محمد إسماعيـل
New member
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار الإعجاز البياني في القرآن
سر النفي بـ( لن ) و( لا )[/align]
قال الله تعالى في حق اليهود:{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدًا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } [البقرة:94- 95]
وقال سبحانه في الآية الأخرى:{ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدًا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } [الجمعة:6- 7 ]
لماذا نفى الله تعالى تمني اليهود للموت في الآية الأولى بـ( لن )، ونفاه في الآية الثانية بـ( لا )؟00 ما معنى( لن )، ومعنى( لا )؟ وما الفرق بينهما؟
وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله، وتعليمه:
أولاً- كان اليهود يدعون في جملة ما يدعون أن لهم الدار الآخرة خالصة عند الله تعالى، وأنهم أولياء لله من دون الناس، وكان النصارى بقولون مثل قولهم هذا0 وقد حكى الله تعالى ذلك عن الطائفتين، فقال جلَّ ثناؤه:{ وقالوا لن يخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى }[البقرة:111]0 وقال في آية أخرى:{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه }[المائدة:18]0
ولما أراد الله تعالى أن يبطل ادعاءهم، ويبين فساد أقوالهم، ويفضح أمرهم، أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إن صحَّ قولكم، وصدق زعمكم، وكنتم على ثقة من أنكم على حق، فتمنوا الموت؛ لأن من أيقن أنه من أهل الجنة، وأنه وليٌّ لله من دون الناس، اشتاق إلى الجنة، وتمنى سرعة الوصول إليها، ليستريح من كرب الدنيا وهمها وغمها، ويصير إلى رَوْح الجنة؛ فإن الله لا بعذب أولياءه فيها0 ثم أخبر تعالى عنهم مرة بقوله: { ولن يتمنوه أبدًا }، ومرة أخرى بقوله:{ ولا يتمنونه أبدًا }؛ وذلك بسبب كفرهم وعصيانهم0
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في اليهود:” لو تمنوا الموت، لغصَّ كل إنسان بريقه، فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ “0 وفي رواية أخرى:” والذي نفسي بيده، لا يقولها أحد منكم إلا غصَّ بريقه “0 أي: لا يقول أحد منكم- والخطاب لليهود-: أتمنى الموت0 أو: ليتني أموت0 فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقالوها0 ولكنهم كانوا يعلمون أنهم لو قالوها، لماتوا من ساعتهم، ولحقهم الوعيد0 فانكشف بذلك لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ كذبهم، وبهتانهم، وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجة أصحابه- رضي الله تعالى عنهم- عليهم00 ولم تزل- والحمد لله- الحجة ظاهرة عليهم، وعلى غيرهم من الملاحدة والكفرة إلى يوم الدين0
ومن هنا كان هذا الإخبار من الله تعالى عن اليهود من المعجزات التي دلَّت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق رسالته؛ لأنه إخبار بالغيب0 والإخبار بالغيب معجز0
ثانيًا- لقد نفى الله تعالى تمنيهم الموت في آية البقرة بـ( لن )، فقال جل شانه:{ ولن يتمنوه أبدًا }، ونفاه في آية الجمعة بـ( لا )، فقال سبحانه:{ ولا يتمنونه أبدًا }، فدلَّ ذلك على أن بينهما فرقًا في اللفظ، ينبني عليه فرق في المعنى00 ولكن الزمخشري في كشافه يقول: ولا فرق بين( لا ) و( لن )، في أن كل واحدة منهما نفيٌ للمستقبل؛ إلا أن في( لن ) تأكيدًا، وتشديدًا، ليس في( لا )0 فأتى مرة بلفظ التأكيد، ومرة بغير لفظه0
وعلَّل الفخر الرازي، وغيره لذلك بأن دعوى اليهود الأولى أعظم من دعواهم الثانية؛ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية؛ لأن الثانية تُرَاد لحصول الأولى0 ولمَّا كانت( لن ) أبلغ في النفي من( لا )، وأقوى منها، جعلها الله تعالى لنفي الأعظم0
وجمهور النحاة والمفسرين قدماء، ومتأخرين، ومعاصرين على القول بأن( لن ) أبلغ، وأقوى في النفي من( لا )، وأن النفي بها أبديٌّ بخلاف( لا )00 والمستقرىء للنصوص القرآنية، والعربية المنفية بـ( لن )، وبـ( لا )، بجد خلاف ذلك تمامًا00 وبيان ذلك:
1- أن( لن ) في مذهب الخليل مركبة من( لا ) و( أن )00 و( أن ) تدل على إمكان الفعل، دون الوجوب، والاستحالة0 تأمل قوله تعالى:{ أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم }[المعارج:38]، تجد فيه أن دخول الجنة ممكن لكل امرىء يطمع في دخولها، إن أراد0 وهذا المعنى هو الذي دلت عليه( أن )0 فإذا قلت:( لن يدخل )، دلت( لن ) على نفي إمكان الدخول الذي دلت علي( أن )0 وعلى هذا جاء قوله تعالى:{ وقالوا لن يخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى }[البقرة:111]0 ومثل ذلك قوله تعالى:{ ولن يتمنوه أبدًا }، من آية البقرة00 فإذا ثبت ذلك، كان معنى( لن ) نفيُ الإمكان بـ( أن )0
2- ومن خواصِّ( لن ) أنها تخلص الفعل للاستقبال، بعد أن كانت صيغته للحال0 فأغنت عن السين، وسوف00 ومن خواصِّها أيضًا أنها تنفي ما قرُب، فلا يمتدُّ معنى النفي فيها؛ كامتداد معناه في( لا )، إذا قلت: لا يفعل ذلك أبدًا00 فـ( لا ) هي لامٌ بعدها ألفٌ، يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه تضييق النفَس؛ فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها0 و( لن ) بخلاف ذلك00 فتأمله، فإنه معنى لطيف، وغرض شريف، لا يدركه إلا الغوَّاص المحدِّث من علماء النحو والبيان والتفسير؛ كالشيخ السهيلي- رحمه الله- وقد استدل على ذلك بقوله:” ألا ترى كيف جاء في القرآن البديع نظمه، الفائق على كل العلوم علمه:{ ولا يتمنونه أبدًا } بحرف ( لا ) في الموضع الذي اقترنت فيه أداة الشرط بالفعل، فصار من صيغ العموم، فانسحب على جميع الأزمنة، وهو قوله عز وجل:{ إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت }؛ كأنه تعالى يقول: متى ما زعموا ذلك لوقت من الأوقات، أو زمن من الأزمان، وقيل لهم:( تمنوا الموت )، فلا يتمنونه أبدًا0 وأداة الشرط دلت على هذا المعنى، و( لا ) في الجواب بإزاء صيغة العموم، لاتساع معنى النفي فيها0 وقال تعالى في سورة البقرة:{ ولن يتمنوه أبدًا }، فقصَّر من سعة النفي، وقرَّب؛ لأن قبله في النظم{ إن كانت لكم الدار الآخرة}0 وليست( إن ) ههنا مع( كان ) من صيغ العموم، كما كانت مع( زعمتم ) في آية الجعة؛ لأن( كان ) ليست بدالة على الحدث0 فكأنه يقول عز وجل: إن كانت وجبت لكم الدار الآخرة، وثبتت لكم في علم الله تعالى، فتمنوا الموت الآن0 ثم قال في الجواب:{ ولن يتمنوه أبدًا }، فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين00 وليس في قوله{ أبدًا } ما يناقض ما قلناه؛ فقد يكون( أبدًا ) بعد فعل الحال0 تقول: زيد يقوم أبدًا، ويصلي أبدًا“0
هذا قول الشيخ السهيلي- رحمه الله- أخذه ابن قيم الجوزية، وحكاه عن شيخه ابن تيمية- رحمهما الله تعالى- وكان قد ذكر هذا القول في معرض ردِّه على المعتزلة، الذين يقولون بتأبيد النفي بـ( لن )- والزمخشري أحد أعلامهم- ثم قال:” وقد أكذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي بـ( لن ) صريحًا بقوله:{ يا مالك ليقض علينا ربك }[الزخرف:77]0
فهذا تمنٍّ للموت0 فلو اقتضت( لن ) دوام النفي، تناقض الكلام00 وقوله تعالى{ أبدًا } لا يناقض تمنيهم الموت في النار؛ لأن التأبيد إما أن يراد به التأبيد المقيَّد، أو يراد به التأبيد المطلق0 فالمقيَّد كالتأبيد بمدة الحياة الدنيا؛ كقولك: لن أكلمه0 أو: لا أكلمه أبدًا0 والمطلق هو الذي يمتد امتداد الحياة الدنيا، والآخرة؛ كقولك: لا أكفر بربي أبدًا “0
وإذا كان الأمر كذلك، فالآية الأولى إنما اقتضت نفي تمني اليهود للموت أبد الحياة الدنيا، دون الحياة الآخرة؛ وذلك لأنهم لحبهم الحياة، وكراهتهم للجزاء، لا يتمنون الموت0 ولهذا أخبر الله تعالى عنهم، فقال:{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة }[البقرة:96]00 ولكنهم إذا صاروا إلى الآخرة، وأدخلوا في النار، تمنوا الموت؛ كما حكى ذلك عنهم الله تعالى في آية الزخرف:{ يا مالك ليقض علينا ربك }[الزخرف:77]0
وأما آية الجمعة فقد اقتضت نفي تمنيهم الموت مدة الحياة الدنيا، والحياة الآخرة؛ لأن النفي بـ( لا ) لا حدود له، ولا نهاية ما لم يقيد بزمن0 ولهذا جاء قوله تعالى:{ لا تدركه الأبصار } منفيًا بـ( لا )، في حين جاء قوله تعالى:{ لن تراني }[الأعراف:193] منفيًا بـ ( لن )؛ لأنه يستحيل على الأبصار أن تدرك حقيقة الله تعالى، وأن تحيط به سبحانه، لا في الدنيا، ولا في الآخرة0
أما رؤية الله جل وعلا بالأبصار فجائزة عقلاً في الدنيا، والآخرة0 ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلاً في الدنيا قول موسى عليه السلام:{ رب أرني أنظر إليك } [ الأعراف:193]؛ لأن موسى عليه السلام لا يخفى عليه الجائز، والمستحيل في حق الله تعالى0 وأما قول الله تعالى لموسى عليه السلام:{ لن تراني } فلأن رؤيته سبحانه في الدنيا لا يطيقها أحد من مخلوقاته، بدليل قوله جل وعلا:{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخر موسى صعقًا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين }[ الأعراف:193]
وأما رؤية الله جل وعلا شرعًا فهي جائزة، وواقعة في الآخرة؛ كما دلت عليه الآيات القرآنية، وتواترت به الأحاديث الصحاح00 فمن الآيات قوله تعالى:{ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة }[القيامة:22- 23]0 ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:” إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا “0 و قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }[يونس:26]:” الحسنى: الجنة0 والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم “0
تبارك ياربنا وجهك الذي أضاء نوره السموات والأرض، وما بينهما، و لك الحمد كله أن خلقت الإنسان، وعلمته البيان، والصلاة والسلام على نبيك وحبيبك محمد بن عبد الله أفصح من نطق بالضاد لسانًا، وأجمعهم بيانًا0
الأحد، 28 آذار، 2004 محمد إسماعيل عتوك
من أسرار الإعجاز البياني في القرآن
سر النفي بـ( لن ) و( لا )[/align]
قال الله تعالى في حق اليهود:{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدًا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } [البقرة:94- 95]
وقال سبحانه في الآية الأخرى:{ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدًا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } [الجمعة:6- 7 ]
لماذا نفى الله تعالى تمني اليهود للموت في الآية الأولى بـ( لن )، ونفاه في الآية الثانية بـ( لا )؟00 ما معنى( لن )، ومعنى( لا )؟ وما الفرق بينهما؟
وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله، وتعليمه:
أولاً- كان اليهود يدعون في جملة ما يدعون أن لهم الدار الآخرة خالصة عند الله تعالى، وأنهم أولياء لله من دون الناس، وكان النصارى بقولون مثل قولهم هذا0 وقد حكى الله تعالى ذلك عن الطائفتين، فقال جلَّ ثناؤه:{ وقالوا لن يخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى }[البقرة:111]0 وقال في آية أخرى:{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه }[المائدة:18]0
ولما أراد الله تعالى أن يبطل ادعاءهم، ويبين فساد أقوالهم، ويفضح أمرهم، أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إن صحَّ قولكم، وصدق زعمكم، وكنتم على ثقة من أنكم على حق، فتمنوا الموت؛ لأن من أيقن أنه من أهل الجنة، وأنه وليٌّ لله من دون الناس، اشتاق إلى الجنة، وتمنى سرعة الوصول إليها، ليستريح من كرب الدنيا وهمها وغمها، ويصير إلى رَوْح الجنة؛ فإن الله لا بعذب أولياءه فيها0 ثم أخبر تعالى عنهم مرة بقوله: { ولن يتمنوه أبدًا }، ومرة أخرى بقوله:{ ولا يتمنونه أبدًا }؛ وذلك بسبب كفرهم وعصيانهم0
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في اليهود:” لو تمنوا الموت، لغصَّ كل إنسان بريقه، فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ “0 وفي رواية أخرى:” والذي نفسي بيده، لا يقولها أحد منكم إلا غصَّ بريقه “0 أي: لا يقول أحد منكم- والخطاب لليهود-: أتمنى الموت0 أو: ليتني أموت0 فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقالوها0 ولكنهم كانوا يعلمون أنهم لو قالوها، لماتوا من ساعتهم، ولحقهم الوعيد0 فانكشف بذلك لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ كذبهم، وبهتانهم، وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجة أصحابه- رضي الله تعالى عنهم- عليهم00 ولم تزل- والحمد لله- الحجة ظاهرة عليهم، وعلى غيرهم من الملاحدة والكفرة إلى يوم الدين0
ومن هنا كان هذا الإخبار من الله تعالى عن اليهود من المعجزات التي دلَّت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق رسالته؛ لأنه إخبار بالغيب0 والإخبار بالغيب معجز0
ثانيًا- لقد نفى الله تعالى تمنيهم الموت في آية البقرة بـ( لن )، فقال جل شانه:{ ولن يتمنوه أبدًا }، ونفاه في آية الجمعة بـ( لا )، فقال سبحانه:{ ولا يتمنونه أبدًا }، فدلَّ ذلك على أن بينهما فرقًا في اللفظ، ينبني عليه فرق في المعنى00 ولكن الزمخشري في كشافه يقول: ولا فرق بين( لا ) و( لن )، في أن كل واحدة منهما نفيٌ للمستقبل؛ إلا أن في( لن ) تأكيدًا، وتشديدًا، ليس في( لا )0 فأتى مرة بلفظ التأكيد، ومرة بغير لفظه0
وعلَّل الفخر الرازي، وغيره لذلك بأن دعوى اليهود الأولى أعظم من دعواهم الثانية؛ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية؛ لأن الثانية تُرَاد لحصول الأولى0 ولمَّا كانت( لن ) أبلغ في النفي من( لا )، وأقوى منها، جعلها الله تعالى لنفي الأعظم0
وجمهور النحاة والمفسرين قدماء، ومتأخرين، ومعاصرين على القول بأن( لن ) أبلغ، وأقوى في النفي من( لا )، وأن النفي بها أبديٌّ بخلاف( لا )00 والمستقرىء للنصوص القرآنية، والعربية المنفية بـ( لن )، وبـ( لا )، بجد خلاف ذلك تمامًا00 وبيان ذلك:
1- أن( لن ) في مذهب الخليل مركبة من( لا ) و( أن )00 و( أن ) تدل على إمكان الفعل، دون الوجوب، والاستحالة0 تأمل قوله تعالى:{ أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم }[المعارج:38]، تجد فيه أن دخول الجنة ممكن لكل امرىء يطمع في دخولها، إن أراد0 وهذا المعنى هو الذي دلت عليه( أن )0 فإذا قلت:( لن يدخل )، دلت( لن ) على نفي إمكان الدخول الذي دلت علي( أن )0 وعلى هذا جاء قوله تعالى:{ وقالوا لن يخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى }[البقرة:111]0 ومثل ذلك قوله تعالى:{ ولن يتمنوه أبدًا }، من آية البقرة00 فإذا ثبت ذلك، كان معنى( لن ) نفيُ الإمكان بـ( أن )0
2- ومن خواصِّ( لن ) أنها تخلص الفعل للاستقبال، بعد أن كانت صيغته للحال0 فأغنت عن السين، وسوف00 ومن خواصِّها أيضًا أنها تنفي ما قرُب، فلا يمتدُّ معنى النفي فيها؛ كامتداد معناه في( لا )، إذا قلت: لا يفعل ذلك أبدًا00 فـ( لا ) هي لامٌ بعدها ألفٌ، يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه تضييق النفَس؛ فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها0 و( لن ) بخلاف ذلك00 فتأمله، فإنه معنى لطيف، وغرض شريف، لا يدركه إلا الغوَّاص المحدِّث من علماء النحو والبيان والتفسير؛ كالشيخ السهيلي- رحمه الله- وقد استدل على ذلك بقوله:” ألا ترى كيف جاء في القرآن البديع نظمه، الفائق على كل العلوم علمه:{ ولا يتمنونه أبدًا } بحرف ( لا ) في الموضع الذي اقترنت فيه أداة الشرط بالفعل، فصار من صيغ العموم، فانسحب على جميع الأزمنة، وهو قوله عز وجل:{ إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت }؛ كأنه تعالى يقول: متى ما زعموا ذلك لوقت من الأوقات، أو زمن من الأزمان، وقيل لهم:( تمنوا الموت )، فلا يتمنونه أبدًا0 وأداة الشرط دلت على هذا المعنى، و( لا ) في الجواب بإزاء صيغة العموم، لاتساع معنى النفي فيها0 وقال تعالى في سورة البقرة:{ ولن يتمنوه أبدًا }، فقصَّر من سعة النفي، وقرَّب؛ لأن قبله في النظم{ إن كانت لكم الدار الآخرة}0 وليست( إن ) ههنا مع( كان ) من صيغ العموم، كما كانت مع( زعمتم ) في آية الجعة؛ لأن( كان ) ليست بدالة على الحدث0 فكأنه يقول عز وجل: إن كانت وجبت لكم الدار الآخرة، وثبتت لكم في علم الله تعالى، فتمنوا الموت الآن0 ثم قال في الجواب:{ ولن يتمنوه أبدًا }، فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين00 وليس في قوله{ أبدًا } ما يناقض ما قلناه؛ فقد يكون( أبدًا ) بعد فعل الحال0 تقول: زيد يقوم أبدًا، ويصلي أبدًا“0
هذا قول الشيخ السهيلي- رحمه الله- أخذه ابن قيم الجوزية، وحكاه عن شيخه ابن تيمية- رحمهما الله تعالى- وكان قد ذكر هذا القول في معرض ردِّه على المعتزلة، الذين يقولون بتأبيد النفي بـ( لن )- والزمخشري أحد أعلامهم- ثم قال:” وقد أكذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي بـ( لن ) صريحًا بقوله:{ يا مالك ليقض علينا ربك }[الزخرف:77]0
فهذا تمنٍّ للموت0 فلو اقتضت( لن ) دوام النفي، تناقض الكلام00 وقوله تعالى{ أبدًا } لا يناقض تمنيهم الموت في النار؛ لأن التأبيد إما أن يراد به التأبيد المقيَّد، أو يراد به التأبيد المطلق0 فالمقيَّد كالتأبيد بمدة الحياة الدنيا؛ كقولك: لن أكلمه0 أو: لا أكلمه أبدًا0 والمطلق هو الذي يمتد امتداد الحياة الدنيا، والآخرة؛ كقولك: لا أكفر بربي أبدًا “0
وإذا كان الأمر كذلك، فالآية الأولى إنما اقتضت نفي تمني اليهود للموت أبد الحياة الدنيا، دون الحياة الآخرة؛ وذلك لأنهم لحبهم الحياة، وكراهتهم للجزاء، لا يتمنون الموت0 ولهذا أخبر الله تعالى عنهم، فقال:{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة }[البقرة:96]00 ولكنهم إذا صاروا إلى الآخرة، وأدخلوا في النار، تمنوا الموت؛ كما حكى ذلك عنهم الله تعالى في آية الزخرف:{ يا مالك ليقض علينا ربك }[الزخرف:77]0
وأما آية الجمعة فقد اقتضت نفي تمنيهم الموت مدة الحياة الدنيا، والحياة الآخرة؛ لأن النفي بـ( لا ) لا حدود له، ولا نهاية ما لم يقيد بزمن0 ولهذا جاء قوله تعالى:{ لا تدركه الأبصار } منفيًا بـ( لا )، في حين جاء قوله تعالى:{ لن تراني }[الأعراف:193] منفيًا بـ ( لن )؛ لأنه يستحيل على الأبصار أن تدرك حقيقة الله تعالى، وأن تحيط به سبحانه، لا في الدنيا، ولا في الآخرة0
أما رؤية الله جل وعلا بالأبصار فجائزة عقلاً في الدنيا، والآخرة0 ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلاً في الدنيا قول موسى عليه السلام:{ رب أرني أنظر إليك } [ الأعراف:193]؛ لأن موسى عليه السلام لا يخفى عليه الجائز، والمستحيل في حق الله تعالى0 وأما قول الله تعالى لموسى عليه السلام:{ لن تراني } فلأن رؤيته سبحانه في الدنيا لا يطيقها أحد من مخلوقاته، بدليل قوله جل وعلا:{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخر موسى صعقًا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين }[ الأعراف:193]
وأما رؤية الله جل وعلا شرعًا فهي جائزة، وواقعة في الآخرة؛ كما دلت عليه الآيات القرآنية، وتواترت به الأحاديث الصحاح00 فمن الآيات قوله تعالى:{ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة }[القيامة:22- 23]0 ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:” إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا “0 و قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }[يونس:26]:” الحسنى: الجنة0 والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم “0
تبارك ياربنا وجهك الذي أضاء نوره السموات والأرض، وما بينهما، و لك الحمد كله أن خلقت الإنسان، وعلمته البيان، والصلاة والسلام على نبيك وحبيبك محمد بن عبد الله أفصح من نطق بالضاد لسانًا، وأجمعهم بيانًا0
الأحد، 28 آذار، 2004 محمد إسماعيل عتوك