منهج العلامة الزمخشري في تعامله مع القراءات من خلال "الكشاف"

ايت عمران

New member
إنضم
17/03/2008
المشاركات
1,470
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المغرب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد؛ فإن من أعظم منن الله على هذه الأمة أن جعلها أمة العلم، وأمرها بسلوك أسبابه في أُولى الآيات نزولا على الرسول الكريم، عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم. ألا وإن أفضل العلوم علم الشريعة؛ به يعرف الناس ربهم، ومنه يتعلمون ما يُصلح دنياهم ودينهم.
ولما كان نبع هذه العلوم الأَوَّل إنما هو القرآن الكريم، كانت علومه هي أشرف العلوم وأولاها بالتقديم، وهل أفضل من العيش مع كتاب الله والغوص في مكنوناته، واستخراج درره وتذوق بيانه وفصاحته؟.
ولذا عُنِي المسلمون بالاشتغال بعلومه، وخصوصا علمَ التفسير الذي بدأ الاهتمام به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتوالى في عهد التابعين ثم تابعيهم، إلى عصرنا الحاضر، فدوَّن الناس فيه الدواوين المختلفة، بعضها اقتصر على المأثور والمنقول، وبعضها أضاف إلى ذلك الرأيَ المقبول، وبعضها أوغل في الرأي وتمادى في المعقول.
وعرف التفسير بأنه محتاج لعلوم كثيرة، ومن أهمها علم القراءات، وكان المفسرون بين مقل ومقتصد ومكثر من الاستعانة بها على التفسير، وكان العلامة محمود بن عمر الزمخشري من المكثيرين، فرأى شيخي الدكتور أحمد السديس - حفظه الله - أن يكلفني بدراسة منهجه في ذلك، فاستعنت بالله وتوكلت عليه، وشرعت في بحث الموضوع تحت عنوان:
منهج الزمخشري في تعامله مع القراءات من خلال كتابه:
"الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"
وسأقوم بالاستغناء عن بعض المقدمات، التي لا أراها ضرورية في مقام الملتقى، وإن كانت مكتوبة لدي.
وأسأل الله التوفيق والسداد، والهداية إلى سبيل الرشاد، إنه سميع مجيب، وممن دعاه قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
 
الدراسات السابقة
قد حضي كتاب الكشاف بعناية كبيرة منذ أن خرج للناس حتى يومنا هذا، إن من حيث الاختصار، أو من حيث الشرح والتحشية، أو من حيث النقد والتقويم.
وسأحصر كلامي في هذه العجالة في الدراسات التي تناولته من جانب القراءات، ولن أتكلم عن القدامى الذين عرضوا لهذا الموضوع في ثنايا كتبهم، كابن المنير وتلميذه أبي حيان وغيرهما من المفسرين، بل سأتكلم عن الدارسين المحدثين الذين أفردوا هذا الموضوع بتأليف مستقل، أو مباحث ضمن تواليفهم، وهم كما يلي:
1 ـ الدكتور إبراهيم عبد الله رفيده، عقد بابا بعنوان: ((القراءات في الكشاف وموقف الزمخشري منها)) وذلك في كتابه: ((النحو وكتب التفسير)).
2 ـ الدكتور مصطفى الصاوي الجويني، عقد مبحثا بعنوان: ((الزمخشري العالم بالقراءات)) وذلك في كتابه: ((منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه)).
3 ـ الأستاذ رمضان يخلف، عقد مبحثا بعنوان: ((مسلك الزمخشري في القراءات القرآنية)) وذلك في رسالته للدكتوراه المسماة: ((الموازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي)) وكان قد حصل عليها من كلية أصول الدين، جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية ـ الجزائر.
4 ـ الدكتور يوسف دفع الله أحمد له بحث بعنوان: ((القياس النَّحوي عند الزّمخشريّ وأثره في مواقفه من القراءات القرآنيّة)) وقد نشره في مجلة جامعة القرآن الكريم، العدد 17 السنة 1429هـ.
5 ـ الدكتور محمد علي حسن، في بحثه: ((القراءات القرآنية وموقف المفسرين منها)) وخصص أحد مباحثه لموقف الزمخشري، ونشر هذا البحث في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 35.
وله بحث آخر مختصر بعنوان: ((موقف ابن جرير والزمخشري من القراءات القرآنية المتواترة)) منشور على الشبكة الإسلامية(1).
وهناك بحثان متخصصان، لكني لم أقف عليهما، وهما لكل من:
6 ـ الدكتور محمد محمود الدومي، حصل به على الدكتوراه من جامعة اليرموك بالأردن، وعنوانه: ((القراءت المتواترة في تفسير الزمخشري ـ دراسة نقدية)).
وقد كتب عنه الباحث ملخصا في أحد المواقع الإلكترونية (2)، ولم يطبعه بعد.
7 ـ الأستاذ عبد الرحيم مرزوق، حصل به على الماجستير 1990م من جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الدراسات الإسلامية, وعنوانه: ((الزمخشري ومنهجه في توظيف القراءات القرآنية)).
ـــــــــــــــــ
http://vb.tafsir.net/tafsir31702/#_ednref1(1) تحت هذا الرابط: http://www.islamweb.net.qa/ver2/archive/readArt.php?lang
(2) تحت هذا الرابط: veecos.net?
 
خطة البحث
قسمت البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وسبعة مباحث، وخاتمة، وفهارس، كما يلي:
o المقدمة.
o تمهيد: منهج الزمخشري العام في كتابه (الكشاف).
o المبحث الأول: مبلغ الزمخشري من علم القراءات.
o المبحث الثاني: منهج الزمخشري في نوعية القراءات التي أوردها.
o المبحث الثالث: منهج الزمخشري في نسبة القراءات.
o المبحث الرابع: منهج الزمخشري في توثيق القراءات.[FONT=QCF_BSML] [/FONT]
o المبحث الخامس: منهج الزمخشري في توجيه القراءات.
o المبحث السادس: المؤثرات في منهج الزمخشري في تعامله مع القراءات.
o المبحث السابع: موقف الدارسين من منهج الزمخشري في تعامله مع القراءات.
o خاتمة، وفيها أهم النتائج.
 
تمهيد: منهج الزمخشري العام في كتابه (الكشاف)​
لم يسطر المؤلف منهجه في مقدمة كتابه، اللهم إلا ما ورد ثَمَّت من إشارته إلى بعض ذلك بقوله: ((ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلىّ في تفسير آية، فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب، أفاضوا في الاستحسان والتعجب، واستُطِيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك، حتى اجتمعوا إلىّ مقترحين أن أملي عليهم (الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) ... فأمليت عليهم مسألة في الفواتح، وطائفة من الكلام في حقائق سورة البقرة، وكان كلاما مبسوطا، كثير السؤال والجواب، طويل الذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم، وأن يكون لهم مناراً ينتحونه، ومثالا يحتذونه... فلما حططت الرحل بمكة... أخذت في طريقة أخصر من الأولى، مع ضمان التكثير من الفوائد، والفحص عن السرائر)) (1).
فقد نبه على أمور ثلاثة:
الأول: أنه نهج أسلوب السؤال والجواب.
الثاني: أنه نهج أسلوب الاختصار.
الثالث: أن اختصاره لم يكن مخلا، بل اتسم بكثرة الفوائد والدقائق.
ومع عدم رسمه منهجا تفصيليا في المقدمة إلا أنه التزم بمنهج معين من أول الكتاب إلى آخره(2)، فهو يذكر اسم السورة، ثم يبين مكيتها أو مدنيتها دون أن يذكر في ذلك روايات، ثم يذكر عدد آياتها على المذهب الكوفي غالبا، ثم يذكر أسماءها إن كان لها أسماء أخر، ثم يشرع في تفسير مقاطعها، وغالبا ما يستعمل أسلوب المحاورة، فيقول مثلا: ((فإن قيل: ما معنى كذا؟ قلت: ...)) فيجيب، كما أنه يختم السورة بذكر فضائلها، وهي عبارة عن مقاطع من الحديث الطويل في فضائل السور، الذي اعترف نوح بن أبي مريم بأنه وضعه(3)، ويجرده من السند، ويكتفي بالقول: ((عن رسول الله ص)) ويذكره.
ولقد قام الدكتور مصطفى الصاوي بدراسة منهجه، فتوصل في خاتمة بحثه إلى حصر ملامح ذلك المنهج في نقاط(4)، رأيت أن أختصرها هنا لأهميتها:
1 ـ الزمخشري في الكشاف مفسر معتزلي مؤمن بالعقل مقدس له بجعله آلته حين يفسر، فتراه يعمل عقله ويكد ذهنه، فيستنبط المعاني، ويجيء لمعنى الآية بأكثر من وجه تفسيري، ويتعدى العناية بنسق الآية المعنوي إلى نسق القرآن المعنوي كله، ويجاري الفقهاء في استنباط بعض الأحكام الشرعية ليدلل بها على آرائه إن في العلم أو في الدين.
2 ـ يقف الزمخشري أما م ظاهر بعض الآي التي يدعم معناها القريب آراء المعتزلة فيعتبرها محكمة، والتي يخالف ظاهرها آراءهم يجعلها متشابهة و يحاول جاهدا أن يطوع معناها لتتماشى ومذهبه، مستعينا بكل ما أتيح له من ثقافة منطقية، وعقلية رياضية، وقد يحمل اللغة مالا تحتمله من معان.
كما يستعين بحذقه في علمي المعاني والبيان، وعلم النحو، بل استنصر بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإذا تعارض حديث مع أصل من أصوله شكك فيه، ثم أوله ـ إن افترض صحته ـ ثم دلل على تأويله بآية محكمة من كتاب الله.
3 ـ في الآيات التي لا تمس الاعتزال تراه ينهج في تفسير نهج المفسرين الأثريين، فيورد أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ويفسر القرآن بالقرآن وبالسنة وبالآثار، ويتسامح في القصص والإسرائيليات ولو كانت أساطير، ما دامت لا تصادم ما يعتقده.
4 ـ والزمخشري لغوي بارع، يفرق بين المترادفات تفرقة دقيقة، ويتذوق المعنى الصوتي للفظة القرآنية، ويفسر اللفظ القرآني بالمسموع من العرب، إلا أنه وسع استشهاده حتى شمل بعض المحدثين كأبي تمام.
5 ـ والزمخشري يجعل همه المعنى حيث كان حينما يعالج الإعراب، كما يستعمل النحو في الدفاع عن القرآن من طعن الطاعنين.
6 ـ والزمخشري يستعين بالقراءات على التفسير، كما سيأتي تفصيله.
7 ـ وحين يعرض لآيات الأحكام، تجده يستعرض آراء الفقهاء، وينتقد ما يرى انتقاده، ويحلل الآيات تحليلا فقهيا، ويكشف عن حكمة التشريع فيها.
8 ـ وهو تربوي ماهر، يستخرج الدروس والعظات، مستفيدا من تجاربه، ناقدا للأحوال الاجتماعية في عصره.
9 ـ وبعد هذا كله فهو أديب متذوق، يحيا بروحه في النص القرآني، ثم يفيء إلينا بمعان نفيسة، ويجيء بالشعر المضمن معنى الآية التي يفسر، إلا أن ثقافته الأدبية قد تدفعه لشيء من الاستطراد الذي لا يخدم التفسير أحيانا.
وما قام به الدكتور الصاوي يعتبر استقراء تاما لمنهج الزمخشري، فليس عندي ما أزيده عليه، إلا ما سيأتي من بسط لمنهجه القرائي.
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة الكشاف: 1/43، 44 باختصار.
(2) ساعده على ذلك تأليف للكتاب في مدة لا تزيد على ثلاث سنين كما ذكر في المقدمة: 1/44.
(3) انظر: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير: 307، 308.
(4) انظر كتابه: منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه: 80، 81، 82، 83.
 
المبحث الأول: مبلغ الزمخشري من علم القراءات
قرأت لكارل بروكلمان أن للزمخشري كتابا يسمى: ((الكشف في القراءات)) وأنه يوجد في رباط سيدنا عثمان ط بالمدينة النبوية، وأحال على مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: 8/758(1)، ووجدت بعض الإخوة يناقشون هذا الموضوع في ملتقى أهل التفسير(2)، فاستوقفني ذلك، وقررت التأكد من الأمر، وبعد مراجعة مكتبة الملك عبد العزيز حيث يوجد الرباط المشار إليه آنفا، واطلاعي على فهرستها، لم أجد لهذا الكتاب من أثر، وليس ثمة كتاب اسمه الكشف إلا ((الكشف عن وجوه القراءات السبع)) للإمام مكي، ولعله حصل خلط بطريقة ما، فتم تلفيق اسم مؤلف الكشاف لكتاب الكشف لمكي، والله أعلم .
والذي يظهر أن العلامة الزمخشري لم يؤلف في القراءات، فلم تثبت نسبة الكتاب المذكور إليه، أضف إلى ذلك أن ابن المنير نسبه إلى عدم العلم بالقراءات، فقال يرد عليه إنكاره قراءة ابن عامر في سورة الأنعام: ((ولولا عذر أن المنكِر ليس من أهل الشأنين، أعني: علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوي الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين))(3). وتبنا هذا القول أيضا الألوسي، فقال: ((ولعل عذره في ذلك جهله بعلمي القراءة والأصول))(4).
ولما قال مرتضى الشيرازي: ((ما ذكره الزمخشري في الكشاف يدل على تبحره في علم القراءات وتفوقه فيه))(5) رد عليه الأستاذ رمضان يخلف قائلا: ((هذا الكلام فيه من المبالغة الواضحة ما لا يخفى على أي باحث منصف، بل إن علم القراءات هو أحد الجوانب التي تضعف من القيمة العلمية لكشاف الزمخشري وتخدشه))(6).
ولا غبار على هذا الرد، وما يأتي من بيان منهج العلامة الزمخشري أكبر دليل على صحته، ولن يتردد في قبوله أيُّ متخصص في القراءات بمجرد قراءته في الكشاف.
ــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الأدب العربي: 5/238، ولم أقف على المجلة التي نقل منها المعلومة، ولم يذكر هذا الخبر في غير هذه المجلة حسب علمي.
(2) تحت هذا الرابط:
http://vb.tafsir.net/showthread.php?p=101442

(3) الانتصاف، وهو بهامش الكشاف: 2/65.
(4) روح المعاني: 4/277.
(5) الزمخشري لغويا ومفسرا : 197.
(6) موازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: 10.
 
المبحث الثاني: منهج الزمخشري في نوعية القراءات التي أوردها
لم يتحدث العلامة الزمخشري عن ضوابط القراءة التي استعان بها في تفسيره، ولم يذكر مصادره فيما نقله من قراءات، وإذا نظرت في تفسيره تجده استعمل كل أنواع القراءات، فلم يميز المتواتر من الشاذ، ولا الشاذ من الضعيف والموضوع.
وقد حاول الدكتور إبراهيم رفيدة اسنباط ضابط الزمخشري فقال: ((منهج الزمخشري العام وبعض نصوصه يؤكدان بأن الضابط المعتمِد عليه هو قياس العربية وفصاحة الأسلوب في الحكم على القراءات المروية، وأن لفصاحة القارئ وما درب عليه من النطق دخلا في اختياره القراءة وفصاحتها))(1).
وهذا ظاهر في كتابه؛ وذا تجده يرد القراءة المتواترة إذا خالفت ما وقر في ذهنه من اصطلاحات نحوية ولغوية. بينما يحتفي بالقراءة الشاذة أو الضعيفة إذا أدت معنى رَاقَ له، وستأتي أمثلة الأول، ومن أمثلة الثاني قوله عند تفسير قول الحق سبحانه: {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النحل:54. ]: ((وقرأ قتادة: (كَاشَفَ الضرَّ) على فَاعَلَ بمعنى: فَعَلَ، وهو أقوى من كَشَفَ، لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة))(2). فانظر إليه كيف قوى المعنى الذي أعجبه دون أن ينبه على أن القراءة شاذة.
وأما قول الدكتور إبراهيم رفيدة: ((يبدو من صنيعه العام أنه يجعل القراءة المتواترة الأصل الذي يدير حوله الكلام، ثم يذكر القراءة الشاذة لمناسبتها للمتواترة أو للتقوية بها أو توجيهها وبيان وجهها اللغوي))(3) فقول غير دقيق، واعتذار غير مقنع؛ ذلك لأنه كثيرا ما يستفتح كلامه عن الآيات بذكر القراءات الشاذة، فكيف يقال: إنه يجعل القراءات المتواترة أصلا!.
وهناك ملحظ آخر يتعلق بهذه النقطة، وهو أن العلامة الزمخشري يقتصر على القراءات الفرشية غالبا؛ إذ هي المؤثرة في التفسير، لكنه قد يذكر شيئا من الأصول، خصوصا إذا كان له أثر معنوي، كقوله في تفسير الآية الكريمة: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} [الإسراء:72.]: ((معناه: ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك وَأَضَلُّ سَبِيلا من الأعمى. والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة: أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه. وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل، ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل ممالا، والثاني مفخما؛ لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام، كقولك: أعمالكم، وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة))(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

http://vb.tafsir.net/tafsir31702/#_ednref1(1) النحو وكتب التفسير: 1/731.

http://vb.tafsir.net/tafsir31702/#_ednref2(2) الكشاف: 2/571.

http://vb.tafsir.net/tafsir31702/#_ednref3(3) النحو وكتب التفسير: 1/727.

http://vb.tafsir.net/tafsir31702/#_ednref4(4) الكشاف: 2/638.
 
جزاك الله خيرا أخي الحبيب على هذا العرض الممتع وفقك الله وزادك علما
 
المبحث الثالث: منهج الزمخشري في نسبة القراءات
هذا من أدلة عدم مهارة العلامة الزمخشري في علم القراءات، فقد اتسم منهجه في نسبة القراءات بكثير من الاضطراب والخلط، وإليك بيان ذلك في النقاط التالية:
1 ـ كثيرا ما يذكر القراءات دون نسبة، كأن يقول: ((وقُرِئ)) وهذا هو الغالب في كتابه، فلا يحتاج إلى تمثيل.
2 ـ ينسب القراءات المتواترة إلى غير القراء العشرة، مما يوهم المطالع أنها شاذة، وذلك كأن ينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: ((وقرئ:{فلتفرحوا} [يونس:58] بالتاء وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما روي))(1) مع العلم أنها لرويس(2).
أو ينسبها إلى الصحابي، كقوله: ((فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: {استَحَقَّ عليهم الأوليان} [المائدة:107.] على البناء للفاعل، وهم علي وأبيٌّ وابن عباس؟))(3) وهي رواية حفص عن عاصم كما لا يخفى(4).
أو ينسبها إلى أحد رواة الشاذ، كقوله: ((وقرئ: {وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ}(5) بمعنى: ومن يؤته اللَّه الحكمة، وهكذا قرأ الأعمش))(6)، وهي قراءة يعقوب كما هو معلوم(7).
3 ـ ينسب القراءات الشاذة إلى أحد القراء العشرة، مما يوهم القارئ أنها متواترة.
وأمثلة ذلك كثيرة، منها:
أ ـ قوله: ((وعن عاصم أنه قرأ: {الذي اتُّمن}(8) بإدغام الياء في التاء، قياساً على (اتَّسر) في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح؛ لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة، فهي في حكم الهمزة، و(اتَّزر) عاميٌّ))(9).
ب ـ قوله: ((وفي قراءة أبيّ رضى اللَّه عنه: {والصابئين}(10)بالنصب. وبها قرأ ابن كثير))(11).
ج ـ قوله: ((وعن ابن عامر أنه قرأ: {تحمى}(12)بالتاء))(13).
وهذه كلها قراءات شاذة.
4 ـ لم يحتفل بقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف، ولم يذكر قراءة الأوَّلَين إلا نادرا، أما خلف فلم أجد له ذكرا حسب بحثي، وهذا يدل على أن أمر القراءات الثلاث لم يتضح عنده، ويدل على ذلك أيضا أنه وهم في وصف قراءة إلى أبي جعفر، حيث قال: ((وقرأ أبو جعفر: {لا تضارّْ}(14)بالسكون مع التشديد على نية الوقف. وعن الأعرج {لا تضارْ} بالسكون والتخفيف، وهو من ضاره يضيره، ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا))(15).
وغير خاف أن قراء أبي جعفر هي الثانية التي نسبها للأعرج(16)، وكاد أن يسقطها بدعوى أن الراوي أخطأ فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الكشاف: 2/336.
([2]) انظر النشر: 2/285.
([3]) الكشاف : 1/721.
([4]) انظر النشر: 2/256.
([5]) البقرة: 269.
([6]) الكشاف: 1/343.
([7]) انظرها في النشر: 2/235.
([8]) يعني قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه} البقرة:283.
([9]) الكشاف: 1/356.
([10]) يعني قوله تعالى: {إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصرى} المائدة:69.
([11]) الكشاف: 1/694.
([12]) يعني قوله تعالى:{يوم يحمى عليها في نار جهنم} التوبة:35.
([13]) الكشاف: 2/256.
([14]) في قوله تعالى:{لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} البقرة:233.
([15]) الكشاف: 1/308.
([16]) انظرها في النشر: 2/227، 228.
 
المبحث الرابع: منهجه في توثيق القراءات​
بما أن الكشاف تفسير مختصر لم يعتن فيه صاحبه بتوثيق مادته إلا في القليل النادر، وقد قال عن ذلك الأستاذ رمضان يخلف بعد ما ذكر بعض الميزات المشتركة بين الكشاف والبحر المحيط: ((ويلتقي الزمخشري مع أبي حيان الأندلسي في هذه الميزات... إلا أن أبا حيان يبدو أوسع أفقا في جوانب أخرى... منها توثيق مادته العلمية بالإحالة على مصادره بدرجة عالية من الدقة))(1).
هذا في مادة الكتاب عموما، أما بخصوص علم القراءات فالأمر لم يختلف عن ذلك؛ إذ لم ينص العلامة الزمخشري على كتاب من كتب القراءات، رغم أنه كان في عصر استوى فيه علم القراءات على سوقه، وألفت الكتب العظام في فنونه، وقد حاول الدكتور مصطفى الصاوي(2) حصر مصادره في القراءات فلم يجد غير المصاحف، وهي كالتالي:
ا ـ مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ب ـ مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ج ـ مصحف أُبَي رضي الله عنه.
د ـ مصاحف أهل الحجاز والشام.
هـ ـ بعض المصاحف الأخرى، كما يفهم من عبارته: ((وفي بعض المصاحف...)).
ولا ريب أنه لم ير المصاحف الثلاثة الأولى، فيكون قد نقل عنها بواسطة لم يسمها. أما مصاحف أهل الحجاز والشام فتصلح أن تكون مصادر للرسم وليس للقراءات، ففي عد الدكتور هذه المصاحف مصادر للقراءات بحث.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك كتاب "الحجة" لأبي علي الفارسي، وكتاب "المحتسب" لأبي الفتح ابن جني؛ فقد وجدته ينقل عنهما أحيانا، لكن في توجيه القراءات(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: 43.
(2) ينظر: منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه: 90.
(3) نقل عن الحجة في: 1/64 و3/86، ونقل عن المحتسب في: 1/196 و2/172 و2/193.
 
المبحث الخامس: منهجه في توجيه القراءات

يعتبر الكشاف مصدرا مهما من مصادر توجيه القراءات، ومعلوم أن صاحبه نحوي لغوي بارع، ومعنى ذلك أن هذا مجاله والمضمار الذي يسبُقُ فيه. وإني ذاكر أهم ملامح ذلك المنهج، جاعلا إياه في نقاط:
1 ـ أنه يوجه كل القراءات:
العلامة الزمخشري لا يغادر قراءة يوردها - مما تحتاج إلى توجيه - إلا ويوجهها، سواء أكانت متواترة أم غير متواترة، وهذا واضح في كتابه.
2 ـ يختصر في التوجيه:
هذا لا إشكال فيه، لأنه جار على ما التزم به في المقدمة من سلوك مسلك الاختصار في التفسير، ولذلك فهو يحيل القارئ على ما لديه من معلومات نحوية وصرفية دون أن يسترسل في شرحها.
3 ـ يحكم على القراءات ويرد بعضها:
عدم تفريق العلامة الزمخشري بين متواتر القراءات وغيره جعله ينظر للقراءات كلها نظرة واحدة، ويحكِّم فيها عقله وعلمه باللغة والنحو وغيرهما، ولذلك تراه يصف هذه القراءة بالقوية، وهذه بالأقوى، وهذه بالضعيفة، وسأكتفي هنا ببعض الأمثلة التي تبين إنكاره للقراءات المتواترة، ونظرته إلى من قرأ بها من القراء:
أ - قوله: ((وقرئ (عسيتم) بكسر السين وهي ضعيفة)).
ب - قوله: ((وقرئ : روياك، بقلب الهمزة واواً. وسمع الكسائي: رُيَّاك ورِيَّاك ، بالإدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفة، لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها))([1]).
ج ـ قوله: ((وقرئ: بمصرخي، بكسر الياء وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:

قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِيِّ *** قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِيِّ

وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحرّكت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض، الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر، تتضاءل إليه القياسات))([2]).
د ـ قوله: ((فإن قلت: أَصْطَفَى الْبَناتِ بفتح الهمزة استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبى جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟ قلت: جعله من كلام الكفرة بدلا عن قولهم: وَلَدَ اللَّهُ، وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي اللّه عنهما. وهذه القراءة ـ وإن كان هذا محملها ـ فهي ضعيفة، والذي أضعفها: أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها، وذلك قوله: {وإنهم لكاذبون}. {مالكم كيف تحكمون}؟ فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين))([3]).
هـ ـ قوله: ((وقرئ: {فيغفرْ}{ويعذبْ}، مجزومين عطفاً على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟ قلت يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو))([4]).
و ـ قوله: ((قرئ: {أصحاب الأيكة} بالهمزة وبتخفيفها، وبالجرّ على الإضافة وهو الوجه. ومن قرأ بالنصب وزعم أن {لَيْكَةَ} بوزن ليلة: اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة (ص) بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب النحو (لاَن)، و(لُولَى): على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة، على أن {لَيْكَةَ} اسم لا يعرف))([5]).
4 ـ يختار بعض القراءات:
قضية الاختيار قضية معروفة، ويمكن الرجوع إليها في مظانها([6])، والذي يهمني هنا هو منهج العلامة الزمخشري في الاختيار، ويمكن أن نتلمس بعضه في النص الآتي:
قال في تفسير الفاتحة: (({وَمَلِكِ}: هو الاختيار؛ لأنه قراءة أهل الحرمين، ولقوله: {لمن الملك اليوم}، ولقوله: {ملك الناس}، ولأن الْمُلك يعم، والْمِلك يخص))([7]).
فأنت تلحظ أنه ذكر ثلاثة أسباب للاختيار، وهي: كونها قراءة أهل الحرمين، وكونها وردت في آيات أخرى، وكونها أوفر معنى.
وهناك سببان آخران ذكرهما الدكتور إبراهيم رفيدة بقوله: ((منهج الزمخشري العام وبعض نصوصه يؤكدان بأن الضابط المعتمِد عليه هو قياس العربية وفصاحة الأسلوب في الحكم على القراءات المروية، وأن لفصاحة القارئ وما درب عليه من النطق دخلا في اختياره القراءة وفصاحتها))([8]).
وهذه الأسباب الخمسة عليها (مجتمعة أو متفرقة) يدور ما اختاره من قراءات، وما قواه من أوجه([9]).
وهو في منهجه هذا سائر على نهج بعض النحويين، قال الدكتور رمضان يخلف: ((وهكذا فإن الزمخشري بتطبيقه المنهج النحوي على القراءات يكون قد أحيا مواته، ونفخ فيه من روحه وفكره، لأن نقد القراءات قد هدأ بعد الطبري وأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني؛ لاكتمال الدرس النحوي من جهة، ولاستقرار الرواية في القراءات من جهة أخرى، حتى جاء الزمخشري، وألف تفسيره (الكشاف) في القرن السادس، فأثار منهج الأقدمين، وبعث فيه الروح بنقده للقراءات، وبذلك أيضا يكون الزمخشري تابعا لمنهج سابق، وليس مبتدعا، وإنما كثر خصومه من هذا الجانب لجرأته في الصدع بآرائه... وقد ظهرت هذه الجرأة منه في مختلف جوانب تفسيره، وليس في تعامله مع القراءات القرآنية فقط، كما أنه لم تبق المبررات السابقة للنظر في القراءات من حيث الرد والقبول بعد أن دونت القراءات وعرف المردود والمقبول منها))([10]).

ـــــــــــــــــ
([1]) الكشاف: 2/419.
([2]) نفسه: 2/517.
([3]) الكشاف: 4/64.
([4]) نفسه: 1/357، 358.
([5]) نفسه: 3/336،337.
([6]) ينظر: الإيضاح في علم القراءات: 114 فما بعدها، والقراءات القرآنية: 261 فما بعدها.
([7]) الكشاف: 1/54.
([8]) النحو وكتب التفسير: 1/731.
([9]) انظر: منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه: 175 ـ 178.
([10]) الموازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: 134.
 
عودة
أعلى