محمد عصام
New member
تفسير مقدمة سورة عبس
عَبَسَ وَتَوَلَّى{1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى{2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى{3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى{4} أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى{5} فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى{6} وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى{7} وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى{8} وَهُوَ يَخْشَى{9} فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى{10} كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ{11}
هل تعلم أن أصل عتاب الله لنبيه ليس بسبب العبس؟؟
سبب النزول:
روى الترمذي في جامعه ومالك في موطئه وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل [عبس وتولى] في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول أترى بما أقول بأساً، فيقول: لا، ففي هذا أنزل
-----------------------------------------------------------------
سأسوق في هذا الموضوع 3 سيناريوهات: لكن قبل أن أبدأ سأوضح بعض المفردات:
تزكى: تطهّر من دنس الشّرك و الكفر ، كما في موسى لفرعون ( هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى )
السعي: معناهالإسراع في المشي وهو دون الجري
---------------------------------------------------------------
السيناريو الأول (من وجهة نظر الطاعنين) :
رجل أعمى قد دعاه النبي للاسلام، فجلس يفكر ويتأمل، فنزلت خشية الله في قلبه (وهو يخشى) وانشرح صدره للاسلام واغرورقت بالدمع عيناه، فهرع إلى النبي (يسعى) مسرعاً في مشيه رغم أنه لا يرى ليخبره باسلامه وخشيته لربه
فعبس النبي في وجهه وتولى عنه وتلهى عنه وتركه، والرجل من شدة لهفته ينادي النبي ويناديه والنبي يتلهى عنه ولا يجيبه
ثم لا ييأس ويناديه مرة أخرى ولكن الرسول لا يجيبه
هل هذه أخلاق رسول قال الله في حقه ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ؟؟!!
وبسبب هذا السيناريو: خرج الكثير الذين يحاولون تغير معاني النصوص ليدافعوا عن النبي ظناً منهم أن في تصرفه خطأ
فخرج الدكتور محمد أبو زيد الفقهي في عدة حلقات يحاول تفسير الذي عبس بأنه ضيف النبي الوليد بن المغيرة وليس النبي
وأن السياق في الحوار (هو أن الله يخبرنا عن قصة جرت بصيغة الغائب)
فجعل المعنى كالتالي:
(عبس الوليد وتولى عندما رأى أن الأعمى جاء للنبي )، جاءه الأعمى أي جاء للنبي
وأما قوله ( وما يدريك لعله يزكى ) هنا انتقل الحوار من رواية الغائب إلى المخاطب فانتقل لمخاطبة النبي
أي وما يدريك يا محمد لعل الأعمى يزكى
(والحقيقة في هذا ركاكة كبيرة واللغة العربية لا تساعده في ذلك)
لأن سياق الآيات أن المخاطب نفس الشخص الذي عبس
فالسياق واحد والموضوع متحد , والعتاب هو هو , لم ينتقل بعد إلى أمر آخر
فإما أن يكون المخاطب في قوله تعالى : ((وما يدريك لعله يزكى)) هو: للنبي وهو الصواب
أو يكون الخطاب للوليد بن المغيرة وهذا لا يصح أن يخاطب الله الوليد بقوله ( وما يدريك لعله يزكى)
ويستشهد الطاعنين بحديث رواه الترمذي
عن عائشة قالت : أنزل (عبس وتولى) في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني , وعند رسول الله من عظماء المشركين فجعل رسول الله يعرض عنه ويقبل على الآخر, ويقول : أترى بما أقول بأسا , فيقال : لا , ففي هذا أنزل
وهذا الحديث ضعيف لا يصح الاستشهاد به وفيه اساءة للنبي، يقول له الأعمى أرشدني وهو يعرض عنه ويتولى
والأفضل هو ما رواه أبو يعلى في ((مسنده)) بإسناد ظاهره الصحة عن أنس ، قال: ((جاء ابن أم مكتوم إلى النبي ، وهو يكلِّم أبي بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله: عَبَسَ وَتَوَلَّى)). قال: ((فكان النبي بعد ذلك يكرمه))
------------------------------------------------------------------
السيناريو الثاني ( من وجهة نظر النبي)
دعا النبي الرجل الأعمى للاسلام سابقاً ولم يقبل، وعندما كان النبي يجلس مع أحد وجهاء قريش ويدعوه للاسلام، آملا باسلامه أن يسلم الكثيرين من قريش
وإذ بشخص لم يتقيد بآداب الاستئذان، وينادي يامحمد، فقام النبي لينظر من في الباب
ولما رأى الوليدة بن المغيرة ذلك، وجدها فرصة للهروب من سماع النبي، لأنه كره كلام النبي وحديثه واستغنى عن نصيحته ودعوته
فهرع مسرعاً للاستئذان للخروج، فلما رأى النبي ذلك عبس بسبب هذا الموقف وترك الأعمى عند الباب وأخذ يتصدى لمن استغنى ويحاول أن يقنعه بالجلوس عنده وقت أطول ليستطيع التحدث معه، والرجل يرفض ويريد ان يخرج فقط
والأعمى لأنه لا يعرف حقيقة الوضع فهو ينادي النبي ولا يتوقف عن النداء، وكلما نادى يقول الوليد دعني أذهب يا محمد آتيك بوقت آخر، فعبس النبي بسبب هذا الموقف، الذي جعله يتولى عن الأعمى ويتصدى لمن استغنى... انتهى
طبعاً وضعنا بعض التفاصيل الدرامية في السيناريو ليست موجودة في الأحاديث لإظهار الصورة بشكل أوضح
النبي لم يعبس بوجه الأعمى ولكن عبس النبي كان بسبب هذا الموقف الحرج بين نداء الأعمى وهروب الوليد
إضافة لذلك لو اعتبرنا أن النبي عبس في وجه الأعمى فأيضا لا مشكلة في ذلك
وسأضرب مثلاً توضيحياً قمة في الروعة منقول من التفسير الفريد للشيخ عبد الهادي الباني
يقول:( أرأيت لو أن شخصاً زلت به القدم وهوى ساقطاً في حفرة سحيقة ، ولم يجد إلى الخروج سبيلا ، وفيما هو على هذه الحال ، سمع استغاثته رجل ذو نجدة ومروءة ، فخف إليه مسرعاً ثم ما لبث أن جاء بحبل وأدلاه له بغية إنقاذه مما هو فيه .
وفيما الساقط في الحفرة متعلق بالحبل وقد أضحى بعيداً عن الأرض والمنقذ في غمرة الإنقاذ أقبل أعمى ضرير يطلب من المنقذ المعونة وهو بسبب فقد بصره لا يرى ما يجري ولا يأبه له
أفنظن والأمر كما بيناه أن المنقذ يدع المتردي يسقط في الحفرة ويلبي طلب الضرير الذي جاء يطلب رفده أم يعبس ويعرض عنه وكأن لسان الحال ليس الوقت وقت معونة .
فإذا كان ما بيناه ينطبق على من ينقذ في الدنيا من كان ساقطاً في حفرة فكيف بمن ينجي من قد يهوي في جهنم ومعه قوم وآلاف مؤلفة !! ذلك مثل نستطيع من خلاله أن ندرك طرفاً مما قام به رسول الله من تصرف سليم وموقف مثالي كريم..انتهى.
-------------------------------
قال فخر الدين الرازي في تفسيره (إن النبي - كثيرا ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء، وكيف لا يكون كذلك وهو -عليه الصلاة والسلام- إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلا في إذن الله تعالى إياه في تأديب أصحابه، وإذا كان ذلك مأذونا فيه، فكيف وقعت المعاتبة عليه؟ وهذا الكلام صحيح، فالنبي يزجر وينهى أصحابه ولم يعاتبه الله بذلك فلماذا يعاتبه الآن ؟؟!!!
وفي قصة الرجل الذي جاء للنبي وقال يا رسول الله زنيت فطهرني فقد عبس النبي وتولى عنه
--------------------------------------------------------------
وهنا وصلنا للسيناريو الثالث: ( هل تعلم أن أصل العتاب لم يكن بسبب العبس (
مثال توضيحي:
كان معلم يجلس مع طلابه في حلقة يذكرون الله، وإذ بأحد الطلاب يقف لوحده دون إذن المعلم ويذهب ليشرب ماء ثم يعود ويجلس !!!
فلما جلس قال المعلم لكل الطلاب بصيغة التعريض
قام وذهب ثم شرب وعاد وجلس أولى له فأولى لو استأذن
.
أصل عتاب المعلم للطالب ليس القيام ولا الشرب وإنما فعل كل هذه الأمور دون استئذان المعلم
ولو أنَّ الطالب استئذن لم يكن هناك عتاب ولوم لقيامه وذهابه وشربه
-------------------------
وفي سورة عبس أصل العتاب ليس العبس
والسبب الحقيقي من العتاب تجده بعد كلمة (أما) التي تعرب تفصيلية، لأنها تفصل السبب والأحداث
قال تعالى: )أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة)
عوتب النبي في كل تصرفاته بسبب تصديه لرجل مستغني لا يريد أن يسمع، وتلاهيه عن إنسان قد أقبل عليه
عوتب النبي لأنه ترك الأولى له
عوتب النبي لأن الإسلام عزيز، ومن لا يريد الدخول فيه فالله غني عنه، غني عن من استغنى (والله هو الغني الحميد)
لهذا جاء السياق بعد هذا العتاب (كلا إنها تذكره) فمن شاء ذكره
-------------------------------------
الناس استشكلت عبس النبي في وجه رجل أعمى مسلم جاءه يسعى وهو يخشى
والأمر في ذلك أن النبي لم يكن يعلم بإيمان الأعمى الذي جاءه (وما يدريك لعله يزكى)
وعبس النبي شيء طبيعي على الخطأ
وكثيرا ما كان النبي يعبس ويزجر أصحابه إذا أخطأوا فهذا ليس شيئ يعاتب به
ولكن العتاب جاء على ترك الأولى
وعليك يا أيها النبي أن تقبل على من أقبل عليك ولا يهمك من تولى (وما عليك ألا يزكى)، (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل)
لنفرض لو أن النبي كان يجلس عنده أبو بكر وعمر في موضوع مهم وجاء الأعمى يريد النبي، وتلهى عنه النبي قليلا
هل سيكون هناك معاتبة الجواب لا، لأن النبي هنا لم يخطئ وواجب على الأعمى أدبا أن ينتظر ليخرج له النبي
ولكن جاءت المعاتبة أن النبي انشغل برجل ليس عليه أن ينشغل به فهو ترك الأولى
------------------------------------------
الخلاصة والفائدة
1- عبس النبي لم يكن للأعمى وإنما بسبب الموقف الذي وضع فيه عند قدوم الرجل الأعمى
2- عتاب الله للنبي لم يكن أصله بسبب العبس والتولي، بل لأنه لم يفعل الأولى، وأقبل على من استغنى وتلهى عن الذي أقبل عليه
3- الاسلام عزيز، فمن لم يريد النصيحة فلا تبخع نفسك على آثاره ولا تأسف عليه
واحرص على من حولك وهم معك
والله اعلم
والحمد لله رب العالمين