من أسرار البيان في( المعوذتين ) للشيخ ابن قيم الجوزية

إنضم
20/04/2004
المشاركات
29
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير المعوذتين:
أولا- ما ورد في المعوذتين من الأحاديث: روى مسلم في صحيحه من حديث بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله:" ألم تر آيات أنزلت الليلة، لم ير مثلهن قط: أعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس "0 وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة أن رسول الله قال له:" ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟ قلت: بلى! قال: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس " 0
وفي الترمذي حدثنا قتيبة بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال: أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة0 إسناده فيه ضعف، وهو صحيح0 لغيره قال: هذا حديث غريب0
وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود عن عبد الله بن حبيب قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة، نطلب النبي؛ ليصلي بنا، فأدركناه فقال:" قل0 فلم أقل شيئا0 ثم قال: قل0 فلم أقل شيئا0 ثم قال: قل0 قلت يا رسول الله! ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء صحيح "0 قال الترمذي حديث حسن صحيح0
وفي الترمذي أيضا من حديث الجريري، عن أبي هريرة، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله يتعوذ من الجان، وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان0 فلما نزلتا أخذهما، وترك ما سواهما "0 قال: حسن0

ثانيًا- والمقصود: الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة، بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس0
فنقول- والله المستعان: قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول: وهي أصول الاستعاذة0 أحدها: نفس الاستعاذة0 والثانية: المستعاذ به0 والثالثة: المستعاذ منه0 فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين0 فلنعقد لهما ثلاثة فصول: الفصل الأول- في الاستعاذة0 والثاني- في المستعاذ به0 والثالث- في المستعاذ منه0
الفصل الأول- الاستعاذة وبيان معناها:
اعلم أن لفظ عاذ، وما تصرف منه يدل على التحرز والتحصن والنجاة0 وحقيقة معناه: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه0 ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا، كما يسمى: ملجأ ووزرا0 وفي الحديث:" أن ابنة الجون، لما أدخلت على النبي، فوضع يده عليها قالت: أعوذ بالله منك0 فقال لها: قد عذت بمعاذ! الحقي بأهلك "0 رواه البخاري0
فمعنى أعوذ: ألتجيء، وأعتصم، وأتحرز0 وفي أصله قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الستر0 والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة0 فأما من قال إنه من الستر، قال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها: عوذ بضم العين وتشديد الواو وفتحها0 فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها، سموه: عوذا0 فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه0 ومن قال هو لزوم المجاورة، قال: العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه: عوذ؛ لأنه اعتصم به واستمسك به0 فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به واعتصم به ولزمه0
والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معا، فإن المستعيذ مستتر بمعاذه متمسك به معتصم به قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك0 فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه0
وأصل هذا الفعل: أعوذ بتسكين العين وضم الواو، ثم أعل بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو: فقالوا: أعوذ ، على أصل هذا الباب0 ثم طردوا إعلاله فقالوا في اسم الفاعل: عائذ0 وأصله: عاوذ 0 فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة، كما قالوا: قائم وخائف0 وقالوا في المصدر: عياذا بالله0 وأصله: عواذا، كلواذ، فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها ولم تحصنها حركتها؛ لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل0 وقالوا: مستعيذ0 وأصله: مستعوذ، كمستخرج0 فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها ثم قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب0
فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل، كقوله: فاستعذ بالله، ولم تدخل في الماضي والمضارع، بل الأكثر أن يقال: أعوذ بالله، وعذت بالله، دون أستعيذ واستعذت؟
قلت السين والتاء دالة على الطلب0 فقوله: أستعيذ بالله0 أي: أطلب العياذ به، كما إذا قلت: أستخير الله0 أي: أطلب خيرته0 وأستغفره0 أي: أطلب مغفرته0 وأستقيله0 أي: أطلب إقالته0 فدخلت في الفعل إيذانا لطلب هذا المعنى من المعاذ0 فإذا قال المأمور: أعوذ بالله، فقد امتثل ما طلب منه؛ لأنه طلب منه الالتجاء والاعتصام0 وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك0 فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله، أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله!
وهذا بخلاف ما إذا قيل: أستغفر الله0 فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله0 فإذا قال أستغفر الله: كان ممتثلا؛ لأن المعنى: أطلب من الله تعالى أن يغفر لي0 وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة، فلا ضير أن يأتي بالسين فيقول: أستعيذ بالله تعالى0 أي: أطلب منه أن يعيذني0 ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب إليه0 فالأول: يخبر عن حاله وعياذه بربه، وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه0 والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه0 كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني0 فحال الأول أكمل مجيء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر0 ولهذا جاء عن النبي في امتثال هذا الأمر: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم0 وأعوذ بكلمات الله التامات0 وأعوذ بعزة الله وقدرته، دون أستعيذ0 بل الذي علمه الله إياه أن يقول: أعوذ برب الفلق0 أعوذ برب الناس، دون أستعيذ0 فتأمل هذه الحكمة البديعة!
فإن قلت فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به: فقال:( قل أعوذ برب الفلق- 1) و ( قل أعوذ برب الناس-1)، ومعلوم أنه إذا قيل: قل الحمد لله، وقل سبحان الله، فإن امتثاله أن يقول: الحمد لله، وسبحان الله0 ولا يقول: قل: سبحان الله؟
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبي بن كعب على النبي بعينه، وأجابه عنه رسول الله فقال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة، ثنا سفيان عن عاصم وعبده عن زر قال: سألت أبي بن كعب عن المعوذتين، فقال: سألت رسول الله، فقال: قيل لي، فقلت0 فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم0 رواه البخاري0 ثم قال: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش، وحدثنا عاصم عن زر قال: سألت أبي بن كعب قلت: أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود، يقول: كذا وكذا، فقال: إني سألت رسول الله، فقال: قيل لي: فقلت: قل، فنحن نقول كما قال رسول الله0
قلت: مفعول القول محذوف وتقديره: قيل لي: قل0 أو قيل لي: هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي0 وتحت هذا السر أن النبي ليس له في القرآن إلا بلاغه، لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه0 بل هو المبلغ له عن الله0 وقد قال الله له: قل أعوذ برب الفلق، فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول: قل أعوذ برب الفلق، كما قال الله0 وهذا هو المعنى الذي أشار النبي إليه بقوله: قيل لي، فقلت0 أي: إني لست مبتدئا0 بل أنا مبلغ أقول، كما يقال لي، وأبلغ كلام ربي، كما أنزله إلي0 فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقال كما قيل له، فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول هذا القرآن العربي، وهذا النظم كلامه، ابتدأ هو به0 ففي هذا الحديث أبْيَن الردِّ لهذا القول، وأنه بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه، حتى أنه لما قيل له: قل؛ لأنه مبلغ محض0 وما على الرسول إلا البلاغ0
الفصل الثاني المستعاذ به هو الله:
المستعاذ به وهو الله وحده رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه0 بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم، ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره0 وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانا، ورهقا، فقال حكاية عن مؤمني الجن:( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) الجن 6 0 جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح0 أي: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا0 أي: طغيانا وإثما وشرا0 يقولون: سدنا الإنس والجن0 والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم0 فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا، لما كان محظورا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن0

الفصل الثالث- الشرور المستعاذ منها:
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين0 الشر الذي يصيب العبد، لا يخلو من قسمين: إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه0 ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين، وأدومهما، وأشدهما اتصالا بصاحبه0 وإما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه0 ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين، وأدومهما، وأشدهما اتصالا بصاحبه0
وإما شر واقع به من غيره0 وذلك الغير إما مكلف، أو غير مكلف0 والمكلف إما نظيره وهو الإنسان0 أو ليس نظيره وهو الجني0 وغير المكلف مثل الهوام وذوات الحمى وغيرها0 فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما0
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة: أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عموما0 الثاني: شر الفاسق إذا وقب0 الثالث: شر النفاثات في العقد0 الرابع: شر الحاسد إذا حسد0 فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد والتحرز منها قبل وقوعها، وبماذا تدفع بعد وقوعها0

فصل الشرور المستعاذ منها في المعوذتين:
الشر الأول في قوله:( من شر ما خلق 2) فإذا عرفت هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين الشر الأول العام في قوله من شر ما خلق0
و(ما)- ههنا- موصولة، ليس إلا0 و(الشر) مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شر فيه بوجه ما0 فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى؛ فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه0 وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام0 ولا عيب فيها، ولا نقص بوجه ما0 وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلا0 ولو فعل الشر سبحانه، لاشتق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم0 تعالى وتقدس عن ذلك0 وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض؛ إذ هو محض العدل والحكمة؛ وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم0 فالشر وقع في تعلقه بهم، وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى0 ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولا ته المنفصلة؛ فإنه خالق الخير والشر0 ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على باب: أحدهما: أن ما هو شر، أو متضمن للشر، فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا، لا يكون وصفا له، ولا فعلا من أفعاله0 والثاني: أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه0 فله وجهان هو من أحدهما خير؛ وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها0 وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مباديء معرفتها، فضلا عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد، وفاعل الشر، لا يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا، وإن كان هو الخالق للخير والشر0 فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه0 فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته، ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء0
وفي الحديث الآخر:" أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرا وبرا ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن- صحيح0

الشر الثاني- فصل شر الغاسق إذا وقب: الشر الثاني( شر الغاسق إذا وقب )0 فهذا خاص بعد عام وقد قال أكثر المفسرين: إنه الليل0 قال: عبد الله بن عباس:" الليل إذا أقبل بظلمته من الشرق، ودخل في كل شيء، وأظلم "0 والغسق الظلمة0 يقال: غسق الليل، وأغسق إذا أظلم0 ومنه قوله تعالى:( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل الإسراء 78 )0 وكذلك قال الحسن ومجاهد0 والغاسق إذا وقب: الليل إذا أقبل ودخل0 والوقوب: الدخول0 وهو دخول الليل بغروب الشمس0 وقال مقاتل:" يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار "0 وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر إنه من البرد0 والليل أبرد من النهار0 والغسق: البرد0 وعليه حمل عبد الله بن عباس قوله تعالى:( هذا فليذوقوه حميم وغساق ص 75)0 وقوله:( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا النبأ 24 25)0 قال: هو الزمهرير يحرقهم ببرده، كما تحرقهم النار بحرها0 وكذلك قال مجاهد ومقاتل: هو الذي انتهى برده0 ولا تنافي بين القولين؛ فإن الليل بارد مظلم0 فمن ذكر برده فقط أو ظلمته فقط، اقتصر على أحد وصفيه0 والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة؛ فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل0 ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور من شر الغاسق الذي هو الظلمة، فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة، كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله0
فصل سبب الاستعاذة من شر الليل: والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل، وشر القمر إذا وقب، هو أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين0 وفي الصحيح: أن النبي أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين0 ولهذا قال: فاكفوا صبيانكم واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء0 رواه البخاري ومسلم0 وفي حديث آخر: فإن الله يبث من خلقه ما يشاء والليل هو محل الظلام وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار فإن النهار نور والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة وعلى أهل الظلمة0
وروي أن سائلا سأل مسيلمة: كيف يأتيك الذي يأتيك؟ فقال في ظلماء حندس0 وسأل النبي: كيف يأتيك؟ فقال في مثل ضوء النهار0 فاستدل بهذا على نبوته، وإن الذي يأتيه ملك من عند الله، وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان0 ولهذا كان سلطان السحر، وعظم تأثيره؛ إنما هو بالليل دون النهار0 فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير0 ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين، وبيوتهم مأواهم0 والشياطين تجول فيها وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه0 وكلما كان القلب أظلم، كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن0
فصل السر في الاستعاذة برب الفلق: ومن- هاهنا- تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع0 فإن الفلق الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين0 في الليل يأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب أو كن أو غار وتأوي الهوام إلى أحجرتها والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها، فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها ويقهر عسكرها وجيشها0 ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور ويدع الكفار في ظلمات كفرهم0
فصل تفسير الفلق: واعلم أن الخلق كله فلق0 وذلك أن فلقا فعل بمعنى مفعول كقبض وسلب وقنص، بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص0 والله عز وجل فالق الإصباح وفالق الحب والنوى وفالق الأرض عن النبات والجبال عن العيون والسحاب عن المطر والأرحام عن الأجنة والظلام عن الإصباح0 ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة فلقا وفرقا0 يقال: هو أبيض من فرق الصبح وفلقه0 وكما أن في خلقه فلقا وفرقا فكذلك أمره كله فرقان يفرق بين الحق والباطل فيفرق ظلام الباطل بالحق كما يفرق ظلام الليل بالإصباح ولهذا سمى كتابه الفرقان، ونصره فرقانا؛ لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه0 ومنه فلقة البحر لموسى وسماه فلقا، فظهرت حكمة الاستعاذة برب الفلق في هذه المواضع وظهر بهذا إعجاز القرآن وعظمته وجلالته، وأن العباد لا يقدرون قدره، وأنه( تنزيل من حكيم حميد فصلت 42)0

الشر الثالث- شر النفاثات في العقد: الشر الثالث شر النفاثات في العقد0 وهذا الشر هو شر السحر0 فإن النفاثات في العقد هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر0 والنفث هو النفخ مع ريق وهو دون التفل0 وهو مرتبة بينهما0 والنفث فعل الساحر0 فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك0 وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري، لا الأمر الشرعي0
فإن قيل: فالسحر يكون من الذكور والإناث، فلم خص الاستعاذة من الإناث دون الذكور؟ قيل في جوابه: إن هذا خرج على السبب الواقع، وهو أن بنات لبيد بن الأعصم سحرن النبي0 هذا جواب أبي عبيدة وغيره0 وليس هذا بسديد؛ فإن الذي سحر النبي هو لبيد بن الأعصم كما جاء في الصحيح0 والجواب المحقق إن النفاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات لا النساء النفاثات؛ لأن تأثير السحر، إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة0 وسلطانه، إنما يظهر منها0 فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث، دون التذكير والله أعلم0
فصل العاين والحاسد: والعاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء0 فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه0 فالعاين تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته0 والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا0 ويفترقان في أن العاين قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه0 فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين0
والمقصود أن العائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد0 ولهذا- والله أعلم- إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن؛ لأنه أعم0 فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائنا0 فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين0 وهذا من شمول القرآن الكريم، وإعجازه وبلاغته0 وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود، وتمني زوالها0
الساحر والحاسد: فالحاسد عدو النعم0 وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها، ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها، بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر0 فإنه؛ إنما يكون باكتساب أمور أخرى واستعانة بالأرواح الشيطانية0 فلهذا- والله أعلم- قرن في السورة بين شر الحاسد، وشر الساحر؛ لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن0 فالحسد من شياطين الإنس والجن، والسحر من النوعين0 وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن، وهو الوسوسة في القلب0 فذكره في السورة الأخرى، كما سيأتي الكلام عليها، إن شاء الله تعالى0
فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه0 بل هو أذى من أمر خارج عنه0 ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق0 والوسواس؛ إنما يؤذي العبد من داخله بواسطة مساكنته له، وقبوله منه0 ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم؛ لأن ذلك بسعيه وإرادته بخلاف شر الحاسد والساحر0 فإنه لا يعاقب عليه؛ إذ لا يضاف إلى كسبه، ولا إرادته0 فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة، وقرن بين شر الساحر، والحاسد في سورة0
وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة0 ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم0 فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم0 وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا، وهذا فقال:( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئسما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون البقرة 102)0
والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبها0 ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان؛ لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله وأبى أن يسجد له حسدا0 فالحاسد من جند إبليس0 وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه0 وربما يعبده من دون الله تعالى حتى يقضي له حاجته، وربما يسجد له0
والمقصود أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر؛ لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده ويأمره بموجبه، والساحر بعلمه وكسبه وشركه واستعانته بالشياطين0
فصل الحسد يشمل الحاسد من الجن والإنس0 وقول( من شر حاسد إذا حسد ) يعم الحاسد من الجن والإنس0 فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله، كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته، كما قال تعالى:( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فاطر 6)0 ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس0 والوسواس يعمهما، كما سيأتي بيانهما0 والحسد يعمهما أيضا، فكلا الشيطانين حاسد موسوس، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعا0 فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم، وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها: شرا عاما؛ وهو شر ما خلق0 وشر الغاسق إذا وقب0 فهذا نوعان0 ثم ذكر شر الساحر والحاسد؛ وهما نوعان أيضا؛ لأنهما من شر النفس الشريرة، وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده وهو الساحر0 وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان وتقرب إليه0 إما بذبح باسمه، أو بذبح يقصد به هو؛ فيكون ذبحا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق0 والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان، فهو عبادة له، وإن سماه بما سماه به0 فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه0 فمن سجد لمخلوق، وقال: ليس هذا بسجود له0 هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة، كما أقبلها بالنعم0 أو هذا إكرام، لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله، فليسمه بما شاء0

سورة الناس: وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضا استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه0 فالاستعاذة تقدمت0 وأما المستعاذ به فهو الله تعالى رب الناس، ملك الناس، إله الناس0 فذكر ربو بيته للناس، وملكه إياهم، وإلاهيته لهم0 ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان الرجيم كما تقدم0 فنذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة0
الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم هذا معنى ربو بيته لهم0 وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعوا تهم وكشف كرباتهم0
الإضافة الثانية: إضافة الملك0 فهو ملكهم المتصرف فيهم وهم عبيده ومماليكه وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء النافذ القدرة فيهم الذي له السلطان التام عليهم فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجؤهم فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم0
الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية0 فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلاههم ومعبودهم فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه0 وهذه طريقة القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة0 وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعي ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه ولا يتوكل إلا عليه لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومولي شأنك وهو ربك فلا رب سواه أو تكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماه0 فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلاهيته لهم0 فكيف لا يلتجيء العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء، وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا0 ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر، ولم يوقع المضمر موقعه فيقول: رب الناس، وملكهم، وإلههم تحقيقا لهذا المعنى، وتقوية له0 فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو، لما فيهم من الإيذان بالمغايرة0 والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة0
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها0 فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه؛ ولكن ترك إلهه الحق، واتخذ إلها غيره0 ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع، إذا أمر0 وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته0 وكونه إلاههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها0 فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق0 خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلاهيته0 فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق: رب الناس، ملك الناس، إله الناس0 وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى0
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى فإن الرب هو القادر الخالق الباريء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويسعد من يشاء ويشقي ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى0
وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز الجبار الحكم العدل الخافض الرافع المعز المذل العظيم الجليل الكبير الحسيب المجيد الوالي المتعالي مالك الملك المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك0
وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى0 ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى0 فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ ويمنع من الوسواس الخناس، ولا يسلط عليه0
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما خفي، وإن باديه إلى الخافي يسير0
فصل الاستعاذة من الشر: وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل0 فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه0 والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي0 فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب0 والشر كله يرجع إلى العيوب، والمصائب، ولا ثالث لهما0 فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة0
فصل الوسواس: إذا عرف هذا الوسواس: فعلال من وسوس0 وأصل الوسوسة: الحركة0 أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه0 فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه0 وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد0 ومن هذا وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن0 والظاهر والله تعالى أعلم أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس، وهو الأذن فقيل: وسوسة الحلي؛ لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له0 ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكد عند من يلقيه إليه، كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها، فقالوا: وسوس وسوسة0 فراعوا تكرير اللفظ؛ ليفهم منه تكرير مسماه0 ونظير هذا ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدوران والغليان والنزوان وبابه0 ونظير ذلك زلزل ودكدك وقلقل وكبكب الشيء؛ لأن الزلزلة حركة متكررة، وكذلك الدكدكة والقلقلة، وكذلك كبكب الشيء، إذا كبه في مكان بعيد، فهو يكب فيه كبا بعد كب، كقوله تعالى:( فكبكبوا فيها هم والغاوون الشعراء 94)0 ومثله رضرضة، إذا كرر رضه مرة بعد مرة0 ومثله ذرذره، إذا ذره شيئا بعد شيء0 ومثله صرصر الباب، إذا تكرر صريره0 ومثله مطمط الكلام، إذا مطه شيئا بعد شيء0 ومثله كفكف الشيء، إذا كرر كفه وهو كثير0 وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف، لم يصب؛ لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر0 فإذا قلت: ذر الشيء، وصر الباب، وكف الثوب، ورض الحب، لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر وصرصر ورضرض ونحوه0 فتأمله فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته0 وكذلك قولهم عج العجل إذا صوت فإن تابع صوته قالوا عجعج وكذلك ثج الماء إذا صب فإن تكرر ذلك قيل ثجثج0 والمقصود أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها قبل وسوس0
فصل الخناس وبيان اشتقاقه: وأما الخناس فهو فعال من خنس يخنس، إذا توارى واختفى0 ومنه قول أبي هريرة:" لقيني النبي في بعض طرق المدينة وأنا جنب، فانخنست منه "0
وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء0 ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى:( فلا أقسم بالخنس التكوير 15)0 قال قتادة هي النجوم تبدو بالليل، وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى0 وكذلك قال علي رضي الله عنه: هي الكواكب تخنس بالنهار، فلا ترى0 وقالت طائفة: الخنس هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق؛ وهي السبعة السيارة0 قالوا: وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء0 والخناس مأخوذ من هذين المعنيين، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر0 فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها0 فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به، انخنس وانقبض كما ينخنس الشيء؛ ليتوارى0 وذلك الإنخناس والانقباض هو أيضا تجمع ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج0 فهو تأخر ورجوع معه اختفاء، وخنس0 وانخنس يدل على الأمرين معا0 قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس0 ويقال: رأسه كرأس الحية، وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه، ويحدثه، فإذا ذكر الله تعالى، خنس0 وإذا لم يذكره، عاد ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه0
وجيء من هذا الفعل بوزن فعال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله، وأن ذلك دأبه ودينه، لا أنه يعرض له ذلك عند ذكر الله أحيانا0 بل إذا ذكر الله، هرب وانخنس وتأخر0 فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصي ونحوها0 فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها0 ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى مما يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته0
وفي أثر عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر؛ لأنه كلما اعترضه، صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة0 فشيطانه معه في عذاب شديد ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة0 ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا0 فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار0 فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه، أو يعذبه شيطانه0
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد، وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل؛ لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة! فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما0

فصل الصفة الثالثة للشيطان: وقوله الذي يوسوس في صدور الناس صفة ثالثة للشيطان0 فذكر وسوسته أولا، ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس0 وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد، ونفوذا إلى قلبه وصدره0 فهو يجري منه مجرى الدم، وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات0
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت، فانقلبت، فقام معي؛ ليقلبني- وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد- فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا، فقال النبي على رسلكما إنها صفية بنت حيي0 فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا0 أو قال: شيئا0 رواه البخاري0
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: إذا نودي بالصلاة، أدبر الشيطان، وله ضراط0 فإذا قضي، أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو0 رواه البخاري ومسلم0
ومن وسوسته ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك، فليستعذ بالله ولينته0 رواه البخاري ومسلم0
وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لإن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به0 قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة0 صحيح0
ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه، حتى ينسيه ما يريد أن يفعله0 ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه0 قال تعالى حكاية عن صاحب موسى أنه قال:( إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الكهف 63)0
وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه0 فإن قوله:( من شر الوسواس 4 ) يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا؛ وهي الوسوسة التي هي مباديء الإرادة0 فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فيصير إرادة ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصير الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى:( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا مريم 83)0 أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا، كلما فتروا، أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة0 قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم بتلك النخوة والكبر ولا يرضيه أن يصير قوادا لكل من عصى الله كما قال بعضهم: عجبت من إبليس في تيهه وقبح ما أظهر من نخوته0 تاه على آدم في سجدة، وصار قوادا لذريته شرور الشيطان0
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها؛ لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا0 فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف0 وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم فيدخل سارقا ويخرج مغيرا ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما إنه فعل كذا وكذا0 ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون به0 وما ذاك إلا لأن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل، وألقاه فأوقعه في الذنب ثم فضحه به0 فالرب تعالى يستره، والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته0 فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى0 ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته0 وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة0 ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة، كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدة يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان0 رواه البخاري ومسلم0 ومن شره أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه0 رواه البخاري0 ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته0
ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم0 ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة0 ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة النار من كل ألف وتسعة وتسعين0 ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له وأن يعبد من دون الله0 فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض0 ويكفي من شره أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار فرد الله تعالى كيده عليه وجعل النار على خليله بردا وسلاما0 وتصدى للمسيح حتى أراد اليهود قتله وصلبه فرد الله كيده وصان المسيح ورفعه إليه0 وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض ودعوى أنه ربهم الأعلى0 وتصدى للنبي وظاهر الكفار على قتله بجهده والله تعالى يكبته ويرده خاسئا0 وتفلت على النبي بشهاب من نار يريد أن يرميه به وهو في الصلاة فجعل النبي يقول ألعنك بلعنة الله0 وأعان اليهود على سحرهم للنبي0 فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته0 ولا يمكن حصر أجناس شره فضلا عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه0
فصل الصدور والقلوب: وتأمل السر في قوله تعالى:( يوسوس في صدور الناس )، ولم يقل: في قلوبهم0 والصدر هو ساحة القلب وبيته0 فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب0 فهو بمنزلة الدهليز له0 ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود0 ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى:( وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم آل عمران 154)0 فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب فهو موسوس في الصدر، ووسوسته واصلة إلى القلب0 ولهذا قال تعالى:( فوسوس إليه الشيطان طه 120)، ولم يقل: فيه؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه، فدخل في قلبه0
فصل الجار والمجرور من الجنة والناس: وقوله تعالى:( من الجنة والناس )0 اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور: بم يتعلق؟ فقال الفراء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم0 والمعنى: يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس0 أي: الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن0 فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي0 وعلى هذا القول فيكون من الجنة والناس نصب على الحال؛ لأنه مجرور بعد معرفة على قول البصريين0 وعلى قول الكوفيين نصب بالخروج من المعرفة0 هذه عبارتهم0 ومعناها: أنه لما لم يصلح أن يكون نعتا للمعرفة، انقطع عنها0 فكان موضعه نصبا0 والبصريون يقدرونه حالا0 أي: كائنين من الجنة والناس0 وهذا القول ضعيف جدا لوجوه:
أحدها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجن، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي0 فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه؟
والثاني: أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا0 فإنه قال:( الذي يوسوس في صدور الناس )0 فكيف يبين الناس بالناس؟ فإن معنى الكلام على قوله: يوسوس في صدور الناس الذين هم، أو كائنين من الجنة والناس0 أفيجوز أن يقال: في صدور الناس الذين هم من الناس، وغيرهم؟ هذا ما لا يجوز، ولا هو استعمال فصيح0
الثالث: أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين: جنة وناس، وهذا غير صحيح0 فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه0
الرابع: أن الجنة لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه، لا أصلا، ولا اشتقاقا، ولا استعمالا0 ولفظها يأبى ذلك0 فإن الجن إنما سموا جنا من الاجتنان، وهو الاستتار0 فهم مستترون عن أعين البشر، فسموا جنا لذلك، من قولهم: جنه الليل، وأجنه، إذا ستره0 ومنه: الجنين، لاستتاره في بطن أمه0 قال تعالى:( وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم النجم 31)0 ومنه: المجن، لاستتار المحارب به من سلاح خصمه0 ومنه: الجنة لاستتار داخلها بالأشجار0 ومنه: الجنة بالضم، لما يقي الإنسان من السهام والسلاح0 ومنه: المجنون، لاستتار عقله0
وأما الناس فبينه، وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى0 وبينهما اشتقاق أوسط، وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد0 والإنس والإنسان مشتق من الإيناس، وهو: الرؤية والإحساس0 ومنه: قوله:( آنس من جانب الطور نارا القصص 29)0 أي: رآها0 ومنه:( فإن آنستم منهم رشدا النساء 6)0 أي: أحسستموه، ورأيتموه0 فالإنسان سمي إنسانا؛ لأنه يونس0 أي: يرى بالعين0
والناس فيه قولان: أحدهما: أنه مقلوب من أنس، وهو بعيد0 والأصل عدم القلب0 والثاني: هو الصحيح0 أنه من النوس، وهو الحركة المتتابعة0 فسمي الناس ناسا، للحركة الظاهرة، والباطنة، كما سمي الرجل: حارث، وهمام0 أصدق الأسماء- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم0 صحيح- لأن كل أحد له هم، وإرادة0 وهي مبدأ وحرث وعمل هو منتهى0 فكل أحد حارث وهمام0 والحرث والهم حركتا الظاهر والباطن، وهو حقيقة النوس0 وأصل ناس: نوس0 تحركت الواو قبلها فصارت ألفا0
هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق الناس0 وأما قول بعضهم: إنه من النسيان0 وسمي الإنسان إنسانا، لنسيانه، وكذلك الناس سموا ناسا، لنسيانهم، فليس هذا القول بشيء0 وأين النسيان الذي مادته:( ن س ي ) إلى الناس الذي مادته:( ن و س )؟ وكذلك أين هو من الإنس الذي مادته:( أ ن س )؟
وأما إنسان فهو فعلان من( أ ن س )0 والألف والنون في آخره زائدان، لا يجوز فيه غير هذا البتة؛ إذ ليس في كلامهم: أنس حتى لا يكون إنسانا إفعالا منه0 ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين؛ إذ ليس في كلامهم: انفعل0 فيتبين أنه: فعلان من الأنس0 ولو كان مشتقا من نسي، لكان نسيانا، لا إنسانا0
فإن قلت: فهلا جعلته إفعلالا، وأصله: إنسيان، كليلة إصحيان، ثم حذفت الياء تخفيفا، فصار إنسانا؟ قلت: يأبى ذلك عدم إفعلال في كلامهم0 وحذف الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له، وذلك كله فاسد0 على أن الناس قد قيل: إن أصله: الأناس0 فحذفت الهمزة، فقيل الناس0 واستدل بقول الشاعر: إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلين0
ولا ريب أن أناسا فعالا0 ولا يجوز فيه غير ذلك البتة0 فإن كان أصل ناس أناسا، فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس، ويكون الناس كالإنسان سواء، في الاشتقاق، ويكون وزن ناس على هذا القول: عال؛ لأن المحذوف فاؤه0 وعلي القول الأول يكون وزنه: فعل: لأنه من النوس0 وعلى القول الضعيف يكون وزنه: فلع؛ لأنه من نسي، فقلبت لامه إلى موضع العين، فصار ناسا0 ووزنه: فلعا0
والمقصود أن الناس اسم لبني آدم، فلا يدخل الجن في مسماهم0 فلا يصح أن يكون:( من الجنة والناس ) بيانا لقوله:( في صدور الناس )0 وهذا واضح لا خفاء فيه0
فإن قيل: لا محذور في ذلك0 فقد أطلق على الجن اسم الرجال، كما في قوله تعالى:( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن 6)0 فإذا أطلق عليهم اسم الرجال، لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس0
قلت: هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية0 وجواب ذلك: أن اسم الرجال؛ إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس0 ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا0 وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك، لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب0 وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس0 وذلك؛ لأن الناس، والجنة متقابلان0 وكذلك: والإنس، والجن0 فالله تعالى يقابل بين اللفظين، كقوله:( يا معشر الجن والإنس الرحمن 33)0 وهو كثير في القرآن0 وكذلك قوله: ( من الجنة والناس 6) يقتضي: أنهما متقابلان، فلا يدخل أحدهما في الآخر، بخلاف الرجال، والجن، فإنهما لم يستعملا متقابلين0 فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال: الجن والإنس0 وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن، لا يدخلون في لفظ الناس؛ لأنه قابل بين الجنة، والناس، فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر0
فالصواب القول الثاني0 وهو أن قوله:( من الجنة والناس ) بيان للذي يوسوس، وأنهما نوعان: إنس، وجن0 فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي0 فالموسوس نوعان: إنس، وجن0 فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب0 وهذا مشترك بين الجن، والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته؛ إنما هي بواسطة الأذن0 والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم0 على أن الجني قد يتمثل له، ويوسوس إليه في أذنه، كالإنسي- كما في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي أنه قال:" إن الملائكة تحدث في العنان0 والعنان الغمام بالأمر يكون في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم "0 رواه البخاري والترمذي0 فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن0 ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني0 قال تعالى:( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا الأنعام 112)0
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله0 فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني، ويشتركان في الوسوسة0 وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول0 وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس، والجن0 وعلى القول الأول؛ إنما تكون الاستعاذة من شر شياطين الجن فقط0 فتأمله فإنه بديع جدا!!
فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين0 وله الحمد والمنة، وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط، فما ذلك على الله بعزيز0 والحمد لله رب العالمين!


من كتاب ( بدائع الفوائد)
للشيخ: ابن قيِّم الجوزيَّة- رحمه الله تعالى بتصرف!
 
(( فصل الصدور والقلوب: وتأمل السر في قوله تعالى:( يوسوس في صدور الناس )، ولم يقل: في قلوبهم0 والصدر هو ساحة القلب وبيته0 فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب0 فهو بمنزلة الدهليز له0 ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود0 ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى:( وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم آل عمران 154)0 فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب فهو موسوس في الصدر، ))

اخي الفاضل لم أفهم الفرق بين ذكر القلب والصدر من كلام ابن القيم رحمه الله فهلا أفدتمونا بارك الله فيكم ونفع بكم
 
السلام عليكم أخي الفاضل

السلام عليكم أخي الفاضل

لعلك تجد جواب سؤالك في قول الدكتور فاضل السامرائي من لمسات بيانية في سورة الناس، وهو:
( ذُكر في الآية مكان الوسوسة وهو الصدور ، ولم يقل القلوب لأن الصدور أوسع، وهي كالمداخل للقلب،فمنها تدخل الواردات إلى القلب، والشيطان يملأ الصدر بالوسوسة ومنه تدخل إلى القلب دون أن تترك خلفها ممرا نظيفا يمكن أن تدخله نفحات الإيمان، بل يملأ الساحة بالوساوس قدر استطاعته مغلقا الطريق إلى القلب ).
أو يجيبك عليه من عنده شيء من علم البيان، فأنا لست منهم، وإنما أنا أنقل ما قاله ابن القيم0 وبارك الله فيك0
 
بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

شكر الله لأخينا عبد القادر جهده الواضح في نقل هذه الأسرار البديعة، ورحم شيخنا الجليل ابن قيم الجوزية على ما أظهر لنا من أسرار البيان في المعوذتين. وليت الذين يرتفعون على أكتافه وأكتاف غيره من العلماء الأجلاء أن يحفظوا غيبهم، وألا يغمطوا لهم حقهم.

وقد أجاب الجمهور على تساؤل الأخ ( أبو عاتكة ) بقولهم: الصدر محل القرآن والعلم. ودليلهم على ذلك قوله تعالى:( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ). وكذلك الصدر هو محل القلب.
وقال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة. وهو الذي يقصده الشيطان. فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكًا نزل فيه هو وجنده، وبث فيه الهموم والغموم، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة.
ولهذا خص الله تعالى الصدر بالذكر دون القلب، وإن كان المراد في الحقيقة القلب0

د. عماد
ــــــــــــــــ
وفوق كل ذي علم عليم
 
عودة
أعلى