بسم1
الزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها؛ فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة. والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد- هو زوجها- يطّلع منها على ما لا يطّلع أحد سواه، ويشترك معه في الاطلاع على بعضها المحارم والمذكورون في الآية -محل الحديث-، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع.
قال تعالى في سورة النور: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: ٣١.
ومعنى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: لا يُظهرن زينتهن للرجال، بل يجتهدن في إخفائها إلا الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلُبْسها، إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها.[1]
والزينة الظاهرة فيها خلاف إلا أن أظهر الأقوال فيها هو قول ابن مسعود رضي الله عنه: "أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية"؛ وذلك لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم؛ والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة، والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي.[2]
ثم بينت الآية كيفية إخفائها، فقال سبحانه: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) النور: ٣١.
وذلك بأن يلقين بأغطية رؤوسهن على فتحات أعلى ثيابهن من جهة صدورهن مغطيات وجوههن؛ ليكمل سترهن.[3]
ثم قال عز وجل: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) النور: ٣١.
فلا يُظْهِرْنَ الزينة الخفية إلا لأزواجهن؛ إذ يرون منهن ما لا يرى غيرهم. وبعضها: كالوجه، والعنق، واليدين، والساعدين؛ يباح رؤيته للمذكورين في الآية.[4]
وكان نساء الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن، فتبدو صدورهن ونحورهن أمام الرجال الأجانب، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، ويخالفن شعار أهل الجاهلية، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) الأحزاب: ٥٩.[5]
وعن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة، قالت: وذكرت نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا بكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) النور: ٣١، انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به، تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن يصلين وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان".[6]
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء، ويلزم المرأة أن تتجنب كل أسباب الإثارة؛ لذا فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة، وتلفت الأنظار، وتهيج الشهوات -ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة-، فقال تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) النور: ٣١. وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها، فسماع وسوسة الحلي أو شم شذى العطر من بعيد، قد يثير حواس رجال كثيرين، ويهيج أعصابهم، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا. والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله؛ لأن مُنزله هو الذي خلق، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الآية دلت على أن الأصل عدم إبداء الزينة إلا ما استثني، أي أن الأصل هو الستر، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) النور: ٦٠.
فإذا كان الاستعفاف -بعدم وضع الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء الذي يكون فوق الثياب- خير وأحوط في حق العجائز اللاتي لا يطمعن في الزواج، ولا يطمع فيهن الرجال لذهاب مفاتنهن، وهن غير متبرجات بزينة؛ فما الذي بقي من العذر لامرأة شابة تظهر زينتها أمام الرجال الأجانب عنها؟!
وبتسمية القرآن ذلك استعفافًا؛ تظهر الصلة الوثيقة بين التبرج والفتنة، والتحجب والعفة.
وهكذا يبرز في آيات النور إغلاق كل المنافذ التي قد تكون سببًا للتهاون في صيانة العرض، بل وتحرك العقول لتزداد قناعة ويقينًا بضرورة حياطة العفة من كل دنس.
ختامًا ..
إن الحرب على الفضيلة والعفاف والطهر في هذا العصر غير خافية على أحد، ولن يطفئ لهبها إلا ماء الوحي، ولن يبدد سحائب ظلمتها إلا ما شرعه نور السموات والأرض. فتشريعاته وآدابه كلها نور لكن الشأن كل الشأن من يهتدي بها ويتدبرها!
[1] التفسير الميسر، إعداد نخبة من أساتذة التفسير (1/ 353).
[2] ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (5/ 517).
[3] ينظر: التفسير الميسر (1/ 353).
[4] ينظر: التفسير الميسر (1/ 353).
[5] ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 46).
[6] رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2575) برقم (14406).