم يكن في هذه الدعوة غير نشر فكرة التوحيد ، ولم يكن - عليه السلام - من
زخرف الدنيا بحيث يحاكي من كاتبهم في الأرستقراطية والعظمة ؛ ولكنه كان
يدعوهم دعوة ديمقراطية متواضعة .
يقول مرجوليث : ( إن الإسلام هو الدين الحربي ) مشيرًا بذلك إلى
الغزوات ، وإلى مبدأ القتال في الفتح الإسلامي ، وإلى تخيير الأمم غير الإسلامية
بين القتل والجزية .
وليست المسألة في غموض يدعو إلى كل هذا الغمز واللمز ، فالجزية هي
نوع من الزكاة على غير المسلم [1] ، والإسلام دين فيه كل معاني الديمقراطية
الاشتراكية والحرب وسيلة .
ليس من ينكر أن للجهل عقوبة ، وليس من ينكر أن الجمود الفكري
والاستسلام للتقاليد نوع من الرجعية العالمية ، وليس لمستشرق أن يلوم الإسلام على
هذا ، وليس له أن يضع رأيه في كفة ميزان ورأي عقلاء العالم أجمع في الكفة
الأخرى .
فها نحن أولاء قد عرفنا أن دعوة الإسلام لله وللعلم ، وليس في هذه الدعوة
عار على الإنسانية .
وقد رأيت أن الزكاة فرض على كل مسلم ، فكيف يعيش غير المسلم في هذا
الوسط من غير زكاة ؟
وليس بيت مال المسلمين بمقصور على معاونة المسلم فحسب ، بل وغير
المسلم بلا قيد ولا شرط .
وليس أدل على تفسير هذا المعني من مبادئ الإسلام التي شرحها النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده ، وقد رأينا من أعمالهم المساواة المطلقة بين
المسلم وغير المسلم ، وفي قصاص سيدنا عمر من ابنه لأجل حق امرأة مسيحية
قبطية ألف دليل ودليل .
وفي قوله رضي الله عنه : ( متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا )
كل مبادئ الإسلام من الحرية والإخاء والمساواة .
وفي وصايا سيدنا علي للأشتر النخعي الذي ولاه على مصر ما يزيد الشرح
ويجلي البيان ، ولقد قال له :
( اعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك من عدل
وجور ، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة
قبلك ، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم .. . ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم
أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ) .
إلى قوله : ( ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، والمساكين ،
وأهل البؤس ، والزمْنَى فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا ، واحفظ لله ما استحفظك
من حقه فيهم ، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك ، وقسمًا من غلات صوافي الإسلام
في كل بدل ، فإن للأقصى منهم مثل ما للأدنى ، وكلٌ قد استرعيت حقه ، فلا
يشغلنك عنهم بطر ، فإنك لا تعذربتضييعك التافه لإحكامك بالنظر في الكثير المهم ) .
ومن هذا ترى أن الجزية والخراج هما تنظيم للإحسان ، بلا فرق بين الأديان ؛
لأنهم متساوون في نظر الإسلام من جهة الخلق ، وليس جعل الإحسان قانونًا بعارٍ
على الإنسانية ، وقد رأينا أن استجداء الضمائر للإحسان أخفق ولم يثمر في كثير
من البلاد المتمدنة ، والارتكان على العاطفة الإنسانية وحدها لم يكف منذ هجر
الناس مبادئ الإسلام إلى اليوم .
ولعمري إنك لو اتخذت رسالة سيدنا علي هذه على حقيقتها لوجدتها تفسيرًا
واضحًا للسياسة الإسلامية ، ويكفي قوله لعامله : ( إن الناس إما أخ له في الدين أو
نظير له في الخلق ) أن يعرف الناس جميعًا أن الإسلام لا يفرق بين الأديان في
المعاملة ، والأخص في الإحسان ، والحق في بيت مال المسلمين .
والتفسير النفسي لكل ذلك هو أن الإسلام يعامل الغرائز البشرية بميزان العقل
والحكمة ، والتشريع الأوروبي يعامل الناس بالتجارب والاختبار ، ولم يهتد إلى
الآن إلى أن الإسلام مبني على معرفة أدق بعلم النفس ، فالله الذي خلق النفوس حدد
عقوباتها وحدد معرفتها ، إذا علمت ذلك فلا اعتراض ، ومن يقل : إن هذا ليس من
عند الله - فليأت ببرهانه المنطقي الذي لا شعوذة فيه ، ويكفي أن مبدأ تحريم الربا أخذ
الآن يتطور في أوربا الحديثة إلى شكل الإفلاس في الدفع بتغيير أسعار العملة
وتخفيض قيمتها فلا يدفع المدين لدائنه شيئًا ، ويكفي أن ألمانيا قللت من سعر عملتها
إلى الصفر لتجمع ذهب العالم ، ثم ألغت هذه العملة .
وليس من المجهول أن عقوبة الجمود لازمة .
فالتعليم إجباري في كل بلاد أوربا له قوانين تحميه ، وعقوبة الحبس توقع
على من لا يعلّم أولاده ، وعقوبة السجن لمن يزوِّر في إيراده حتى لا يدفع ضريبة
الدخل ، وضرائب الدخل والربح أصبحت مبدأ أوربيًّا بعد أن قررها الإسلام بشكل
أدق منذ أربعة عشر قرنًا في ركن من أركان الإسلام وهو الزكاة .
فهذه المبادئ التي تتقدم إليها أوربا نتيجة الاختبار والتجارب هي المقررة في
الشريعة الإسلامية ، فطلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة ، والنظام
الاجتماعي في الشورى ، والسياسة العامة في الأمن ، والعلاقات الشخصية كلها من
تعاليم القرآن .
ولعل أبلغ رد على تعامل أوروبا بالربا - وهي المعاملة التي حاربها الإسلام
وحكم عليها بالموت - هي تلك الظاهرة الغريبة التي تبدو في أوربا اليوم من قيام
حكومات اشتراكية محضة تحرم الرأسمالية وجمع الثروة في أيدي فئة خاصة وهو
سر تحريم الربا ؛ لعدم استئثار فئة من الناس بالسلطة المالية والاستبداد بالعالم .
فهناك لما وقعت أوروبا في الأزمة المالية التي تنبأ بها الإسلام من التعامل بالربا ،
لجأت أوروبا و أمريكا إلى طرق الحيلة بفصل العملة عن الذهب فهبط ثمن النقود ،
وأخذت تراود في دفع الفوائد بعد أن نقصت رأس المال تخلصًا من ذلك الكابوس
الاقتصادي .
أفليست بهذه الطريقة تتلمس طريقها في الظلام لتهتدي إلى طريق الخلاص ،
وشعاع واحد من أشعة الإسلام يجلو عن العالم ذلك الظلام الدامس وهو عدم التعامل
بالربا ، ثم انظر إلى الخراب الذي حل بمن استدانوا من المصارف المالية وبيعت
أطيانهم بأبخس الأثمان ، وما في ذلك من العبر .
إن العالم يسير اليوم على نظام اقتصادي أصبح ثابتًا ، وليس من السهل
زعزعته بين يوم وليلة ، ولكنه على أي حال نتيجة اعتماد الناس على تكفيرهم ،
ولكنهم أيضًا يلجئون إلى التخلص منه من طريق التجارب ، وهم يقتربون نحو
الحقيقة بخطوات وئيدة .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لأجل حماتيه ومعاملته بما يعامل به المسلمون ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، فإن عجز المسلمون عن حماية الذمي لم يكن لهم الحق في أخذ الجزية .​
(35/302)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل السابع
تعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

لقد رأيت في الفصول السابقة أثر التوحيد في تحرير الفكر ، ومنع الوساطة
بين الله وبين الإنسان ، وأن من مبادئ الإسلام كفايته وقدرته العقلية على الفهم
والمساواة بين الناس أجمعين ، وتحديد العلاقة بين الناس ، وواجب صاحب
السلطان نحو رعيته ، وواجب الرعية نحو الراعي ، كما يتجلى في كتاب سيدنا
علي كرم الله وجهه ( وقد تقدمت نبذة منه ) .
هذه المبادئ لا ترضي المستشرقين ، وليس من صالح الأمم الغربية أن يعرفها
أهلها حتى لا يندفعوا أيضًا نحو تلك المبادئ ، ومن هنا كان عمل المستشرقين
مزدوجًا به تشويه الإسلام ، وتنفير أوروبا وحمايتها منه .
ولذلك رأينا من فلاسفة أوربا آراء أقل ما نقول فيها أنها عربدة في قالب
مزخرف وجهل في ثوب منمق .
فانظر إلى رينان في كتابه عن ابن رشد ومذهبه إذ يقول : ( إن خواص
النفس السامية - أي التي منها العرب - تتجلى في انسياق فطرتها إلى التوحيد من
جهة الدين وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية ، أما النفس الآرية
- التي منها أوربا - فيميزها ميل فطري إلى التعدد وانسجام التأليف ) .
وكثير من المستشرقين على هذا النمط المضحك من الاستنتاج ويريدون بذلك
أن يقولوا إن دين العرب على قدر عقولهم .
وليس أدل على عدم المنطق وإغفال الحقائق في هذا القول من أن العرب قبل
الإسلام كانوا مشتركين غاية في الشرك ، فكيف اتفق ذلك من ميولهم ؟ ولماذا قاوموا
الدعوة الإسلامية في مبدئها ، وكيف وُصفوا في القرآن بقوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } ( يوسف : 106 ) .
وكان من شرك الجاهلية أن تلبيتهم في حجهم كانت الشرك المجسم ، فكانت
قبيلة نزار تقول :
لبيك لا شريك لك ... إلا شريكًا هو لك
تملكه وما ملك
( راجع كتاب الأصنام )
ثم ارجع معنا إلى الفصل السابق من التوحيد ، وتدبر معنا سر الوحدة العربية ،
وأن الإسلام طبع الأمم التي انتشر فيها بالطابع العربي وإن لم يكونوا من
المسلمين ، وليس أدل على العدل المطلق من أن يتكافأ الشخصان على تباين دينهما
أمام الإسلام في القضاء ، وأن لا يكون للمسلم ميزة على غيره كما سبق .
هذه المسألة - وهي التوحيد في المعاملة ، والتوحيد في النظر إلى الأجناس
المختلفة في ظل الإسلام - لا ترضي جماعة المستشرقين ؛ لأنهم طلائع التفريق
وتشتيت الوحدات العربية والبلاد الإسلامية .
فاستغلوا علومهم في البحث والتنقيب واختراع النظريات الملفقة والدعاوى
المشعوذة ، فهاجموا أسماء قواد المسلمين وعظماء الفاتحين وأخذوا ينسبونهم إلى
غير العرب وغير الإسلام .
وبذلك أصبحنا نقرأ من نفثات أقلام المستشرقين مباحث علمية عويصة - اقرأ
واعجب - أن أهالي مراكش من البربر ما عرفوا الإسلام وما آمنوا به في يوم من
الأيام ، وأنهم لا زالوا غير مسلمين ، وأن العرب الذين فتحوا الأندلس وغزوا
فرنسا وإيطاليا كانوا مسيحيين ، وأن طارق بن زياد القائد العظيم ، والذي رفع منار
الإسلام في الأندلس لم يكن عربيًّا ، ولا مسلمًا ولكنه كان بربريًّا مسيحيًّا ، وقد استعار
جيرو هذه النظرية للإصلاح القانوني في مراكش ( راجع تقرير لجنة العمل
المغربي المقدم للمؤتمر الإسلامي ببيت المقدس صفحة 4 ) .
وليس من غرضنا أن نتكلم في موضوع السياسة والاستعمار ولكن هذه
النظريات ليس الغرض منها سوى تشتيت الأمم وتمزيقها وخلق عصبيات متعددة
فيها مما أصبح مألوفًا لدى كل من له أقل إلمام أو اطلاع على تاريخ الاستعمار
وطرق استثمار الخلافات في الجنس والدين .
أما وحدة اللغة العربية فقد عمل الستشرقون كل ما يمكن عمله لتشويهها وإظهارها في
مظهر أضعف لغات العالم ، وأن اللغات واللهجات العامية خير منها استعمالا .
وصار يعدها المستشرق بريغو اللغة اللاتينية للعربي ، ويقول عنها في مقدمة
كتابه الذي يدرسه الطلبة الفرنسيون باللغة العربية .
إلى أن يقول : لا تظن أنني سأعلمك لغة القرآن ؛ فهذه اللغة قد ماتت ولا
يتكلم بها أحد فهي لاتينية العربي ، وهي اللغة المستعملة في جنة محمد وسأحبب إليك
دراستها في المستقبل إذا أردت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحور العين .
وبهذه الطريقة أصبح المستشرقون يناصبون اللغة العربية الفصحى العداء ،
فيتشككون في النثر الجاهلي والشعر الجاهلي ، ويلقون الشك في كل شيء يتصل
باللغة العربية ، ولهم في ذلك مباحث أقرب للتهريج منها إلى العلم الصحيح ،
ولموسيه في ذلك آراء منقوضة وأفكار مردودة ( راجع كتاب النثر الفني ) .
بقيت مسألة القرآن الكريم الذي هو الدعامة الثابتة التي عجز العالم عن
التحرش بها والصخرة العظيمة التي إذا أراد أكبر مستشرق أن ينطحها تكسرت
جمجمته قبل أن يصل إلى حرمها ؛ ولذلك رأينا آراءهم في ذلك تهريجًا وشعوذة .
هاك المستشرق مرجوليث أستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد لم يترك
نقيصة في العالم إلا نسبها لسيدنا محمد ، ولم يترك فحشًا من القول إلا نسبه للقرآن ،
وإليك أمثلة من ذلك :
قال في صحيفة 2364 من تاريخ العالم العام ما يأتي :
( وإن كان محمد لم يترك تاريخًا مفصّلاً لحياته إلا أن في القرآن كل عواطفه
وإحساسه ، والقرآن كسجل تاريخي ليس مرتبًا حسب الحوادث والتاريخ ) ثم
يقول : ( ربما كان الكثير منه مما لم يتذكره الرواة تمامًا عند روايته ، وقد يكون
بعضه دخيلاً في عصر متأخر ، وبعضه مسلَّم به أنه في عصر الرسول ولو أنه
نسب إليه خطأ ) .
ثم يستفرغ مرجوليث من فِيه كل أنواع المطاعن فيقول ( من المشكوك فيه
أننا لا نعلم اسم والد النبي ؛ لأن لفظة عبد الله معناها في العهد الأخير الشخص
المجهول وربما كان لها هذا المعنى عند إطلاقها على والد النبي وقصة يتمه التي
وردت في القرآن لا يلزم أن نأخذ بها على معناها الأدبي .
والعلاقة المفروضة بين أمه وبين أهل يثرب مسألة مشكوك فيها ، كالقصص
التي جعلت الإسكندر الأكبر فارسيًّا أو مصريًّا بالنسبة لوالدته ) .
إلى هذا الحد بلغ ذوق وأدب المستشرقين عند كلامهم عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وإن الحياء ليمنعني أن أذكر المعنى العادي الذي قصده مرجوليت من
قوله ( ابن عبد الله ) نسبه إلى الأب المجهول ، ومع ذلك يعجب بعض الناس
بالمستشرقين وهم لا يعرفون من أمرهم شيئًا .
وانتقدنا طريقة مرجوليث في هذا النوع من التهريج العلمي من غير سند أو
دليل وإلقائه الكلام على عواهنه من غير إثبات ، فهذا الخواجة قال إن القرآن ملفق ،
وقال إن سيدنا محمدًا على أبسط تعبير لا يُعرف له أب أو أم .
ونشرنا هذا الرد في مجلة المعرفة ، فأرسل مرجوليوث خطابًا يعلق فيه على ما قلنا
هذا نصُّه [1] :
( أما ما كتب الدكتور حسين الهراوي في ذمِّ المستشرقين ، فلو كان ما أودع
مقاله من الشخصيات تلق بالآداب ، لم يكن ما يمنع من الخوض في الموضوع
والتمييز بين الخطأ والصواب ، أما المسائل التي ذكرها فلست أرى فائدة في
مداخلتها ؛ لأنها أقرب إلى منابر الخطباء منها إلى مجالس الأدباء ) .
* * *
د . س مرجليوث
وردًّا على ذلك نقول : إننا تناولنا من آراء مرجوليث مسألتين مما كتبه في
تاريخ العالم العام في الفصل التاسع والثمانين :
الأولى : أنه ذكر عن سيدنا محمد أنه مجهول الأب والأم .
والثانية : قوله إن إعجاز أسلوب القرآن يفسَّر إما بأنه لا يمكن تقليده ، أو
الإخبار بأمور يمكن التحقق منها ، ولم يكن للنبي وسيلة لمعرفتها ، وأننا نعلم من
القرآن أن كلاًّ من هذين الادعاءين - عندما أُذيع - لم يسلم من النقد ، فالأمر الأول
أن الذوق الكتابي يختلف كباقي الأذواق ، وعن الأمر الثاني - لو أنه وُجدت وسيلة
للتحقق من صدق النبي - فهذا يُفهم منه أنه أمكنه - بنفس هذه الوسيلة - معرفة
الأمر الذي ذكره .
وكذلك قال مرجوليث ، إن محمداً اعترف في مبدأ رسالته بمعرفة القراءة
والكتابة .
ولنناقش مرجوليث الحساب في هذه المسائل التي يرى أن ردنا عليها فيما
مضي أقرب إلى منابر الخطباء منه إلى مجلس الأدباء ، أي بعبارة أخرى ليس له
علاقة بالأدب العربي ولا بعلم من العلوم ، فأما عن والد سيدنا محمد ، فنحن ننكر
على أدب أستاذ في جامعة أكسفورد أن يوجه مثل هذا الطعن في نبي يدين بدينه
ملايين المسلمين ، وأن يتفوَّه بتهمة تترفع أبسط قواعد الآداب الاجتماعية العامة عن
أن توجهها لأقل الناس مركزًا .
وثانيًا : إن مرجوليث لا يعرف شيئًا عن الأدب ولا الأدب العربي ، وإلا لعلم
أن العرب كان فيهم نسّابون ولو أنه تكلم أولاً عنهم وعن مصادر الشك في أقوالهم
وتنسيبهم ، لكان لنا أن نناقشه بالأدلة العلمية ، أما وهو لم يذكر شيئًا من هذا فدليل
على أنه لا يعرفه .
وثالثًا : لأن جد محمد - عليه السلام - وعمه هما اللذان كفلاه صغيرًا ، ولو
كان مجهول الأب ما عرف له عم ولا جد ، وهذا يدل على أن مرجوليث لا يعرف
شيئًا من تاريخ سيدنا محمد ، عليه السلام .
ورابعًا : أن عصبية محمد - عليه السلام - حمته في مبدأ رسالته ، ولو كان
مجهول الأب ما كانت له عصبية .
فإذا كان مرجوليث لا يصدق شيئًا من ذلك - ولابد أن يكون قرأه - فليقل لنا
هو كيف يريد أن نصدق كلامه ، وكيف أمكن وجود أشخاص تربطهم بالنبي الكريم
صلات العصبية حتى بعد الإسلام ، إذا كنا ننكر كل ذلك لأن مرجوليث قالها ، إذن
فعلى العقول السلام .
ثم فليفسر لنا مرجوليث كيف مكَّنته نفسه ، وكيف مكَّنه ضميره أن يقول هذا ؟
وعلى أي المراجع الموثوق بها عوَّل في بحثه ؟ فهو إما لا يعرف شيئًا مطلقًا ،
وإما يريد التشهير والتشنيع ! وهذا ما لا يشرف الباحثين .
ثم فليجبنا : أليست الأنساب والنسابون جزءًا من صميم التاريخ والأدب
العربي أو هي ضروب من خطب المنابر ؟ !
وإذا كانت ضروبًا من خطب المنابر فكيف حفظ التاريخ أنساب قومٍ لم يكن
لهم مرتبته - عليه السلام - من الوجهة الاجتماعية والأثر الخالد .
وكيف أمكن معرفة نسب والدته وزوجه خديجة ؟ ثم كيف أمكن تنسيب شعراء
مشهورين مثل امرئ القيس وغيره ؟
أما القول في مسألة إعجاز أسلوب القرآن بأنها مسألة ذوق ، فإني أرى أن
مرجوليث - كما يُستدل من أسلوب خطابه - ذو أسلوب ملتوٍ ركيك يجعله آخر
شخص يؤخذ برأيه في مسألة الذوق الكتابي ، بعد أن تحدّى القرآن نفسه الناس كلهم
بل الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا ، فلم يبق في نظر
صاحبنا مرجوليث إلا نقد الأسلوب بميزان الأذواق التي تختلف دقة ورقة .
ونحن معه على أن يكون الشرط الأساسي أن تكون هذه الأذواق سليمة تتفهم
روح العربية . والمستشرقون هم أبعد الناس عن تفهُّم تلك الروح ؛ ولهذا فإنهم
ينشرون مؤلفاتهم باللغات الأجنبية وإن كانت بعض مقدمات الكتب التي طبعوها قد
كتبت باللغة العربية ، إلا أن الحكم على أساليبهم قد لا يرضيهم من الأدب الكتابي
الفني . وإذا كان مرجوليث حصر إعجاز القرآن في الأسلوب والإخبار بالغيب ،
فقد فاته أن ضروب الإعجاز في القرآن كثيرة ومنوعة ، وليس من موضوعه شرحها .
على أننا نسائل أستاذ الأدب الأكبر ! ما قوله دام فضله في أنواع الإعجاز
العلمي التي أثبت العلم الحديث مدى صدقها ، ونذكر منها على سبيل المثال :
{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } ( الحجر : 22 ) و { خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ( العلق :
2 ) أي دور الحيوانات المنوية { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ( نوح : 14 ) وهي
تتمشى مع العلم جنبًا إلى جنب .
فهل كشف العلم عن إعجاز هذه الآيات إلا حديثًا ؟ وهل كان الميكروسكوب
(المجهر) وعلم تكوين الأجِنَّة معروفًا من قبل عند نزول القرآن الكريم ؟
ولا يفوتنا أن نتكلم عن النقد فالنقد هو أسهل شيء في العالم وبابه هو أوسع
الأبواب ، فقد ينقد شخص ما الخلقة البشرية بأن عيني الإنسان في وجهه وليس له
مثلهما في قفاه لينظر من خلف كما ينظر من الأمام ؟
وقد ينتقد البهلوان طريقة السير على الأقدام ويستحسن أن يمشي الإنسان على
يديه رافعًا قدميه في الهواء . كل هذه أنواع من النقد قد يراها أهلها صحيحة ، ولكن
الذوق السليم والعقل السليم بصفة خاصة يأبيانها على الناقد .
وهذا هو النقد الذي يوجه إلى تجاهل نسب النبي العظيم وأسلوب القرآن ، لا
يقصد به إلا مجرد تشهير وتشنيع .
وكيف يفسر قوله تعالى : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } ( العلق : 3 ) بأنها اعتراف
من النبي الكريم بمعرفة القراءة ، وهل هذا يدل على أنه يفهم روح القرآن ؟
وقد أطيل البحث إذا استقصيت آراء مرجوليث في مصادر القرآن التي يقول
بها ويقول بها معه المستشرقون الذين ينحون نحوه ، فقد ادَّعوا أن النبي - عليه
السلام - قد درس كل الفلسفة اليونانية ، ثم حفظ التاريخ الفارسي ، ثم عرف كل
الأديان الهندية القديمة ، كما اطلع على كل حِكَم الصين ، وأخرج من كل هؤلاء
كتاب سماه القرآن .
ومعنى ذلك أن الدراسات التي استنفدت القرون الأولى حتى القرن العشرين
وتخصص لها العلماء الذين عكفوا على دراسة لغاتها المتعددة والجولان بين آثارها
البالية ، كل هذا قد تعلَّمه محمد - عليه السلام - في سياحته للشام .
فإذا رجعت إلي التاريخ ، وجدت أن هذه السياحة لم تكن إلا ثلاثة أشهر ، كما
تقدم .
فهل في هذا منطق يناقش ؟ وهل هذا أسلوب المنابر أم في صميم الأدب
العربي والتاريخ ؟
ولما نشرت المعرفة هذه المقالة للرد على مرجوليث قطع اشتراكه من المجلة ،
ولم يعد يراسل صاحبها ، وكان هذا هو الجواب ، فتأمل ! !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المعرفة : فبراير سنة 1933 .​
(35/308)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل الثامن
حكاية فنسنك
والمجمع اللغوي الملكي

سنوك هرجرونيه [1] هو رئيس أكاديمية هولندا ، مكث سبعة عشر عامًا في
جاوة مستشارًا للحكومة في الشئون الإسلامية ، وقيل لنا أنه أتقن العربية وادَّعى
الإسلام وفرَّ إلى مكة ، ومكث فيها خمسة أشهر وكان يأتم به المسلمون في صلاتهم .
وفنسنك تلميذه وساعده الأيمن الآن في هولندا ، وفنسنك رئيس تحرير دائرة
المعارف الإسلامية التي ملؤها الطعن الجارح في الإسلام ، والحشو بأقذر المثالب ،
يحررها جماعة المستشرقين ومنهم مبشرون وقسس ، وخصوصًا الأب لامانس ،
وتصور قسيسًا مبشرًا يكتب عن حياة سيدنا محمد ، أو عن القرآن ، أو التاريخ
الإسلامي . وأي روح تملي عليه ، وأي مبلغ من المال يأخذ أجرًا ؟ !
ونحن نعرف الشيء الكثير عن المبشرين وطرقهم وأساليبهم ، وطالما تمنيت
هذا اليوم الذي أقابل فيه سنوك هذا أو فنسنك لأقول لهم رأيي فيهم في صراحة
وجرأة ، وليس الإسلام بخافٍ عن أحد ، وليس القرآن بغريب في العالم ، وليست
العقول التي تفهم بمعدومة .
إن عصابة فنسنك في تحرير دائرة المعارف الإسلامية تكتب على أسلوب
القرون المتوسطة ، وتفرض على الناس فرضًا أن تعلمهم كل شيء ضد الإسلام ،
وأن تشعوذ في التاريخ وتخترع أساليب التهريج ، كما شرحناه لك في الفصول
المتقدمة من هذا الكتاب .
واسم فنسنك دائمًا يتردد على لساني ، وأعتقد أن هذا الرجل قضى الشطر
الأكبر من عمره يعمل على السخرية من الإسلام ، ولم يفضح عمله إنسان ، ولم
ينتقد سلوك هرجرونيه . ولطائفة المستشرقين تلاميذ تعلموا في أوروبا وسرقوا
مطاعنهم في الإسلام وروَّجوها باللغة العربية في أثواب مباحث علمية ، فكان مقتي
لهذه الفئة أشد من مقتي للخواجة فنسنك .
وصدر المرسوم الملكي ووجدت فيه اسم فنسنك فنشرت في أهرام 11 من
أكتوبر سنة 1933 المقال الآتي :
لما اشتدت وطأة المبشرين في الإغواء والتضليل ، وغزو عقل المسلمين
بمختلف الطرق ، عكفنا على دراسة شيء غير قليل من طرقهم ومؤلفاتهم ،
وخرجنا بنتيجة رسخت في عقيدتنا رسوخًا قويًّا ، هي أن المستشرقين هم طلائع
المبشرين ، وأنهم هم الذين يمهدون السبيل لتشكيك المسلمين في عقائدهم ، وأنهم هم
الذين يمهدون للمبشرين سبيل الطعن في الإسلام وفي نبيِّه الكريم وأنهم هم الذين
يزودونهم بأنواع شتى من الشعوذة العلمية باسم الاستنتاج التحليلي ، وحرية الفكر ،
والمباحث العلمية الحرة .
وخرجنا من كل مباحثنا هذه إلى أن المستشرقين يتعمدون - عند البحث في
كل ما يختص بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام - أن يلغموا استنتاجاتهم العلمية
بآرائهم الشخصية على ما فيها من خطأ وما فيها من غرض بما تمليه عليهم روح
الاستعمار ومقاومة الإسلام في شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو في القرآن
نفسه .
وقد قسَّمنا المستشرقين ثلاث فرق : قسم يختص بمباحث القرآن ، وقسم
يختص بمباحث سيدنا محمد ، وقسم يختص بالتاريخ العربي الإسلامي .
على أن من واجبنا أن ندرس كل مستشرق من جميع نواحيه ، وندرس كل
مؤلفاته ، خصوصًا إذا كان ممن يبحثون في القرآن ، أو حياة سيدنا محمد ؛ لأن
الخطأ اللفظي في كلمة عربية قد يجر إلى البحث في العقائد الإسلامية ، وقد يكون
له أثر شديد في الإسلام نفسه .
ولقد فكرنا هذا التفكير عندما أردنا أن نباحث أحد المستشرقين أو أشباه
المستشرقين ، ورأيناه يقلب قواعد اللغة العربية رأسًا على عقب لكي يدخل شكًّا في
الإسلام ، وإليكم مثلاً من ذلك :
كان أحدهم يدَّعي أن الأسماء لا بد أن يكون لها معنى . فقلنا له : إن الاسم ما
دلَّ على مسمًّى وليس من الضروري أن يكون له معنى يُشتق منه أو أصل معروف ،
والمسألة بسيطة هكذا تعلمنا في المدارس الابتدائية ، وهكذا تراها في القاموس .
فأصرَّ على رأيه ؛ ولكنه أعطانا مثلاً غريبًا هو أصل كلمة ( حراء ) وهو
اسم الغار الذي تعبَّد فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . فقلنا : لم يرد في اللغة
العربية ما يجعلني أعرف مصدره أو معناه . فقال : إن ( حراء ) أصلها ( هيرا )
وهو لاتيني ، ومعناه المقدس .
قلت : إنني أعرف ما تريد أن تستنتج ، إن ( هيرا ) - وهو الجبل المقدس-
هو اسم أطلقه الرومان على هذا الجبل الذي تعبَّدوا فيه ، فأنت تجعله في مكان ( جبل
الأوليمبيا ) في اليونان ، ويتأتى من هذا الاستنتاج أن محمدًا - عليه السلام -
اتبع الأديان الأخرى ، فأعطني الدليل المساوي على استنتاجك ؛ لأنك تتكلم بلسان
تحركه عواطف ضد الإسلام ؛ فسكت .
والحق أن عقلية هؤلاء المستشرقين وأشباههم مدهشة ، فأي لفظة عربية لها
مشابه في اللغات الأخرى قالوا إن العربية استعارتها ، وإذن فما قولهم في لفظة
(نبل و نبيل) التي توجد في كثير من اللغات ، والعربية أيضًا بنفس المعنى .
نقول : هذا مقدمة البحث الذي سنكتبه عن فنسنك ، وهو الاسم الذي ورد في
ضمن أعضاء المجمع اللغوي . وسنناقش رأيه الحساب ؛ لأن استنتاجاته ستؤخذ
علينا وقد أصبح عضوا رسميًّا علينا أن نحترم رأيه .
قالت دائرة المعارف الإسلامية تحت لفظة إبراهيم :
كان إسبرنجر أول من لاحظ أن شخصية إبراهيم كما وردت في القرآن مرت
بعدة أطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسِّسة الكعبة .
وجاء سنوك هرجرونيه بعد ذلك بزمن فتوسع في بسط هذه الدعوى ، فقال :
إن إبراهيم في أقدم ما نزل من الوحي ( في الذاريات : آية 24 وما بعدها ، الحجر :
آية 5 وما بعدها ، الصافات : آية 81 وما بعدها ، الأنعام : آية 74 وما بعدها ،
هود : آية 72 وما بعدها ، مريم : آية 42 وما بعدها ، الأنبياء : آية 52 وما بعدها ،
العنكبوت : آية 15 وما بعدها ) هو رسول من الله ، أنذر قومه كما تنذر الرسل ،
ولم تذكر لإسماعيل صلة به . وإلى جانب هذا يشار إلى أن الله لم يرسل من قبل
إلى العرب نذيرًا ( السجدة آية 2 ، سبأ : آية 43 ، يس آية 5 ) ولم يذكر قط أن
إبراهيم هو واضع البيت ولا أنه أول المسلمين .
أما السور المدنية فالأمر فيها على غير ذلك ، فإبراهيم يدعى حنيفًا مسلمًا .
وهو واضع ملة إبراهيم ، رفع مع إسماعيل قواعد البيت المحرم . ( البقرة : آية
118 وما بعدها ، آل عمران : آية 60 .. إلخ ) .
وسر هذا الاختلاف أن محمدًا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن
اتخذوا حياله خطة عداء ، فلم يكن بدٌّ من أن يلتمس غيرهم ناصرًا ، هناك هداه
ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم ، وبذلك استطاع أن يخلص من
يهودية عصره ليتصل بيهودية إبراهيم ، تلك اليهودية التي كانت ممهدة للإسلام ،
ولما أخذت مكة تشغل جل تفكير الرسول أصبح إبراهيم أيضًا المشيِّد لبيت هذه
المدنية المقدس .
والذي يكون خالي الذهن عن المستشرقين وأعمالهم يظن لأول وهلة أن هذا
بحث جليل مستفيض ، استقصى أصحابه - إسبرنجر وسنوك وفنسنك - كل
آيات القرآن واستخرجوا منها مواضع الضعف ، ويخيل إلى الناظر في هذا الموضوع
أن الإسلام قد زعزعت أركانه وأنهم اكتشفوا اكتشافًا من الخطورة بمكان حين يدَّعون
أن محمدًا - عليه السلام - أراد استغلال اليهود ثم أخفق ، ثم هداه ذكاؤه المسدد
لشأن جديد لأبي العرب .
أما اليهود ، فقد سبق أن شرحنا مركزهم في الكلام عن الوسط والبيئة التي
سبقت الإسلام ، وأما هذه القائمة الكبيرة من الآيات التي تخدع الناظر إليها ، فهي
في نظرنا دليل على الضعف المطلق ، وهم بهذا أشبه بما يفعل الممثلون ؛ إذا
وجدوا الرواية ضعيفة جعلوا المناظر أخَّاذة ، وأكثروا من أشخاص الرواية ودفعوا
بين الجماهير قومًا مأجورين للتصفيق .
كل هذا فكرنا فيه قبل أن نتقدم لنقد هذا البحث ؛ لأننا نعرف طريقة
المستشرقين الملتوية وشعوذتهم العلمية .
وما علينا إلا أن نراجع السور المكية جميعها ، والسور المدنية جميعها
ونوازن بينها لنعرف إذا كانت السور المدنية هي وحدها التي انفردت بذكر نسب
سيدنا محمد إلى سيدنا إبراهيم بأبي البيت العتيق أو لا ؟ وفيما إذا كانت الحقائق
التاريخية التي في متناول يدنا تتفق مع استنباط فنسنك أم لا ؟ وما غرضه في
التعريض بسيدنا محمد إلى هذه الدرجة ؟
علينا إذًا أن نراجع كل ذلك لنتمشى معه في بحثه ، فإن كان ما قاله حقيقيًّا ،
كان لنا أن نبحث في استنباطه أيضًا وعن السبب في عدم ذكر تلك الصلة في السور
المكية ؛ إذ ربما كانت من المعترف بها ولا توجد مناسبة لتوكيدها في القرآن ، أما
إذا كان ما نقل من الآيات خطأ كان الرجل قد عثر من أول الطريق ، فلنتركه في
تلك الحفرة التي وقع فيها ، ولننظر إليه كيف يجاهد في الخروج منها ؟ !
ونحن لا يخامرنا شك في أن هذا الدين متين ، وأن فنسنك وإسبرنجر وسنوك
أقل علمًا بفهم روح القرآن ، فضلاً عن نقده .
إذن فلنسر في البحث على بركة الله .
قال فنسنك : إنه لم تذكر في السور المكيَّة صلة لسيدنا إسماعيل بسيدنا
إبراهيم . فهل هذا حقيقي ؟ وذكر لنا سورة الأنعام بالنص ، فهل هذا حقيقي ؟ لقد
ذكر الآية الرابعة والسبعين بالنص أيضًا ، فانظر إلى الآية السادسة والثمانين حيث
ذكر إسماعيل صراحة : { وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى
العَالَمِينَ } ( الأنعام : 86 ) نعم إن أسماء الأنبياء وردت جملة ؛ ولكن لكل واحد
منهم نسبه المعروف ، والمسألة الجديرة بالنظر هي لماذا حذف فنسنك رقم هذه الآية
من تلك القائمة الطويلة التي استقصاها ، مع أنها في نفس السورة التي ذكرها ؟
الجواب سهل وهو أنها تهدم نظريته من أساسها ؛ ولأن هذه الآية نسبت هؤلاء
الأنبياء إلى إبراهيم ثم إلى نوح .
ثم انظر إلى سورة إبراهيم وهي مكيَّة إلا آيتي 28 و29 ، وانظر إلى الآية
37 وما بعدها حيث يقول إبراهيم : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ } ( إبراهيم : 37 ) إلى قوله تعالى { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ
لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيل } ( إبراهيم : 39 ) .
إذن فقد ورد في السور المكية التي اعتمد عليها فنسنك أن إسماعيل هو ابن
إبراهيم ، وأن إبراهيم دعا ربه عند بيت الله المحرم ، وقد ذُكر هذا البيت في السور
المكية التي أنكر وجودها فنسنك .
نحن لا ندهش من اكتشاف الحقيقة فما كنا نشك فيها ؛ ولكننا ندهش أن قومًا
ينتسبون للعلم ويخدعون الناس جهلاً أو تجاهلاً .
المسألة الثانية :
هل ورد في الآيات التي ذكرها فنسنك أن الإسلام دين قديم يمت إلى ملة
إبراهيم ؟ وإذا كانت هذه الحقيقة وردت ، فلماذا لم يذكرها فنسنك ؟
ارجع إلى نفس السور التي ذكرها فنسنك ، ففي الذاريات في الآية 23 وما
بعدها تجد حديث ضيف إبراهيم المكرمين يبشرونه بابنه ، ويقصُّون عليه قصة
لوط ومدينته ، وفي الآية 35 يقول : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ } ( الذاريات : 35 - 36 ) .
إذن ففي هذه الآية اعتراف صريح أن الإسلام هو دين قديم وهو ملة إبراهيم ؛
حيث يحدثه ضيفه عن بيت المسلمين .
إذن فدعوى فنسنك كلها خطأ . واستنتاجه كله خطأ .
المسألة الثالثة :
يقول فنسنك إن آيات السجدة وسبأ ويس تشير إلى أن الله لم يرسل من قبل
للعرب نذيرًا ، ولم يذكر قط أن إبراهيم هو واضع البيت ، ولا أنه أول المسلمين .
يريد فنسنك أن يقول - بعبارة أخرى - إن التاريخ المأخوذ من الأناجيل هو
الحقيقة ، وإن إبراهيم لم يذهب إلى مكة ، وإن هذه الدعوى لم تذكر في القرآن إلا
بعد الهجرة إلى المدينة .
وسياق هذه السورة من الآية 35 وما بعدها : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ
فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ( إبراهيم : 35 - 37 ) .
هذا يدل دلالة واضحة على أن إبراهيم كان أول من أسس هذا المكان المنعزل
السحيق في وادٍ غير ذي زرع لا تهوي إليه أفئدة الناس ولا رزق فيه ، فدعا ربه
فاستجاب له .
على أنه يؤخذ من ذلك أيضًا أن هذا كان أول عهد هذا المكان بالأنبياء
وبتأسيس البيت ، ولم يذهب إبراهيم ليقيم دينًا جديدًا بين الناس في بلد آهل ، وهذا
يستقيم مع معني آية 44 من سبأ في قوله تعالى : { وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا
وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } ( سبأ : 44 ) .
يكفي أن نذكر لفنسنك أنه لم يذكر الحقائق ولم يستقص مبحثه . وأنه يستنبط
قبل أن يبحث .
أما الغرض من ذلك فواضح ؛ لأن الاستشراق مهنة ضد الشرق ، وضد
الإسلام .
* * *
تاريخ هذا العدد
وضع تاريخ العدد الثالث نفسه على هذا العدد وصحة التاريخ أنه : 9 صفر
سنة 1355 - 30 إبريل سنة 1936 .
* * *
فرصة لمشتركي المنار
رأينا أن نخفض لمشتركي المنار قيمة الاشتراك إذا سددوا اشتراك المجلد
الخامس والثلاثين ، وذلك لنهاية رجب القادم ، فجعلناه خمسين قرشًا للمشتركين في
خارج القطر المصري ، وثلاثين للمشتركين في مصر ، فعلى الذين يحبون المنار
أن يعملوا بالسداد انتهازًا للفرصة ، ومساعدة لنا إذا أرادوا حياة المنار ، ولهم الشكر
سلفًا .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ولد في 8 فبراير سنة 1857 وتوفي في 4 يوليو سنة 1936 .​
(35/316)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل التاسع
حكاية فنسنك [1]
( المقال الثاني )
إذا قلبت أي كتاب اجتماعي أو عمراني باللغات الغربية يتكلم عن مصر أو
الشرق أو الإسلام ، وجدت أشياء لا يقرها عقل ولا يستسيغها المنطق ، وليست من
الحقيقة في شيء .
ويوجه نظرك بصفة خاصة ما يوصف به الإسلام من الصفات التي لا تنبو
عن قواعد الذوق السليم والحقيقة فحسب ، بل إن الكُتَّاب الأوروبيين يصورون
الإسلام بصورة بشعة قبيحة لا تكاد تقرؤها حتى يقشعر بدنك من هول ما تقرأ .
فإذا كنت شرقيًّا صميمًا أولت ما يكتب في تلك الكتب الاجتماعية بأنه جهل
من المؤلفين بأحوال الشرق وعاداته ، وإذا كنت مسلمًا أسفت كثيرًا أن يوصف
الإسلام بصورة بشعة بعيدة عن الواقع ، وأسفت على أن الأوروبيين لا يعرفون
شيئًا عن حقيقة الشرق بصفة عامة وعن الإسلام بصفة خاصة ، فليس حقيقيًّا ما
ذكره مارشال في كتابه ( الزواج ) أن الأم في مصر لا يباح لها أن ترى وجه ابنتها
بعد سن الرابعة عشرة من أثر الحجاب في الإسلام .
وليس صحيحًا ما جاء في هذا الكتاب أيضا من أن الفتاة الريفية المصرية
يباح لها أن تعرِّي جسمها كله أمام الرجال ، أما وجهها فلا يراه إنسان .
وليس صحيحًا ما وصف به الحجاب ، وما ذكره عن تعدد الزوجات كما جاء
في كتاب (نسبت) عن الزواج والوراثة .
وليس صحيحًا أن سيدنا محمد كان رجلاً شهوانيًّا محضًا ، يشبع شهوات
الشيخوخة بزواجه بالشابات ، كما جاء في هذا الكتاب .
فأول ما نلاحظه في تلك الآراء أنها مجرد تشنيع خالٍ من الحق ومن العدل ،
ويتجلى فيها سوء النية تجليًا لا يقبل تأويلاً أو تعليلاً ، ولا يمكن الدفاع عنه .
ومن محاسن الكتب الإفرنجية أنها تكتب المصادر التي اعتمدت عليها في إبداء
رأيها ، وتشير إلى المراجع التي استقت منها تلك المعلومات ، وكنت أتتبع تلك
المراجع فأجدها راجعة إلى بيئة واحدة هي جماعة المستشرقين .
وفي الأدب الإفرنجي الحي كتب قيمة جدًّا تبحث في التاريخ العام والخاص ،
وتاريخ الأمم والنهضات العلمية . وهذه الكتب محترمة عند الأوروبيين ، فكنت
أطالع فأجد فرقًا كبيرًا فيما تكتب من التاريخ القديم أو الحديث بلباقة ودقة علمية ؛
كوصف مصر القديمة وآثارها وسوريا وتاريخها ، بل رأيت في تلك الكتب تاريخ
بلدان ورسوم أماكن لا تستطيع أن تعرف موقعها على الخريطة ما لم ترجع إلى
معجمات مطولة - وبين ما تكتب عن الإسلام ونبيه .
فإذا تكلمت عن الإسلام والمسلمين ، أو عن حياة سيدنا محمد أجد تحريفًا
ظاهرًا وكذبًا واضحًا ، وتهريجًا قبيحًا .
وانظر إلى مرجوليث حيث يقول : ( ربما كانت الطبيعة الجغرافية أو المناخ
الإقليمي هو السبب في تأخر المسلمين ، ولكن نظرية وجود رجل واحد - أي سيدنا
محمد - يكون هو وحده الرسول بين الله والناس ، ويكون هو وحده آخر طريق لهذه
النظرية هي ثاني سبب لتأخر المسلمين ) .
فمرجوليث لا يقول هذا لإنهاض المسلمين ؛ ولكنه يقول هذا تشنيعًا وهو الذي
لم يترك نقيصة إلا ألصقها بالإسلام من غير سبب وها هو ذا كما ترى يتخيل نفسه
على الأقل موزونًا أو معقولاً فيتكلم عن الإسلام ؛ ولكي تفهم مقدار تحصيل
مرجوليث هذا للغة العربية نأتي لك بالمثل الآتي الذي ساقه صديقنا الدكتور زكي
مبارك :
فقد تعرَّض مرجوليث لشرح هذه الأبيات :
يقول لي الواشون كيف تحبها ؟ ... فقلت لهم : بين المقصر والغالي
ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت هوى لم يهوه قط أمثالي
وكم من شفيق قال ما لك واجمًا ... فقلت أني مالي وتسألي مالي
والشطرة الأخيرة من هذه الأبيات فيها خطأ كتابي فقط وصحته ( فقلت ترى
ما بي وتسأل عن حالي ) ولكن مرجوليث العالم الضليع الذي ينتقد القرآن
وأسلوبه ويتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم ويحقق تاريخ آبائه فيقول : إنه ابن
عبد الله ، يعني الرجل المجهول ، هذا العالم العلامة والحبر الفهَّامة يقول إن
الشطر الأخير صحته :
( فقلت أنا مالي وإن تسألي مالي )
وليس هذا التصحيح هو المضحك وحده - وإن كان أشنع من الغلط الأول -
ولكن المضحك حقًّا أن يكون المصحِّح أستاذ لغة عربية ويتعرض لأسلوب القرآن
أو يدَّعي نقده ! !
ولسنا في مقام الرد على أسباب وعوامل تأخر الأمم الإسلامية فلدى
المستشرقين أنفسهم الأسباب .
والظاهر أن المستشرقين جمعية دولية حتى إذا ألَّف مستشرق كتابًا أو كتيبًا
ظهر في ثلاث لغات حيَّة دفعة واحدة ، في فرنسا و إنجلترا و ألمانيا مع أن طبع
هذه الكتب قد يستنفد كل ثروة المستشرق في الطبع ، والمدهش أنك ترى في مقدمة
كل كتاب مستشرق قائمة بأسماء الذين عاونوه وساعدوه في البلدان الأخرى .
وإني لأعلم أن المستشرقين تنقصهم في مباحثهم عن الإسلام الروح العلمية ،
وأن لهم في الاستقصاء طريقة لا تشرف العلم ؛ وهي أنهم يفرضون فرضًا ثم
يتلمسون الدليل عليه ، فإذا وجدوا في القرآن ما يهدم نظريتهم تجاهلوه والتمسوا
الآيات التي تتناسب والمعنى المراد ، ولا مانع من بترها إذا اقتضى الحال ، أو
تحريف معناها - حسب الرغبة - فيخرج القارئ من كلامهم وهو يتهم الإسلام
بالتلفيق - كما يقولون - كما سبق شرحه في كلام مرجوليث .
بمثل تلك النواحي التي أسلفناها أصبحنا لا نقرأ للمستشرق شيئًا إلا ونحن
نحرص على تفكيرنا ، وأن نعنى بتعرف الغرض الذي يرمي إليه قبل أن نثق بما
يكتب ، وأن نقتفي أثره فيما يبحث وفي مستنداته ؛ لأنه دائمًا يبتر الحقائق ؛ فيقول :
إن القرآن فيه آية لا تقربوا الصلاة .
وسنعطيك مثلاً آخر فيما قال فنسنك تحت كلمة " كعبة " في دائرة المعارف
الإسلامية ، صفحة 587 ، النسخة الإنجليزية :
( نحن لا نعلم شيئًا عن شعور محمد الشخصي في شبابه نحو الكعبة أو
العبادات المكيَّة ؛ ولكن المفروض أنه لم يشذ عن الجماعة ) .
( وإن ما ذُكر في سيرته عن هذه المسألة مدة وجوده في مكة لا يوثق من
جهة القيمة التاريخية ) .
( وإن الآيات المكية لم تخبرنا شيئًا عن هذه العلاقات في تلك المرحلة الهامة
من حياة النبي ، على أنه لم يظهر حماسته في حادثة نحو الحرم المكي ، وفي
المرحلة الأولى بعد الهجرة كان محمد في شغل بمسألة أخرى مختلفة عن هذه جد
الاختلاف ؛ ولكن أخفقت العلاقات الطيبة المنتظرة مع اليهودية واليهود ، وهناك
حصل تغيير ؛ حيث إنه - بعد مضي عام ونصف عام على الهجرة - ذكرت الكعبة ،
وذكر الحج في الوحي ) .
( وأول مظهر من مظاهر التغيير كان وجهة القبلة ، فلا يتجه المؤمنون في
صلاتهم إلى القدس ، بل إلى الكعبة : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } ( البقرة :
144 ) الآيات .... ومن الوجهة الأمرية فإن هذا التغيير في القبلة برر بأنه
استئناف ملة إبراهيم ، وهي - أي ملة إبراهيم - اخترعت خصيصًا لهذا الظرف
السورة 129 - آية - و3 - 19 - كما بيَّن سنوك هرجرونيه ) .
( وقيل إن ملة إبراهيم هذه كان اليهود قد أخفوها ثم أظهرها محمد ، ومن ثم
أدمجت فيها عبادات مكة ) .
وبعد فقد انتهت الفقرة التي ننقلها من دائرة المعارف الإسلامية بقلم فنسنك ،
فلنتعرف أغراضها ومراميها وحقيقتها .
وأول ما يعترضنا عند النظر إلى هذه الفقرة أن فنسنك رجل مقلد في السب
والشتم والهجاء ، وأن تقليده أعمى يقوده عكاز ضعيف من الاطلاع السطحي ،
والظاهر أنه في هذه المسألة يتبع آراء سنوك هرجرونيه ، ويتلمس أدلة جديدة
ليضيفها إلى أدلة أستاذه السخيفة .
والمدهش أن هؤلاء المستشرقين يختلفون في كل شيء إلا في هجاء محمد
عليه الصلاة والسلام .
فهذا فنسنك يقول : إنه لا يعرف شيئًا من شعور محمد عليه الصلاة والسلام
نحو الكعبة في شبابه وبعد رسالته إلا بعد الهجرة بعام ونصف عام ، وإن ما لديه
من تاريخ حياته - عليه الصلاة والسلام - لا يصح أن يؤخذ أساسًا تاريخيًّا .
وزميل له في الاستشراق هو إميل درمنغام يزعم أن محمدًا كان يتعبد على
مبادئ اليهودية أو النصرانية .
ومرجوليث يقول ما قاله مالك في الخمر .
__________
(1) ملخص مقال 30 أكتوبر في الأهرام وأول يناير سنة 1934 في الهلال .​
(35/324)
 
مما يتعلق أيضاً بالمؤلف وهو الاستاذ حسين الهراوي
http://vb.tafsir.net/216121-post4.html
كما له أيضا وفي المنار
الكاتب : حسين الهراوي
__________
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن
[*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي

عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد ، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد ، وأخذ ورد ، ويكشفون عن محاسن الكتاب ، وعن المآخذ التي
يرونها فيه .
وهذه الطريقة قديمة ، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين :
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب ، وإما تنفيرًا منه ، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا .
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين ، أو أخدع القارئين ، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف ، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة .
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري ، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك ، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب .
ولعلي لا أجامل إذا قلت : إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده ، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي ، إن لم يكن في العالم أجمع .
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي ، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام .
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر ؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته ،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات ، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين ، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة ، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق ، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق ، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين ، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم .
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي .
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن ، فأسلوب القرآن البياني ، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين ، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } ( فصلت : 53 ) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن[1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ( القيامة : 3-4 ) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي ،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام ، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع .
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته ، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة ، وتعتمدها المحاكم ، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا ، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان ، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية .
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن ، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير ؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة[2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن ، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد ؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام ؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان .
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام ، وذم
التقليد ، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل ، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث .
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين ، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية ، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية ، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية ، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم ، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام ؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا ، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو ، لا كما صوره الواهمون المغرضون ،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم ، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام ، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام ، وعدَّدها واحدًا واحدًا ، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص ، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام ، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده ، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول : إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته ، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق ، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم .
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات ، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق ، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية ، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية ، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان .
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة ، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث ، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا ، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين ؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن ، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام ، وتقدس الإنسان .
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة ( جان دارك ) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع ؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية ، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي .
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث ،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع .
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين ، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده ، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي .
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب ، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية ، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية ، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب ، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين .
اهـ .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر ، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا ، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي .
(1) المنار : قد بينا هذا في كتاب الوحي ، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته .
(2) إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه ، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث .
(3) إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح .
(34/64)
 
عودة
أعلى