عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 138
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
محمد عبدالله دراز المتوفى منتصف عام 1377هـ رحمه الله ، العالم المسلم الكبير قامةٌ علميةٌ قلَّ من عرف قيمته من طلبة العلم المعاصرين ، وأراه لا يزال في حاجة ماسة إلى إلقاء المزيد من الأضواء على بحوثه ومؤلفاته الفريدة المتميزة . ومن أجود كتبه وأثمنها كتابه القيم (دستور الأخلاق في القرآن الكريم) ومنذ زمن وأنا أزمع الكتابة عن كتابه هذا وأعرض أبرز ما اشتمل عليه من فوائد ، ولم يتيسر بعدُ فعلُ ذلك ، ومثله كتبه (النبأ العظيم) و (مدخل إلى القرآن) وغيرها .
وقد قرأتُ عدداً من البحوث حول هذا الكتاب ، ومنها هذه المقالة التي نشرتُ في مجلة (إسلامية المعرفة) التي يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في العدد رقم 53 من المجلة بقلم رئيس التحرير ، وأرجو أن ينتفع به القارئ في معرفة ما شاتمل عليه ذلك الكتاب القيم الذي كان جزءاً من رسالة دكتوراه الدولة من جامعة السوربون الفرنسية عام 1367هـ .
[align=center]منهج محمد عبد الله دراز في التأصيل الإسلامي لعلم الأخلاق [/align]
مفهوم التأصيل:
التأصيلُ مصطلحٌ يدلُّ على مفهوم، لكنّ المفهومَ غير محدد تماماً؛ إذْ قد ينصرفُ إلى دلالات متعددة، وقد تكون متناقضةً. ولذلك يجدرُ بالباحث أن يُعرِّف بالمصطلحات التي يختارُ استعمالَها في بحثه بدلالةِ أهداف البحث وإجراءاته، ضمن ما أصبح يعرف في مقدمات البحوث بالتعريف الإجرائي لمصطلحات البحث.
ويبدو أنّ اختيارَ المصطلح يخضعُ لعدد من الاعتبارات، بعضُها فكريٌ بحتٌ، لكنَّ بعضَها لا يخلو من ايحاءاتٍ سياسية. وربما ينطبق ذلك على مصطلح التأصيل. ومع ذلك، فإننا إذا تجاوزنا الدلالات المحددة التي اختارتها بعض المؤسسات لبرامجها ومشاريعها الفكرية، عند استعمالها لمصطلح التأصيل أو المصطلحات القريبة منه، فإننا نجد دلالاتٍ عامةً تكاد تكون مقبولة بشكل عام.
فالتأصيل هو البناء على الأصل، والانطلاق منه، والارتباط به. والأصل هو القاعدة التي يتم البناء عليها، فمثلاً عند قولنا: "الأصل في الأشياء الإباحة"، يمثل هذا قاعدةً شرعية في بيان الأحكام، ويتم تطبيق القاعدة على الحالات والأمثلة والقضايا، حتى يتم الحكم عليها والخروج برأي فيها. فالتأصيل في هذا المجال، هو النظر في الأمور والقضايا المراد الحكم عليها، بردّها إلى القاعدة التي يلزم تطبيقُها، فلا تردُّ إلى قاعدةٍ غيرِها، ولا يُنْظَرُ إليها نظرةً مستقلة، وكأنَّها شيءٌ لا أصل له.
والأصل هو ما ليس بفرع، وتربط الفروع بالأصول حتى يتمَّ تكوينُ الرُّؤْيَةِ الكليّة التي يصعب تكوينُها من النظر إلى فرعٍ واحدٍ، أو عددٍ من الفروع المتفرقة والمفصولة عن أصلها.
وتأصيل الشيء أو الفكرة يكونُ بِرَدِّها إلى أصلها، أو إيجاد أصل لها ضمن النظام المعرفي المعتمد في موضوع البحث، فتأصيل الفكرة هو بحث استرجاعي Retrospective يحاول ربط الفكرة بتاريخها وماضيها، أو هو بحث تحليلي يحاول ربط الفكرة الفرعية بأصلها الكليّ، أو المثال بقاعدته.
وتتضمنُ عمليةُ التأصيلِ توليدَ الأفكارِ الجديدة من أصولها وقواعدها، عن طريق الاستدلال الاستنباطي Deductive inference. فالفكر المؤصَل هو الفكر الذي يتم التوصل إليه من استلهام الأصول أولاً، والاشتقاق من هذه الأصول ثانياً، وكل فكر لا يتصف بذلك فكر غير مؤصَّل.
وارتبط التأصيل في اللغة المستعملة بالأصالة، بمعنى الجِدَّةِ والإبداعِ؛ فالفكرةُ الأصيلة فكرةٌ جديدةٌ غيرُ مسبوقة. والبحثُ الأصيل هو البحث الجديد الذي يُعرَضُ للمَرَّةِ الأولى. ومع ذلك فقد ارتبط التأصيل في اللغة المستعملة بالماضي، فالأصيل هو ما له أصلٌ في الماضي، ومن ثم أصبحت الأصالةُ تقابلُ المعاصرة. وحين نشعر بالحاجة إلى تأكيد هذا العمق التاريخي في الانتماء والهوية، دون التقليل من أهمية الاستجابة لمتطلبات العصر ومستجدات الحداثة، نجمع المعاصرة إلى الأصالة في شعار إيجابي مشترك.
أما مصطلح التأصيل الإسلامي، فهو واحد من عدد من المصطلحات التي ترتبط ببعضها فيما يكوّن حقلاً دلالياً واحداً، فالتأصيل الإسلامي لعلم الأخلاق أو القيم، وإسلامية علم الأخلاق، وأسلمة علم الأخلاق، والتوجيه الإسلامي لعلم الأخلاق، وعلم الأخلاق في المنظور الإسلامي، كلها مصطلحات تنتمي إلى الحقل نفسه، ولكن اختيار أي منها قد لا يكون بالضرورة قراراً معرفياً منهجياً، بقدر ما يكون رغبة في استبعاد الدلالات والظلال، التي ربما توحي بها المصطلحات الأخرى.
ونكتفي في هذا المقام ببيان ما قد تشير إليه هذه المصطلحات، من خلال الإحالة إلى طبيعة البرامج التي حاولت ثلاث مؤسسات تطويرها، وعلاقة كل منها بالمصطلح الذي قررت اختياره؛ فالمعهد العالمي للفكر الإسلامي اختار مصطلح "إسلامية المعرفة"، وجامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض اختارت مصطلح "التأصيل الإسلامي للعلوم"، وجامعة الأزهر في القاهرة استعملت مصطلح "التوجيه الإسلامي للعلوم".
لقد انصرف مفهوم التأصيل الإسلامي لموضوع معين في كثير من: الأدبيات، والممارسات، وبعض المشروعات، إلى معانٍ ودلالات يمكن أن نميز منها:
- إضافة ما يُظن أنّه أصل إسلامي للمعرفة المعاصرة في ذلك الموضوع، وذلك بربط هذا الموضوع بما قد يتوافر من نصوص القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف، أو شيء من تراث المسلمين الماضي. ومثال ذلك تأليف كتاب في علم النفس، فيه نقل وترجمة لما في أي كتاب في علم النفس، يعرض نظريات المدارس النفسية مثل: التحليل النفسي، أو السلوكية، أو الإنسانية...، ثم يضاف إلى الكتاب فصل يحتوى على بعض الآيات والأحاديث، التي يظن المؤلف أنها تتعلق بعلم النفس المعاصر، وربما يحتوي الفصل على مقتطفات من كلام أبي حامد الغزالي، أو ابن سينا، أو غيرهما عن النفس، ثم يُعطى للكتاب عنوان: علم النفس الإسلامي!
- ومنها محاولة إنشاء معرفة جديدة في الموضوع، انطلاقاً من الأصول الإسلامية في القرآن الكريم، أو السُّنَّة النبويّة، أو التراث الإسلامي، "فما ترك السابق للاحق شيئاً" يبحثه، مع الزعم بإقامة قطيعة معرفية مع أية مصادر أخرى. وبخاصة المصادر الغربية الحديثة. ومثال ذلك تأليف كتاب عن النظام السياسي في الإسلام، يعيد المؤلف فيه صياغة محتوى كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وأمثاله من الكتب، دون أن يتحدث عن تراكم الممارسات والتجارب المتنوعة في أنظمة الحكم، وعلاقتها بالمبادئ السياسية الإسلامية.
- وثمة معنى ثالثٌ، يرى قيام التأصيل على ثلاثة متطلبات أساسية لا يغني أحدها الآخرين. المتطلب الأول: هو التَّمكُّن من المرجعية الإسلامية، والمواد الإسلامية ذات العلاقة بالموضوع المراد تأصيله، سواءً أكانت نصوصاً من القرآن الكريم، أم السُّنَّة النبوية، أو نصوصاً مختارة من تراث العلماء المسلمين، والمتطلب الثاني: هو التَّمكُّن من الأدبيات ذات العلاقة بالموضوع في الفكر الإنساني المعاصر، والمتطلب الثالث: هو القدرة على الجمع بين نتائج الفهم والاستيعاب لحصيلة كل من المتطلبين السابقين، ومن ثم القيام بقفزة إبداعية تُنتج معرفةً تتّصف بالإسلامية أو التأصيل الإسلامي.
إن تقدير الجهود التي تقوم بها بعض المؤسسات التي تدعو إلى التأصيل، واحترام خيارات هذه المؤسسات، لا تمعنا من الإشارة إلى أن ثمة تطرفاً في بعض أدبيات التأصيل، التي تقول بأن المعرفة الإسلامية الأصيلة لن تكون إلاّ نتيجة مباشرة من النظر في النصوص، ومعرفة دلالاتها كما وردت في تراث المسلمين السابقين، مع قطيعة معرفية بالواقع البشري المعاصر، ومعطياته المعرفية. ونرى أن إمكانية هذا اللون من التأصيل، ليست إلاً وَهْمَاً كبيراً! لكن من العدل أن نشير أيضاً إلى تطرفٍ في الاتجاه الآخر، وهو القول بأن جهود التأصيل ليست أكثر من تعبير عن سياسة الهروب من الواقع، وأن تحليل الفكر الأصولي يكشف عن استحالة التأصيل، ومن ثمَّ فلا سبيل أمام الشعوب المسلمة لتحقيق تقدمها، إلا بالتماهي والاندماج في تيارات الحداثة وما بعد الحداثة، كما حدثت وتحدث في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وهذا القول الثاني هو أيضاً وَهْمٌ، وهو وَهْمٌ أكبر من الأول!
والبحث عن الوصف الحق بين هذين اللونين من التطرف في فهم موضوع التأصيل، قد لا ينفع فيه القياس الكمي لتحديد النقطة الوسط، الذي هو الفضيلة بين رذيلتين، بل الأكثر نفعاً في سبيل تحديد دلالة التأصيل الذي نراه، هو الانطلاق من مرجعية يسهل الاتفاق عليها، والجمع بين ما يمكن أن يكون حقاً وخيراً وفضيلة في أي طرف، واستبعاد عناصر الفساد والشَّر منه، وبناء معادلة معرفية موزونة تبقى مفتوحة لإعادة التوازن إليها،كلما ازددنا علماً يستوجب التعديل والتصحيح.
المعادلة المعرفية في التأصيل الإسلامي:
إنَّ أيَّ معرفةٍ بشرية يُمْكِنُ للمسلم أن يتبنَّاها سوف تأتي من مصدريْن، هما: الوحي والكون، وعن طريق استخدام أداتَيْن، هما: العقل والحِسّ. والوحي هو القرآن الكريم، وهو المصدر المنشئ، والسُّنَّة الصحيحة هي البيان النَّبوي الملزم. أما الكون فيمكن أن نميز فيه ثلاثة عناصر: الكون المادي (أشياء الطبيعة وأحداثها وظواهرها)، والكون الاجتماعي (المجتمع البشري بشعوبه وقبائله وما تتمايز به من دول وأديان ولغات وقيم، وما أنجزته من علوم وتقنيات وثقافات وحضارات)، والكون النفسي (الشخصية الإنسانية بما تنطوي عليه: جسم وعقل وروح، وما تمتلكه من معارف ومهارات وانفعالات...)
وأداتا المعرفة هما: الحِسّ مِن: سمع، وبصر، وغيرهما، والعقل بدلالاته المتنوعة مِن: ملكات الإدراك، والفهم في الدماغ، والقلب، واللب، والفؤاد.
ومن ثَمَّ فإنّ معرفة المسلم حول موضوع معين، تأتي عن طريق الجمع بين القراءتين (أو القراءة في المصدرين: الوحي والكون)، ونتيجة للجمع بين وظيفة كل من الأداتين (الحس والعقل). ويتعاون مصدرا المعرفة، كما تتعاون أداتا المعرفة، في تزويد المسلم بالمعرفة. لكن معرفة المسلم سوف تبقى على أية حال معرفةً بشريةً، تنسب إلى الإنسان، وهو يتصف بها. وهي أمر مختلف عن عِلْم الله سبحانه، وعِلْم الملائكة، وعِلْم الكائنات الأخرى. فعلمُ الله مطلقٌ، وعلمُ الإنسانِ نسبيٌ يزيد وينقص، ويصح ويخطئ. وعندما يُعطِي اللهُ الإنسانَ شيئاً من علمِهِ، "يُعَلِّمُكُم مَا لَمْ تَكونُوا تَعْلَمُون،" فإنّ ما يكتسبه الإنسانُ من هذا العلمِ يصبحُ جزءاً من العلم البشري، ويبقى محدوداً بدلالاته ومعانية بحدود الإدراك البشري.
ويكون التأصيل الإسلامي على هذا الأساس، لموضوع من الموضوعات المعاصرة، هو البحث عما يمكن أن يتعلق بهذا الموضوع في القرآن الكريم المصدرِ المنشئ، وفي السُّنَّة النَّبوية المصدرِ المبين، والاطلاع على ما أنشأه علماء المسلمين من علم ومعرفة حول الموضوع، والاطلاع على المراجع المناسبة للمعرفة المعاصرة حول الموضوع. وسوف تكون هذه المصادر مدخلات تتحاور في عقل المسلم، فقد توجه نصوصُ القرآن والسُّنَّة نظرَ المسلم إلى التأمل في الموضوع لفهم بعض جوانبه، وقد تفيد المعرفةُ المعاصرة عقلَ المسلم المعاصر، في تأمّل دلالات هذه النصوص، واكتشاف بعض المعاني التي لم تَرِد في كتابات العلماء المسلمين من قبلُ،"فكم ترك السابق للاحق." وربما تصحِّحُ بعضَ ما كانوا قد وصلوا إليه؛ إذْ ليس كلُّ ما ورد في كتابات السابقين من البشر صحيحاً. وسوف يتمكن الباحث المسلم من رفض بعض معطيات المعرفة المعاصرة، والحكم على بطلانها؛ لأنها تتناقض مع القيم العليا والمقاصد العامة التي جاء من أجلها الإسلام، في حدود الفهم البشري لها في عصر معين أو جيل معين. وقد يقود هذا التناقض إلى مزيدٍ من البحث، لا يلبثُ أن يكشفَ عن جوانب التناقض الداخلي في بنية المعرفة نفسِها. وربما يتمكن الباحث المسلم من قبول بعض هذه المعطيات؛ لأنها نتيجة من نتائج الاستجابة المُلِحة لدعوة القرآن الكريم للإنسان، للسير، والنظر، والبحث، والتَّدَبُّر. وقد تكون بعض معطيات المعرفة بحاجة إلى شيء من التحديد أو التكييف أو التعديل. وكل هذه الاحتمالات ممكنة؛ إذ تحدث كل يوم، وهي ظاهرة طبيعية في تقدم العلم ونمو المعرفة، وفي كل يوم يكتشف الإنسان من المعرفة ما ينقض شيئاً مما كان لديه من الحقائق القارَّة لعقود أو قرون.
هذه المنهجية في التأصيل التي تعتمد الوحي مصدراً هادياً، سوف توجّه الإنسان المسلم إلى اختيار أولويات البحث بحكمة ورشد، وإلى ممارسة أخلاقيات البحث ضمن القيم العليا، والمقاصد العامة للدين، وإلى توظيف نتائج البحث في بناء الأمة، وتطور المجتمع، وترشيد الحضارة الإنسانية. وعندها يمكن لحركة العلم والتقانة، أن تسلم من التجاوزات التي رافقت حركة التقدم في التاريخ البشري، والتي جعلت من القرن العشرين -وهو قرن التقدم العلمي المذهل- أكثر قرون الزمن الإنساني دماراً، ودماءً، ومعاناةً بشرية.
هذه المنهجية في التأصيل إذن، هي نظر وبحث في كتاب الوحي، وفي كتاب الكون، وفي تراث السابقين واللاحقين من مسلمين وغير مسلمين، وحين تتدرج هذه المعارف التي يكتسبها الإنسان من هذه المصادر في تكاملها وتقاطع دلالاتها، فإنها تتحاور في قلب المسلم وعقله، وتترقَّى به، ويترقَّى بها، في مستويات الاستيعاب، ثم التجاوز، للوصول إلى الأصيل الجديد.
مفهوم التأصيل عند "دراز":
حين نختار مصطلح التأصيل الإسلامي، في الحديث عن كتاب محمد عبد الله دراز "دستور الأخلاق في القرآن" وليس مصطلحاً آخر، فذلك لأن المؤلف كان يبحث عن جوانب "الأصالة" في طريقة عرض القرآن الكريم للتعليم الأخلاقي، وقد تحدث عن ثلاثة جوانب من هذه الأصالة، تُنْبئُنا عن دلالة مصطلح الأصالة لدى "دراز". الجانب الأول من هذه الأصالة: أن القرآن قد تميز عن الكتب والرسالات السابقة "بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقاً في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسسين والمصلحين، الذين تباعد بعضهم عن بعض، زماناً ومكاناً، وربما لم يترك بعضهم أثراً من بعده يحفظ تعاليمه."
والجانب الثاني من أصالة القرآن الكريم فيما يتعلق بالتعليم الأخلاقي، ماثل في: "طريقته التي سلكها لتقديم تلك الدروس المختلفة عن الماضين وتقريبها، بحيث يصوغ تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام، ويسوقها على اختلافها في إطار من الاتفاق التام، وذلك لأنه نزع عن الشرائع السابقة كل ما كان في ظاهر الأمر إفراطاً أو تفريطاً، وبعد أن حقق وضع التعادل في ميزانها... دفعها في اتجاه واحد، ثم نفخ فيها من روح واحدة، بحيث صار حقاً أن ينسب إليه بخاصة مجموع هذه الأخلاق."
أما الجانب الثالث فكتب عنه: "وأعجب من ذلك وأعظم أصالة جانبه الخلاق، فليس يكفي -في الواقع لكي نصف أخلاق القرآن-أن نقول: إنها حفظت تراث الأسلاف ودعمته، وإنها وفقت بين الآراء المختلفة التي فرقت أخلاقهم، بل ينبغي أن نضيف: أن الأخلاق القرآنية قد رفعت ذلكم البناء المقدس، وجمّلته، حين ضمت إليه فصولاً كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي."
فالأصالة عند دراز إذن تبدأ بالجمع والاستيعاب، ثم تعبر إلى التصحيح والتصويب، وتصل إلى الإبداع والجدة ونهاية خط التقدم. ويبدو أن هذا الفهم عند "دراز" قد تطور نتيجة الدراسة التي انتهت إلى هذا الكتاب، ولم تكن واضحة لديه عند البدء بالدراسة. ولعل عرضاً لموضوع الكتاب ومنهجه يوضح ذلك.
"دستور الأخلاق في القرآن" هو "دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن الكريم." وهو في الأصل أطروحة دكتوراه من جامعة السوربون، قدمها الشيخ دراز بالفرنسية، وناقشها في الخامس عشر من ديسمبر عام 1947م، ونشرها الأزهر بلغتها الأصلية عام 1950م، ثم ترجمها وحققها الدكتور عبد الصبور شاهين، ونشرت طبعتها الأولى بالعربية عام 1973م.
ومع أن المؤلف قد التحق بجامعة السوربون بعد حصوله على الإجازة من الأزهر، فإنه في دراسته في فرنسا فضّل أن يبدأ الدراسة من بدايتها، فدرس العلوم الفلسفية والاجتماعية والنفسية في مستوى "الليسانس"، ثم واصل دراسته حتى الدكتوراه، ولذلك فإن أطروحته ليست دراسة في القرآن فحسب، وإنما هي دراسة مقارنة مع النظريات الغربية ذات العلاقة بالموضوعات التي يأتي عليها، وهي مقارنة تكشف عن عمق استيعابه، وتمكنه في العلوم الغربية وعلوم القرآن على حد سواء.
والهدف العام من دارسة دراز، هو الكشف عن الطابع العام للأخلاق النظرية والعملية في القرآن الكريم. وقد رأى المؤلف أن ينهج في دراسة الجانب الأخلاقي في القرآن الكريم منهجاً مختلفاً عن مناهج العلماء السابقين في التراث الإسلامي، فقد لاحظ أن التعاليم الأخلاقية في هذا التراث على نوعين: تمثل النوع الأول في النصائح العلمية، التي تهتم بالقيمة العليا للفضيلة، مثل رسالة ابن حزم "مداواة النفوس." أما النوع الثاني فتمثل في جهود بعض العلماء في وصف طبيعة النفس وملكاتها، وتحديد مراتب الفضيلة، بطريقة تتبع في الغالب نموذج أفلاطون أو نموذج أرسطو، مثل كتاب ابن مسكوية "تهذيب الأخلاق." كما لاحظ أن بعض العلماء من جمع بين المنهجين، كما في كتاب "الذريعة" للأصفهاني، وكتاب "إحياء علوم الدين للغزالي."
وبدلاً عن هذين الطريقين في تناول الموضوع، لجأ دراز إلى دراسة الأخلاق وفق المفاهيم السائدة لدى العلماء المتخصصين المحدثين، مع إعمال المرجعية القرآنية المباشرة. وموضوع الدراسة في السياقات المعاصرة، وفي سياق دارسة "دراز"، هو موضوع فلسفي، والفلسفة أفكار مترابطة نابعة من العقل، يتم بناؤها وفق منهج متسلسل، والهدف هو بناء نسق من المبادئ العامة التي تفسر ظاهرة من الظواهر النفسية، أو الاجتماعية، أو الطبيعية. ولا يستطيع الباحث أن يجد في القرآن الكريم نسقاً فلسفياً مدرسياً من هذا النوع؛ إذ إن للقرآن الكريم منهجه الفريد في تقديم الهداية وتيسيرها، بالاعتماد على الفطرة البشرية واستعداداتها، وإثارة الدافع النفسي الداخلي في بناء التطور الاعتقادي، والإيمان بالحقيقة الأخلاقية التي تفرض نفسها على الإنسان، بعيداً عن الأهواء والرغبات.
وقد جاء كتاب دراز في قسمين:
تناول القسم الأول النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الكريم، وعالجها في خمسة فصول: الإلزام، والمسؤولية، والجزاء، والنية، والدوافع، والجهد البشري.
أما القسم الثاني فقد تناول فيه الأخلاق العملية وعالجها في خمسة فصول على أساس تصنيف فئات الأخلاق: إلى الأخلاق الفردية، والأخلاق الأسرية، والأخلاق الاجتماعية، وأخلاق الدولة، والأخلاق الدينية.
لقد كان أساس البحث في الكتاب هو النظرية الأخلاقية، وحدد المؤلف عناصر خمسة هي: موضوعات الفصول الخمسة من القسم الأول المشار إليها، بوصفها "الأجزاء التكوينية ...والعُمُد الرئيسية لكل نظرية أخلاقية." وقد تبين للباحث أن الأخلاق القرآنية شملت جميع وجوه النشاط الإنساني. وقد فرّق المؤلف بين جانبِ الامتداد في شمول الأخلاق للنشاط الإنساني، فيما يظهر من سلوكه الخارجي في الميدان الحيوي والاجتماعي، وهو المجال الأوسع والأرحب، وجانبِ العمق في شمول هذه الأخلاق لحياة الإنسان الباطنية؛ إذ يبتغي حب الله، ويستوحي أمره ورضاه في كل موقف.
في المنهج القرآني يتحرك الضمير البشري في تعامله مع قضايا الإلزام الأخلاقي بدوافع المسؤولية التي تجمع بين المثال والواقع، وبين متطلبات الوجود المادي للإنسان ووجوده الروحي، وبين طموحاته الفردية ومصالح مجتمعه. والإنسان في النهاية يقوم بالفعل ويمارس السلوك؛ طلباً لصور من الجزاء الذي يتحقق بعضها مباشرة، عندما يرى أثر السلوك الخيّر ونتيجته، سمواً في المشاعر، ورضاً في الضمير، ويطمع أن يتحقق بعضها الآخر ثواباً وأجراً عند الله. وفي كل الأحوال، فإن الحاكم على طبيعة الجزاء على الفعل الأخلاقي، هو الباعث الداخلي على الفعل، وهو "النية الصالحة."
وهكذا تقوم القيم الخلقية على قاعدة من خصائص الفطرة البشرية، والباعث النفسي الداخلي؛ فالخالق سبحانه ألهم النفس فجورها وتقواها، حتى تتمكن من التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، والنافع والضار. والخالق سبحانه مكّن الإنسان من حرية اختيار السلوك على أساس تلك المعرفة التمييزية. وتنبعث في نفس الإنسان مشاعر متفاوتة نتيجة ذلك السلوك، ألا ترى أن النفس ترتاح وتأنس لسلوك الخير، وتضطرب وتأسى وتتكدر لسلوك الشر!
لكننا نعرف جيداً أن سلوك الإنسان لا يخضع في جميع الأحوال لقانون الأخلاق الفطري؛ إذ تتلوث الفطرة وتضعف النوازع الداخلية، نتيجة المؤثرات في البيئة الاجتماعية والتربوية، فتؤدي الأهواء إلى سوء تقدير المصالح، وتندفع إلى سلوك يتناقض مع متطلبات الفطرة السليمة الخيرة، وما تتطلبه من التزام بالقيم الخلقية السليمة.
وقد نهج المؤلف في معالجته للموضوع منهجاً يلائم السياق العلمي الذي جاء بحثه فيه، فهو يقدم بحثاً إلى جامعة السوربون في باريس، ويوجه خطابه إلى مجموعة من الأساتذة الفرنسيين، ومنهم كبار المستشرقين في تلك الفترة الزمنية مثل: ماسنيون، ولوسن، وفالون، وفوكونيه. ولذلك تجده ينطلق في بحثه من الإطار النظري الشائع في الدراسات الغربية المعاصرة، ويناقش آراء العلماء الغربيين ونظرياتهم، محللاً المنطق الذي تستند إليه هذه النظريات، وما يصاحبها من جوانب الصواب والحكمة، أو جوانب القصور والخلل. ثم يقدم رؤيته للنظرية الأخلاقية الإسلامية، لافتاً الانتباه إلى ما تتصف به من حكمة وكمال. وهو منهج في تأصيل قضايا البحث تأصيلاً إسلامياً، ربما لا نجده عند الباحثين المسلمين الذين يجرون بحوثهم في سياقات أخرى، ويستهدفون في خطابهم جمهوراً مختلفاً. ونتوقع أن ينهج منهجَ دراز الباحثون المسلمون الذين يجدون أنفسهم في السياق نفسه، حين يجرون بحوثهم في الجامعات الغربية.
ولعل ذلك أن يكون موضوعاً بحثياً مستقلاً، يدرس عينة من الباحثين الذين درسوا في الجامعات الغربية، وتناولوا قضايا اجتماعية أو نفسية أو فلسفية أو تربوية، ويكون الهدف من البحث الكشف عن المناهج التي استخدمها الباحثون في معالجة هذه القضايا، ومناهج التأصيل التي ربما نهجوها.
في مطلع الكتاب يؤكد المؤلف أن ثمة غرضاً محدداً من تأليف كتابه، وأن الكتاب سوف يأتي بجديد، يضيف إلى المكتبة الأوروبية والمكتبة الإسلامية على حد سواء؛ "فإذا لم يأت عملنا هذا بشئ جديد في عالم الشرق أو الغرب، فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقال."
سوف يأتي الكتاب بجديد في المكتبة الأوروبية؛ لأن المؤلفات الغربية في علم الأخلاق تشهد "فراغاً هائلاً وعميقاً، نشأ عن صمتهم المطلق عن علم الأخلاق القرآني..." وهذا لا يعنى بالضرورة عدم وعي المؤلف بوجود كتابات أوروبية عن الأخلاق في الإسلام، فهو ينوه ببعض الكتابات الأوروبية التي عالجت مسائل تتعلق بالإسلام، وبما تضمنته من محاولات محدودة لترجمة بعض الآيات القرآنية ذات العلاقة بالعبادة أو بالسلوك، لكن هذه الكتابات اعترتها عيوب كثيرة في الترجمة أو في النتائج، ولذلك فإن المؤلف يريد أن يتناول الموضوع ويعالجه "من أجل تصحيح هذه الأخطاء، وملء هذه الفجوة في المكتبة الأوروبية، وحتى نُرِيَ علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا."
على أن المؤلف لا يستبعد حاجة المكتبة الإسلامية لمثل هذا العمل أيضاً، حين يشير إلى أن هذه المكتبة لم تعرف في موضوع الأخلاق إلا مادة من النصائح العملية، أو وصفاً لطبيعة النفس وملكاتها، حسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وبذلك تبقى المكتبة الإسلامية بحاجة إلى دراسة النص القرآني بصورته الكاملة للوصول إلى النظرية الأخلاقية في القرآن.
وفي الحالتين، لا يصل المؤلف إلى هذه النتيجة، حول حاجة كل من المكتبتين: الأوروبية والإسلامية إلى عمل كامل في النظرية الأخلاقية القرآنية، إلا بعد أن يذكّر بالكتابات المتوافرة، ويوثق ما يراه من أهم مراجعها، مما يشهد للمؤلف بالاطلاع والتمكن من التراثين: الإسلامي والأوروبي -في مسألة الأخلاق- على حد سواء.
وقد تضمن وصف المؤلف لمنهجه في العمل، اعترافه بأن تصوره للمنهج في البداية كان يقتصر على "عرض القانون الأخلاقي المستمد من القرآن وربما من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المبيِّن الأول، الثقة." لكنه عدّل في هذا المنهج بناء على اقتراح أستاذه "لويس ماسنيون"، الذي رغب في أن تتضمن الدراسة تناولَ بعض نظريات المدارس الإسلامية المشهورة. ثم جاء اقتراح ثانٍ من أستاذ آخر هو "رينيه لوسن" بأن يجري مقارنة للنظرية الأخلاقية المستمدة من القرآن ببعض النظريات الغربية، وقد رأى المؤلف أن ما طلباه كان "مقترحات موفقة"، وأن عمله بهذه المواصفات أصبح "أرحب مدى وأعظم توفيقاً،" وأن هذا المنهج يمثل تقارباً بين الثقافات، يأمل أن "يعقبه فهم أرحب مجالاً، ونزوع إلى الإنسانية أكثر امتداداً، حيث تتجمع القلوب، من هنا وهناك، وتتشابك الأيدي لخير بنى الإنسان."
لقد كان موضوع البحث عند "دراز"، هو ما سمّاه "منظومة الأخلاق في القرآن الكريم." ومع أن الموضوع معروف ومطروق، وهو موضوع قرآني بامتياز، وقد كتب فيه كثير من علماء المسلمين من: الفقهاء، والمتصوفة، والفلاسفة، والمتكلمين...فإن مصطلحات مثل "منظومة الأخلاق"، أو "النظام الأخلاقي"، أو "قانون الأخلاق"، أو "دستور الأخلاق"، أو "النظرية الأخلاقية"، هي مصطلحات جديدة. فلا بد من تعرّف أصول هذه المصطلحات وتطورها في الفكر المعاصر، مع ملاحظة أن مرجعية الفكر المعاصر مرجعية غربية إلى حد كبير. وبذلك أصبح منهج المؤلف في البحث منهجاً مقارناً، فهو يبحث عن "دستور الأخلاق في القرآن الكريم" بمرجعية قرآنية صرفة، وهو يبحث في تراث علماء الأمة الإسلامية، لعل أحداً منهم قد كشف عن هذا الدستور من قبل، وهو ينظر في أدبيات الأخلاق عند الغربيين السابقين والمعاصرين، ويجتهد في تحديد موقعها من "دستور الأخلاق في القرآن الكر يم."
على أن من أهم ما يعنينا في نتائج البحث، هو الكشف عن منهج القرآن الكريم في تأصيل موضوع القيم والأخلاق. وهل ثمة منهج أفضل من منهج القرآن هادياً إلى المنهج الذي نبحث عنه، أو نسعى إلى تطويره، ليسعفنا في إحسان التعامل مع الفكر المعاصر، وقضايانا المعاصرة؟!
لقد أشرنا في بدء الحديث عن كتاب دراز إلى الجوانب الثلاثة لما سمّاه دراز "أصالة" القرآن في الحديث عن الأخلاق، ولعلنا نختم الحديث بتحديد ما نراه عناصر أساسية في منهج رسالة القرآن في بناء المنظومة الأخلاقية، وذلك على الوجه الآتي:
1. استرجاع التراث الأخلاقي للرسالات الإلهية السابقة، والإشادة بها، وربطها ضمن حلقة متصلة من العناية الإلهية بأجيال البشرية.
2. تصحيح ما علق بهذا التراث من أخطاء بسبب طول الأمد، والنسيان، والانحرافات، والتحريفات، حتى تبدو منظومة تتصف بالانسجام والتماسك.
3. توضيح جوانب التنوع في حدود التشريعات الأخلاقية، على اختلاف الزمان، والمكان، والأقوام، وطبيعة الاختلالات التي كان تسود السلوك البشري.
4. إعادة بناء المنظومة الأخلاقية في صورة جديدة، تجمع بين الثبات والاستقرار لمتطلبات الحياة الأخلاقية من جهة، والمرونة التي تسع مستويات الجهد البشري ودرجاته المتصاعدة من جهة أخرى.
5. مخاطبة الكينونة البشرية بالتشريعات الأخلاقية، بطريقة تربطها بالفطرة السليمة والعقل الرشيد. فالتكاليف الأخلاقية كلها من المعروف بالفطرة، ومن المقبول بالعقل.
قليلة هي البحوث المنهجية المتميزة، التي يمكن أن تضيء الطريق أمام الباحثين وتوفر لهم نماذج من الإبداع، وتجعل أمر الإبداع ممكناً. وقليلة هي البحوث التي سلكت منهجاً في التأصيل الإسلامي، الذي يستند إلى مرجعية قرآنية. ونحن نرى أن كتاب "دستور الأخلاق في القرآن" للشيخ محمد عبد دراز واحدٌ من هذا القليل، ونلاحظ كذلك أن هذا الكتاب لم ينل حظاً من العناية به، يتناسب مع مستوى أهميته. ولعل في هذا التذكير بعض الوفاء للكتاب وللمؤلف، بعد مرور نصف قرن على وفاته.
محمد عبدالله دراز المتوفى منتصف عام 1377هـ رحمه الله ، العالم المسلم الكبير قامةٌ علميةٌ قلَّ من عرف قيمته من طلبة العلم المعاصرين ، وأراه لا يزال في حاجة ماسة إلى إلقاء المزيد من الأضواء على بحوثه ومؤلفاته الفريدة المتميزة . ومن أجود كتبه وأثمنها كتابه القيم (دستور الأخلاق في القرآن الكريم) ومنذ زمن وأنا أزمع الكتابة عن كتابه هذا وأعرض أبرز ما اشتمل عليه من فوائد ، ولم يتيسر بعدُ فعلُ ذلك ، ومثله كتبه (النبأ العظيم) و (مدخل إلى القرآن) وغيرها .
وقد قرأتُ عدداً من البحوث حول هذا الكتاب ، ومنها هذه المقالة التي نشرتُ في مجلة (إسلامية المعرفة) التي يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في العدد رقم 53 من المجلة بقلم رئيس التحرير ، وأرجو أن ينتفع به القارئ في معرفة ما شاتمل عليه ذلك الكتاب القيم الذي كان جزءاً من رسالة دكتوراه الدولة من جامعة السوربون الفرنسية عام 1367هـ .
[align=center]منهج محمد عبد الله دراز في التأصيل الإسلامي لعلم الأخلاق [/align]
مفهوم التأصيل:
التأصيلُ مصطلحٌ يدلُّ على مفهوم، لكنّ المفهومَ غير محدد تماماً؛ إذْ قد ينصرفُ إلى دلالات متعددة، وقد تكون متناقضةً. ولذلك يجدرُ بالباحث أن يُعرِّف بالمصطلحات التي يختارُ استعمالَها في بحثه بدلالةِ أهداف البحث وإجراءاته، ضمن ما أصبح يعرف في مقدمات البحوث بالتعريف الإجرائي لمصطلحات البحث.
ويبدو أنّ اختيارَ المصطلح يخضعُ لعدد من الاعتبارات، بعضُها فكريٌ بحتٌ، لكنَّ بعضَها لا يخلو من ايحاءاتٍ سياسية. وربما ينطبق ذلك على مصطلح التأصيل. ومع ذلك، فإننا إذا تجاوزنا الدلالات المحددة التي اختارتها بعض المؤسسات لبرامجها ومشاريعها الفكرية، عند استعمالها لمصطلح التأصيل أو المصطلحات القريبة منه، فإننا نجد دلالاتٍ عامةً تكاد تكون مقبولة بشكل عام.
فالتأصيل هو البناء على الأصل، والانطلاق منه، والارتباط به. والأصل هو القاعدة التي يتم البناء عليها، فمثلاً عند قولنا: "الأصل في الأشياء الإباحة"، يمثل هذا قاعدةً شرعية في بيان الأحكام، ويتم تطبيق القاعدة على الحالات والأمثلة والقضايا، حتى يتم الحكم عليها والخروج برأي فيها. فالتأصيل في هذا المجال، هو النظر في الأمور والقضايا المراد الحكم عليها، بردّها إلى القاعدة التي يلزم تطبيقُها، فلا تردُّ إلى قاعدةٍ غيرِها، ولا يُنْظَرُ إليها نظرةً مستقلة، وكأنَّها شيءٌ لا أصل له.
والأصل هو ما ليس بفرع، وتربط الفروع بالأصول حتى يتمَّ تكوينُ الرُّؤْيَةِ الكليّة التي يصعب تكوينُها من النظر إلى فرعٍ واحدٍ، أو عددٍ من الفروع المتفرقة والمفصولة عن أصلها.
وتأصيل الشيء أو الفكرة يكونُ بِرَدِّها إلى أصلها، أو إيجاد أصل لها ضمن النظام المعرفي المعتمد في موضوع البحث، فتأصيل الفكرة هو بحث استرجاعي Retrospective يحاول ربط الفكرة بتاريخها وماضيها، أو هو بحث تحليلي يحاول ربط الفكرة الفرعية بأصلها الكليّ، أو المثال بقاعدته.
وتتضمنُ عمليةُ التأصيلِ توليدَ الأفكارِ الجديدة من أصولها وقواعدها، عن طريق الاستدلال الاستنباطي Deductive inference. فالفكر المؤصَل هو الفكر الذي يتم التوصل إليه من استلهام الأصول أولاً، والاشتقاق من هذه الأصول ثانياً، وكل فكر لا يتصف بذلك فكر غير مؤصَّل.
وارتبط التأصيل في اللغة المستعملة بالأصالة، بمعنى الجِدَّةِ والإبداعِ؛ فالفكرةُ الأصيلة فكرةٌ جديدةٌ غيرُ مسبوقة. والبحثُ الأصيل هو البحث الجديد الذي يُعرَضُ للمَرَّةِ الأولى. ومع ذلك فقد ارتبط التأصيل في اللغة المستعملة بالماضي، فالأصيل هو ما له أصلٌ في الماضي، ومن ثم أصبحت الأصالةُ تقابلُ المعاصرة. وحين نشعر بالحاجة إلى تأكيد هذا العمق التاريخي في الانتماء والهوية، دون التقليل من أهمية الاستجابة لمتطلبات العصر ومستجدات الحداثة، نجمع المعاصرة إلى الأصالة في شعار إيجابي مشترك.
أما مصطلح التأصيل الإسلامي، فهو واحد من عدد من المصطلحات التي ترتبط ببعضها فيما يكوّن حقلاً دلالياً واحداً، فالتأصيل الإسلامي لعلم الأخلاق أو القيم، وإسلامية علم الأخلاق، وأسلمة علم الأخلاق، والتوجيه الإسلامي لعلم الأخلاق، وعلم الأخلاق في المنظور الإسلامي، كلها مصطلحات تنتمي إلى الحقل نفسه، ولكن اختيار أي منها قد لا يكون بالضرورة قراراً معرفياً منهجياً، بقدر ما يكون رغبة في استبعاد الدلالات والظلال، التي ربما توحي بها المصطلحات الأخرى.
ونكتفي في هذا المقام ببيان ما قد تشير إليه هذه المصطلحات، من خلال الإحالة إلى طبيعة البرامج التي حاولت ثلاث مؤسسات تطويرها، وعلاقة كل منها بالمصطلح الذي قررت اختياره؛ فالمعهد العالمي للفكر الإسلامي اختار مصطلح "إسلامية المعرفة"، وجامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض اختارت مصطلح "التأصيل الإسلامي للعلوم"، وجامعة الأزهر في القاهرة استعملت مصطلح "التوجيه الإسلامي للعلوم".
لقد انصرف مفهوم التأصيل الإسلامي لموضوع معين في كثير من: الأدبيات، والممارسات، وبعض المشروعات، إلى معانٍ ودلالات يمكن أن نميز منها:
- إضافة ما يُظن أنّه أصل إسلامي للمعرفة المعاصرة في ذلك الموضوع، وذلك بربط هذا الموضوع بما قد يتوافر من نصوص القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف، أو شيء من تراث المسلمين الماضي. ومثال ذلك تأليف كتاب في علم النفس، فيه نقل وترجمة لما في أي كتاب في علم النفس، يعرض نظريات المدارس النفسية مثل: التحليل النفسي، أو السلوكية، أو الإنسانية...، ثم يضاف إلى الكتاب فصل يحتوى على بعض الآيات والأحاديث، التي يظن المؤلف أنها تتعلق بعلم النفس المعاصر، وربما يحتوي الفصل على مقتطفات من كلام أبي حامد الغزالي، أو ابن سينا، أو غيرهما عن النفس، ثم يُعطى للكتاب عنوان: علم النفس الإسلامي!
- ومنها محاولة إنشاء معرفة جديدة في الموضوع، انطلاقاً من الأصول الإسلامية في القرآن الكريم، أو السُّنَّة النبويّة، أو التراث الإسلامي، "فما ترك السابق للاحق شيئاً" يبحثه، مع الزعم بإقامة قطيعة معرفية مع أية مصادر أخرى. وبخاصة المصادر الغربية الحديثة. ومثال ذلك تأليف كتاب عن النظام السياسي في الإسلام، يعيد المؤلف فيه صياغة محتوى كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وأمثاله من الكتب، دون أن يتحدث عن تراكم الممارسات والتجارب المتنوعة في أنظمة الحكم، وعلاقتها بالمبادئ السياسية الإسلامية.
- وثمة معنى ثالثٌ، يرى قيام التأصيل على ثلاثة متطلبات أساسية لا يغني أحدها الآخرين. المتطلب الأول: هو التَّمكُّن من المرجعية الإسلامية، والمواد الإسلامية ذات العلاقة بالموضوع المراد تأصيله، سواءً أكانت نصوصاً من القرآن الكريم، أم السُّنَّة النبوية، أو نصوصاً مختارة من تراث العلماء المسلمين، والمتطلب الثاني: هو التَّمكُّن من الأدبيات ذات العلاقة بالموضوع في الفكر الإنساني المعاصر، والمتطلب الثالث: هو القدرة على الجمع بين نتائج الفهم والاستيعاب لحصيلة كل من المتطلبين السابقين، ومن ثم القيام بقفزة إبداعية تُنتج معرفةً تتّصف بالإسلامية أو التأصيل الإسلامي.
إن تقدير الجهود التي تقوم بها بعض المؤسسات التي تدعو إلى التأصيل، واحترام خيارات هذه المؤسسات، لا تمعنا من الإشارة إلى أن ثمة تطرفاً في بعض أدبيات التأصيل، التي تقول بأن المعرفة الإسلامية الأصيلة لن تكون إلاّ نتيجة مباشرة من النظر في النصوص، ومعرفة دلالاتها كما وردت في تراث المسلمين السابقين، مع قطيعة معرفية بالواقع البشري المعاصر، ومعطياته المعرفية. ونرى أن إمكانية هذا اللون من التأصيل، ليست إلاً وَهْمَاً كبيراً! لكن من العدل أن نشير أيضاً إلى تطرفٍ في الاتجاه الآخر، وهو القول بأن جهود التأصيل ليست أكثر من تعبير عن سياسة الهروب من الواقع، وأن تحليل الفكر الأصولي يكشف عن استحالة التأصيل، ومن ثمَّ فلا سبيل أمام الشعوب المسلمة لتحقيق تقدمها، إلا بالتماهي والاندماج في تيارات الحداثة وما بعد الحداثة، كما حدثت وتحدث في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وهذا القول الثاني هو أيضاً وَهْمٌ، وهو وَهْمٌ أكبر من الأول!
والبحث عن الوصف الحق بين هذين اللونين من التطرف في فهم موضوع التأصيل، قد لا ينفع فيه القياس الكمي لتحديد النقطة الوسط، الذي هو الفضيلة بين رذيلتين، بل الأكثر نفعاً في سبيل تحديد دلالة التأصيل الذي نراه، هو الانطلاق من مرجعية يسهل الاتفاق عليها، والجمع بين ما يمكن أن يكون حقاً وخيراً وفضيلة في أي طرف، واستبعاد عناصر الفساد والشَّر منه، وبناء معادلة معرفية موزونة تبقى مفتوحة لإعادة التوازن إليها،كلما ازددنا علماً يستوجب التعديل والتصحيح.
المعادلة المعرفية في التأصيل الإسلامي:
إنَّ أيَّ معرفةٍ بشرية يُمْكِنُ للمسلم أن يتبنَّاها سوف تأتي من مصدريْن، هما: الوحي والكون، وعن طريق استخدام أداتَيْن، هما: العقل والحِسّ. والوحي هو القرآن الكريم، وهو المصدر المنشئ، والسُّنَّة الصحيحة هي البيان النَّبوي الملزم. أما الكون فيمكن أن نميز فيه ثلاثة عناصر: الكون المادي (أشياء الطبيعة وأحداثها وظواهرها)، والكون الاجتماعي (المجتمع البشري بشعوبه وقبائله وما تتمايز به من دول وأديان ولغات وقيم، وما أنجزته من علوم وتقنيات وثقافات وحضارات)، والكون النفسي (الشخصية الإنسانية بما تنطوي عليه: جسم وعقل وروح، وما تمتلكه من معارف ومهارات وانفعالات...)
وأداتا المعرفة هما: الحِسّ مِن: سمع، وبصر، وغيرهما، والعقل بدلالاته المتنوعة مِن: ملكات الإدراك، والفهم في الدماغ، والقلب، واللب، والفؤاد.
ومن ثَمَّ فإنّ معرفة المسلم حول موضوع معين، تأتي عن طريق الجمع بين القراءتين (أو القراءة في المصدرين: الوحي والكون)، ونتيجة للجمع بين وظيفة كل من الأداتين (الحس والعقل). ويتعاون مصدرا المعرفة، كما تتعاون أداتا المعرفة، في تزويد المسلم بالمعرفة. لكن معرفة المسلم سوف تبقى على أية حال معرفةً بشريةً، تنسب إلى الإنسان، وهو يتصف بها. وهي أمر مختلف عن عِلْم الله سبحانه، وعِلْم الملائكة، وعِلْم الكائنات الأخرى. فعلمُ الله مطلقٌ، وعلمُ الإنسانِ نسبيٌ يزيد وينقص، ويصح ويخطئ. وعندما يُعطِي اللهُ الإنسانَ شيئاً من علمِهِ، "يُعَلِّمُكُم مَا لَمْ تَكونُوا تَعْلَمُون،" فإنّ ما يكتسبه الإنسانُ من هذا العلمِ يصبحُ جزءاً من العلم البشري، ويبقى محدوداً بدلالاته ومعانية بحدود الإدراك البشري.
ويكون التأصيل الإسلامي على هذا الأساس، لموضوع من الموضوعات المعاصرة، هو البحث عما يمكن أن يتعلق بهذا الموضوع في القرآن الكريم المصدرِ المنشئ، وفي السُّنَّة النَّبوية المصدرِ المبين، والاطلاع على ما أنشأه علماء المسلمين من علم ومعرفة حول الموضوع، والاطلاع على المراجع المناسبة للمعرفة المعاصرة حول الموضوع. وسوف تكون هذه المصادر مدخلات تتحاور في عقل المسلم، فقد توجه نصوصُ القرآن والسُّنَّة نظرَ المسلم إلى التأمل في الموضوع لفهم بعض جوانبه، وقد تفيد المعرفةُ المعاصرة عقلَ المسلم المعاصر، في تأمّل دلالات هذه النصوص، واكتشاف بعض المعاني التي لم تَرِد في كتابات العلماء المسلمين من قبلُ،"فكم ترك السابق للاحق." وربما تصحِّحُ بعضَ ما كانوا قد وصلوا إليه؛ إذْ ليس كلُّ ما ورد في كتابات السابقين من البشر صحيحاً. وسوف يتمكن الباحث المسلم من رفض بعض معطيات المعرفة المعاصرة، والحكم على بطلانها؛ لأنها تتناقض مع القيم العليا والمقاصد العامة التي جاء من أجلها الإسلام، في حدود الفهم البشري لها في عصر معين أو جيل معين. وقد يقود هذا التناقض إلى مزيدٍ من البحث، لا يلبثُ أن يكشفَ عن جوانب التناقض الداخلي في بنية المعرفة نفسِها. وربما يتمكن الباحث المسلم من قبول بعض هذه المعطيات؛ لأنها نتيجة من نتائج الاستجابة المُلِحة لدعوة القرآن الكريم للإنسان، للسير، والنظر، والبحث، والتَّدَبُّر. وقد تكون بعض معطيات المعرفة بحاجة إلى شيء من التحديد أو التكييف أو التعديل. وكل هذه الاحتمالات ممكنة؛ إذ تحدث كل يوم، وهي ظاهرة طبيعية في تقدم العلم ونمو المعرفة، وفي كل يوم يكتشف الإنسان من المعرفة ما ينقض شيئاً مما كان لديه من الحقائق القارَّة لعقود أو قرون.
هذه المنهجية في التأصيل التي تعتمد الوحي مصدراً هادياً، سوف توجّه الإنسان المسلم إلى اختيار أولويات البحث بحكمة ورشد، وإلى ممارسة أخلاقيات البحث ضمن القيم العليا، والمقاصد العامة للدين، وإلى توظيف نتائج البحث في بناء الأمة، وتطور المجتمع، وترشيد الحضارة الإنسانية. وعندها يمكن لحركة العلم والتقانة، أن تسلم من التجاوزات التي رافقت حركة التقدم في التاريخ البشري، والتي جعلت من القرن العشرين -وهو قرن التقدم العلمي المذهل- أكثر قرون الزمن الإنساني دماراً، ودماءً، ومعاناةً بشرية.
هذه المنهجية في التأصيل إذن، هي نظر وبحث في كتاب الوحي، وفي كتاب الكون، وفي تراث السابقين واللاحقين من مسلمين وغير مسلمين، وحين تتدرج هذه المعارف التي يكتسبها الإنسان من هذه المصادر في تكاملها وتقاطع دلالاتها، فإنها تتحاور في قلب المسلم وعقله، وتترقَّى به، ويترقَّى بها، في مستويات الاستيعاب، ثم التجاوز، للوصول إلى الأصيل الجديد.
مفهوم التأصيل عند "دراز":
حين نختار مصطلح التأصيل الإسلامي، في الحديث عن كتاب محمد عبد الله دراز "دستور الأخلاق في القرآن" وليس مصطلحاً آخر، فذلك لأن المؤلف كان يبحث عن جوانب "الأصالة" في طريقة عرض القرآن الكريم للتعليم الأخلاقي، وقد تحدث عن ثلاثة جوانب من هذه الأصالة، تُنْبئُنا عن دلالة مصطلح الأصالة لدى "دراز". الجانب الأول من هذه الأصالة: أن القرآن قد تميز عن الكتب والرسالات السابقة "بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقاً في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسسين والمصلحين، الذين تباعد بعضهم عن بعض، زماناً ومكاناً، وربما لم يترك بعضهم أثراً من بعده يحفظ تعاليمه."
والجانب الثاني من أصالة القرآن الكريم فيما يتعلق بالتعليم الأخلاقي، ماثل في: "طريقته التي سلكها لتقديم تلك الدروس المختلفة عن الماضين وتقريبها، بحيث يصوغ تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام، ويسوقها على اختلافها في إطار من الاتفاق التام، وذلك لأنه نزع عن الشرائع السابقة كل ما كان في ظاهر الأمر إفراطاً أو تفريطاً، وبعد أن حقق وضع التعادل في ميزانها... دفعها في اتجاه واحد، ثم نفخ فيها من روح واحدة، بحيث صار حقاً أن ينسب إليه بخاصة مجموع هذه الأخلاق."
أما الجانب الثالث فكتب عنه: "وأعجب من ذلك وأعظم أصالة جانبه الخلاق، فليس يكفي -في الواقع لكي نصف أخلاق القرآن-أن نقول: إنها حفظت تراث الأسلاف ودعمته، وإنها وفقت بين الآراء المختلفة التي فرقت أخلاقهم، بل ينبغي أن نضيف: أن الأخلاق القرآنية قد رفعت ذلكم البناء المقدس، وجمّلته، حين ضمت إليه فصولاً كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي."
فالأصالة عند دراز إذن تبدأ بالجمع والاستيعاب، ثم تعبر إلى التصحيح والتصويب، وتصل إلى الإبداع والجدة ونهاية خط التقدم. ويبدو أن هذا الفهم عند "دراز" قد تطور نتيجة الدراسة التي انتهت إلى هذا الكتاب، ولم تكن واضحة لديه عند البدء بالدراسة. ولعل عرضاً لموضوع الكتاب ومنهجه يوضح ذلك.
"دستور الأخلاق في القرآن" هو "دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن الكريم." وهو في الأصل أطروحة دكتوراه من جامعة السوربون، قدمها الشيخ دراز بالفرنسية، وناقشها في الخامس عشر من ديسمبر عام 1947م، ونشرها الأزهر بلغتها الأصلية عام 1950م، ثم ترجمها وحققها الدكتور عبد الصبور شاهين، ونشرت طبعتها الأولى بالعربية عام 1973م.
ومع أن المؤلف قد التحق بجامعة السوربون بعد حصوله على الإجازة من الأزهر، فإنه في دراسته في فرنسا فضّل أن يبدأ الدراسة من بدايتها، فدرس العلوم الفلسفية والاجتماعية والنفسية في مستوى "الليسانس"، ثم واصل دراسته حتى الدكتوراه، ولذلك فإن أطروحته ليست دراسة في القرآن فحسب، وإنما هي دراسة مقارنة مع النظريات الغربية ذات العلاقة بالموضوعات التي يأتي عليها، وهي مقارنة تكشف عن عمق استيعابه، وتمكنه في العلوم الغربية وعلوم القرآن على حد سواء.
والهدف العام من دارسة دراز، هو الكشف عن الطابع العام للأخلاق النظرية والعملية في القرآن الكريم. وقد رأى المؤلف أن ينهج في دراسة الجانب الأخلاقي في القرآن الكريم منهجاً مختلفاً عن مناهج العلماء السابقين في التراث الإسلامي، فقد لاحظ أن التعاليم الأخلاقية في هذا التراث على نوعين: تمثل النوع الأول في النصائح العلمية، التي تهتم بالقيمة العليا للفضيلة، مثل رسالة ابن حزم "مداواة النفوس." أما النوع الثاني فتمثل في جهود بعض العلماء في وصف طبيعة النفس وملكاتها، وتحديد مراتب الفضيلة، بطريقة تتبع في الغالب نموذج أفلاطون أو نموذج أرسطو، مثل كتاب ابن مسكوية "تهذيب الأخلاق." كما لاحظ أن بعض العلماء من جمع بين المنهجين، كما في كتاب "الذريعة" للأصفهاني، وكتاب "إحياء علوم الدين للغزالي."
وبدلاً عن هذين الطريقين في تناول الموضوع، لجأ دراز إلى دراسة الأخلاق وفق المفاهيم السائدة لدى العلماء المتخصصين المحدثين، مع إعمال المرجعية القرآنية المباشرة. وموضوع الدراسة في السياقات المعاصرة، وفي سياق دارسة "دراز"، هو موضوع فلسفي، والفلسفة أفكار مترابطة نابعة من العقل، يتم بناؤها وفق منهج متسلسل، والهدف هو بناء نسق من المبادئ العامة التي تفسر ظاهرة من الظواهر النفسية، أو الاجتماعية، أو الطبيعية. ولا يستطيع الباحث أن يجد في القرآن الكريم نسقاً فلسفياً مدرسياً من هذا النوع؛ إذ إن للقرآن الكريم منهجه الفريد في تقديم الهداية وتيسيرها، بالاعتماد على الفطرة البشرية واستعداداتها، وإثارة الدافع النفسي الداخلي في بناء التطور الاعتقادي، والإيمان بالحقيقة الأخلاقية التي تفرض نفسها على الإنسان، بعيداً عن الأهواء والرغبات.
وقد جاء كتاب دراز في قسمين:
تناول القسم الأول النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الكريم، وعالجها في خمسة فصول: الإلزام، والمسؤولية، والجزاء، والنية، والدوافع، والجهد البشري.
أما القسم الثاني فقد تناول فيه الأخلاق العملية وعالجها في خمسة فصول على أساس تصنيف فئات الأخلاق: إلى الأخلاق الفردية، والأخلاق الأسرية، والأخلاق الاجتماعية، وأخلاق الدولة، والأخلاق الدينية.
لقد كان أساس البحث في الكتاب هو النظرية الأخلاقية، وحدد المؤلف عناصر خمسة هي: موضوعات الفصول الخمسة من القسم الأول المشار إليها، بوصفها "الأجزاء التكوينية ...والعُمُد الرئيسية لكل نظرية أخلاقية." وقد تبين للباحث أن الأخلاق القرآنية شملت جميع وجوه النشاط الإنساني. وقد فرّق المؤلف بين جانبِ الامتداد في شمول الأخلاق للنشاط الإنساني، فيما يظهر من سلوكه الخارجي في الميدان الحيوي والاجتماعي، وهو المجال الأوسع والأرحب، وجانبِ العمق في شمول هذه الأخلاق لحياة الإنسان الباطنية؛ إذ يبتغي حب الله، ويستوحي أمره ورضاه في كل موقف.
في المنهج القرآني يتحرك الضمير البشري في تعامله مع قضايا الإلزام الأخلاقي بدوافع المسؤولية التي تجمع بين المثال والواقع، وبين متطلبات الوجود المادي للإنسان ووجوده الروحي، وبين طموحاته الفردية ومصالح مجتمعه. والإنسان في النهاية يقوم بالفعل ويمارس السلوك؛ طلباً لصور من الجزاء الذي يتحقق بعضها مباشرة، عندما يرى أثر السلوك الخيّر ونتيجته، سمواً في المشاعر، ورضاً في الضمير، ويطمع أن يتحقق بعضها الآخر ثواباً وأجراً عند الله. وفي كل الأحوال، فإن الحاكم على طبيعة الجزاء على الفعل الأخلاقي، هو الباعث الداخلي على الفعل، وهو "النية الصالحة."
وهكذا تقوم القيم الخلقية على قاعدة من خصائص الفطرة البشرية، والباعث النفسي الداخلي؛ فالخالق سبحانه ألهم النفس فجورها وتقواها، حتى تتمكن من التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، والنافع والضار. والخالق سبحانه مكّن الإنسان من حرية اختيار السلوك على أساس تلك المعرفة التمييزية. وتنبعث في نفس الإنسان مشاعر متفاوتة نتيجة ذلك السلوك، ألا ترى أن النفس ترتاح وتأنس لسلوك الخير، وتضطرب وتأسى وتتكدر لسلوك الشر!
لكننا نعرف جيداً أن سلوك الإنسان لا يخضع في جميع الأحوال لقانون الأخلاق الفطري؛ إذ تتلوث الفطرة وتضعف النوازع الداخلية، نتيجة المؤثرات في البيئة الاجتماعية والتربوية، فتؤدي الأهواء إلى سوء تقدير المصالح، وتندفع إلى سلوك يتناقض مع متطلبات الفطرة السليمة الخيرة، وما تتطلبه من التزام بالقيم الخلقية السليمة.
وقد نهج المؤلف في معالجته للموضوع منهجاً يلائم السياق العلمي الذي جاء بحثه فيه، فهو يقدم بحثاً إلى جامعة السوربون في باريس، ويوجه خطابه إلى مجموعة من الأساتذة الفرنسيين، ومنهم كبار المستشرقين في تلك الفترة الزمنية مثل: ماسنيون، ولوسن، وفالون، وفوكونيه. ولذلك تجده ينطلق في بحثه من الإطار النظري الشائع في الدراسات الغربية المعاصرة، ويناقش آراء العلماء الغربيين ونظرياتهم، محللاً المنطق الذي تستند إليه هذه النظريات، وما يصاحبها من جوانب الصواب والحكمة، أو جوانب القصور والخلل. ثم يقدم رؤيته للنظرية الأخلاقية الإسلامية، لافتاً الانتباه إلى ما تتصف به من حكمة وكمال. وهو منهج في تأصيل قضايا البحث تأصيلاً إسلامياً، ربما لا نجده عند الباحثين المسلمين الذين يجرون بحوثهم في سياقات أخرى، ويستهدفون في خطابهم جمهوراً مختلفاً. ونتوقع أن ينهج منهجَ دراز الباحثون المسلمون الذين يجدون أنفسهم في السياق نفسه، حين يجرون بحوثهم في الجامعات الغربية.
ولعل ذلك أن يكون موضوعاً بحثياً مستقلاً، يدرس عينة من الباحثين الذين درسوا في الجامعات الغربية، وتناولوا قضايا اجتماعية أو نفسية أو فلسفية أو تربوية، ويكون الهدف من البحث الكشف عن المناهج التي استخدمها الباحثون في معالجة هذه القضايا، ومناهج التأصيل التي ربما نهجوها.
في مطلع الكتاب يؤكد المؤلف أن ثمة غرضاً محدداً من تأليف كتابه، وأن الكتاب سوف يأتي بجديد، يضيف إلى المكتبة الأوروبية والمكتبة الإسلامية على حد سواء؛ "فإذا لم يأت عملنا هذا بشئ جديد في عالم الشرق أو الغرب، فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقال."
سوف يأتي الكتاب بجديد في المكتبة الأوروبية؛ لأن المؤلفات الغربية في علم الأخلاق تشهد "فراغاً هائلاً وعميقاً، نشأ عن صمتهم المطلق عن علم الأخلاق القرآني..." وهذا لا يعنى بالضرورة عدم وعي المؤلف بوجود كتابات أوروبية عن الأخلاق في الإسلام، فهو ينوه ببعض الكتابات الأوروبية التي عالجت مسائل تتعلق بالإسلام، وبما تضمنته من محاولات محدودة لترجمة بعض الآيات القرآنية ذات العلاقة بالعبادة أو بالسلوك، لكن هذه الكتابات اعترتها عيوب كثيرة في الترجمة أو في النتائج، ولذلك فإن المؤلف يريد أن يتناول الموضوع ويعالجه "من أجل تصحيح هذه الأخطاء، وملء هذه الفجوة في المكتبة الأوروبية، وحتى نُرِيَ علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا."
على أن المؤلف لا يستبعد حاجة المكتبة الإسلامية لمثل هذا العمل أيضاً، حين يشير إلى أن هذه المكتبة لم تعرف في موضوع الأخلاق إلا مادة من النصائح العملية، أو وصفاً لطبيعة النفس وملكاتها، حسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وبذلك تبقى المكتبة الإسلامية بحاجة إلى دراسة النص القرآني بصورته الكاملة للوصول إلى النظرية الأخلاقية في القرآن.
وفي الحالتين، لا يصل المؤلف إلى هذه النتيجة، حول حاجة كل من المكتبتين: الأوروبية والإسلامية إلى عمل كامل في النظرية الأخلاقية القرآنية، إلا بعد أن يذكّر بالكتابات المتوافرة، ويوثق ما يراه من أهم مراجعها، مما يشهد للمؤلف بالاطلاع والتمكن من التراثين: الإسلامي والأوروبي -في مسألة الأخلاق- على حد سواء.
وقد تضمن وصف المؤلف لمنهجه في العمل، اعترافه بأن تصوره للمنهج في البداية كان يقتصر على "عرض القانون الأخلاقي المستمد من القرآن وربما من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المبيِّن الأول، الثقة." لكنه عدّل في هذا المنهج بناء على اقتراح أستاذه "لويس ماسنيون"، الذي رغب في أن تتضمن الدراسة تناولَ بعض نظريات المدارس الإسلامية المشهورة. ثم جاء اقتراح ثانٍ من أستاذ آخر هو "رينيه لوسن" بأن يجري مقارنة للنظرية الأخلاقية المستمدة من القرآن ببعض النظريات الغربية، وقد رأى المؤلف أن ما طلباه كان "مقترحات موفقة"، وأن عمله بهذه المواصفات أصبح "أرحب مدى وأعظم توفيقاً،" وأن هذا المنهج يمثل تقارباً بين الثقافات، يأمل أن "يعقبه فهم أرحب مجالاً، ونزوع إلى الإنسانية أكثر امتداداً، حيث تتجمع القلوب، من هنا وهناك، وتتشابك الأيدي لخير بنى الإنسان."
لقد كان موضوع البحث عند "دراز"، هو ما سمّاه "منظومة الأخلاق في القرآن الكريم." ومع أن الموضوع معروف ومطروق، وهو موضوع قرآني بامتياز، وقد كتب فيه كثير من علماء المسلمين من: الفقهاء، والمتصوفة، والفلاسفة، والمتكلمين...فإن مصطلحات مثل "منظومة الأخلاق"، أو "النظام الأخلاقي"، أو "قانون الأخلاق"، أو "دستور الأخلاق"، أو "النظرية الأخلاقية"، هي مصطلحات جديدة. فلا بد من تعرّف أصول هذه المصطلحات وتطورها في الفكر المعاصر، مع ملاحظة أن مرجعية الفكر المعاصر مرجعية غربية إلى حد كبير. وبذلك أصبح منهج المؤلف في البحث منهجاً مقارناً، فهو يبحث عن "دستور الأخلاق في القرآن الكريم" بمرجعية قرآنية صرفة، وهو يبحث في تراث علماء الأمة الإسلامية، لعل أحداً منهم قد كشف عن هذا الدستور من قبل، وهو ينظر في أدبيات الأخلاق عند الغربيين السابقين والمعاصرين، ويجتهد في تحديد موقعها من "دستور الأخلاق في القرآن الكر يم."
على أن من أهم ما يعنينا في نتائج البحث، هو الكشف عن منهج القرآن الكريم في تأصيل موضوع القيم والأخلاق. وهل ثمة منهج أفضل من منهج القرآن هادياً إلى المنهج الذي نبحث عنه، أو نسعى إلى تطويره، ليسعفنا في إحسان التعامل مع الفكر المعاصر، وقضايانا المعاصرة؟!
لقد أشرنا في بدء الحديث عن كتاب دراز إلى الجوانب الثلاثة لما سمّاه دراز "أصالة" القرآن في الحديث عن الأخلاق، ولعلنا نختم الحديث بتحديد ما نراه عناصر أساسية في منهج رسالة القرآن في بناء المنظومة الأخلاقية، وذلك على الوجه الآتي:
1. استرجاع التراث الأخلاقي للرسالات الإلهية السابقة، والإشادة بها، وربطها ضمن حلقة متصلة من العناية الإلهية بأجيال البشرية.
2. تصحيح ما علق بهذا التراث من أخطاء بسبب طول الأمد، والنسيان، والانحرافات، والتحريفات، حتى تبدو منظومة تتصف بالانسجام والتماسك.
3. توضيح جوانب التنوع في حدود التشريعات الأخلاقية، على اختلاف الزمان، والمكان، والأقوام، وطبيعة الاختلالات التي كان تسود السلوك البشري.
4. إعادة بناء المنظومة الأخلاقية في صورة جديدة، تجمع بين الثبات والاستقرار لمتطلبات الحياة الأخلاقية من جهة، والمرونة التي تسع مستويات الجهد البشري ودرجاته المتصاعدة من جهة أخرى.
5. مخاطبة الكينونة البشرية بالتشريعات الأخلاقية، بطريقة تربطها بالفطرة السليمة والعقل الرشيد. فالتكاليف الأخلاقية كلها من المعروف بالفطرة، ومن المقبول بالعقل.
قليلة هي البحوث المنهجية المتميزة، التي يمكن أن تضيء الطريق أمام الباحثين وتوفر لهم نماذج من الإبداع، وتجعل أمر الإبداع ممكناً. وقليلة هي البحوث التي سلكت منهجاً في التأصيل الإسلامي، الذي يستند إلى مرجعية قرآنية. ونحن نرى أن كتاب "دستور الأخلاق في القرآن" للشيخ محمد عبد دراز واحدٌ من هذا القليل، ونلاحظ كذلك أن هذا الكتاب لم ينل حظاً من العناية به، يتناسب مع مستوى أهميته. ولعل في هذا التذكير بعض الوفاء للكتاب وللمؤلف، بعد مرور نصف قرن على وفاته.