محبة القرآن
New member
[align=center]الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين
وبعد..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أثنى الله في كتابه القرآن الكريم على المؤمنين من عباده،
وبين أنهم يتأثرون بالقرآن، فتقشعر منه أبدانهم، وتهفو إليه نفوسهم، ويزدادون به إيماناً على إيمانهم.
يقول الله تعالى:
"الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله"
[سورة الزمر آية 23].
ويقول جل وعلا:
"وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم"
[سورة الحج آية 54].
وقال تبارك وتعالى:
"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.."
[سورة الأنفال آية 2].
وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً.
[سورة التوبة 124، والإسراء 82، وفصلت 44 وغير ذلك].
2- وانطلاقاً من هذا المعنى الذي أشارت إليه الآيات الكريمات رأينا سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم يضربون لنا أروع الأمثلة في الارتباط بكتاب الله تعالى من جميع الوجوه: دعوة إليه، وتلاوة له، وتدبراً لآياته، وعملاً بأحكامه.
يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله في شأن القرآن، وكيف تعامل السابقون معه:
"إن من كان قبلكم رآه (أي القرآن) رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل ، وينفذونها بالنهار"
[إحياء علوم الدين ج2 ص 498].
وحتى يتضح المقال السابق أسوق بعضاً من أقوالهم وأحوالهم في هذا الشأن.
(1) ففيما يتعلق بدعوتهم إلى حب كتاب الله والتمسك به وردت هذه الأقوال:
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
"من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله عز وجل فليعرض نفسه على القرآن، فإنما القرآن كلام الله عز وجل، فمن أحب القرآن فهو يحب الله عز وجل"
[استنشاق نسيم الأنس من نفحات الرياض القدس ص 40 ابن رجب].
وورد أيضاً عنه قوله: "لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله سبحانه ورسوله"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 496 أبو حامد الغزالي].
وقال سفيان بن عيينة رضي الله عنه: "لا تبلغون ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله عز وجل، فمن أحب القرآن فقد أحب الله عز وجل"
[استنشاق نسيم الأنس ص 40 ابن رجب].
3- وفيما يتعلق بحرصهم على قراءة القرآن وإدامة تلاوته نورد هذه الأدلة:
I- يقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "لو طهرت قلوبنا لم تشبع من قراءة القرآن"
[إحياء علوم الدين ج 3 ص 520].
Ii- وأثر عن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قوله: "إني لأستحي الا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة"
[تفسير القرطبي ج1 ص 24].
وروى مثل ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[التذكار في أفضل الأذكار ص 179].
ج- وذكر الإمام القرطبي في كتابه (التذكار في أفضل الأذكار) [ص 108]:
أن محمد بن شجاع لما حضرته الوفاة أشار إلى بيت فقال: "ختمت القرآن في ذلك البيت في الصلاة ثلاثة آلاف مرة".
4- وكانوا يرون من التقصير المشين أن يؤتى الرجل القرآن ثم يتغافل عن قراءته والنظر فيه.
يقول أبو العالية: "كنا نعد من أعظم الذنب ان يتعلم الرجل القرآن ثم ينام لا يقرأ منه شيئاً"
[الزهد ص 303 لأحمد بن حنبل].
5- ولم يكن جهد السلف مقصوراً على قراءة القرآن دون حفظه واستظهار آياته، فقد كان فيهم الكثير ممن يحفظ كتاب الله تعالى.
أخرج أبو نعيم في كتابه (حلية الأولياء) [ج1 ص 257]:
بسنده إلى أبي حرب بن الأسود الديلي عن أبيه قال: "جمع أبو موسى القراء فقال: لا تُدخلوا علي إلا من جمع القرآن.
فدخلنا عليه زهاء ثلثمائة، فوعظنا وقال: أنتم قراء أهل البلد، فلا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب أهل الكتاب..
6- وكانوا رضوان الله عليهم نموذجاً يحتذى في التدبر لآيات الله عملاً بقوله تعالى:
"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب"
[سورة ص آية 29].
ومن أقوالهم في هذا الشأن ما يلي:
يقول محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله، وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله، بل يقرؤه كما يقرا العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله، ويعمل بمقتضاه"
[إحياء علوم الدين ج1 ص 516].
وقال بعض العلماء في هذا الصدد أيضاً:
"هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات"
[نفس المرجع والصفحة].
7- وكانوا يرون أن قليلاً من القراءة مع تفهم وتدبر خير من كثير منها مع غفلة القلب وشرود الذهن.
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة"
[نفس المرجع ج33 ص 502].
وقال أيضاً:
"لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيراً"
[نفس المرجع والصفحة، ومعنى الهذرمة والتهذير: الإسراع في القراءة].
وقال رجل اسمه نهيك بن سنان- لعبد الله بن مسعود: إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذا كهذِّ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع"
[لا يجاوز تراقيهم: معناه انهم يقرؤون القرآن بألسنتهم ولا يصل إلى قلوبهم، والتراقي جمع ترقوة، وهي العظم بين ثغرة النحر والعاتق، والحديث أخرجه مسلم واللفظ له ج1 ص 563، وأخرجه البخاري بنحوه 3/234].
8- ويؤكدون في كلماتهم على أن تدبر القرآن وتفهمه إلى جانب كونه مطلباً دينياً وسيلة تربوية ناجحة لشفاء القلوب من قساوتها، والأعين من جمودها.
يقول وهيب بن الورد رضي الله عنه:
"نظرنا في هذه الأحاديث فلم نجد شيئاً أرق للقلوب ولا أشد استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره".
[إحياء علوم الدين 3/516].
9- ويتحدثون عن طريقة تحصيل التدبر أثناء التلاوة فيقول أحدهم وهو الحافظ جلال الدين السيوطي:
10- "وتسن القراءة بالتدبر والتفهم، فهو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم، به تنشرح الصدور وتستنير القلوب… وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتفكير في معنى ما يلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذ، أو تنزيه نزه وعظم، أو دعاء تضرع وطلب"
[الإتقان في علوم القرآن ج1 ص 106].
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي:
"فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله، استشعاراً لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولداً وصاحبة، يغض صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقاً إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 516- 517].
11- وكانوا يرون أن خلو القراءة من التدبر يجعلها كأن لم تكن.
يقول الإمام القرطبي:
"قال العلماء: يجب على القارئ إحضار قلبه، والتفكير عند قراءته، لأنه يقرأ خطاب الله الذي خاطب به عباده، فمن قرأ ولم يتفكر فيه وهو من أهل أن يدركه بالتذكر والتفكير كان كمن لم يقرأه، ولم يصل إلى غرض القراءة من قراءته، فإن القرآن يشتمل على آيات مختلفة الحقوق، فإذا ترك التفكير والتدبر فيما قرأ استوت الآيات كلها عنده، فلم يرع لواحدة منها حقها، فثبت أن التفكير شرط في القراءة يتوصل به إلى إدراك أغراضه ومعانيه وما يحتوي عليه من عجائبه"
[التذكار في أفضل الأذكار ص 195- 196].
وأسوق هذه الأمثلة على تدبر السلف الصالح لكتاب الله تعالى، والتي تنبئ عن الأسلوب الذي كانوا يتعاملون بع عند تلاوتهم لكتاب الله تعالى.
يقول بعض السلف: "كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه، ثم رُفعت إلى مقام فوقه، فكنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم منَّ الله علي بمنزلة أسمى، فأنا الآن أسمعه من المتكلم به، وعندها وجدت لذة ونعيماً لا صبر لي عنهما"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 520].
ويقول المفكر محمد إقبال: "قد كنت تعمدت أن اقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم، وكان أبي يراني فيسألني، ماذا أصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن.
وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات، يسألني سؤاله فأجيبه جوابي، وذات يوم قلت له: مالك يا أبي تسألني نفس السؤال، وأجيبك جواباً واحداً، ثم لا يمنعك ذلك عن إعادة السؤال من غد؟
فقال إنما أردت أن أقول لك يا ولدي: اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك، ومنذ ذلك اليوم بدأت اتفهم القرآن، وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن درره ما نظمت"
[روائع إقبال ص 42 أبو الحسن الندوي].
12- وقد ورد في كثير من الآثار أن تدبرهم للقرآن الكريم كان يظهر بصورة عملية تتمثل في البكاء، وأحياناً فيما هو أكثر من البكاء.
وهذه بعض الأمثلة:
(i) جاء في صحيح الحديث أنه لما اشتد مرض الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلب عليه البكاء"
[أخرجه البخاري 1/125].
وعن أبي صالح قال: "قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجعلوا يقرءون ويبكون، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: هكذا كنا" .
[التبيان في آداب حملة القرآن ص 47 النووي].
(ii) وجاء في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هشام بن الحسن قال: "كان عمر بن الخطاب يمر بالآية في ورده فتخنقه فيبكي حتى يسقط ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً"
[حلية الأولياء لأبي نعيم 1/51].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "صليت خلف عمر فسمعت حنينه يعني أنينه من وراء ثلاثة صفوف"
[حلية الأولياء لأبي نعيم 1/53].
(ج) وروي أن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه كان إذا نشر المصحف غشي عليه، وقال: هو كلام ربي، هو كلام ربي"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 509].
13- وللسلف رضوان الله عليهم كرم في طريقة تحصيل البكاء عند التلاوة، وينعون على من لم يحصل ذلك.
يقول الإمام النووي: "وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإنه من المصائب"
[التبيان في آداب حملة القرآن ص 47 النووي].
والكلمات والأحوال في هذا الشأن كثيرة، لكننا نكتفي بما ذكرنا إيثاراً لعدم الخروج عن الموضوع.
14- وأما تسابقهم في العمل بما أنزل الله في القرآن فحدث عنه ولا حرج، فلقد كانوا مع القرآن كما يقول الأستاذ سيد قطب، كالجندي في الميدان يتلقى الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه.
[معالم في الطريق ص 18].
وصح فيهم قول ذي النون المصري:
منع القرآن بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك الكريم كلامه فهما تزل له الرقاب وتخضع
[لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 183 ابن رجب الحنبلي].
15- ومن ثم ورد عنهم ما يفيد إقلالهم من الحفظ حتى يتمكنوا من تطبيقه والعمل به.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"
[تفسير ابن كثير ج1 ص 3].
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا علموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً"
[تفسير ابن كثير ج1 ص 3].
16- ولم يكن إقلالهم من الحفظ عجزاً منهم عن استظهار وحفظ القرآن الكريم، وإنما لتقديرهم مسئولية العمل، وهذا ما نطقت به ألسنتهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً، فأتى على رجل من أحدثهم سناً، فقال: ما معك يا فلان، قال معي كذا وكذا وسورة البقرة: قال: أمعك سورة البقرة فقال: نعم، قال: فاذهب فأنت أميرهم".
فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية ألا أقوم بها .. "
[أخرجه الترمذي وحسنه 5/156].
17- ولقد حرص السلف الصالح رضوان الله عليهم على أن ينقلوا ضرورة الاهتمام بالعمل بكتاب الله إلى تلاميذهم، والأجيال التي ترث الكتاب من بعدهم وإليكم هذه الآثار:
I- عن أبي عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه أنه كان إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه، ووضع يديه على رأسه، وقال له: يا هذا اتق الله، فما أعرف أحداً خيراً منك، إن عملت بالذي علمت.
[تفسير القرطبي 1/5].
Ii- قال بعض القراء، قرأت على شيخ لي، ثم رجعت لأقرأ ثانياً فانتهرني، وقال: جعلت قراءة القرآن علي عملاً؟ اذهب فاقرأ على الله عز وجل، فانظر بماذا يأمرك، وبماذا ينهاك.
[إحياء علوم الدين 3/518].
18- ولذلك لا تعجب أن يبارك الله في هذا الجيل فتنزل الملائكة لقراءتهم مثلما حدث مع الصحابي الجليل أسيد بن حضير، ويقرأ أحدهم الفاتحة على لديغ فيبرأ بإذن الله، في حين أن أحدنا لو قرأ القرآن كله لاستوت قراءته وعدمها، فلا مريض يبرأ، ولا ملك ينزل، ولو حدث لكان شيئاً نادراً، والنادر لا حكم له.
فما هي الوسائل التي تعيننا على أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء السلف.
إن ذلك يكون بالتخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآدابه، لا سيما من شرفهم الله بحمل هذا القرآن، واستظهار آياته.[/align]
وبعد..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أثنى الله في كتابه القرآن الكريم على المؤمنين من عباده،
وبين أنهم يتأثرون بالقرآن، فتقشعر منه أبدانهم، وتهفو إليه نفوسهم، ويزدادون به إيماناً على إيمانهم.
يقول الله تعالى:
"الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله"
[سورة الزمر آية 23].
ويقول جل وعلا:
"وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم"
[سورة الحج آية 54].
وقال تبارك وتعالى:
"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.."
[سورة الأنفال آية 2].
وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً.
[سورة التوبة 124، والإسراء 82، وفصلت 44 وغير ذلك].
2- وانطلاقاً من هذا المعنى الذي أشارت إليه الآيات الكريمات رأينا سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم يضربون لنا أروع الأمثلة في الارتباط بكتاب الله تعالى من جميع الوجوه: دعوة إليه، وتلاوة له، وتدبراً لآياته، وعملاً بأحكامه.
يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله في شأن القرآن، وكيف تعامل السابقون معه:
"إن من كان قبلكم رآه (أي القرآن) رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل ، وينفذونها بالنهار"
[إحياء علوم الدين ج2 ص 498].
وحتى يتضح المقال السابق أسوق بعضاً من أقوالهم وأحوالهم في هذا الشأن.
(1) ففيما يتعلق بدعوتهم إلى حب كتاب الله والتمسك به وردت هذه الأقوال:
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
"من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله عز وجل فليعرض نفسه على القرآن، فإنما القرآن كلام الله عز وجل، فمن أحب القرآن فهو يحب الله عز وجل"
[استنشاق نسيم الأنس من نفحات الرياض القدس ص 40 ابن رجب].
وورد أيضاً عنه قوله: "لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله سبحانه ورسوله"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 496 أبو حامد الغزالي].
وقال سفيان بن عيينة رضي الله عنه: "لا تبلغون ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله عز وجل، فمن أحب القرآن فقد أحب الله عز وجل"
[استنشاق نسيم الأنس ص 40 ابن رجب].
3- وفيما يتعلق بحرصهم على قراءة القرآن وإدامة تلاوته نورد هذه الأدلة:
I- يقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "لو طهرت قلوبنا لم تشبع من قراءة القرآن"
[إحياء علوم الدين ج 3 ص 520].
Ii- وأثر عن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قوله: "إني لأستحي الا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة"
[تفسير القرطبي ج1 ص 24].
وروى مثل ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[التذكار في أفضل الأذكار ص 179].
ج- وذكر الإمام القرطبي في كتابه (التذكار في أفضل الأذكار) [ص 108]:
أن محمد بن شجاع لما حضرته الوفاة أشار إلى بيت فقال: "ختمت القرآن في ذلك البيت في الصلاة ثلاثة آلاف مرة".
4- وكانوا يرون من التقصير المشين أن يؤتى الرجل القرآن ثم يتغافل عن قراءته والنظر فيه.
يقول أبو العالية: "كنا نعد من أعظم الذنب ان يتعلم الرجل القرآن ثم ينام لا يقرأ منه شيئاً"
[الزهد ص 303 لأحمد بن حنبل].
5- ولم يكن جهد السلف مقصوراً على قراءة القرآن دون حفظه واستظهار آياته، فقد كان فيهم الكثير ممن يحفظ كتاب الله تعالى.
أخرج أبو نعيم في كتابه (حلية الأولياء) [ج1 ص 257]:
بسنده إلى أبي حرب بن الأسود الديلي عن أبيه قال: "جمع أبو موسى القراء فقال: لا تُدخلوا علي إلا من جمع القرآن.
فدخلنا عليه زهاء ثلثمائة، فوعظنا وقال: أنتم قراء أهل البلد، فلا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب أهل الكتاب..
6- وكانوا رضوان الله عليهم نموذجاً يحتذى في التدبر لآيات الله عملاً بقوله تعالى:
"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب"
[سورة ص آية 29].
ومن أقوالهم في هذا الشأن ما يلي:
يقول محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله، وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله، بل يقرؤه كما يقرا العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله، ويعمل بمقتضاه"
[إحياء علوم الدين ج1 ص 516].
وقال بعض العلماء في هذا الصدد أيضاً:
"هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات"
[نفس المرجع والصفحة].
7- وكانوا يرون أن قليلاً من القراءة مع تفهم وتدبر خير من كثير منها مع غفلة القلب وشرود الذهن.
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة"
[نفس المرجع ج33 ص 502].
وقال أيضاً:
"لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيراً"
[نفس المرجع والصفحة، ومعنى الهذرمة والتهذير: الإسراع في القراءة].
وقال رجل اسمه نهيك بن سنان- لعبد الله بن مسعود: إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذا كهذِّ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع"
[لا يجاوز تراقيهم: معناه انهم يقرؤون القرآن بألسنتهم ولا يصل إلى قلوبهم، والتراقي جمع ترقوة، وهي العظم بين ثغرة النحر والعاتق، والحديث أخرجه مسلم واللفظ له ج1 ص 563، وأخرجه البخاري بنحوه 3/234].
8- ويؤكدون في كلماتهم على أن تدبر القرآن وتفهمه إلى جانب كونه مطلباً دينياً وسيلة تربوية ناجحة لشفاء القلوب من قساوتها، والأعين من جمودها.
يقول وهيب بن الورد رضي الله عنه:
"نظرنا في هذه الأحاديث فلم نجد شيئاً أرق للقلوب ولا أشد استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره".
[إحياء علوم الدين 3/516].
9- ويتحدثون عن طريقة تحصيل التدبر أثناء التلاوة فيقول أحدهم وهو الحافظ جلال الدين السيوطي:
10- "وتسن القراءة بالتدبر والتفهم، فهو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم، به تنشرح الصدور وتستنير القلوب… وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتفكير في معنى ما يلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذ، أو تنزيه نزه وعظم، أو دعاء تضرع وطلب"
[الإتقان في علوم القرآن ج1 ص 106].
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي:
"فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله، استشعاراً لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولداً وصاحبة، يغض صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقاً إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 516- 517].
11- وكانوا يرون أن خلو القراءة من التدبر يجعلها كأن لم تكن.
يقول الإمام القرطبي:
"قال العلماء: يجب على القارئ إحضار قلبه، والتفكير عند قراءته، لأنه يقرأ خطاب الله الذي خاطب به عباده، فمن قرأ ولم يتفكر فيه وهو من أهل أن يدركه بالتذكر والتفكير كان كمن لم يقرأه، ولم يصل إلى غرض القراءة من قراءته، فإن القرآن يشتمل على آيات مختلفة الحقوق، فإذا ترك التفكير والتدبر فيما قرأ استوت الآيات كلها عنده، فلم يرع لواحدة منها حقها، فثبت أن التفكير شرط في القراءة يتوصل به إلى إدراك أغراضه ومعانيه وما يحتوي عليه من عجائبه"
[التذكار في أفضل الأذكار ص 195- 196].
وأسوق هذه الأمثلة على تدبر السلف الصالح لكتاب الله تعالى، والتي تنبئ عن الأسلوب الذي كانوا يتعاملون بع عند تلاوتهم لكتاب الله تعالى.
يقول بعض السلف: "كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه، ثم رُفعت إلى مقام فوقه، فكنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم منَّ الله علي بمنزلة أسمى، فأنا الآن أسمعه من المتكلم به، وعندها وجدت لذة ونعيماً لا صبر لي عنهما"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 520].
ويقول المفكر محمد إقبال: "قد كنت تعمدت أن اقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم، وكان أبي يراني فيسألني، ماذا أصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن.
وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات، يسألني سؤاله فأجيبه جوابي، وذات يوم قلت له: مالك يا أبي تسألني نفس السؤال، وأجيبك جواباً واحداً، ثم لا يمنعك ذلك عن إعادة السؤال من غد؟
فقال إنما أردت أن أقول لك يا ولدي: اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك، ومنذ ذلك اليوم بدأت اتفهم القرآن، وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن درره ما نظمت"
[روائع إقبال ص 42 أبو الحسن الندوي].
12- وقد ورد في كثير من الآثار أن تدبرهم للقرآن الكريم كان يظهر بصورة عملية تتمثل في البكاء، وأحياناً فيما هو أكثر من البكاء.
وهذه بعض الأمثلة:
(i) جاء في صحيح الحديث أنه لما اشتد مرض الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلب عليه البكاء"
[أخرجه البخاري 1/125].
وعن أبي صالح قال: "قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجعلوا يقرءون ويبكون، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: هكذا كنا" .
[التبيان في آداب حملة القرآن ص 47 النووي].
(ii) وجاء في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هشام بن الحسن قال: "كان عمر بن الخطاب يمر بالآية في ورده فتخنقه فيبكي حتى يسقط ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً"
[حلية الأولياء لأبي نعيم 1/51].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "صليت خلف عمر فسمعت حنينه يعني أنينه من وراء ثلاثة صفوف"
[حلية الأولياء لأبي نعيم 1/53].
(ج) وروي أن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه كان إذا نشر المصحف غشي عليه، وقال: هو كلام ربي، هو كلام ربي"
[إحياء علوم الدين ج3 ص 509].
13- وللسلف رضوان الله عليهم كرم في طريقة تحصيل البكاء عند التلاوة، وينعون على من لم يحصل ذلك.
يقول الإمام النووي: "وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإنه من المصائب"
[التبيان في آداب حملة القرآن ص 47 النووي].
والكلمات والأحوال في هذا الشأن كثيرة، لكننا نكتفي بما ذكرنا إيثاراً لعدم الخروج عن الموضوع.
14- وأما تسابقهم في العمل بما أنزل الله في القرآن فحدث عنه ولا حرج، فلقد كانوا مع القرآن كما يقول الأستاذ سيد قطب، كالجندي في الميدان يتلقى الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه.
[معالم في الطريق ص 18].
وصح فيهم قول ذي النون المصري:
منع القرآن بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك الكريم كلامه فهما تزل له الرقاب وتخضع
[لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 183 ابن رجب الحنبلي].
15- ومن ثم ورد عنهم ما يفيد إقلالهم من الحفظ حتى يتمكنوا من تطبيقه والعمل به.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"
[تفسير ابن كثير ج1 ص 3].
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا علموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً"
[تفسير ابن كثير ج1 ص 3].
16- ولم يكن إقلالهم من الحفظ عجزاً منهم عن استظهار وحفظ القرآن الكريم، وإنما لتقديرهم مسئولية العمل، وهذا ما نطقت به ألسنتهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً، فأتى على رجل من أحدثهم سناً، فقال: ما معك يا فلان، قال معي كذا وكذا وسورة البقرة: قال: أمعك سورة البقرة فقال: نعم، قال: فاذهب فأنت أميرهم".
فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية ألا أقوم بها .. "
[أخرجه الترمذي وحسنه 5/156].
17- ولقد حرص السلف الصالح رضوان الله عليهم على أن ينقلوا ضرورة الاهتمام بالعمل بكتاب الله إلى تلاميذهم، والأجيال التي ترث الكتاب من بعدهم وإليكم هذه الآثار:
I- عن أبي عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه أنه كان إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه، ووضع يديه على رأسه، وقال له: يا هذا اتق الله، فما أعرف أحداً خيراً منك، إن عملت بالذي علمت.
[تفسير القرطبي 1/5].
Ii- قال بعض القراء، قرأت على شيخ لي، ثم رجعت لأقرأ ثانياً فانتهرني، وقال: جعلت قراءة القرآن علي عملاً؟ اذهب فاقرأ على الله عز وجل، فانظر بماذا يأمرك، وبماذا ينهاك.
[إحياء علوم الدين 3/518].
18- ولذلك لا تعجب أن يبارك الله في هذا الجيل فتنزل الملائكة لقراءتهم مثلما حدث مع الصحابي الجليل أسيد بن حضير، ويقرأ أحدهم الفاتحة على لديغ فيبرأ بإذن الله، في حين أن أحدنا لو قرأ القرآن كله لاستوت قراءته وعدمها، فلا مريض يبرأ، ولا ملك ينزل، ولو حدث لكان شيئاً نادراً، والنادر لا حكم له.
فما هي الوسائل التي تعيننا على أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء السلف.
إن ذلك يكون بالتخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآدابه، لا سيما من شرفهم الله بحمل هذا القرآن، واستظهار آياته.[/align]