من أسرار البيان في أمثال القرآن

إنضم
14/02/2004
المشاركات
72
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
حلب
[align=center]﴿ مثل عيسى عند الله في الخلق ﴾[/align]
قال الله تبارك وتعالى:  إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ  (آل عمران:59)

ذكر الله تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة في ضمن الآيات، التي أنزلها في شأن النصارى، لمَّا قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم وفدٌ من نصارى نجران، وناظروه، في المسيح- عليه السلام- وأنزل الله تعالى فيه ما أنزل، فبين فيه قول الحق، الذي اختلفت فيه اليهود، والنصارى؛ وذلك قوله تعالى:
{ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } (مريم:34).
أما اليهود فقد ارتضوا الجريمة مركبًا، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا الحق معهم، وقالوا في المسيح: إنه ولِدَ- كما يولَد الناس- من ذكر وأنثى، وإن ميلاده كان على فراش الإثم والفاحشة، مع قولهم: إنه ساحرٌ وكذاب.
وأما النصارى فقد قصُرَت مداركهم عن إدراك قدرة الله تعالى، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة؛ وهي أن الله قدير على كل شيء، يخلق ممَّا يشاء، وكيف يشاء ما يشاء، ومن يشاء! فقالوا في المسيح: إنه ابن الله؛ كما قالت اليهود: عزيْر بن الله، فردَّ الله تعالى عليهم قولهم، ووبخهم على افترائهم وكذبهم، فقال سبحانه: { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }(التوبة:30).
وقالوا أيضًا: إن الله هو المسيح، تجسَّد بشرًا، في جسد عذراء، وإنه ثالث ثلاثة، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه:{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(المائدة:72-73).
وقد نهى الله سبحانه النصارى عن الغلوِّ في دينهم، وأن يقولوا على الله تعالى غير الحق، وبين في أكثر من آية أن المسيح بن مريم رسول؛ كغيره من الرسل، خلقه بكلمة منه، وبنفحة من روحه؛ كما خلق هذا الوجود كله بنور من نوره، وفيض من فيضه.
وأقرب مثل لذلك، عند الله تعالى، خلق آدم- عليه السلام- فمثله في خلقه ، كمثل آدم، في خلقه.. فخلق عيسى مثلٌ، وخلق آدم مثلٌ آخر، وبين المثلين تشابه، في هذا الخلق، لا تماثل. ولو كان ما بينهما تماثلاً، لوجب أن يقال: إن مثل عيسى عند الله مثلُ آدم.. ولكن دخول الكاف على لفظ المثل أفاد أن ما بين الخَلقين تشابه، وهو ما يسمَّى بوجه الشَّبَه.
أما آدم- عليه السلام- فقد خلقه الله تعالى من طين. أي: من تراب وماء، ثم جعل الطين صلصالا، ثم { قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }؛ وهو حين نفخ الروح فيه، صار بشرًا تامًّا، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح. فإن الجنين، بعد نفخ الروح، يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلاً يرتضع، ثم يكبر شيئًا بعد شيء. وآدم- عليه السلام- حين خلق الله تعالى جسده، قال له:{ كُنْ }، فكان بشرًا تامًّا، بنفخ الروح فيه.
وقد بين الله تعالى ذلك بقوله:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ }(المؤمنون:12-13). فالمخلوق من سلالة من طين آدم- عليه السلام- والمجعول نطفة في قرار مكين ذريته.
وقال تعالى:{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }(ص:71-72)، فبين سبحانه أنه خلق آدم- عليه السلام- من طين، وأتم خلقه، ونفخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة بالسجود له. ولم يأمرهم قبل ذلك، أو في الأزل؛ كما يذهب إليه بعضهم.. ومثل هذا الخبر في القرآن كثير، يخبر أنه تكلم في وقت معين، ونادى في وقت معين.
وقال تعالى:{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }(يس:82)، فبين جلَّ جلاله، أنه قال لآدم- عليه السلام- بعد أن خلقه من طين، وأتمَّ خلقه: كُنْ، فَكَانَ بشرًا بنفخ الروح فيه.. هكذا كان خلق آدم عليه السلام.
وأما المسيح- عليه السلام- فخلق جسده كان خلقًا إبداعيًا، بنفس نفخ روح القدُس في أمه. قيل له: كُنْ، فَكَانَ.. فكان له من الاختصاص، بكونه خلق بكلمة الله، ما لم يكن لغيره من البشر.
وقد بيَّن الله تعالى ذلك في قوله:{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }(التحريم:12)، وقوله سبحانه وتعالى:{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }(آل عمران:47).
فأخبر سبحانه وتعالى أنه نفخ في مريم من روحه؛ كما أخبر أنه نفخ في آدم من روحه، ثم أخبر أن عيسى مخلوق بكلمة:( كن )؛ كما أخبر أن آدم مخلوق بكلمة:( كن ).
ولكن آدم- عليه السلام- لم يُسَمَّ:( روح الله ) و( كلمة الله )؛ كما سمِّيَ بهما عيسى- عليه السلام- لأن جسده خلق من التراب، وبقي هكذا مدة طويلة، يقال: أربعين سنة. فلم يكن خلْقُ جسده إبداعيًّا، في وقت واحد؛ كما كان خلق عيسى؛ بل كان خلقه شيئًا، فشيئًا. ولهذا شُبِّه به خلق عيسى.. وإن كان قد شبه به لكونه خلق من تراب، فلأن خلقهما يرجع، في الحقيقة، إلى التراب. وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” كلكم لآدم وآدم من تراب “.
وهذا ما أكدَّه القرطبي بقوله:” التشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب؛ كآدم، لا على أنه خلق من تراب.. والشيء قد يشبه بالشيء، وإن كان بينهما فرق كبير، بعد أن يجتمعا في وصف واحد. فإن آدم قد خلق من تراب، ولم يخلق عيسى من تراب، فكان بينهما فرق من هذه الجهة؛ ولكنْ شَبَهُ ما بينهما: أنهما خلقا من غير أب؛ ولأن أصل خلقهما كان من تراب؛ لأن آدم، لم يخلق من نفس التراب؛ ولكنه جعل التراب طينًا، ثم جعله صلصالا، ثم خلقه منه.. فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال، ثم جعله بشرًا من غير أب“.
فإن جاز ادعاء البُنُوة والإلهيَّة في عيسى لكونه مخلوقًا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى.. ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل. وإذا كان ذلك باطلاً، فدَعْواه في عيسى أشدُّ بطلانًا، وأظهر فسادًا؛ ولكنَّ الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه، وأن يبين عموم هذه القدرة في خلق النوع البشري على هذه الأقسام الممكنة، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى. فكان خلق آدم، وحواء أعجب من خلق المسيح، وكان خلق حواء أعجب من خلق المسيح في بطن أمه مريم، وخلق آدم أعجب من هذا، وهذا، وهو أصل خلقهما، وخلق الناس أجمعهم.
وقال الزركشي في البرهان:” وأما قوله تعالى:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } فهو من تشبيه الغريب بالأغرب؛ لأن خلق آدم من خلق عيسى؛ ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس، وفيه دليل على جواز القياس، وهو رد فرع إلى أصل لشبهٍ ما؛ لأن عيسى رُدَّ إلى آدم لشبه بينهما “.
وسمَّى ابن قيِّم الجوزيَّة- في كتابه: إعلام الموقعين- هذا النوع من القياس: قياسَ العلة، وكان قد ذكر أن الأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، ثم قال:” فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع؛ منها قوله تعالى:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }، فأخبر أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى، الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات؛ وهو مجيئها طوعًا لمشيئته وتكوينه. فكيف يَسْتنكر وجودَ عيسى من غير أب مَنْ يُقِرُّ بوجود آدم من غير أب، ولا أم، ووجود حواء من غير أم ؟! فآدم وعيسى مثيلان، يجمعهما المعنى، الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به.
وفي قوله تعالى:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ } إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة؛ لأنه تعالى لم يذكر- هنا- اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط.. وقوله تعالى:{ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } تفصيلٌ لما أجمِل في المثل، وتفسيرٌ لما أبهم فيه، ببيان وجه الشبه.
ولقائل أن يقول: لمَ قال سبحانه:{ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }، ولم يقل: خلقه من طين؛ كما أخبر سبحانه في غير موضع؟
والجواب عن ذلك- كما قال الزركشي في البرهان- : إنما عدل عن الطين، الذي هو مجموع الماء والتراب، إلى ذكر مجرَّد التراب، لمعنى لطيف؛ وذلك أنه أدنى العنصرين، وأكثفهما. فلما كان المقصود مقابلة من ادَّعى في المسيح الإلهية، أتى بما يصَغِّر من أمر خلقه عند من ادَّعى ذلك.. فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمسَّ في المعنى من غيره من العناصر.
ولما أراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل، أخبرهم أن يخلق لهم من الطين؛ كهيئة الطير، تعظيمًا لأمر ما يخلقه بإذنه؛ إذ كان المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه؛ ليعظموا قدر النعمة به.
ومن الأول قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.. الآية }(الحج:5).. ومن الثاني قوله تعالى:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ }(السجدة:7- 8).
وفي ذلك من مشاكلة اللفظ للمعنى ما لا يخفى. ومنه قوله تعالى:{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء }(الرعد:45). فإنه سبحانه، إنما اقتصر على ذكر( الماء ) دون بقية العناصر؛ لأنه أتى بصيغة الاستغراق، وليس في العناصر الأربع ما يعمُّ جميع المخلوقات إلا الماء؛ ليدخل الحيوان البحري فيها.. فتأمل.
وفي قوله تعالى:{ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ما يُسأل عنه؛ وهو: كيف يقول الله تعالى للشيء:{ كُنْ }، ثم لا يكون واقعًا في الحال؛ كما يدل على ذلك قوله تعالى:{ فَيَكُونُ }، الذي يدل على المستقبل المتراخي، ولو كان ما أمر الله به واقعًا في الحال، لكانت صياغة الآية هكذا:( ثم قال له كن فكان )، فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة، وبين إمضاء ما قدرت على الفور وفي الحال؟
وقد اضطربت أقوال المفسرين في الإجابة عن ذلك، وكادوا يجمعون على القول بأن المراد بقوله تعالى{ فيكون }: حكاية حال ماضية. أي: ثم قال له كن فكان.
وقال البغوي في تفسيره:” فإن قيل: ما معنى قوله:{ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }، ولا تكوين بعد الخلق؟ قيل: معناه: خلقه، ثم أخبركم أني قلت له: كن، فكان، من غير ترتيب في الخلق؛ كما يكون في الولادة؛ وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أعطيتك أمس درهمًا. أي: ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا “.. فتأمل!!
والجواب السديد عن ذلك- كما قال عبد الكريم الخطيب في تفسير القرآن للقرآن- هو:” أن قول الله تعالى للشيء:{ كُنْ }، لا يقتضي وقوع هذا الشيء في الحال؛ إذ قد يكون الأمر موقوتًا بوقت، أو متعلقًا بأسباب لا بدَّ أن يقترن حدوثه بها. وهذه الأسباب لا متعلَّق لها بقدرة الله؛ وإنما مُتعلَّقُها بالشيء ذاته، الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألا يظهر؛ إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس:82) “.
وذلك الشيء- كما قال الشيخ ابن تيميَّة- هو معلوم، قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه؛ وبذلك كان مقدَّرًا مقضِيًّا. فإن سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر: ” إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة“.
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:” كان الله، ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض “.
وفي سنن أبي داود، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:” أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة“.
إلى أمثال ذلك من النصوص، التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق، كان معلومًا، مخبَرًا عنه، مكتوبًا فيه شيء، باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي؛ وإن كانت حقيقته، التي هي وجوده العيني، ليس ثابتًا في الخارج؛ بل هو عدم مَحضٌ، ونَفْيٌ صِرفٌ.
وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات، وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(العلق:1- 5).
وإذا كان كذلك، كان الخطاب موجهًا إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة، وخُلِق، وكُوِّن؛ كما قال سبحانه وتعالى:{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(النحل:40).
فالذي يُقال له:{ كُنْ } هو الذي يُراد. وهو حين يُراد، قبل أن يُخلَق، له ثبوت وتميُّزٌ في العلم والتقدير. ولولا ذلك لما تميَّز المُرَاد المخلوق، من غيره.
فثبت بذلك أن الله تعالى إذا أراد أن يْكوِّن شيئًا معلومًا لديه، توجَّه سبحانه إلى ذلك الشيء بالخطاب، بقوله:{ كُنْ }،{ فَيَكُونُ }. أي: يوجد ذلك المكوَّن عقِب التكوين والتخليق، لا مع ذلك في الزمان، ولا متراخيًا عنه؛ ولهذا أتى سبحانه بصيغة الاستقبال مسبوقة بالفاء. وكون الفاء للتعقيب يوجب أن يكون الثاني عقب الأول، لا معه، ولا متراخيًا عنه.
وقد تكون الفاء لترتيب الكلام في اللفظ، فلا تفيد معنى التعقيب؛ نحو قوله تعالى:{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ }(الأعراف:4). دخلت الفاء- هنا- لترتيب اللفظ؛ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر؛ لأن لاهتمام به أولى، وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود. وهذا معنى قول النحاة:” إنها تأتي للترتيب في الخبر، لا المخبر“. والله تعالى أعلم بأسرار خلقه، وبيانه!

محمد إسماعيل عتوك
 
ما شاء الله تبارك الله . منذ مدة وأنا أقرأ موضوعاتكم القيمة في ملتقى التفسير ، وأتساءل عن سبب انقطاع هذا النفس العلمي الماتع ، فالحمد لله على عودتكم وتنشيطكم للملتقى العلمي الذي يضم نخبة من طلاب العلم بارك الله فيهم.
يظهر لي يا أستاذ محمد عتوك تضلعكم من علمي البلاغة والنحو ، والذي كان لعبدالقاهر الجرجاني دور في المزج بينهما في ما سماه معاني النحو ، ثم سماه الزمخشري بعد ذلك علم المعاني ، وبنى عليه تفسيره الكشاف. ولدي سؤال يا أستاذ محمد :
- ما رأيك في قيمة تفسير الكشاف البيانية ؟ هل هو كما يصوره الدارسون يمثل مرحلة متميزة في دراسة البلاغة وتطبيقها على القرآن الكريم ؟ وهل كان لاتجاهه الاعتزالي أثر كبير في آراءه البلاغية في التفسير ؟
أتمنى أسمع ردك مع علمي بحاجته إلى كتابة طويلة من مثلكم جزاكم الله خيراً. ولكن ثق بأننا نثمن ما تكتبه ونترقبه ودمتم .
 
تحية وتقدير للأستاذ الكريم أبي الهيثم وفقه الله على هذا الموضوع الممتاز كعادته ، لا عدمنا فوائدكم .
 
عودة
أعلى