يونس السباح الطنجي
New member
بسم1
[FONT=arabswell_1]منهج العلامة الشيخ محمد بوخبزة في تفسير القرآن الكريم[1]
[/FONT]
[/FONT]
بقلم: الدكتور: يونس السباح
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيدَه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثرهم، واتبع سبيلهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإن كتابَ الله الكريم القرآن، بحر خضمّ لا يدرك قعره، ولا يغالَبُ موجه، جواهره كثيرة لا نفاذ لها، وعجائبه وغرائبه لا انتهاء لها. وقد تصدى العلماء قديماً وحديثاً لبيان غرائبه، وتوضيح فرائده ونفائسه، فكان منهم من خاض البحر لنفسه، ومنهم من دخله لتحقيق أمره، أوبعبارة أضح؛ كان من العلماء من فسر القرآن كلّه، وخاض بحره، وجاب نواحيه، ومنهم من اقتصر على بعض النواحي، وصار يكتشف من كنوز القرآن مخبأها، ومن زواياه نفائسها. يتعلق وهذا البحث من هذا الباب، فهو يكشف عن منهج التفسير عند علَم من أعلامنا المعاصرين، الذين كانت لهم الرّيادة في عِلم التفسير تأليفاً، وفهرسةً، ونقداً، وتدريساً، فهو بحق من أواخر من عرف المغرب من أعلامه الأفذاذ في علم التفسير على طريقة جمعت بين أنماطٍ متعددة، حيث سلك مسلكا جديداً فريداً، إنه الشيخ العلامة المحدث المفسر أبو أويس محمد بن الأمين بوخبزة الحسني التطواني رَحمه الله وطيّب ثَراه.
وقد اقتضت طبيعة البحث أن يكون في تمهيد ومبحثين وخاتمة ثمّ ملحق.
أذكر في التّمهيد السياق التاريخي لولُوع أستاذنا العلامة محمد بوخبزة بتفسير القرآن الكريم دراسةً وتدريساً، وما إلى ذلك من أوضاع دبجتها يرَاعه.
- أمّا المبحث الأول: فقد وسمته بموارد الشيخ محمد بوخبزة في التفسير.
- وأمّا المبحث الثاني: فخصصته للحديث عن المعالم المنهجية في تفسيره للقرآن الكريم، وتحدثت فيه عن:
1- المعلم الموسوعي.
2- المعلم الأثري.
3- المعلم النقدي.
ثم خاتمة ذكرتُ فيها خلاصة الموضوع ولبّه. وأدرجتُ في الملحق نموذجاً يعدّ شاهدا على ما قلناه في هذا الغرض.
تمهيد:
اهتم الشيخ العلاّمة المفسّر أبو أويس محمد بوخبزة بعلم التفسير باكراً إبّان دخول الشيخ العلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي السجلماسي رحمه الله إلى تطوان سنة 1365هـ، فبفضله بعد الله تعالى كان لشيخنا محمد بوخبزة التوجّه لتفسير كتاب الله تعالى، فقد درَس على الشيخ الهلالي أجزاءً من القرآن بتفسير الدر المنثور للسيوطي وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ومن هنا كانت البذرة الأولى للانطلاقة نحو هذا العلم. ولمّا اشتدّ عُوده وارتوى من معين العلوم الشرعية، شرع في إقراء التفسير بمدينة تطوان في عدة مساجد، فابتدأ أوّلاً في شبابه تدريس نذارات القرآن بضريح سيدي علي بن مسعود الجعيدي الذي كان قريباً من بيت والده بحي العيون من تطوان[2]، وبجامع العيون الذي قضى به أكثر من خمسين سنة، وهناك ختم تفسير القرآن، وبمسجد المصِيمدي (المسنْدي)، وجامع ديورالحجر (الجامعة العربية)، ومسجد سيدي طلحة (القديم لا الجديد)، ومسجد معهد الإمام أبي القاسم الشاطبي لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه. وفي هذه المساجد جميعها أقرأ التفسير بمختصر الشيخ أحمد شاكر لتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وهو عمدته في كافّة دروس التفسير، كما اختار أحيانا تفسير العلامة عبد الرحمن السعدي لشرح آيات الذكر الحكيم. وأما أوضاعه في هذا المجال، فهي كثيرة ومتنوعة، منها ما يتعلق بالدراسات القرآنية بصفة عامة، ومنها ما يتعلق بالتّفسير خاصة.
· أوضاعه في الدراسات القرآنية: خطّت أنامل الفقيه العلامة محمد بوخبزة أوضاعاً مختلفة في الشكل، لكنّها تتفق جميعها في مضمون الدراسات القرآنية عموماً، وهذه الأوضاع تشهد بعلوّ كعبه، ورسوخ قدمه في صناعة التأليف، وجودة الأسلوب وعمق الفكر، وهي كالتّالي:
1- ذيل على معجم تفاسير القرآن طبعته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) الطبعة الأولى سنة 1424هـ/2003م. طبع في مجلد واحد، وعرّف فيه المؤلف بمائة مادة تفسيرية.
2- نقد معجم تفاسير القرآن الكريم طبع بمكتبة الصحابة بالإمارات-الشارقة- الطبعة الأولى سنة 1430هـ/2009م. وهذه الرسالة على وجازتها –تقع في تسعة وسبعين صفحة من القطع الصغير- تتضمّن تصحيحات وبيانا واستدراكات على الجزء الأول من معجم التفاسير الذي ألّفه مجموعة من الدكاترة الأفاضل، ويبّن ما أغفلوه من أمور، وهو جديد بالاقتناء والاعتناء لما اشتمل عليه من آراء سديدة، وملاحظات دقيقة، أدّاه إليها اطلاعه الواسع وعلمه الغزير.
3- التفسير واتجاهاته وماكتب فيه. دروس في مادّة الثقافة الإسلامية، أملاها على طلاّبه في سنة 1999م بمعهد الإمام أبي القاسم الشاطبي وتقع في 30 صفحة، وهي قيد التّحقيق من طرف راقم هذه السطور.
4- طرر على تفسير الحافظ المحدث أحمد بن الصديق الغماري المسمى: "الإقليد في تنزيل كتاب الله على أهل التقليد" وهي طرر كثيرة ونفيسة دوّنها على نسخته من الكتاب، ولازالت هذه الطُّرر مخطوطة لم تجمع بعد، ولو جمعت لجاءت في رسالة مفيدة.
5- فهرس مخطوطات خزانة تطوان (قسم القرآن وعلومه) طبع بمطابع الشويخ بتطوان سنة 1401هـ/1981م.
· أوضاعه في تفسير القرآن: ألّف شيخنا رَحمه الله دروسا كثيرة في تفسير القرآن، وكتب في أحكامه تأليفا مستقلاً لم يتم، فمن أوضاعه في تفسير القرآن:
1- من أحكام القرآن: أصل هذا الكتاب المخطوط دروس في أحكام القرآن كان يحرّرها لمّا أسند إليه تدريس هذه المادة لطلبة معهد الإمام الشاطبي –القسم السادس- وكان المقرّر عندهم كتاب: (الأحكام الصغرى لابن العربي) وكان الشيخ يعمد إلى محاذاتها وتحرير أقوال ابن العربي ومناقشته في الأدلة، فجاءت حافلة، لكنه كتب منها إلى نهاية الحزب الثاني من سورة البقرة وتوقف، وبقيت هذه الدروس محفوظة بخطه المغربي الرائق في أوراق من القطع الكبير، ويقع كلّ درس في صفحة[3].
وأمّا منهجه فيها: فهو (لاينفصل عن شخصيته العلمية التي تحلّت بالصبر على التتبّع والاستقراء، والتّمكّن من أدوات النقد الصحيح، والجرأة في الصدع بالحق؛ ولذلك لا تخطئ في تضاعيف كلامه واثناء جمله حسّا نقديا متوثباً مشحونا ببواعث الإصلاح، ومقودا بصدق النّية على عزّته في النفس)[4].
2- دروس التفسير لكلام العلي القدير كان الباعث على كتابة هذه الدروس وتحريرها هو إسناد تدريس مادة التفسير له، بمعهد الإمام الشاطبي للتعليم العتيق بتطوان، فاهتبل الشيخ هذه الفرصة ليكتب تفسيراً لكتاب الله تعالى بنَفَس جديد، وبطريقة جديدة، وقد كان ابتداء تدوينها منذ حوالي سنة 1993م فما بعدها. و كان العزم على أن تسير هذه الدروس من أول القرآن إلى آخرالقرآن، إلا أن الله تعالى كتب لشيخنا أن يقيّد دروساً من الفاتحة إلى أواخر الحزب الرابع من سورة البقرة، وبالمنهج نفسه كتب دروساً لتفسير سورة فصلت وغافر، وسورة القدر. هذا ما عثرنا عليه لحدّ الساعة من تفسيره المكتوب. أما التفسير المتلو في الدروس والمسجل في الأشرطة فيأتي على القرآن كلّه؛ فقد ختم شيخنا –رَحمه الله- تفسير القرآن مرة واحدة، و شرع مرّة أخرى في تفسير الذكر الحكيم من خلال حلقات الدروس التي دأب على عقدها، ثمّ توقّف لأساب، وعسى الله أن يبعث من يفرّغ هذه الأشرطة ويعيد ترتيبها وتهذيبها، ففيها علم غزير، وفضل كبير. وأما منهجه في هذه الدروس فهو كالآتي:
· أوّلا: تصدير السورة ببيان إجمالي عن نوعها وعدد آياتها، وأسمائها المتعدّدة إن وجدت.
· ثانيا: شرح المفردات القرآنية شرحا لغوياً يركن فيه أحيانا إلى تفسير التابعين كقتادة والزّهري، وربما تعلق بأشعار العرب واستعمالات الفصحاء.
· ثالثا: التعريف بالأعلام القرآنية كيوسف، وموسى وعيسى عليهم السلام.
· رابعا: تقرير المعنى الإجمالي للآيات، مع الاستهداء بالمأثورات، والرّكون إلى أمهات التفسير. · خامسا: سوق فوائد ولطائف تتعلّق بفنون شتّى كالعقيدة والتفسير والحديث والقراءات والتاريخ واللغة، مما يجعل الدرس التفسيري وعاءً حاويا للعلوم، وينبوعاً زاخراً بالعوائد.
· سادسا: تعقّب بدع التفاسير وأوهام المفسرين ممن تنكبوا الجادّة في إشارات لا خطم لها ولا أزمة، أو تأويلات لا ظهير لها ولا شفيع، وأكثر ردود المفسّر –في هذا الباب- على الشيعة، وغلاة الصوفية[5].
المبحث الأول:
موارد الشيخ محمد بوخبزة في التفسير
1- القراءات: ويأتي بها عقِب الطائفة المختارة من الآيات (موضوع الدرس) باعتبارها قرآناً، ولا يختار إلاّ القراءات السبعة المتواترة معتمداً على ثلاثة كتب:
- معاني القراءات لأبي منصور الأزهري اللغوي صاحب تهذيب اللغة (ت 370هـ) معتمداً طبعته الأولى في أربعة أجزاء صغار، وقد طبع الكتاب محققا مراراً .
- حجة القراءات لأبي زُرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زَنْجَلة (ت حوالي 403هـ) كان يفيد منه في توجيه القراءات معتمداً على طبعة الأستاذ سعيد الأفغاني رحمه الله.
- الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججهاللإمام مكّي ابن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار الأندلسي ( 355 - 437 هـ) معتمداً طبعة مؤسسة الرسالة في مجلدين بتحقيق محي الدّين رمضان.
2- اللغة: يهتمّ العلامة المفسّر محمد بوخبزة بالمفردات اللغوية اهتماماً بالغاً، ولا عجب في ذلك، فقد كتب منذ سنوات طويلة نقداً على المنجد سمّاه: (عثرات المنجد) فهو بهذا شديد التمسك بالمفردة اللغوية بياناً وشرحاً، وفي التفسير يركن إلى تفسير التابعين للمعاني اللغوية كقتادة والزُّهري، وربما تعلّق بأشعار العرب واستعمالات الفصحاء[7]ويأتي أحياناً بشواهد سائرة، وأمثلة لغوية سائدة، ليعزّز المعنى الذي يرتاح إليه، مع ما يناسب سياق الآية.وهو في هذا يرجع إلى كتاب واحد هو (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817هـ). لأنّ فيه أموراً زائدة على التعريفات اللّغوية، كالإعراب مثلا وبعض الأمور البلاغية وتحليل المتشابه وما إلى ذلك كما يعرف من الكتاب مباشرة.
3- التفسير: التفسير بالمأثور هو المقدّم عند المفسّر العلاّمة محمد بوخبزة، فيبدأ دائما بتفسير القرآن بالقرآن ثم تفسير القرآن بالسنة ثم بأقوال الصحابة ثم التابعين أهل المدارس المعروفة في التفسير، ثم الشعر العربي أخيراً. ويصوغ تفسيره بروح أثرية تجديدية تجرّد المتن التفسيري عن الإسرائيليات والأخبار الواهية، وتغذّيه في الآن عينه بمفاهيم تصحيحية تردّ الحقائق إلى نصابها عقيدة وفقهاً، مع النقل عن المفسرين الثقات، والتهدّي بمفهومهم في النظر والتأويل، وأكثر نقوله عن الطبري، وابن كثير، والقرطبي والسيوطي. هذا؛ إلى ما زان أسلوب مفسّرنا من حلاوة الإنشاء، وإشراق البيان[8].
4- مسائل ولطائف وفوائد: يخصص شيخنا هذه الفقرة لكل ما يتعلق بالآيات من جميع المناحي، وفي هذه الفقرة يظهر واسع اطلاعه، فهو يغوص في بحر التاريخ أحيانا، وفي اللغة أخرى، ويرد ويناقش، ويأتي بنكتة، وينبّه على شطط المفسرين، وشطحات الصوفية..ممّا يجعل الدرس التفسيري وعاءً حاويا للعلوم، وينبوعا زاخرا بالعوائد[9]. وفي الغالب في هذا الصّدد يتعقب بدع وأوهام المفسرين، ذوي الإشارات البعيدة، والتأويلات المتكلفة، مما لا يقبلها السياق القرآني، والنهج الرباني في كتاب الله تعالى. وهو في الغالب يناقش آراء الأشاعرة أمثال الفخر الرازي في تفسيره الكبير، والجويني، والآمدي، والقاضي عبد الجبار من المعتزلة، والصوفية المعتمدين على الإشارة، أمثال السّلمي في (حقائق التفسير) والقشيري في تفسيره، وأحمد ابن عجيبة في (البحر المديد)، وأحيانا ينتقل إلى المدرسة المصرية العقلانية فيناقش الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والعلامة طنطاوي جوهري وأضرابهم.
المبحث الثاني:
المعالم المنهجية في تفسيره للقرآن الكريم
- المعلم الموسوعي.
- المعلم الأثري.
- المعلم النقدي.
أوّلا: المعلم الموسوعي: يتوسع الشيخ محمد بوخبزة في جوانب عدّة حسب المقام، ففي الجانب الفقهي يغوص على استنباط الأحكام وتحريرها، وترجيح ما يظهر له رجحانه في سياق التعارض والاشتباه، معانا على ذلك بدرايته الفقهية، ومحفوظه الحديثي، وإحاطته بمدارك الخلاف[10]. وهكذا يسير في جميع فقرات التفسير منتقلا من اللغة والشعر إلى التفسير، ومنه إلى المسائل واللطائف، فتحس بدائرة معارف تنتقل من فنّ إلى فنّ، ومن غرض إلى آخر، بأسلوب شيق، وغزارة معلومات، موظفاً جميع المعارف، ومستعملا طاقاتها كلها في صياغة نص تفسيري متكامل. ثانيا:
المعلم الأثري: يظهر هذا المعلم جليّا لدى مفسرنا حفظه الله، ففي التفسير يجعل (الدرّ المنثور) للسيوطي نصب عينيه، ثم يستقي من الإمام ابن كثير في تفسيره، والبغوي وابن القيم وغيرهم من المفسرين بالمأثور. ويأتي بتفسير القرآن بالقرآن في الدرجة الأولى مستعرضا ما يتعلق بالنظائر، ثم تفسير القرآن بالسنة، وهو منحى بارز في تفسيره، فيستعرض محفوظه الحديثي مع تحرّي الصحيح وتحاشي الضعيف، محكما العلامة الألباني في كثير من الأحاديث والآثار.
ثالثا: المعلم النقدي: يظهر بجلاء هذا المعلم في كثير من المناقشات حول آيات الصفات في الغالب، فترى المفسّر يخوض في نقاش مع كبار الأئمة مباشرة بدون نقل عن أحد، معتمدا رهافة حسه، ودقة نظره، وعمق مادته، للدفاع عن رأيه ورد رأي غيره، ولا يخشى في الله لومة لائم. لذلك كثر عنده النقاش مع إمام الحرمين عبد الملك الجويني، والإمام سيف الدين الآمدي، والإمام فخر الدين الرازي وأضرابهم من الأشاعرة، ولا يحابي في نقاشه، بل الحق عنده أحق أن يعلن عنه.
وهذا نجده في سياق النقد يناقش الإمام القشيري، والإمام السلمي في تفسيره، وابن عجيبة في كثير من الآيات، بل كان مفسرنا عازما على تتبع إشارات العلامة أحمد بن عجيبة وإفرادها بالرّد في جزء مستقل، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جله، فقد أشبعه نقداً في تفسيره، مع الالتزام بأدب الرد والنقاش الهادف البنّاء. ولم يخل تفسيره أيضاً من الرد على غلاة الشيعة وذوي الأهواء المخالفة.
خاتمه:
ممّا سبق يمكن القول؛ بأن هذه الملتقيات والندوات تكشف عن خبايا كثيرة، وجوانب متعددة، وأمور خفية، جديرة بالذكر والاهتمام. وموضوع هذا البحث يأتي في هذا السياق، فلم يسبق لأحد أن درس منهج الشيخ محمد بوخبزة وهو عالم معاصر، مشهود له في الشرق والغرب بالمعرفة والاطلاع، أضف إلى اشتغاله بتفسير القرآن الكريم منذ نعومة أظافره، وتأليف ما يتعلق به، ونسخ كتب القراءات وما إليها، ونقد أمور تتعلق بالتفسير، كلّ هذا دفعني إلى اختيار هذا الموضوع، وفاء لبعض حق شيخنا علينا. ظهر لنا بعد اهتمام العلامة محمد بوخبزة رحمه اللهُ بالتفسير، موسوعيته وإحاطته بشتى الجوانب ليجعل الدرس التفسيري وعاء حويا للعلوم، وموظفا فيه جميع ما أدوات العلم والنقد الصحيح. وقد أشفعت هذا البحث بنموذج فريد من هذا التفسير، لتتضّح الرؤية، وتظهر هذه المعالم بجلاء، فإن فوفقت فمن الله التوفيق، وله الفضل أوّلا وأخيرا، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله الموفق والهادي لأقوم طريق، والحمد لله رب العالمين.
ملحق:
نموذج من دروس التفسير لكلام العلي القدير
للشيخ العلامة محمد بوخبزة
بين يدي الآيات: قال الله تعالى: و إذ استسقى موسى لقومه ...يعتدون. البقرة 58 -60.
القراءات :
- موسى ممالٌ حيث جاء.
- رقَّق ورش راء لن نصبر في الحالين، وغيره في الوقف فقط.
- وأدغم خلف عن حمزة التنوين في طعام واحد وبلا غنة، و غيره مع الغنة، و راء خير رققها ورش مطلقاً، و غيره وقفاً.
- لا خلاف في تفخيم راء مصر. سهل حمزة همز سألتم عند الوقف فقط .
- عليهم الذلة البصري بكسر الياء و الميم وصلاً و سكون الميم وقفاً و حمزة و يعقوب بضم الهاء و الميم وصلاً، وضم الهاء و إسكان الميم وقفاً. الكسائي و خلف بضم الهاء و الميم وصلاً و كسر الهاء و الميم وقفاً، و الباقون بكسر الهاء وضم الميم وصلاً. وكسر الهاء و سكون الميم وقفاً.
- وباؤوا بغضب: فيه البدل لورش، وسهل حمزة الهمز مع المد، و القصر في الوقف النبيئين نافع بالهمز و الباقون بالياء المشددة وفيه البدل لورش.
اللغة :
الاستسقاء: طلب السّقيا، و في شرع الإسلام طلب السقيا من الله بصفة خاصة من صلاة و دعاء.
انفجرت: انشقت انفجر الماء تفتح وموضع انفجار الماء الفجرة وفي الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت.
والعيون الأثنتا عشرة: كانت على عدد الأسباط الإثني عشر وهم أبناء يعقوب عليه السلام لكل سبط -أي قبيلة –عين.
تعثوا: مضارع عثا يعثو عثيّاً.
وعاث يعيث عيثاً أفسد.
مفسدين: حال مؤكدة. البقل كل نبات ليس له ساق، والشجر ما له ساق والمراد طيب البقول مما يؤكل كالنعناع والكرفس والسلق والكراث. القثَّاء: الخيار.
الفوم: الحنطة عند الجمهور. و قيل: الثوم وشاهد الأول قول الشاعر:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد**ترك المدينة عن زراعة فوم
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة **فيها الفراديس والفومات و البصل
اهبطوا مصر: أي انزلوا أرض مصر. وصرف لفظ مصر مع العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن الوسط، فيجوز صرفه معهما عند الأخفش والكسائي. ورده خليل وسيبوبه بأنه لا علمية هنا، والمراد مصر من الأمصار.
وضربت عليهم الذلة و المسكنة: أسقط عليهم بهما قضاء لازما مستمراً لا ينفك عنهم و لا ينفصل، وكأنه قبة مضروبة عليهم تحويهم و تشملهم، كما قال الفرزدق في هجاء جرير:
ضربت عليك العنكبوت بوزنها **وقضى عليك به الكتاب المنزل
المسكنة: الفاقة مع الذلة.
التفسير :
واذكر يا رسولنا إذ استسقى، حين طلب موسى عليه السلام السقيا لكم بطلبكم فانعمتُ عليكم بها إجابةً لدعاء نبيكم. فقلنا له اضرب بعصاك الحجر فضرب فظهرت المعجزة الكبرى من تيسير الماء العذب الزلال، وإخراجه من حجر في صحراء قاحلة فانفجرت، انشقت وتفتحت من الحجر اثنتا عشرة عيناً، عين لكل قبيلة من قبائلهم الراجعة لاثني عشر، وهم أبناء يعقوب عَليه السلام، قد علم عرف كل أناس فريق وقبيل مشربه، محل شربهم الخاص بهم فلا مزاحمة ولا ضيم. وقلنا لهم كلوا من المنّ والسلوى هنيئاً مريئاً، و اشربوا من هذا الماء الذي أخرجناه لكم دون كدّ و لا سعي، و اشكروا لكم ربكم الذي سخر لكم هذا. و لا تعثوا، تبغوا وتمشوا في الأرض مفسدين مخربين طغاة باغين مقابلين نعم الله بالعصيان، فإن مَن قَابل النعمة بالكفر سُلِبها، واذكروا نعمتي العظمى عليكم بإنزال المن و السلوى طعاما شهيا لذيذا ميسرا دون تعب ولا كدّ حين قلتم متبرمين ضجرين متضايقين أو ساخرين مستهزئين بطرين محتقرين نعم الله عليكم: يا موسى لن نصبر على طعام واحد من المن و السلوى مأكولين ممزوجين فكانا كطعام واحد، كرهناه لتكرره دائماً و عدم تنوعه رغم طيبه و نفعه وما لابسه من لطف الله و عنايته، وبره ورعايته، ونزوعنا إلى الماضي، وما ألفناه من العيش الدنيء، و الآن فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض بما عرفناه وألِفناه من بقلها؛ خضرها و قثائها خيارها و فومها من الحنطة أو الثوم و عدسها وبصلها المعروفين. قال موسى في الرد عليهم: ما لكم كيف فسدت طباعكم وأذواقكم أتستبدلون تطلبون الدنيء الرديء وهو البقل والفوم و العدس والبصل بدل الذي هو أدنى وأردأ؟ فبدل بالذي هو خير من المن والسلوى وهذا الذي طلبتم ليس بعزيز بل هو كثير موجود بكل بلد ومصر فلا ينبغي أن أسأل الله فيه والحالة هذه، وإن سألتموه فاهبطوا وانزلوا مصراً من الأمصار تجدوه ميسوراً متكاثرا لتفاهته و دناءته، فإنَّ لكم ما سألتم من هذا الأدنى الرديء وعلى عقولكم ....إذ تركت خير الأطعمة وأشرفها ولذيذ المشارب وأطيبها مع ما شاهدتم من تعرف الله إليكم بخرق العوائد، وتيسير الفوائد، وطلبتم منه بدلاً لا يساويها بحال، وضربت عليهم الذلة والمسكنة ألزموها، ووضعت عليهم كالقبة فاحتوتهم بشؤمها فلا يزالون مستذلين محتقرين أينما وجدوا إلى أن أذن الله تعالى برفعها عنهم مؤقتاً، كما قال: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ...من الناس. وباؤوا انصرفوا ورجعوا متحملين متلبسين بغضب وسخط ومقت من الله، فتلك غنيمتهم التي فازوا بها ورجعوا من عيثهم و فسادهم في الأرض، وذلك الذي استحقوا به هذا الغضب بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ومعجزاته التي عاشوها الدّالة على الحق، الآخذة باليد إليه، وأنهم يقتلون النبيئين كشعيب وزكرياء ويحيى بغير الحق، يحق عليهم اتباعه والعمل به، بل بغيا وظلما و جرأة على الله، وكبراً و بطراً، فكانوا ينتقصون أنبياءهم، و يزدرونهم، وتمادى بهم ضلالهم إلى أن قتلوا منهم كثيراً، ذلك الطغيان والعتوّ بسبب ما عصوا وارتكبوا من عصيان وطغيان، وكانوا يعتدون حدود الله ويظلمون عباد الله فاستحقوا غضب الله عليهم لعائن الله .
اللطائف والمسائل :
1- هذه القصة -وهي مدنية – شبيهة بالتي في سورة الأعراف و هي مكية، فحكى الله عنهم في الأعراف بضمير الغيبة، لأنه يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم، أما في هذه فكان الخطاب متوجهاً إليهم، وقد قال هناك: فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، والانبجاس: أول السيلان. وأخبر هنا بنهابة الأمر وهو الانفجار القوي.
2- قلنا عن أفعال بني إسرائيل القبيحة بأنها ناشئة عن الكبر الذي هو دفع الحق وعدم قبوله واحتقار الناس، وفيه ورد الحديث المتفق عليه، الكبر بطر الحق وغمط الناس وفي مسند أحمد 3644 و 4058 عن ابن مسعود قال: (كنت لا أحجب عن النجوى و لا عن كذا أو لا عن كذا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يارسول الله قد قسم لي من الجمال ما ترى فما أحب أن أحداً من الناس ...ليس ذلك من البغي و لكن البغي من بطر أو قال ...و غمط الناس). وروى أحمد 3868 عن ابن مسعود مرفوعاً: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيّا وإمام ضلالة وممثل من الممثلين).
3- وهذه الآيات خوطب بها اليهود وقت نزوا القرآن وهي من فعل أسلافهم فكيف نسبت إليهم ؟ الجواب أنهم كانوا يتمدحون بها ويزعمون أنهم بها أفضل من المسلمين. وقد ذكرها الله وذكرهم بها مشيراً إلى أن أسلافهم لم يقدروها...مع أن المظنون أنهم أولى وأحسن حالاً ممن بعدهم، فإذا كانت الحال هكذا فما الظن بخلفهم المخاطبين و لأن هذه النعم وصلت إليهم والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء فخوطبوا بها وذكّروا بأنهم أمة واحدة متحدة المصالح والمصير، فما يفعله البعض من خير يعود على الجميع و كذلك الشر، ثم إن جمهورهم رضوا بتلك الأفعال ولم ينكروها، والراضي شريك للعاصي.
4- ومما يستثير العبرة قول الشوكاني رحمه الله في فتح القدير 8 /92 تعليقاً على آية وضربت عليهم الذلة والمسكنة: هذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة فإنَّ اليهود ...أذل الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغراً لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رؤوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصا في كلّ زمان ...في كل عصر، و من تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ فهو متظاهر بفقر، مترد بأثواب المسكنة ليدفع من نفسه أطماع الطامعين في ماله، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجرؤ على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه اهـ. ويلاحظ أن الشوكاني لا يعرف تاريخ اليهود، فقد كانت لهم دول وجاه وسلطان ولكن الله سلبهم ذلك بكفرهم كما تعالى هنا، ثم كلامه عن يهود اليمن في عصره وهو القرن 13 يدل على عدم اطلاعه بما يجري في الدنيا حينئذ من نشوء الحركة الصهيونية وسعيها لجمع شتات اليهود من العالم، ودعوتهم إلى أرض المعاد فيما يزعمون. هذا السعي الذي أثمر بعملهم الحثيث وأحابيلهم المتنوعة وتأييد الإنجليز وغيرهم لهم الذي هو حبل الناس مع جهل المسلمين وخيانة قادتهم وتقاعسهم عن فريضة الجهاد، وخنوعهم للاستعمار، وتفرق شملهم نجاحهم في تأسيس دولة إسرائيل في أرض فلسطين المسلمة، ثم تطورت الحال إلى العمل لإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، فغلبوا الدول المجاورة لهم، واقتطعوا من أراضيهم واحتلوا بيت المقدس، وجعلوه عاصمة لدولتهم، والواقع لا يبشر بخير نسأل الله اللطف، وأن يلهم المسلمين العودة إلى دينهم وإقامة شرع الله في قلوبهم، حتى تقوم في أرضهم، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله تعالى.
5- الحجر أل فيه للجنس لا للعهد، أي: حجر من الأحجار، و هذا أبلغ لفي المعجزة وإقامة الحجة من حجر مخصوص معين.
6- استسقاء موسى عليه السلام يدلّ على مشروعيته له، وهو كذلك في الإسلام، ويكون عند انحباس المطر وبالدعاء الصلاة، وصلاته سنّة، خلافا لأبي حنيفة الذي قال: إنه دعاء لا صلاة معه ولا خروج، واحتج باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، ولا حجة له فيه، لأن الصّلاة سنة زائدة على الدّعاء. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن زيد المازني قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحوَّل رداءه، ثم صلى ركعتين. و أحكام صلاة الاستسقاء معروفة.
لأئحة المراجع المعتمدة في البحث:
- دروس في التفسير لكلام العلي القدير للعلامة محمد بن الأمين بوخبزة (مخطوط خاص). - جراب الأديب السائح، وثمار الألباب والقرائح لمحمد بوخبزة الجزء الثاني (كناش خاص). - معجم المفسرين بتطوان للدكتور قطب الريسوني إصدارات مكتبة سلمى الثقافية سنة 2013م. - مظاهر الشرف والعزّة، المتجلية في فهرسة الشيخ محمد بوخبزة للدكتور بدر العمراني. منشورات دار ابن حزم ط 1. 1428هـ/2007م.
- معلومات شفوية من المفسّر العلامة محمد بوخبزة، تلقيتها عنه بمنزله بمدينة تطوان.
[1]قّدمت هذه الأوراق بندوة انعقدت بمركز الوحيان بالدار البيضاء سنة 2014م.
[2]يقول الفقيه رحمه الله: "أمليتُ خطبة جعلتها منهاجا لعملي في تلك الدروس، إلا أنني مرضت بعد ذلك وانقطعت، وكان ذلك صرفا من الله تعالى عن إلقاء ذلك في الضريح المذكور، لأنه مقبرة ومقصد لعبادة الجهال، فالحمد لله على ما ألهم".
ويقول عن عزمه الذي اعتزمه لإلقاء تلك الدروس: "..وقد كنت جمعت هذه النّذارات من المصحف عازما على تفسيرها تفسيراً حسناً سنّيا بالاعتماد على أكابر المفسرين كالطبري والقرطبي وابن كثير، ولكنّي تأخرت تهيّبا، وعسى أن أوفّق وأعان على الشروع فيه وإتمامه". جراب الأديب السائح لمحمد بوخبزة 2/56-57. (مخطوط خاص).
[3]ينظر كتاب "معجم المفسرين بتطوان" للدكتور قطب الريسوني ص 117.
[4]نفسه ص 118.
[5]معجم المفسرين بتطوان ص 125.
[6]هذه المعلومات تلقيتها من الشيخ رحمه اللهُ في جلسة خاصة ببيته العامر بمدينة تطوان.
[7]معجم المفسرين بتطوان ص 125.
[8]نفسه 124.
[9]معجم المفسرين بتطوان ص 125.
[10]نفسه ص 119.