(منهج القرءان الكريم في معالجة الغلو) د.أحمد القاضي

إنضم
24/07/2011
المشاركات
1
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
منهج القرءان الكريم في معالجة الغلو


بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل:( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي وصف القرءان أجمل وصف، فقال :( كتاب الله،تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى بغيره أضله الله. هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم. وهو الصراط المستقيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يَخلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً. من علم علمه سبق،ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم) رواه الترمذي.
أما بعـد :
فإن دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، وسط بين طرفين، وعدل بين عِوَجين، وهدى بين ضلالتين؛ بين إفراطٍ وتفريط، وغلوٍ وتساهل. وقد حفظ الله لهذه الأمة خاصية(الوسطية) في كتابه الكريم، والتزمها أهل السنة والجماعة، فهماً وتطبيقاً، على مر القرون. فكلما دفت دافة، أو نزلت نازلة، فزعوا إلى الأصل العظيم، ووردوا المورد الكريم، فصدروا بشفاء الصدور، واتضاح الأمور.(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
وقد ظهر(الغلو) فيمن كان قبلنا من الأمم، وظهر في هذه الأمة أيضاً، مصداقاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم :(لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه.قلنا: يا رسول الله!اليهود والنصارى؟قال: فمن؟)متفق عليه
وقد أودع الله تعالى كتابه الكريم الشفاء من كل داء، والنور والضياء لكل ظلماء، والمخرج من كل فتنة عمياء. ومن ذلك داء(الغلو) وظلمائه، وفتنته. وسنسعى من خلال هذا البحث إلى استنباط المنهج القرءاني، خاصة، في مواجهة الغلو، وإلا، فإن في السنة النبوية، شواهد كثيرة، وتطبيقات عملية، لكبح جماح هذا الانحراف الذي يطلع قرناً بعد قرن، على الأمة الإسلامية.

حقيقة الغلو :
أ – الغلو لغةً :
قال الجوهري :( غلا في الأمر، يغلو غُلُوَّا، أي : جاوز فيه الحد).
وقال ابن منظور :( وأصل الغلاء : الارتفاع، ومجاوزة القدر في كل شيء).
وكذا قال ابن فارس:( الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح في الأمر، يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر. يقال: غلا السعر يغلو غلاءً، وذلك ارتفاعه. وغلا الرجل في الأمر غلواً، إذا جاوز حده. وغلا بسهمه غلْواً، إذا رمى به سهماً أقصى غايته)
ب – الغلو شرعاً :
قال ابن الأثير :( الغلو في الدين : أي التشدد فيه، ومجاوزة الحد... وقيل معناه : البحث عن بواطن الأشياء، والكشف عن عللها، وغوامض متعبداتها)، وقال ابن حجر:
(الغلو:هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، وفيه معنى التعمق)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :( الغلو : مجاوزة الحد ن بأن يزاد في الشيء، في حمده، أو ذمه على ما يستحق) ومن شواهد ذلك :
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :( يا أيها الناس : إياكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)رواه أحمد والحاكم، وحديث :( لا تغالوا في الكفن، فإنه يُسلبه سلباً سريعاً) رواه أبو داود، ومنه قول عمر، رضي الله عنه :(ألا لا تغالوا بصُدُق النساء) رواه أبو داود.
وبهذا يتبين اتفاق المعنيين، اللغوي، والاصطلاحي، على تعريف الغلو، وأنه بمعنى تجاوز الحد، والزيادة المذمومة في كل شيء، ولو بالتعمق والتكلف. وهو بهذا الاعتبار ضرب من البدعة، لخروجه عن رسم الشرع من جهة الزيادة والمبالغة، ولا يشفع له كونه صادراً عن اجتهاد وحسن نية، فإن اقتصاداً في اتباع، خير من اجتهاد في ابتداع.
ويقارب مفهوم( الغلو) ويشاركه من بعض الوجوه، مفردات ذات مدلولات شرعية، أو مدلولات اصطلاحية، من جنس :( التنطع) و( التشدد) و(الإفراط) و( الطغيان) و(العتو) و( التطرف)، يجمعها معنى المبالغة، وتجاوز الحد الأوسط.

منهج القرءان الكريم في معالجة الغلو :
تنوعت طرائق القرءان الكريم في إدانة ظاهرة الغلو، والتحذير منه. ولا ريب أن هذا التنوع يفضي إلى تتبع جذور هذا الانحراف، واستئصالها، ويلقي في روع المؤمن حساً إيمانياً واعياً بالنفرة من هذا المسلك الوبيء. ومن هذه الطرق :

أولاً : النهي المباشر عن الغلو :
قال تعالى :( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً). قال الطبري، رحمه الله :
( يعني جل ثناؤه بقوله: " يا أهل الكتاب" : يا أهل الإنجيل من النصارى. "لا تغلوا في دينكم" يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق؛ فإن قولكم في عيسى إنه بن الله، قول منكم على الله غير الحق، لأن الله لم يتخذ ولداً، فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابناً، ثم ساق بسنده عن الربيع، قال : صاروا فريقين : فريق غلوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه، والرغبة عنه، وفريق منهم قصروا عنه، ففسقوا عن أمر ربهم)
وقال تعالى :( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)[17].
قال ابن كثير، رحمه الله :( أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه، فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء، فجعلتموه إلهاً من دون الله ! وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم؛ شيوخ الضلال، الذين هم سلفكم ممن ضل قديما، "وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل": أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال، إلى طريق الغواية والضلال)
وهذا اللون من الغلو الاعتقادي، هو أخطر أنواع الغلو، وأشدها أثرا. وقد وقع فيه اليهود والنصارى، فكان لا بد من النص المباشر في التحذير منه، ووصمه بما يستحق من وصمة( الغلو)، حتى لا يلتبس الأمر على هذه الأمة. وحقق ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا : عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
ورغم هذا التحذير القرءاني والنبوي الصريح، فقد استزل الشيطان بعض هذه الأمة، فوقعوا في دعاء غير الله، من الأولياء، والمقبورين، وغالوا في المدائح النبوية، ووصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بما لا ينبغي إلا لله، حتى قال أحدهم :

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ بـه *** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن يوم معادي آخذاً بيدي *** عفواً، وإلا فقل يا زلـة القدم
فإن من جــودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم


كما وجد في تاريخ المسلمين من يؤله علياً، رضي الله عنه، ويؤله بعض ذريته، من قبل بعض الفرق الباطنية، وإن كان قليلاً، ولكنها السنن.

ثانياً : ذم الغلو، وبيان سوء عاقبة الغلاة :
لعل أول من نعلمه من الغلاة، إبليس ! كيف لا ؟، وآفته الكبر، والكبر نوع من مجاوزة الحد، قال تعالى :(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ)، فاستحق بذلك أعظم مذمة في التاريخ، كما قال تعالى :(قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)
وكان من الغلاة الذين تجاوزوا حدهم وقدرهم، فرعون، حين قال لموسى :(وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) ثم قال :(لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ)، وقال لعموم قومه:( أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى)، وقال متظاهراً بالاجتهاد والتحري :(يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ) ثم استخفه الأشر والبطر، بفعل الغلواء :( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ. فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)، فماذا كانت النتيجة ؟
قال تعالى :( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ) وقال :( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى).
وممن غلا، فاستحق المذمة والعقوبة، اليهود والنصارى، قال تعالى :(وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وكما أن الغلو في الاعتقاد مذموم، فكذلك الغلو في العبادة، قال تعالى :( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ، إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون)
هذا، وإن في التاريخ، والواقع، لعبرة لأولي الألباب، فلا يكاد يعرف طائفة دب فيها الغلو، بجميع صوره، إلا وكان أمرهم في سفال، وعاد عليهم بالوبال :
فالخوارج الأولون لم يظفروا بمطلوب، ولم يسلموا من سوء العاقبة، فهم شر قتلى تحت أديم السماء، فوق ما توعدهم به النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب الأخروي، فهم كلاب النار، والعياذ بالله.
وغلاة الصوفية والباطنية، باتوا سُبةً لأهل الإسلام، ينعون عليهم مذاهبهم، ويتبرؤون من طريقتهم.
ومتعصبة المذاهب الفقهية، الذين يقول قائلهم :( كل نص خالف ما قاله الأصحاب، فهو إما منسوخ أو مؤول)! عادوا بالملامة والتقريع.
بل إن المذاهب الأرضية الغالية، كالشيوعية، أبت سنة الله في خلقه أن تدوم، فإذا بها تنهار، ولما تُتم قرناً من الزمان، مع أنها كانت محاطةً بالحديد والنار، في حين أن الأنظمة الأرضية الأخرى، التي لم تسلك مسلك الغلو، أتيح لها أن تعمر أكثر منها.

ثالثاً : الثناء على أهل التواضع والإنصاف :
إن نزعة( الغلو) نابعة عن أخلاط من الأخلاق الذميمة، كالكبر، والعنف، والعجلة، والغضب. وهذه سمات مشتركة بين الغلاة على مر العصور. وبإزاء ذلك، فإن أهل الاستقامة والعدل والتوسط، يتميزون بجملة من الأخلاق النوعية الكريمة؛ من جنس : التواضع، والرفق، والأناة، والحلم. ومن ثمَّ، فإن من أقوى أسباب علاج الغلو، الثناء على أصحاب النفوس السوية من المتواضعين للحق، القابلين له، المذعنين للدليل، الفرحين به. وقد حفل القرءان الكريم بصور مشرقة من هذه النماذج الإنسانية المتحررة من ربقة التعصب، واسر الغلو. ومن شواهد ذلك قوله تعالى :
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).
ومثلهم من مؤمني أهل الكتاب من أثنى الله عليهم بقوله :
( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)
إن إشاعة روح التجرد للحق، ونشدان الصواب، والانعتاق من قيود العادة، والإلف، وسنن الآباء والأجداد، والتعصب الأعمى، وأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها، سيتحقق تلقائياً من خلال تمجيد هذه النماذج البشرية الراقية، وإبراز قيمها، لتكون مثالاً يحتذى، يعصم السالك من الانزلاق في مهاوي الغلو والتطرف.

رابعاً : مطامنة الغلو بالحوار المناظرة :
لما كان للغلو فوعة تحجب صاحبه عن الحق، فتجعل على عينيه غشاوة، وفي أذنيه وقراً، وعلى قلبه أكنة، كان لابد من اختراق صارم لتلك الحجب. وإن أقوى سبب تدحض به الشبهة، الحجة الصحيحة، كما قال تعالى :( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون)، فما يغني في مواجهة الغلو الصخب والضجيج، بل لابد من مقارعة الحجة بالحجة، واستفراغ ما لدى الخصم المعجب برأيه من دعاوى، وتفنيدها، ليطامن من غلوائه، ويعود إلى رشده، إن أراد الله به خيراً، وأما( َمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً). ومن أجمل الشواهد القرءانية على هذا الحوار المفحم، مناظرة إبراهيم، عليه السلام، للنمرود.قال تعالى :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
ومن الأمثلة الحوارية الفاضحة لحقيقة الغلو، وضحالة غوره، وانكشاف أمره، حوار موسى، عليه السلام، مع فرعون. قال تعالى :( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ) هذا، وما من مبطل، إلا ويستند إلى دعوى، ويرتفق بدليل، فإذا قيض الله له عالماً راسخاً، وحكيماً بارعاً، يعالج غلواءه، ويكشف زيف استدلاله، بالحوار الحر، أثمر الثمار اليانعة، وعاد بالخير والبركة والنجاة على من التاث بلوثة الغلو، فتداركه نعمة من ربه، كما يتضح من هذا المثال التاريخي البديع :
عن ابن عباس قال : لما اعتزلت الحرورية، وكانوا على حدتهم، قلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد عن الصلاة، لعلي أتي هؤلاء القوم فأكلمهم.قال: إني أتخوفهم عليك. قلت: كلا، إن شاء الله. فلبست أحسن ما قدرت عليه من هذه اليمانية،ثم دخلت عليهم،وهم قائلون في نحر الظهيرة.فدخلت على قوم لم أر قوما أشد اجتهادا منهم؛ أيديهم كأنها ثَفِنُ الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود. فدخلت، فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، لا تحدثوه. قال بعضهم : لنحدثنَّه. قال :
قلت : أخبروني، ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ؟
قالوا : ننقم عليه ثلاثا.
قلت : ما هن ؟
قالوا : أولهن، أنه حكم الرجال في دين الله، وقد قال الله تعالى : "إن الحكم إلا لله"
قلت : وماذا ؟
قالوا : قاتل، ولم يسب، ولم يغنم ! لئن كانوا كفارا لقد حلت أموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.
قال : قلت : وماذا ؟
قالوا : ومحا نفسه من أمير المؤمنين.
قال : قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ما لا تنكرون، أترجعون ؟
قالوا : نعم.
قال : قلت : أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله، فانه تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " إلى قوله " يحكم به ذوي عدل منكم "، وقال في المرأة وزوجها: "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" أنشدكم الله ! أفحكم الرجال في دمائهم وأنفسهم، وصلاح ذات البين، أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم ؟
قالوا : اللهم في حقن دمائهم، وصلاح ذات بينهم.
قال : أخرجت من هذه ؟
قالوا : نعم.
قال : وأما قولكم إنه قتل ولم يسب، ولم يغنم، أتسبون أمكم ؟ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها ؟ فقد كفرتم. وإن زعمتم أنها ليست بأمكم، فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام؛ إن الله تبارك وتعالى يقول: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم" وأنتم تترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم. أخرجت من هذه ؟ قالوا: اللهم نعم.
قال : وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً، يوم الحديبية، على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله. فقال : والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني. اكتب يا علي : محمد بن عبد الله.فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من علي. أخرجت من هذه ؟
قالوا : اللهم نعم.
فرجع منهم عشرون ألفاً، وبقي منهم أربعة آلاف، فقتلوا) رواه عبد الرزاق، والطبراني، وروى أحمد بعضه.
وفي هذه القصة من العبر والفوائد :
1- فضل العلماء الربانيين الراسخين، وعظيم أثرهم على الأمة.
2- تجنب الغلاة للحوار، والبحث عن الحق :( لا تحدثوه).
3- وجود أفراد مغرر بهم، يبحثون عن الحقيقة :( لنحدثنه).
4- استناد المبتدعة إلى استدلالات نصية وعقلية، يشبهون بها.
5- فائدة الحوار المؤسس على العلم والحكمة.
6- إصرار بعض أهل البدع على باطلهم، بعد تبين الرشد من الغي.

خامساً : التيسير ورفع الحرج :
إن من أساليب القرءان الكريم في دفع الغلو، أو رفعه، التنويه بيسر الشريعة، والامتنان برفع الحرج عن العباد. والعسر والحرج قرينا الغلو، فكيف يستقيم دين امرئ على الإسلام، وهو آخذ نفسه بالعنت والمشقة؟!
قال تعالى :( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) قال السعدي،رحمه الله :( أي يريد الله أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أبلغ تسهيل. ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله، وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهله تسهيلاً آخر؛ إما بإسقاطه، أو بتخفيفه بأنواع التخفيفات)
قال تعالى :( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)،قال ابن كثير :(أي في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم)
وقال تعالى :( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، فالحرج مرفوع، بحمد الله، عن هذه الأمة، والنعمة تامة. واليسر أقرب إلى روح الشريعة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :( إن خير دينكم أيسره. إن خير دينكم أيسره) رواه أحمد.، وحين بعث أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما، إلى اليمن، أوصاهما، قائلاً :( يسرا، ولا تعسرا، وبشرا، ولا تنفرا، وتطاوعا) متفق عليه.

سادساً : الأمر بالوسطية، والثناء على أهلها :
من الخصائص المميزة لدين الإسلام خاصية( الوسطية)، فقد قال تعالى :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).
وقد جاء لفظ( الوسَط) في لغة العرب على معانٍ، منها : العدالة، والخيرية، والتوسط بين الطرفين. وإلى هذا المعنى الثالث مال ابن جرير، رحمه الله، فقال :( وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل وسَط الدار... وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط، لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى، الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به. ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها)
والحق أن هذه الأمة قد جمعت هذه الأوصاف الثلاثة كلها؛ فهي أعدل الأمم شهادة، وخير أمة أخرجت للناس، وهي متوسطة بين أهل الإفراط وأهل التفريط من الأمم. ومن عجبٍ، أيضاً، أن موقعها الجغرافي، الذي انطلقت منه، وإليه تأرِز، وسَطٌ بين قارات الدنيا، وملتقى طرقها.
وكما أن هذه الأمة الإسلامية وسط بين الأمم، فإن أهل السنة والجماعة، المتمسكون بالإسلام المحض، الخالص عن الشوب، هم الوسَط في فرق الأمة. ومن شواهد هذا التوسط المنافي للإفراط والتفريط، والغلو والتساهل، ما يلي :
1- التوسط في الاعتقاد :
قال شيخ الإسلام، ابن تيمية، في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة :(هم الوسط في فرقة الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في :
- باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة،
- وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية، والقدرية وغيرهم،
- وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم،
- وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية،
- وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة، والخوارج)
2- التوسط في العبادة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أخبروا، كأنهم تقالُّوها. فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني) رواه البخاري
3- التوسط في السلوك :
كما يكون التوسط في الاعتقاد والعبادة، يظهر أيضاً في السلوك، وسائر التصرفات. ومن أمثلة ذلك :
أ- المشية :قال تعالى :( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال ابن كثير :( أي امش مقتصداً؛ مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين)
ب- الصوت : قال تعالى :(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)
قال ابن كثير :( أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه.ولهذا قال: "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير؛ أي غاية من رفَع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله)
ج- المعاملة : قال تعالى :(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)
د- العشرة والمخالطة : عن أبي جحيفة، رضي الله عنه، قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال : ما شأنك متبذلة ؟ قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. قال: فلما جاء أبو الدرداء قرب إليه طعاما، فقال : كل، فإني صائم. قال : ما أنا بآكل حتى تأكل. قال : فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان : نم ! فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له : نم ! فنام. فلما كان عند الصبح قال له سلمان : قم الآن ! فقاما، فصليا، فقال : إن لنفسك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك، فقال له : صدق سلمان) رواه الترمذي.
4- التوسط في الإنفاق :
قال تعالى :( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً).قال الحافظ ابن كثير، رحمه الله :( أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم؛ فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليتهم؛ فيقصرون في حقهم؛ فلا يكفونهم،بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها)
5- التوسط في التقويم والحكم على الآخرين :
قال تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)
وقال :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
فدلت هذه النصوص على وجوب تحري العدل، وتوخي الإنصاف في الأمور كلها، ومن ذلك الحكم على الناس، وتقويمهم، وعدم غمط أهل الفضل فضلهم، والبعد عن التجني والعدوان، والاندفاع مع العاطفة الهوجاء،حتى مع المخالف.
6- التوسط في العواطف والمشاعر :
ومن جوانب التوسط المهمة، أن يكون المرء معتدلاً في مشاعره، وعواطفه، وانفعالاته، فلا يسرف إذا أحب، ولا يسرف إذا أبغض، ولا يفجر إذا خاصم؛ بل يحكم مشاعره بحكم الشريعة، ويضبطها بضابط العقل، فعن علي رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما. وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما) رواه الضياء المقدسي.
مفاهيم باطلة حول مفهوم الغلو :
إن من نافلة القول أن المعيار الدقيق، والقسطاس المستقيم، في تحديد( الوسطية) و( الغلو) و( التقصير) النص والدليل، لا الأمزجة الشخصية، ولا العرف الاجتماعي، ولا الاعتبارات الآنية. فليس لأحد، سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينصب نفسه في مركز الوسط، ويرى القاصر عنه مفرطاً، والمتجاوز غالياً؛ فإن خير الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً.
وتأسيساً على ما مضى، فربما أدخل بعض الناس في الغلو ما ليس منه، وربما أخرجوا منه ما هو من أعظمه وأشده، بسبب الجهل بالشرع، أو بسبب الإلف والعادة. فالتزام السنة النبوية في المأكل، والمشرب، والمليس، والهيئة، وسائر السلوك، ليس من الغلو في شيء، بل هو عين التوسط. ولا يحل نبز الملتزمين بالسنة بألقاب السوء، كالتزمت، والتطرف، والأصولية، والغلو، ونحوها. كما أن ما ألفه بعض عوام المسلمين من دعاء غير الله، والمبالغة في مدح الصالحين، وتقديس الذوات، عين الغلو، الذي نهى الله عنه أهل الكتاب، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه أمته.
إن دين الله تعالى بريء من كل ما ألصق به من دعاوى الغلو؛ سواءٌ كان غلواً عقدياً كتكفير المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم، والخروج على أئمتهم، أو كان غلواً عملياً بابتداع أقوال، وأوضاع، وأحوال محدثة، لم يأت بها الشرع. وبذلك يتبين خطأ بعض الكُتَّاب في التعبير، حين يطلقون مصطلح( الغلو الديني)؛ فإن هذه النسبة تضفي على الغلو نوع صبغة دينية، والدين منه براء. لكن قد يقع الغلو في التدين نفسه، الذي هو فعل العبد، لا دين الرب، ولذا عبر الشارع الحكيم على نحوٍ آخر، فقال الله تعالى :( لا تغلوا في دينكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم( إياكم والغلو في الدين) كما تقدم. فنهى أن يتخذ الدين ظرفاً للغلو، ولم ينسبه إليه.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأعمال والأخلاق، لا يصرف سيئها إلا أنت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

المصدر :موقع العقيدة والحياة
 
عودة
أعلى