الحمد لله رب العالمين كما علَّمنا أن نحمد ، والصلاة والسلام على النبي محمد ، وبعد : فقد شاع بين بعض طلبة العلم وبعض أهله أن الروايات في التفسير – غير الحديث النبوي – لا يجري عليها ما يجري على الحديث من التصحيح والتضعيف ... هكذا مطلقًا ، واتخذه البعض مذهبًا يدافع عنه ويرفض ما عداه ، بل ويزعم أن هذا هو مذهب المفسرين من أهل الحديث ، كابن جرير وابن كثير وغيرهم . ولما كان هذا المذهب بهذا الإطلاق ليس صوابًا ، كانت هذه الدراسة الموجزة في مذهب ابن كثير في تناول هذه الروايات ؛ وأقدم لها ببعض الأمور التي أصبحت كالمسلمة عند أهل العلم بالرواية ، وهي : 1 – أن السابقين من المصنفين في التفسير بالمنقول كانت عادتهم الجمع والإسناد ، ومن أسند فقد أحالك ، فمن أراد أن يبحث عن صحة النقل فأمامه الإسناد ينظر فيه . 2 – أنه قد يكون في الرواية إسناد صحيح بمعنى صحيح لبعض السلف ، وتأتي روايات أخرى لغيره وفي إسنادها ضعف ؛ فيعتمد المفسر في النقل صحة المتن لا صحة الإسناد ، ويذكر هذا على أنه قول لقائله ، لوجود القول الأول الصحيح . 3 – قد لا يكون في المنقول إلا ما هو ضعيف الإسناد ، وليس في تفسير الآية غيره ، فيثبته المفسر لعدم وجود غيره ... ثم إن كان المعنى صحيحًا اعتبره ، وإن كان ليس صحيحا ردَّه ، أو سكت عنه . 4 – قد يختار بعض المفسرين قولا يصححه وإن كانت الرواية له ضعيفة ، ولكن تصحيحه باعتبار آخر ، ربما لصحة اللغة فيه ، أو قرائن من المناسبة في الآية ، أو تكون الآية تتحدث عن واقعة في السيرة ... أو غير ذلك . ثم اعلم أن الروايات - غير حديث النبي e - في التفسير أنواع : 1 – الإسرائيليات . 2 – المنقول عن الصحابة في أسباب النزول . 3 – المنقول عن الصحابة من أقوالهم . 4 – المنقول عن التابعين في أسباب النزول . 5 – المنقول عن التابعين من أقوالهم . 6 – المنقول عن تابعي التابعين . فماذا كان منهج ابن كثير - رحمه الله في تناول هذه الأنواع ؟ في هذه الدراسة - إن شاء الله - إجابة موجزة ، وأرجو ممن كان عنده في ذلك علم أن يدليَ بدلوه .
أولا : الإسرائيليات
الإسرائيليات هي تلك القصص التي نسبت إلى بني إسرائيل ؛ لأنها نقلت عنهم ؛ وهي على العموم نوعان : منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو موضوع مختلق ؛ وغالبها لا فائدة منه ، ولابن كثير - رحمه الله - منهجه في هذه النقول ذكره في مقدمة تفسيره ، وهو مذهب شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى . قال ابن كثير - رحمه الله : ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عنهما [ أي : ابن عباس وابن مسعود ] ، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله e حيث قال : " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو ( [1] ) ؛ ولهذا كان ابن عمرو t قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك ؛ ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد ، فإنها على ثلاثة أقسام : أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا ، مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح ؛ والثاني : ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه ؛ والثالث : ما هو مسكوت عنه ، لا من هذا القبيل ، ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمن به ولا نكذبه ، وتجوز حكايته لما تقدم ؛ وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا ، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك : كأسماء أصحاب الكهف ، ولون كلبهم ، وعدتهم ، وعصا موسى من أي الشجر كانت ، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى ، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن ، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم ، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز ، كما قال تعالى : ] سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ [ الكهف : 22 ] ، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام ، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا ، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال ، ضعَّف القولين الأولين ، وسكت عن الثالث ، فدل على صحته ، إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ، ثم أرشد على أن الإطلاع على عدتهم لا طائل تحته ، فقال : ] قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [ ؛ فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس ، ممن أطلعه الله عليه ، فلهذا قال : ] فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا [ ، أي : لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ، ولا تسألهم عن ذلك ، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب ؛ فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف ، أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام ، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل ، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته ، لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته ، فتشتغل به عن الأهم . فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها ، فهو ناقص ، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه ، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال ، فهو ناقص - أيضًا ، فإن صحح غير الصحيح عامدًا فقد تعمد الكذب ، أو جاهلا فقد أخطأ ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته ، أو حكى أقوالا متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنىً ، فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور ، والله الموفق للصواب .ا.هـ ( [2] ) . وبهذا أوضح ابن كثير – رحمه الله – منهجه في تناول الإسرائيليات ، وباستقراء تفسيره نجده قد التزم منهجه في ذلك على النحو التالي . أولا : لا يورد منها شيئًا أصلا ، مع التنبيه على أن الوارد فيها لا يصح ، ومثاله : 1 – عند قوله تعالى : ] قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ [ [ البقرة : 25 ] قال ( دار طيبة : 3 / 399 ) : وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها ؛ ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله e .ا.هـ .
2 - قال ( 3 / 472 - دار طيبة ) في قوله تعالى : ] وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [ من سورة الأعراف : قال ابن عباس ومجاهد : من بني إسرائيل . واختاره ابن جرير ؛ وفي رواية أخرى عن ابن عباس : ] وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [ أنه لا يراك أحد ؛ وكذا قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون ، ولكن يقول : أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة . ثم قال ابن كثير : وهذا قول حسن له اتجاه ؛ وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرًا طويلا فيه غرائب وعجائب ، عن محمد بن إسحاق بن يسار ؛ وكأنه تلقاه من الإسرائيليات ؛ والله أعلم .ا.هـ .
3 – في قصة خسف الله تعالى بقارون ، قال ( 6 / 257 - دار طيبة ) : وقد ذُكر ها هنا إسرائيليات غريبة أضربنا عنها صفحًا .
4 - لما تحدث عن الذين تسوروا المحارب على داود u ، قال : ( 7 / 60 - دار طيبة ) : قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثًا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ؛ ويزيد - وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة ، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يُردَّ علمها إلى الله U ، فإن القرآن حق وما تضمن فهو حقٌ أيضًا .ا.هـ . وللحديث صلة .
[1] - البخاري ( 3461 ) ؛ ورواه عبد الرزاق ( 10157 ، 19 210 ) ، وأحمد : 2 / 159،202،214،والترمذي(2669) وصححه ، والدارمي ( 545 ) ، وابن حبان كما في الإحسان ( 6256 ) . ورواه أحمد : 2 / 474 ، وأبو داود ( 3662 ) ، وابن حبان ( 6254 ) عن أبي هريرة ، ورواه النسائي في الكبرى ( 5847 ) ، وأبو يعلى ( 1209 ) عن أبي سعيد الخدري .
[2] - نقل ابن كثير - رحمه الله - ما يتعلق عن الإسرائيليات عن شيخه ابن تيمية رحمه الله ، ولم يعزوه ، وهذا الكلام موجود في ( مقدمة التفسير ) ، وفي مجموع الفتاوى .
ثانيا : ما ذكره من الإسرائيليات وكان يحتاج إلى ردٍّ وتحذير أو تعليق ، حذَّر منه ، أو علَّق عليه ، ومثاله : 1 – قال ( دار طيبة : 4 / 323 ) عند قوله تعالى : ] وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [ هذا هو الابن الرابع ، واسمه ( يام ) ، وكان كافرًا ، دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون ، ] قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [قيل : إنه اتخذ له مركبًا من زُجاج ، وهذا من الإسرائيليات، والله أعلم بصحته ؛ والذي نص عليه القرآن أنه قال : ] قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [ اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رءوس الجبال ، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجَّاه ذلك من الغرق ، فقال له أبوه نوح u : ] لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ [ .
2 – في قصة يوسف u ، قال ( دار طيبة : 4 / 397 ) : وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال ، وفي الثانية بالمتاع ، وفي الثالثة بكذا ، وفي الرابعة بكذا ، حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعدما تَمَلَّك عليهم جميع ما يملكون ، ثم أعتقهم وردَّ عليهم أموالهم كلها ؛ الله أعلم بصحة ذلك ، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب .ا.هـ .
3 – ولما تكلم عن إبليس عند قوله تعالى ] كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ [ الكهف : 50 ] قال : ( دار طيبة : 5 / 168 ، 169 ) بعد أن نقل روايات من يقول بأنه من الملائكة : وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف ، وغالبها من الإسرائيليات التي تُنقل لينظر فيها ، والله أعلم بحال كثير منها ؛ ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا ، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة ؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وضع فيها أشياء كثيرة ، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء من الجهابذة النقاد ، والحفاظ الجياد ، الذين دونوا الحديث وحرروه ، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه ، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين ، وغير ذلك من أصناف الرجال ، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي ، خاتم الرسل ، وسيد البشر - عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات - أن ينسب إليه كذب ، أو يحدث عنه بما ليس منه ؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل .
4 – قال تعليقًا على قول لكعب الأحبار في قصة ذي القرنين ( 5 / 190 - دار طيبة): وقال ابن لَهيعة : حدثني سالم بن غَيْلان ، عن سعيد بن أبي هلال ؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك ، فإن الله تعالى قال : ] وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [ . وهذا الذي أنكره معاوية t على كعب الأحبار هو الصواب ؛ والحق مع معاوية في الإنكار ؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب : ( إن كنا لنبلوا عليه الكذب ) يعني : فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته ؛ ولكن الشأن في صحيفته أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ، ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله e إلى شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض . وتأويل كعب قول الله : ] وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [ واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا ، غير صحيح ولا مطابق ؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ، ولا إلى الترقي في أسباب السموات ؛ وقد قال الله في حق بلقيس : ] وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [ [ النمل : 23 ] ، أي : مما يؤتى مثلها من الملوك ، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب ، أي : الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء ، وكبت ملوك الأرض ، وإذلال أهل الشرك ؛ قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا ، والله أعلم .
وللحديث صلة .
5 – قال ابن كثير ( دار طيبة : 5 / 240 ، 241 ) في قصة يونس u : وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن سليمان الأعمش ، عن شَمِر بن عطية ، عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعبًا ، وأنا حاضر ، فقال له : ما قول الله U لإدريس : ] وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ فقال كعب : أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم ، فأحب أن يزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة فقال : إن الله أوحى إليَّ كذا وكذا ، فكلم لي ملك الموت ، فَلْيؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه ، حتى صعد به إلى السماء ، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم مَلَك الموت منحدرًا ، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس ، فقال : وأين إدريس ؟ فقال : هو ذا على ظهري ؛ قال ملك الموت : فالعجب ! بعثت وقيل لي : اقبض روح إدريس في السماء الرابعة ؛ فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة ، وهو في الأرض ؟! فقبض روحه هناك ، فذلك قول الله : ] وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ . قال ابن كثير – رحمه الله : هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات ، وفي بعضه نكارة ، والله أعلم ؛ وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر ، عن ابن عباس : أنه سأل كعبًا ، فذكر نحو ما تقدم ، غير أنه قال لذلك الملك : هل لك أن تسأله – يعني : ملك الموت - كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل ، وذكر باقيه ، وفيه : أنه لما سأله عما بقي من أجله ، قال : لا أدري حتى أنظر ، ثم نظر ، قال : إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين ، فنظر الملك تحت جناحه إلى إدريس ، فإذا هو قد قبض u وهو لا يشعر به . ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس أن إدريس كان خياطًا ، فكان لا يغرز إبرة إلا قال : ( سبحان الله ) ، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه .. وذكر بقيته كالذي قبله ، أو نحوه .ا.هـ .
6 - وفي عدد جيش فرعون الذي خرج به ، قال ( 6 / 143 - دار طيبة ) : فأمَّا ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات ، من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس ، منها مائة ألف على خيل دُهْم ، وقال كعب الأحبار : فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم ، ففي ذلك نظر ؛ والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل ، والله سبحانه وتعالى أعلم ؛ والذي أخبر به هو النافع ، ولم يعين عدتهم ؛ إذ لا فائدة تحته ، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم .ا.هـ .
7 – وفي قصة عاد قال ( 6 / 154 - دار طيبة ) : قال الله تعالى: ] فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ [ أي : فاستمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده ، فأهلكهم الله ، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية ، أي : ريحًا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدًّا ، فكان إهلاكهم من جنسهم ، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره ، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة ، كما قال : ] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [ [ الفجر : 6 ، 7 ] ، وهم عاد الأولى ، كما قال : ] وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى [ [ النجم :50 ] ، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح ؛ ] ذَاتِ الْعِمَادِ [ أي : الذين كانوا يسكنون العمد ؛ ومن زعم أن ( إرم ) مدينة ، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب ، وليس لذلك أصل أصيل ؛ ولهذا قال : ] الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [ [ الفجر : 8 ] ، أي : لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم ، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال : ( التي لم يبن مثلها في البلاد ) .ا.هـ .
وللحديث صلة .
أشكر الأخ محمد محمود إبراهيم عطية على هذا الجهد، وأسأل الله أن يرزقه التحرير فيه، وبيان ما فيه من المشكلات، والموضوع يحتاج إلى تعليقات، لكني أكتفي ـ لضيق وقتي ـ بإبداء هذه الملاحظة على قولكم: 1 – أن السابقين من المصنفين في التفسير بالمنقول كانت عادتهم الجمع والإسناد ، ومن أسند فقد أحالك ، فمن أراد أن يبحث عن صحة النقل فأمامه الإسناد ينظر فيه .
هذا الكلام ليس صحيحًا على إطلاقه، وكم جنى هذا القول على مناهج بعض الأئمة السابقين في كتبهم، ومن أوائل من جُهِل منهجه في التعامل مع الروايات التفسيرية، وادُّعي عليه مثل هذا الادعاء ـ من أسند فقد أحالك ـ إمام المفسرين قاطبة محمد بن جرير الطبري ، مع أنه لم يلتزم هذا القيد في كتاب التفسير، وهو ادِّعاءٌ عليه، بل هو بريء منه، لكن قد يفهم هذا في منهجه في كتاب التاريخ.
أما خلاصة منهجه في التفسير، فذكرها في قوله :
(وَنَحْنُ فِي شَرْحِ تَأْوِيلِهِ، وَبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِيهِ ـ: مُنْشِئُونَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كِتَابًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِهِ جَامِعًا، وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَافِيًا، وَمُخْبِرُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ اتِّفَاقِ الْحُجَّةِ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَاخْتِلَافِهَا فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ مِنْهُ، وَمُبَيِّنُو عِلَلِ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَمُوَضِّحُو الصَّحِيحِ لَدَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، بِأَوْجَزِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِيجَازِ فِي ذَلِكَ، وَأَخْصَرِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الِاخْتِصَارِ فِيهِ. وَاللَّهَ نَسْأَلُ عَوْنَهُ وَتَوْفِيقَهُ لِمَا يُقَرِّبُ مِنْ مَحَابِّهِ، وَيُبْعِدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) (ط: دار هجر/ 1: 7). وأما خلاصة منهجه في كتاب التاريخ، فقال: ـ متبرئًا مما قد يستنكره قارئ كتابه، وأنه إنما كان من قِبَل من روي عنه ـ : (وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا) (ط دار التراث / 1: 7 ـ 8).
وكذلك الإمام ابن أبي حاتم، فقد أبان عن منهجه في نقل الروايات، ولم يذكر هذا القيد، فقال:
(سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ ِمْن إِخْوَانِي إِخْرَاجَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مُخْتَصَرًا بأصح الأسانيد، وحذف الطرق والشواهد والحروف والروايات، وَتَنْزِيلِ السُّوَرِ، وَأَنْ نَقْصِدَ لِإِخْرَاجِ التَّفْسِيرِ مُجَرَّدًا دُونَ غَيْرِهِ، مُتَقَصِّينَ تَفْسِيرَ الْآيِ حَتَّى لَا نَتْرُكَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ يُوجَدُ لَهُ تَفْسِيرٌ إِلَّا أُخْرِجَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ ذَكَرْتُ اخْتِلَافَهُمْ وَذَكَرْتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِسْنَادًا، وَسَمَّيْتُ مُوَافِقِيهِمْ بَحَذْفِ الْإِسْنَادِ، فَإِنْ لَمْ أَجِدْ عَنِ الصِّحَابَةِ وَوَجَدْتُهُ عَنِ التَّابِعِينَ عَمِلْتُ فِيمَا أَجِدُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْمِثَالِ فِي الصِّحَابَةِ، وَكَذَا أَجْعَلُ الْمِثَالَ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ. جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِوَجْهِهِ خاَلِصًا، وَنَفَعَ بِهِ). (ط مكتبة الباز / 1 : 14) وهذان التفسيران من أشهر التفاسير الأثرية، والحمد لله أن مقدمات أصحابها موجوده، وأنهم قد أبانوا عن منهجهم، وأنت ترى أنه لا وجود لهذه القاعدة التي يذكرها بعضهم في منهجهم، بل قلما يذكرها العلماء السابقون، خصوصًا وأنت تراهم يعتمدون هذه الروايات، ويستفيدون منها في كتبهم، والله الموفق.
الفاضل / د. مساعد الطيار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فاشكر لك مروركم وتعليقكم ، ولا يخفاكم أن هذه القاعدة ( من أسند فقد أحالك ) هي قاعدة عامة في الإسناد ، وليس شرطًا أن يذكرها الكاتب في مقدمة كتابه حتى تنفى ، وإنما هي قاعدة مشهورة مطردة .. هذا أولا .
وثانيًا : فهل يُسلًّم لمن لم يذكر ذلك في مقدمته أن تقبل كل نقوله دون تمحيص ؟ لا أعلم أحدًا قال بذلك ، وفي كتب التفسير نقد لنقول كثيرة .. ولا يخفاك ذلك .
ثالثا : دراستي عن منهج ابن كثير في تناول هذه المرويات ، فإن البعض زعم أنه لا يُجري عليها قواعد المحدثين من التصحيح والتضعيف .
رابعا : ذكرت في صدر الدراسة أسبابًا أخرى لذكر هذه المرويات .
وأرجو ألا تبخل علي بتعليقاتكم ، فطالب الحق يحتاج إلى ذلك ، وفقنا الله وإياكم للحق وثبتنا عليه ما أحيانا .
8 – وفي موضع الصخرة التي ذكرت في سورة لقمان ؛ قال ( دار طيبة : 6 / 338 ) : وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: ] فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ [ أنها صخرة تحت الأرضين السبع ، ذكره السُّدِّي بإسناده ذلك المطروق عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة من الصحابة ، إن صح ذلك ، ويروى هذا عن عطية العوفي ، وأبي مالك ، والثوري ، والمِنهال بن عمرو ، وغيرهم . وهذا - والله أعلم - كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ؛ والظاهر - والله أعلم - أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة ، فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه .ا.هـ .
9 – في قول الله U : ] وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [ [ سبأ : 54 ] ؛ قال ( دار طيبة : 6 / 529 ، 530 ) : وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا جدًّا ، فلنذكره بطوله ، فإنه قال : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا بشر بن حجر السامي ، حدثنا علي بن منصور الأنباري ، عن الشَّرَقيّ ابن قُطَامي ، عن سعيد بن طريف ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قول الله U : ] وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [ إلى آخر الآية ، قال : كان رجل من بني إسرائيل فاتحًا - أي : فتح الله له مالا - فمات فورثه ابن له تافه – أي : فاسد -فكان يعمل في مال الله بمعاصي الله ؛ فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه ، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت ، ثم رحل فأتى عينًا ثجاجَة فسرَح فيها ماله ، وابتنى قصرًا . فبينما هو ذات يوم جالس إذ شمَلت عليه ريح بامرأة من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجًا – أي : ريحًا – فقالت : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا امرؤ من بني إسرائيل ، قالت : فلك هذا القصر ، وهذا المال ؟ قال : نعم . قالت : فهل لك من زوجة ؟ قال : لا . قالت : فكيف يَهْنيك العيش ولا زوجة لك ؟ قال : قد كان ذلك . فهل لك من بَعل ؟ قالت : لا . قال : فهل لك إلى أن أتزوجك ؟ قالت : إني امرأة منك على مسيرة ميل ، فإذا كان غد فتزوَّد زاد يوم وأتني ، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يَهُولنَّكَ . فلما كان من الغد تزود زاد يوم ، وانطلق فانتهى إلى قصر ، فقرع رتاجه ، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجًا – أي : ريحًا - فقال: من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا الإسرائيلي . قال فما حاجتك ؟ قال : دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها . قال : صدقت ، قال : فهل رأيت في طريقك هولا ؟ قال : نعم ، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس عليَّ ، لهالني الذي رأيت ؛ أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بكلبة فاتحة فاها ، ففزعت ، فَوَثَبت فإذا أنا من ورائها ، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها . فقال له الشاب : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويَبُزّهم حديثهم . قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بمائة عنز حُفَّل ، وإذا فيها جَدْي يمصّها ، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئًا ، فتح فاه يلتمس الزيادة . فقال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، ملك يجمع صامت الناس كلّهم ، حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئًا فتح فاه يلتمس الزيادة . قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر ، فأعجبني غصن من شجرة منها ناضر ، فأردت قطعة ، فنادتني شجرة أخرى : ( يا عبد الله ، مني فخذ ) ، حتى ناداني الشجر أجمع : ( يا عبد الله ، منا فخذ ) . قال: لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، يقل الرجال ويكثر النساء ، حتى إن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن . قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قائم على عين ، يغرف لكل إنسان من الماء ، فإذا تَصَدعوا عنه صَبّ في جَرَّته فلم تَعلَق جَرته من الماء بشيء . قال: لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله . قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز ، وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها ، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها ، وإذا رجل قد أخذ بذَنَبها ، وإذا رجل قد ركبها ، وإذا رجل يحلبها . فقال : أما العنز فهي الدنيا ، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها ، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقًا ، وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه ، وأما الذي ركبها فقد تركها. وأما الذي يحلبها فَبخٍ بخٍ ، ذهب ذلك بها . قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، وإذا أنا برجل يمْتح على قَليب ، كلما أخرج دلوه صبَّه في الحوض ، فانساب الماء راجعًا إلى القليب . قال : هذا رجل رَدّ الله عليه صالح عمله ، فلم يقبله . قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل يبذُر بذرًا فيستحصد ، فإذا حنطة طيبة . قال : هذا رجل قبل الله صالح عمله ، وأزكاه له . قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل مستلق على قفاه ، قال : يا عبد الله ، ادن مني فخذ بيدي وأقعدني ، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله فأخذت بيده ، فقام يسعى حتى ما أراه . فقال له الفتى : هذا عمْر الأبعد نَفَد ، أنا ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك ؛ أمرني الله بقبض روح الأبعد في هذا المكان ، ثم أصيره إلى نار جهنم ؛ قال : ففيه نزلت هذه : ] وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [ الآية . ثم قال ابن كثير ( دار طيبة : 6 / 531 ) : هذا أثر غريب ، وفي صحته نظر ، وتنزيل الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا ، كما جرى لهذا المغرور المفتون ، ذهب يطلب مراده فجاءه الموت فجأة بغتة ، وحيل بينه وبين ما يشتهي . 10 - وفي قصة ابتلاء سليمان ، نقل ما ورد فيها في قصة الخاتم ، ثم قال ( دار طيبة : 7 / 68 ، 69 ) : وهذه كلها من الإسرائيليات ، ومِنْ أنْكرِها ما قاله ابن أبي حاتم :حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا : حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس t : ] وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ قال: أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه - وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه - فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي ؛ فأعطته إياه ، فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين ، فلما خرج سليمان من الخلاء قال لها : هاتي خاتمي ؛ قالت : قد أعطيته سليمان . قال: أنا سليمان . قالت : كذبت لست سليمان ؛ فجعل لا يأتي أحدًا يقول له : ( أنا سليمان ) ، إلا كذَّبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة ؛ فلما رأى ذلك عَرَف أنه من أمر الله U . قال : وقام الشيطان يحكم بين الناس ، فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان ؛ قال : فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن : أتنكرن من سليمان شيئاً ؟ قلن : نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك . فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع ، فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر ، فدفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أثاروها وقرءوها على الناس . وقالوا : بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم ، فأكفر الناس سليمان u فلم يزالوا يكفرونه ، وبعث ذلك الشيطانُ بالخاتم فطرحه في البحر ، فتلقته سمكة فأخذته ؛ وكان سليمان يحمل على شط البحر بالأجر ، فجاء رجل فاشترى سمكًا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم ، فدعا سليمان فقال : تحمل لي هذا السمك ؟ فقال : نعم . قال : بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك . قال : فحمل سليمان u السمك ثم انطلق به إلى منزله ، فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم ، فأخذها سليمان فشق بطنها ، فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه . قال : فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين ، وعاد إلى حاله ، وَهَرب الشيطان حتى دخل جزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه ، وكان شيطانًا مريدًا ، فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يومًا نائمًا فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص ، فاستيقظ فوثب ، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه من الرصاص ؛ قال : فأخذوه فأوثقوه ، وجاءوا به إلى سليمان ، فأمر به فنقر له تخت من رخام ، ثم أدخل في جوفه ، ثم سد بالنحاس ، ثم أمر به فطرح في البحر ؛ فذلك قوله : ] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ قال: يعني الشيطان الذي كان سلط عليه. قال ابن كثير : إسناده إلى ابن عباس قوي ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان u ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات ، من أشدها ذكر النساء ، فإن المشهور أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان ، بل عصمهن الله منه تشريفًا وتكريمًا لنبيه e ، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف ، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين ، وكلها متُلقًّاة من قصص أهل الكتاب ؛ والله أعلم بالصواب.ا.هـ .
بارك الله فيك أخي محمد عطية على هذه المباحثة النافعة، وبارك في د. مساعد تعليقه ومتابعته ونفعه لإخوانه .
بخصوص عبارة "من أسند فقد أحالك" فمن وجهة نظري أنها تحتاج مزيد نظر فيها تاريخياً للوقوف على مصدرها وعوامل نشأتها ثم النظر في تطبيقاتها في بعض العلوم أو على مناهج الأئمة كابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم.
فقد تكون العبارة صحيحة في حق بعض المؤلفين وقد تكون جناية على منهج فريق آخر . ويمكن أن تحمل على معاني صحيحة في بعض العلوم دون سواها . ووردت هذه العبارة في بعضه مؤلفات علوم الحديث في باب الحديث المرسل، وأطلقها بعض أهل العلم كالسخاوي والسيوطي وربما تكون من باب توجيه لبعض الأقوال لا من باب التقعيد لها.
ومن جهة أخرى فهذه العبارة _ في علم التفسير _ قد يعتبرها البعض قاعدةً كلية يحاكِم لها مناهج المؤلفين، بينما هي قد لا تعدو أن تكون مثالاً لبعض حالات التآليف ولا ترتفع لتكون قاعدة .
وعند تفكيك العبارة نجد أنه من الناحية التطبيقية يمكن التوسع فيها بحيث تشمل المؤلفين المسندِين وغيرهم دون تقييد، فمثلاً يقول بعض العلماء أن الشوكاني قد طبق قاعدة "من أسند لك فقد أحالك"، وهو في عصر متأخر وغير مُسنِد في تفسيره؛ وعليه فاحتمالية إطلاق هذه العبارة وتطبيقها على كل مؤلِف لكتاب أصيل مسند كابن جرير أو عبدالرزاق أو تفسير غير مسنَد كأبي حيان والشوكاني حاصل، وهكذا في تسلسل لا محدود ولا محمود.
وعبارة "من أسند فقد أحالك" تحمل في مضامينها معانٍ باطلة عند تطبيقها على بعض محققي المفسرين _ كما أشار لذلك د. مساعد _ فهي تشير لعدم تحقيقهم لمروياتهم وتمحيصهم لها، وسلوكهم منهج الجمع دون تمحيص وهذه دعوى تحتاج لبرهنة وتدليل عليها .
الفاضل / د. حاتم القرشي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : فأقول ابتداء : وفيك بارك الله ، ونفع بي وبكم . ثم أشكر لك مرورك وتعليقك ، وأرجو الله تعالى أن تكون هذه المباحثة في ميزان الجميع ، وأن يهدينا الصواب في هذه المسألة ] وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ [ البقرة : 213 ] . وأريد أن أذكر أولا بأني في مقدمة هذه الدراسة قلت بعد حمد الله والصلاة على رسوله e : وبعد : فقد شاع بين بعض طلبة العلم وبعض أهله أن الروايات في التفسير – غير الحديث النبوي – لا يجري عليها ما يجري على الحديث من التصحيح والتضعيف ... هكذا مطلقًا، واتخذه البعض مذهبًا يدافع عنه ويرفض ما عداه ، بل ويزعم أن هذا هو مذهب المفسرين من أهل الحديث ، كابن جرير وابن كثير وغيرهم . ولما كان هذا المذهب بهذا الإطلاق ليس صوابًا ، كانت هذه الدراسة الموجزة في مذهب ابن كثير في تناول هذه الروايات ؛ وأقدم لها ببعض الأمور التي أصبحت كالمسلمة عند أهل العلم بالرواية ، وهي : 1 – أن السابقين من المصنفين في التفسير بالمنقول كانت عادتهم الجمع والإسناد ، ومن أسند فقد أحالك ، فمن أراد أن يبحث عن صحة النقل فأمامه الإسناد ينظر فيه . 2 – أنه قد يكون في الرواية إسناد صحيح بمعنى صحيح لبعض السلف ، وتأتي روايات أخرى لغيره وفي إسنادها ضعف ؛ فيعتمد المفسر في النقل صحة المتن لا صحة الإسناد ، ويذكر هذا على أنه قول لقائله ، لوجود القول الأول الصحيح . 3 – قد لا يكون في المنقول إلا ما هو ضعيف الإسناد ، وليس في تفسير الآية غيره ، فيثبته المفسر لعدم وجود غيره ... ثم إن كان المعنى صحيحًا اعتبره ، وإن كان ليس صحيحا ردَّه ، أو سكت عنه . 4 – قد يختار بعض المفسرين قولا يصححه وإن كانت الرواية له ضعيفة ، ولكن تصحيحه باعتبار آخر ، ربما لصحة اللغة فيه ، أو قرائن من المناسبة في الآية ، أو تكون الآية تتحدث عن واقعة في السيرة ... أو غير ذلك . فالذي يُفهم من كلامي أن المفسرين بالرواية وإن جرت عليهم القاعدة ( من أسند فقد أحالك ) فلهم في ذكر روايتهم للضعيف مآخذ أخرى معتبرة ؛ أما كون القول بقبول جميع هذه المرويات فلا أعلم أحدًا قال به . ثانيا : دراستي هذه عن منهج ابن كثير في تناول هذه الروايات ، فإن البعض زعم عنه مطلق التساهل في إيرادها .. فأردت أن أبين في هذه الدراسة منهجه الذي يخالف هذا الزعم . ثالثا : ما ذكرتَه - وفقك الله - في مجمله لا أختلف معك فيه ، وفي بعض حروفه نظر لا يخفاك . رابعا : لك جزيل شكري إذ كنت سببًا في كتابة هذه الدراسة .. جزاك الله خيرًا ، وأرجو ألا تبخل علي بتعليقاتكم ، والله أسال أن يهدينا إلى الحق وأن يثبتنا عليه ..آمين .
مثاله : 1 – في كيفية قتل داود لجالوت ، قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 1 / 669 ) : قال الله تعالى : ] فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [ أي : غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم ، ] وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ [ ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده ، رماه به فأصابه فقتله .
2 – قال عند قوله تعالى : ] لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [ [ البقرة : 255 ] : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتكي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، حدثنا أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما - أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك ؟ قال : اتقوا الله ! فناداه ربه U : يا موسى سألوك : هل ينام ربك ؟ فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ، ففعل موسى ، فلما ذهب من الليل ثلث نعس ، فوقع لركبتيه ، ثم انتعش فضبطهما ، حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا ؛ فقال : يا موسى ، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض ، فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك . وأنزل الله على نبيه e آية الكرسي .
3 - قال ( 6 / 214 - دار طيبة ) وعن وهب بن منبه أنه حكى من كلام عُزَير u أنه قال : وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كلٌّ يسمعها ، وتضع الحبالى قبل التمام ، ويعود الماء العذب أجاجًا ، ويتعادى الأخلاء ، وتُحرَقُ الحكمة ، ويُرفَعُ العلم ، وتكلم الأرض التي تليها ؛ وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون ، ويتعبون فيما لا ينالون ، ويعملون فيما لا يأكلون ؛ رواه ابن أبي حاتم عنه .
ها هنا وقفات نذكرها ليتبين منهج الإمام ابن كثير في تناول الإسرائيليات . 1 - تقدم ذكر منهج ابن كثير – رحمه الله – فيما يتعلق بالإسرائيليات ، وتبين مما سردنا من الشواهد أنه – رحمه الله – التزم هذا المنهج ، فلم يورد ما لا يصح ، مع التنبيه على ذلك ؛ وانتقد ما ذكره منه ، لئلا يغتر به من يقرؤه في غير كتاب ؛ وأثبت ما تجوز روايته .
2 – أن ما ذكره من هذه الإسرائيليات أنواع : الأول : أن ينتهي إسناده إلى أحدٍ ممن أسلم من أهل الكتاب ككعب الأحبار ، وهذا صريح أنه من الإسرائيليات . الثاني : أن ينتهي إسناده إلى صحابي ، وهو ممن يأخذ عن أهل الكتاب ، فيرجح أنه من الإسرائيليات ، لوضوح ذلك من الكلام . الثالث : أن ينتهي الإسناد إلى تابعي أو تابع تابعي ، ويظهر منه - أيضًا - أنه من الإسرائيليات ، وإن لم يذكر أنه أخذه عنهم .
3 – قد يكون الإسناد صحيحًا إلى قائله ، ولكنه يردُّه لنكارة متنه ، وغرابة ما فيه من القصص .. مما يوضح أنه لم يتساهل في هذه النقول ، بل انتقدها سندًا ومتنًا .
4 – هذا يدل دلالة واضحة على أنه انتقد هذه الروايات وفق قواعد علم الحديث وعلله .
والعلم عند الله تعالى .
أشكر لكم إجابتكم
لكن ألا تلاحظ أن محل النزاع لم يرد في جوابكم إلى الآن.
لو أخذتم رواية الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس، وأجريتم عليها البحث لكان أوضح لمنهج ابن كثير في التعامل مع روايات التفسير ، ذلك المنهج الذي لم يخالف فيه منهج المحدثين.
فمثل هذا هو الذي يبين المنهج، أما الإطالة في نقل نقد ابن كثير للإسرائيليات، فهذا في نهاية الأمر = ( رأي ابن كثير)، ويخالفه غيره من المتقدمين الذين أمروها كما جاءت، ولم يقفوا هذا الموقف.
وأما الزعم بأن (منهج المحدثين نقد روايات التفسير) أو لم يكن هذا منهجهم = فطريقه التتبع التاريخي لأعلام النُّقاد، ولما كتبوه في كتب الرجال، ولما كتبوه في كتبهم المسندة في العلم، سواء أكان في التفسير أم في غيره.
ولا يخفى عليك تساهلهم في غير أحاديث الحلال والحرام، فضلا عن المروي عمَّن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، ونصوص بعض النُّقاد مشهورة ومتداولة.
الفاضل / د. مساعد الطيار أشكر لكم متابعتكم ابتداء ، وأرجو الله تعالى أن يهدينا الصواب في هذه المسألة . أما قولك : ( ألا تلاحظ أن محل النزاع لم يرد في جوابكم إلى الآن ) ، فأقول : بل أرى – وفقك الله – أن محل النزاع وارد في ردود ابن كثير على تلكم الروايات التي ذكرت ، وقولك : ( أما الإطالة في نقل نقد ابن كثير للإسرائيليات ، فهذا في نهاية الأمر ( رأي ابن كثير ) ، ويخالفه غيره من المتقدمين الذين أمروها كما جاءت ، ولم يقفوا هذا الموقف ) ، يدل عليه ؛ فمنهجه في تناول هذه الإسرائيليات هو رأيه الذي يبديه وإن خالف المتقدمين عنه ، ولا يخفاك أن من المتقدمين من لم تكن له عناية بنقد الروايات حتى يقال أن منهجهم جميعًا الإمرار لهذه الروايات كما جاءت ؛ كما لا يخفاك – أيضًا – أن من نقل عنهم انتقد كثيرًا مما أمروه ؛ وسيأتي الحديث عن غير الإسرائيليات . وأما قولك : ( لو أخذتم رواية الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس ، وأجريتم عليها البحث لكان أوضح لمنهج ابن كثير في التعامل مع روايات التفسير ، ذلك المنهج الذي لم يخالف فيه منهج المحدثين ) . فرواية الضحاك عن ابن عباس ، ورواية علي بن أبي طلحة عنه ، وغيرهما ممن روى التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، يمكن أن يجرى عليها البحث كمنهج آخر ، لكن منهجي في هذه الدراسة هو تناول ابن كثير للمرويات غير المرفوعة في التفسير ، وبيان أنه كان يُجري عليها قواعد المحدثين ، والإسرائيليات من هذه المرويات . وأما قولك : ( وأما الزعم بأن ( منهج المحدثين نقد روايات التفسير ) أو لم يكن هذا منهجهم ؛ فطريقه التتبع التاريخي لأعلام النُّقاد ، ولما كتبوه في كتب الرجال ، ولما كتبوه في كتبهم المسندة في العلم ، سواء أكان في التفسير أم في غيره . ولا يخفى عليك تساهلهم في غير أحاديث الحلال والحرام ، فضلا عن المروي عمَّن هو دون النبي e ، ونصوص بعض النُّقاد مشهورة ومتداولة ) . أقول : هذا كلام عام عن منهج المحدثين ، وإنما دراستي هنا هي عن منهج ابن كثير رحمه الله ، ولم أسحبه بعد على غيره ، وإن كان هذا يمكن بعد دراسة لمنهج غيره ، وقد رأيت ابن حجر – رحمه الله – في كتاب ( العجاب في بيان الأسباب ) ينحو هذا المنحى ، ولا يخفاك ذلك ، فإنه قال في مقدمته بعد أن تكلم عن الثقات والضعفاء الذين رووا التفسير عن ابن عباس t : وإنما قدمت هذه المقدمة ليسهل الوقوف على أوصافهم لمن تصدى للتفسير ، فيقبل من كان أهلا للقبول و يردُّ من عداه .ا.هـ .
وقد قال ابن تيمية – رحمه الله في ( مقدمة التفسير ) : ( وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ ، مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزمخشري فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ والثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ ، وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ ، يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ ؛ والْوَاحِدِيُّ صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ ، والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ ، لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ ) . أتراه يقول ذلك إقرارًا ، أم نقدًا ؟ وصفوة القول أني في هذه الدراسة أريد أن أقول : إن المحدثين أجروا قواعد التحديث على الروايات في التفسير ، وأنهم قبلوا الروايات التي خالفت لاعتبارات أخرى ، كما ذكرت في صدر هذه الرسالة ؛ وأن القول بالتشدد في هذا ؛ بمعنى أنه تُجرى قواعد التحديث على جميع المرويات .. ليس صوابًا ، وكذلك القول بتساهلهم في إمرارها مطلقًا ... ليس صوابًا . والعلم عند الله تعالى .
من المعلوم أن ما روي عن الصحابة هو ثالث أنواع التفسير بالمنقول ، فإذا لم يوجد في كتاب الله تعالى ، ولا في سنة رسوله e ما تفسر به الآية ، فإنه ينظر في أقوال الصحابة y . وقد ذكر ابن كثير ذلك في مقدمة تفسيره ( دار طيبة : 1 / 7 ) بعد أن ذكر أن أحسن طرق التفسير من القرآن ثم من السنة .. ثم قال : وحينئذ ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك ، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام ، والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم ، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين ، وعبد الله بن مسعود t ... ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ، ابن عم رسول الله e ، وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله e له حيث قال : " اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل " ( [1] ) . ثم قال : ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره ، عن هذين الرجلين : عبد الله بن مسعود وابن عباس ، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب ، التي أباحها رسول الله e حيث قال : " بَلِّغوا عني ولو آية ، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج ، ومن كذب عَلَىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو ( [2] ) ؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك . انتهى المراد منه مختصرًا . وقد اتبع ابن كثير هذا المنهج في تفسيره ، ولم يحد عنه ؛ ولكنه كان يتناول الروايات بالنقد والتمحيص على طريقة النقاد من أهل الحديث .. ومن أمثلة ذلك :
1 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 1 / 227 ، 228 ) : وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشْر بن عُمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ ، خلقوا من نار السموم ، من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، وكان خازنا من خزان الجنة ، قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي ، قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، [ وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال: وخلق الإنسان من طين ] ؛ فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذي يقال لهم : الجنّ - فقتلهم إبليس ومن معه ، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، فلما فعل إبليس ذلك اغتَرَّ في نفسه ، فقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحد . قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه ، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه : ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً [ فقالت الملائكة مجيبين له : ] أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [ كما أفسدت الجن وسفكت الدماء ، وإنما بعثتنا عليهم لذلك ؟ فقال : ] إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [ يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره ، قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازب: اللزج الصلب ، من حمإ مسنون منتن ، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب . فخلق منه آدم بيده ، قال : فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقى ؛ فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله ، فيصلصل ، أي : فيصوت . قال : فهو قول الله تعالى : ] مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ يقول : كالشيء المنفرج الذي ليس بمُصْمَت ؛ قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فيه . ثم يقول : لست شيئًا ، ولشيء ما خلقت ، ولئن سُلِّطْتُ عليك لأهلكنك ، ولئن سُلِّطْتَ عليَّ لأعْصيَنَّك . قال : فلما نفخ الله فيه من روحه ، أتت النفخة من قبل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا ، فلما انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله تعالى : ] وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا [ قال : ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء ؛ قال : فلما تمت النفخة في جسده عطس ، فقال: ( الحمد لله رب العالمين ) بإلهام الله ؛ فقال الله له : "يرحمك الله يا آدم " . قال ثم قال الله تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات : اسجدوا لآدم ؛ فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر ، لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار . فقال : لا أسجد له ، وأنا خير منه وأكبر سنًّا وأقوى خَلْقًا ، خلقتني من نار وخلقته من طين ؛ يقول: إن النار أقوى من الطين . قال : فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله ، أي : آيسه من الخير كله ، وجعله شيطانًا رجيمًا عُقُوبة لمعصيته ، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة ، يعني : الملائكة الذين كانوا مع إبليس ، الذين خلقوا من نار السموم ، وقال لهم : ] أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [ يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء : ] إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة . قال : فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب ، الذي لا يعلمه غيره ، الذي ليس لهم به علم ] قَالُوا سُبْحَانَكَ [ ، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، وتبنا إليك ] لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا [ تبريًا منهم من علم الغيب ، إلا ما علمتنا كما علمت آدم ، فقال : ] يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [ يقول : أخبرهم بأسمائهم ، ] فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [ يقول : أخبرهم ، ] بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ [ أيها الملائكة خاصة ، ] إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ [ ولا يعلم غيري ، ] وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ [ يقول : ما تظهرون ، ] وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [ يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية ، يعني : ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار . قال ابن كثير - رحمه الله : هذا سياق غريب ، وفيه أشياء فيها نظر ، يطول مناقشتها ، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور .ا.هـ . أفيقال : إنه هنا لم يتناول الرواية بنقد أهل الحديث ، مع ذكره أن هذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور ؟
[1] - قدمنا أن هذا الكلام نقله ابن كثير عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله ، وانظر ( مجموع الفتاوى ) : 13 / 366 ، ومقدمة في أصول التفسير .
[2] - البخاري ( 3461 ) ؛ ورواه عبد الرزاق ( 10157 ، 19 210 ) ، وأحمد : 2 / 159،202،214،والترمذي(2669) وصححه ، والدارمي ( 545 ) ، وابن حبان كما في الإحسان ( 6256 ) . ورواه أحمد : 2 / 474 ، وأبو داود ( 3662 ) ، وابن حبان ( 6254 ) عن أبي هريرة ، ورواه النسائي في الكبرى ( 5847 ) ، وأبو يعلى ( 1209 ) عن أبي سعيد الخدري .
2 - قال ابن كثير ( دار طيبة : 1 / 228 - 230 ) : وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي e : لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش ، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم : الجن ، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة ، وكان إبليس مع مُلْكه خازنا ، فوقع في صدره كبر ، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة ؛ فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه ؛ فقال الله للملائكة : ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً [ قالوا : ربنا ! وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ، ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضًا . قالوا : ربنا ، ] أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [ يعني : من شأن إبليس ؛ فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض مني أو تشينني ؛ فرجع ولم يأخذ ، وقال : رب مني عاذت بك ، فأعذتُها ، فبعث ميكائيل ، فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل ، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه ؛ فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ، فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا - واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض - ثم قال للملائكة : ] إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ [ص : 71 ، 72 ] ، فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ، ليقول له : تتكبر عما عملت بيدي ، ولم أتكبر أنا عنه . فخلقه بشرًا ، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدهم فزعا منه إبليس ، فكان يمر به فيضربه فيصوِّت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة ؛ فذلك حين يقول : ] مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ [ الرحمن : 14 ] ، ويقول : لأمر ما خُلقت ؛ ودخل من فيه فخرج من دبره ، وقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا ، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن سلطت عليه لأهلكنه ؛ فلما بلغ الحين الذي يريد الله U أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه ، عَطِسَ ، فقالت الملائكة : قل: الحمد لله ؛ فقال : الحمد لله ، فقال له الله : رحمك ربك ، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ؛ فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول تعالى : ] خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ [ الأنبياء : 37 ] ، ] فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ . إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [ [ الحجر : 30 ، 31 ] ، ] أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ [ البقرة : 34 ] ؛ قال الله له : ما منعك أن تسجد - إذ أمرتك - لما خلقت بيدي ؟ قال: أنا خير منه ، لم أكن لأسجد لمن خلقته من طين ؛ قال الله له : اخرج منها فما يكون لك ، يعني : ما ينبغي لك ] أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [[الأعراف : 13] ، والصغار : هو الذل ؛ قال : ] وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا [ ثم عرض الخلق على الملائكة ] فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا : ] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [ قال الله : ] يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [ قال : قولهم : ] أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [ فهذا الذي أبدوا ؛ ( وأعلم ما تكتمون ) يعني : ما أسر إبليس في نفسه من الكبر . قال ابن كثير : فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي ، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة ، فلعل بعضها مُدْرَج ليس من كلام الصحابة ، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة ؛ والله أعلم ، والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ، ويقول : هو على شرط البخاري .ا.هـ . فماذا ها هنا يقال ؟ أيقال أن ابن كثير – رحمه الله – لم يجر عليها قواعد المحدثين ؟ وأمرها كما أمرها غيره ؟ الواضح أنه تناولها بعين الناقد البصير بعلل الحديث ، وإن لم يتعرض للإسناد بالتضعيف ، بل ذكر أن الحاكم يروي بهذا الإسناد أشياء ويقول : هو على شرط البخاري .
3 - قال ابن كثير – رحمه الله - ( دار طيبة : 1 / 231 ) : وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز ، حدثنا أبو عاصم ، عن شريك ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إن الله خلق خلقًا ، فقال: اسجدوا لآدم . فقالوا: لا نفعل . فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم ، ثم خلق خلقًا آخر ، فقال : " إني خالق بشرا من طين ، اسجدوا لآدم . قال : فأبوا . فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم . ثم خلق هؤلاء، فقال : اسجدوا لآدم ، قالوا : نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم . قال ابن كثير : وهذا غريب ، ولا يكاد يصح إسناده ، فإن فيه رجلا مبهمًا ، ومثله لا يحتج به ، والله أعلم .ا.هـ .
4 – قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة :3 / 481 ) : وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن نُجيَّ عن علي t قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا : ] إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [ . قال ابن كثير : جابر هو ابن يزيد الجُعْفي : ضعيف .ا.هـ . أتراه ذكر الراوي وضعفه .. لماذا ؟
5 – وفي سورة الحجر عند قوله تعالى : ] قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [ قال : ( 4 / 534 - دار طيبة ) : وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، من حديث شبيب بن بشر ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا سويته فاسجدوا له . قالوا : لا نفعل ؛ فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة فقال لهم مثل ذلك ، فقالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ؛ قالوا : سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين . قال ابن كثير : وفي ثبوت هذا عنه بعد ، والظاهر أنه إسرائيلي ، والله أعلم .ا.هـ .
6 - قال ابن كثير – رحمه الله - ( دار طيبة :4 / 537 ) : وقوله : ] وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ روى القاسم ، عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ : ] وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [ . قال ابن كثير – رحمه الله : هكذا في هذه الرواية ، والقاسم بن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة ضعيف .
7 – قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 5 / 188 ) : فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك ؟ فالجواب : أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما ، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون ، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى ، عليهما السلام . ثم قال : وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، حدثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه ؟ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال : شرب الفتى من الماء فخلد ، فأخذه العالم ، فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر ، فإنها تموج به إلى يوم القيامة ؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب . قال ابن كثير – رحمه الله : إسناده ضعيف ، والحسن متروك ، وأبوه غير معروف .
8 - وفي سورة مريم ، قال ( دار طيبة : 5 / 220 ) : وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : إن روح عيسى u من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم ، وهو الذي تمثل لها بشرًا سويًّا ، أي : روح عيسى ، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها . قال ابن كثير – رحمه الله : وهذا في غاية الغرابة والنكارة ، وكأنه إسرائيلي .ا.هـ .
9 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 6 / 214 ) : وعن عبد الله بن عمر أنه قال : تخرج الدابة ليلة جَمْع . ورواه ابن أبي حاتم ؛ وفي إسناده ابن البيلماني .ا.هـ . قلت : ابن البيلماني هو عبد الرحمن ، لينه أبو حاتم ، وقال ابن حجر في ( التقريب ) : ضعيف .ا.هـ ( [1] ) ؛ وإشارة ابن كثير له أنه في الإسناد يدل على ضعف الرواية ، وعدم اعتبارها . والمراد بليلة جمع : ليلة مزدلفة .
10 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 7 / 416 ) : وقوله تعالى : ] آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [ قال ابن جرير : أي : عاملين بما آتاهم الله من الفرائض ، ] إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [ أي : قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال أيضًا ، ثم روي عن ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي عمر ، عن مسلم البطين ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : ] آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [ قال : من الفرائض ، ] إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [ قبل الفرائض يعملون . قال ابن كثير - رحمه الله : وهذا الإسناد ضعيف ، ولا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقد رواه عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان، عن أبي عمر البزار عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره ، والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ، لأن قوله تبارك وتعالى : ] آخِذِينَ [ حال من قوله : ] فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [ ، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم ، أي : من النعيم والسرور والغبطة ، وقوله U : ] إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ [ أي : في الدار الدنيا ] مُحْسِنِينَ [ ، كقوله Y : ] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [ ، ثم إنه تعالى بيَّن إحسانهم في العمل .
11 – قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 7 / 189 ) : وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا منكرًا ، فقال : حدثنا أحمد بن زُهَير ، حدثنا عبد الوهاب بن نَجْدَةَ الحَوْطي ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، عن أرطاة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له - وعنده حُذيفة بن اليمان - : أخبرني عن تفسير قول الله : ] حم عسق [ قال : فأطرق ثم أعرض عنه ، ثم كرر مقالته فأعرض عنه ، فلم يجبه بشيء وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يُحِرْ إليه شيئا . فقال حذيفة : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لم كرهها ؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له ( عبد الإله ) – أو : عبد الله - ينزل على نهر من أنهار المشرق تُبْنَى عليه مدينتان ، يشق النهر بينهما شقًّا ، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم ، بعث الله على إحداهما نارًا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت ، كأنها لم تكن مكانه ا، وتصبح صاحبتها متعجبة : كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك ، حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعًا ، فذلك قوله : ] حم . عسق [ يعني : عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حُمّ ؛ عين : يعني عدلا منه ، سين : يعني سيكون ، ق : يعني واقع بهاتين المدينتين . فماذا يعني قول ابن كثير – رحمه الله : ( وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا منكرًا ) ؟
12 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 7 / 201 ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا رجل سماه ، حدثنا حسين الأشقر عن قيس عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس t قال : لما نزلت هذه الآية ] قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : " فاطمة وولدها " . قال ابن كثير – رحمه الله : وهذا إسناد ضعيف ، فيه مبهم لا يعرف ، عن شيخ شيعي محترق ، وهو حسين الأشقر ، ولا يقبل خبره في هذا المحل ، وذكر نزول الآية في المدينة بعيد ، فإنها مكية ، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة - رضي الله عنها - أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي t إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة ؛ والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - كما رواه عنه البخاري ، ولا ننكر الوصاة بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية ، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه ، وعلي وأهل ذريته رضي الله عنهم أجمعين .
13 – قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة :7 / 462 ) : وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب ؛ أن عبد الله بن عمرو قال : ] اللَّمَمَ [ : ما دون الشرك .
14 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة :7 / 283 ) : لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : ] وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا [ وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف ؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه . وروى العَوْفي ، عن ابن عباس : أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق ؛ وفي صحة هذا نظر ، والله أعلم .
15 - قال ابن كثير – رحمه الله - ( دار طيبة : 8 / 309 ، 310 ) : وقال ابن جرير: حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا رَواد بن الجراح ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : الروح في السماء الرابعة هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة ، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا من الملائكة ، يجيء يوم القيامة صفًّا وحده . قال ابن كثير : وهذا قول غريب جدًا .
[1]- انظر ( الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم : 5 / 216 ،وتقريب التهذيب : 2 / 337 .
أخي الكريم محمد محمود
هذا المنهج الذي تسلكه منهج انتقائي، فأنت تنتقي كلام ابن كثير عن بعض المرويات، ولا تكتمل صور ةالمنهج إلا بالنظر إلى جميع الروايات التي تكلم عنها، والتي لم يتكلم عنها؛ ليخرج المنهج كاملاً، ولمَّا عرضتُ عليكم رواية الضحاك عن ابن عباس لأنه لم يعترض على هذه الرواية مع ضعفها إلا في مواطن محددة، أما في باقي المواطن، فإنه يقبلها، ويفسر بها القرآن.
وهذا يعني أنَّ النقد إنما يكون لأمر يعرض في متن الرواية، فيأتي عليها بالنقد، أما إذا لم يكن في المتن شيء يشكل فإنه يعتمدها.
هذا هو منهجه ومنهج النقاد قبله.
وإذا كان ما تراه هو رأي المحدثين، فإن استقراءك ناقص، لأنك أخذت ابن كثير فقط، فأين المحدثون قبله من أهل القرون الأربعة الأولى؟
ولو أجريت هذه الدراسة على ابن أبي حاتم في كتاب التفسير، وهو صاحب كتاب الجرح والتعديل، فهل ستظفر بمثل ما ظفرت به عند ابن كثير؟
وابن أبي حاتم اعتمد الروايات التي يُعرف ضعفها، وفسَّر بها القرآن، وذكر أوجه الاختلاف في معنى الآية معتمدًا في ذلك عليها، ولم يعتمد ـ كما قلت لك سابقًا ـ : من أسند فقد أحالك.
أخي الكريم:
أتمنى أن تنظر في طريقتك مرة أخرى، وأن تعيد الاستقراء لكل الروايات في تفسير ابن كثير إن كنت ستُخرِج لنا منهجه في نقد الروايات.
وأرجو أن تتقبل مني هذا التقويم بصدر رحب، وأشكر لك حرصك وجمعك الذي قمت به في هذا البحث، فهو مفيد في الوصول إلى ما تعرَّض له ابن كثير بالنقد، والله الموفق للصواب.
فأشكر لكم المتابعة ، ولي على ما ذكرت في هذا التعليق تعليق أرج ألا يضيق صدرك به : أما قولك : ( هذا المنهج الذي تسلكه منهج انتقائي ) ... فكان ماذا ؟ أليس هذا كلام ابن كثير في تلكم الروايات ، وهذا – كما ذكرت أنت – هو رأيه ، ورأيه هو منهجه ؟ أم أن منهجه غير رأيه ؟ لا أعلم أحدًا قال بأن المنهج الانتقائي في البحث لا يدل على منهجية الذي يبحث عنه . وأما قولك : ( ولا تكتمل صورة المنهج إلا بالنظر إلى جميع الروايات التي تكلم عنها ، والتي لم يتكلم عنها ؛ ليخرج المنهج كاملاً ) أقول : إنما أردت أن أثبت أنه يجري على المرويات قواعد أهل الحديث ، وأن هذا منهجه ، وفيما ذكرت دلالة على ذلك ، وأما ما سكت عنه فهذا له اعتبارات أخرى ، ذكرت بعضها في أول هذه الدراسة . وأما قولك : ( ولمَّا عرضتُ عليكم رواية الضحاك عن ابن عباس ، لأنه لم يعترض على هذه الرواية مع ضعفها ، إلا في مواطن محددة ، أما في باقي المواطن ، فإنه يقبلها ، ويفسر بها القرآن ) . فقولك : ( لأنه لم يعترض على هذه الرواية مع ضعفها ، إلا في مواطن محددة ) فيه دلالة على أنه – رحمه الله – أجرى عليها قواعد أهل الحديث ، وما قبله منها لاعتبارات أخرى كما ذكرت . وأما قولك : ( وهذا يعني أنَّ النقد إنما يكون لأمر يعرض في متن الرواية ، فيأتي عليها بالنقد ، أما إذا لم يكن في المتن شيء يشكل فإنه يعتمدها ) هذا الكلام ليس على إطلاقه ، فقد انتقد - رحمه الله - كثيرا من هذه الروايات إسنادًا ، وسيأتي ذلك في مقالتي الآتية إن شاء الله تعالى . وأما قولك : ( هذا هو منهجه ومنهج النقاد قبله ) كلام عام يحتاج إلى دراسة ، وأنا أقول : ليس هذا منهج ابن كثير بدليل ما ذكرته ، ويبقى عليك أن تثبت أن هذا منهج النقاد قبله . وأما قولك : ( فإن استقراءك ناقص ، لأنك أخذت ابن كثير فقط ، فأين المحدثون قبله من أهل القرون الأربعة الأولى ) . فأقول : هذه دراسة عن منهج ابن كثير وقد قلت في نهاية مقالتك : ( فهو مفيد في الوصول إلى ما تعرَّض له ابن كثير بالنقد ) وهذه شهادة على أنه منهج ابن كثير في تناول الرويات بنقد .. وهذا هو منهجه . وقد ذكرت لكم في مقال سابق ما يدلل على انه منهج الحافظ ابن حجر رحمه الله ، ومن كلام ابن تيمية ما يدلل على أنه منهجه . والسيوطي – رحمه الله - في ( الدر المنثور ) كثيرًا ما يقول فيما ينقله عن ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهم : بسند ضعيف . وأما السابقون ، فأعكس عليك قولك : أين استقراؤك التام لإثبات أنهم على خلاف ذلك ، وما ذكرت أنت منهم إلا ابن أبي حاتم ، وهو قد استعمل ذلك في مواطن منها : 1 - عند قوله تَعَالَى : ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [ قال : حَدَّثَنَا أَبِي ، ثنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " وَهَلِ الدِّينُ إِلا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ " ؛ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، وَعَبْدُ الأَعْلَى مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ . 2 - وعند قوله تعالى : ] وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [ قال : بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَغْفِرَ لِنِصْفِ أُمَّتِي أَوْ شَفَاعَتِي ، فَاخْتَرْتُ شَفَاعَتِي ؛ وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أَعَمَّ لِأُمَّتِي ، وَلَوْلا الَّذِي سَبَقَنِي بِهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لَعَجَّلْتُ دَعْوَتِي ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَّجَ عَنْ إِسْحَاقَ كَرْبَ الذَّبْحِ ، قِيلَ لَهُ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ ، سَلْ تُعْطَهْ ، قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ لا تُعَجِّلْهَا قَبْلَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ ، اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا قَدْ أَحْسَنَ ، فَاغْفَرْ لَهُ " . 3 - وعند قوله تعالى : ] قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ قال : بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،عَنِابْنِعَبَّاسٍ،قَالَ:لَمَّانَزَلَتْهَذِهِالْآيَةُ: ] قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ قَرَابَتُكَ هَؤْلاءِ الَّذِينَ وَجَبَتْ مَوَدَّتُهُمْ ؟ قَالَ : " عَلِيٌّ ، وَفَاطِمَةُ ، وَوَلَدَاهَا " . 4 - وعند قوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [ قال : وَبِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ e . وعند قَوْلُهُ تَعَالَى : ] وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [ قال : وَبِسَنَدٍ ضَعِيفٍعَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e فِي قَوْلِهِ : ] وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [ ، قَالَ : " هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ " . 5 - وعند تفسيره لسورة ( النبأ ) قال : وَبِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : ] لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [ ، قَالَ : " الْحُقْبُ أَلْفُ شَهْرٍ ، وَالشَّهْرُ ثَلاثُونَ يَوْمًا ، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَالسَّنَةُ ثَلاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا ، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَالْحُقْبُ ثَمَانُونَ أَلْفَ سَنَةٍ " . 6 - وعند تفسيره لسورة ( الأعلى ) : قال : بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ e أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلَّى الْعِيدُ ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ : ] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [ ، وَفِي لَفْظٍ ، قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ e عَنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، قَالَ : " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى " ، فَقَالَ : " هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ " . وهذا البغوي – رحمه الله - عند تفسيره الآية ( 28 من سورة آل عمران ) قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، أنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، أنا محمد بن أبي الأزهر، أنا الحارث بن عمير، أنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب t قال : قال رسول الله e : " إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي والآيتين من آل عمران ( شهد الله -إلى قوله -إن الدين عند الله الإسلام -و -قل اللهم مالك الملك -إلى قوله -بغير حساب ) معلقات ، ما بينهن وبين الله U حجاب ، قلن : يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك ؟ قال الله U : بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه ، ولأسكننه في حظيرة القدس ، ولنظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرة ، ولقضيت له كل يوم سبعين حاجة ، أدناها المغفرة ، ولأعذته من كل عدو وحاسد ونصرته منهم " قال : رواه الحارث عن عمرو وهو ضعيف . 2 - وفي سورة ( النحل ) قال : روي عن المقدام بن معدي كرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله e نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير . وإسناده ضعيف . فما تقول في هذا ؟ أعلم أنك ستقول : هذه مواطن قليلة لا تدل على المنهج ، وأنا أقول : نعم هي مواطن قليلة ، وتدل على المنهج ، وأنَّ ما أمرُّوه إنما هو لاعتبارات أخرى في علم التفسير ، ذكرت بعضها في مقدمة هذه الدراسة . وأما قولك : ( وأرجو أن تتقبل مني هذا التقويم بصدر رحب ، وأشكر لك حرصك وجمعك الذي قمت به في هذا البحث ، فهو مفيد في الوصول إلى ما تعرَّض له ابن كثير بالنقد ، والله الموفق للصواب ) . فهذا رأيك ، وأنا أحترمه كرأي من يقول بعكس ما ذهبت إليه ، وأرجو أن تتقبل مني هذا بصدر رحب ، ويبقى أن الخلاف لا يفسد للود قضية .. كما تعلمنا ، وأسال الله تعالى أن يلهمني وإياك الصواب .
مما سبق يتبين جليًّا أن ابن كثير – رحمه الله – تناول هذه المرويات بنقد أهل الحديث سندًا ومتنًا ، واختلفت عباراته بحسب ما يتعلق بذلك ، وهي عبارات أهل الحديث في النظر في الإسناد والمتن . فعباراته في نقد المتن : - هذا سياق غريب ، وفيه أشياء فيها نظر ، يطول مناقشتها . - فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي ، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة ، فلعل بعضها مُدْرَج ليس من كلام الصحابة ، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة ؛ والله أعلم . - وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، ثم ذكره بإسناده إلى عكرمة عن ابن عباس .. ثم قال : وفي ثبوت هذا عنه بعد ، والظاهر أنه إسرائيلي ، والله أعلم . - وقد روى ابن جرير ها هنا أثرًا غريبًا عجيبًا منكرًا . - وهذا في غاية الغرابة والنكارة ، وكأنه إسرائيلي . - وهذا قول غريبٌ جدًا .
وعباراته في نقد الإسناد : - هكذا في هذه الرواية ، والقاسم بن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة ضعيف . - وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره ، ثم ذكر الرواية ؛ ثم قال : إسناده ضعيف ، والحسن متروك ، وأبوه غير معروف . - ورواه ابن أبي حاتم ؛ وفي إسناده ابن البيلماني . - وهذا الإسناد ضعيف ، ولا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما . - وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب . - وهذا إسناد ضعيف ، فيه مبهم لا يعرف ، عن شيخ شيعي محترق ، وهو حسين الأشقر ، ولا يقبل خبره في هذا المحل .
- وفي صحة هذا نظر .
وبعد ، فهذه أمثلة ، ولم يكن في قصدي استقصاء ما في تفسير ابن كثير رحمه الله ، وفيما ذكرت كفاية لإثبات أن ابن كثير – رحمه الله – تناول مرويات التفسير بعين الناقد البصير بعلل الحديث سندًا ومتنًا ، ولا يصح أن يقال : إنه تساهل مع تلك المرويات وأمرَّها كما جاءت . ولا يتعارض ذلك مع ما قد يكون أمرَّه ، لأني أقول : إن إمراره لما أمرَّه لاعتبارات أخرى ، وقد ذكرت بعضها في صدر هذه الدراسة ... والله الموفق للصواب .
أخي الكريم
أشكر لكم سعة صدركم
أولاً:أحب أن أنبهكم على قولكم :(وأما السابقون ، فأعكس عليك قولك : أين استقراؤك التام لإثبات أنهم على خلاف ذلك ، وما ذكرت أنت منهم إلا ابن أبي حاتم ، وهو قد استعمل ذلك في مواطن منها :...)
فأقول: كل المواطن التي نقلتها ليس التعليق فيها من ابن أبي حاتم، وإنما هي للسيوطي، فهذه الآثار التي نقلها المحقق هي من الجزء المفقود، فنقلها من الدر المنثور كما هي.
ثانيًا: كل بحثكم يندرج تحت مسألة علمية كبيرة، وهي :
هل المحدثون يميزون في معالجة الأسانيد بين المنقولات، أو هم يعملون فيها كلها بمعالجة الأسانيد؟
وأنتظر جوابكم في هذا.
الفاضل / د. مساعد الطيار .
شكر الله لك هذا التنبيه ، وجزاك عني خيرا .
وأما جواب سؤالك - وفقني الله وإياك - فالمحققون من المحدثين يميزون بين المنقولات عند النظر في الأسانيد ، وهم - كما لا يخفاك - يتشددون في الحلال والحرام عن المواعظ والاعتبار ، وهذا كثير عندهم ، فمثلا ابن الجوزي منهجه في النقل في كتب المواعظ يختلف عنه في كتابه ( الموضوعات ) مثلا ؛ ورأيت ابن حجر كثيرا ما يذكر الحديث وهو يعلم - يقينا ضعفه - وينسب تصحيحه إلى من رواه كابن حبان والحاكم مثلا .
كما يميزون في منقولات التاريخ والسير عند النقد بين الرويات المتعارضة ، وقد يمرون بعض الرويات التي لا تخالف وإن كان في إسنادها ضعف .
وربما تشدد بعض المحدثين فنظر في أسانيد كل المنقولات ، لكن الذي أنتهجه هو المذهب الأول ، وهو الذي أراه صوابا .. والعلم عند الله تعالى . هذا في عجالة وفي المسألة تفصيل يطول ذكره ، ولا يخفاكم ذلك . والعلم عند الله تعالى .
الفاضل / د. مساعد الطيار
قد أذكرتني بتنبيهك أني كنت علقت على عمل المحقق لتفسير ابن أبي حاتم ، وهو موجود في مقدمة اختصاري وتحقيقي لتفسير ابن كثير المسمى ( فتح الجواد الكريم ) وهذا نصه : تنبيه : حدث خطأ فاحش في ترقيم المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم [ مكتبة نزار - مكة المكرمة - تحقيق أسعد الطيب الطبعة الأولى 1417 هـ ] فبعد رقم ( 9061 ) ج 5 ص 1580 ، بدأت ص 1581 برقم ( 8328 ) ثم بني الترقيم على هذا الخطأ بعد ذلك . ثم في ص 1602 بعد رقم ( 8464 ) جاء رقم ( 9199 ) في آخر الصفحة ؛ وبدأت ص 1603 برقم ( 9200 ) ثم جاء بعده رقم ( 8468 ) وتتابع .
ثم في ج 5 ص 1691 بعد الرقم ( 9018 ) جاء رقم ( 9753 ) في آخر الصفحة ، وبدأت ص 1692 برقم ( 9754 ) ، ثم جاء بعده ( 9021 ) وتتابع ؛ ثم في نفس الجزء ص 1722 بعد رقم
( 9201 ) جاء رقم ( 9102 ) ، وتتابع ، وجاء في الجزء السادس ص 1754 في أولها الرقم
( 9275 ) ثم جاء بعده ( 10000 ) ثم أربعة أرقام بعد ( 00000 ) هكذا ، ثم آخر الأرقام في الصفحة ( 10081 ) وتتابع إلى ص 1774 ، فجاء في أولها الرقم ( 10098 ، 10099 ) ثم جاء بعدهما ( 10000 ) وتتابع إلى ص 1808 فجاء فيها بعد الرقم ( 10094 ) الرقم ( 10100 ) ثم بدأ ص 1809 برقم ( 10096 : 10099 ) ثم جاء رقم ( 9600 : 9602 ) وبدأت الصفحة 1810 برقم ( 10303 ) وتتابع حتى ص 1826 إلى ( 10399 ) ثم بدأ الرقم ( 10300 ) وهكذا في خلـط عجيب في أرقام الآثار ؛ فلذلك فمن الموضع الأول الذي أشرت إليه ، ذكرت الجزء والصفحة قبل الرقم ليرتفع اللبس ، ثم رأيت أن أذكر الجزء والصفحة فقط دون الرقم ، فليتنبه .
ثم وجدت المحقق ( أسعد محمد الطيب ) من سورة إبراهيم ( 7 / 2234 ) إلى آخر تفسير سورة الحج ( 8 / 2507 ) ينقل عن الدر المنثور ، وفيما يبدو - والله أعلم - أن هذا الجزء ساقط من المخطوط ، لكن الأستاذ المحقق لم ينبه على ذلك ، فتوقفت عن العزو إليه ؛ ثم عدت إليه بعد في بعض المواطن .ا.هـ .
هذا هو النوع الرابع من أنواع التفسير بالمنقول ، وقد ذكر ابن كثير – رحمه الله - في مقدمة تفسيره ما خلاصته : فإذا لم تجد التفسير في القرآن ، ولا في السنة ، ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين ، كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير ، فقد صح عنه أنه قال : عرضت المصحف على ابن عباس ، ثلاث عرضات ، من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها ؛ وعن ابن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه ، فيقول له ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كله . ولهذا كان سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ( [1] ) . وكسعيد بن جبير ، وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري ، ومسروق ابن الأجدع ، وسعيد بن المسيب ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم ؛ فتذكر أقوالهم في الآية ، فيقع في عبارتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا ، وليس كذلك ، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره ، ومنهم من ينص على الشيء بعينه ، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن ، فليتفطن اللبيب لذلك،والله الهادي . قال شعبة بن الحجاج وغيره : أقوال التابعين في الفروع ليست حجة ، فكيف تكون حجة في التفسير ؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح ، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة ، فإن اختلفوا ، فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بعض ، ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة ، أو عموم لغة العرب ، أو أقوال الصحابة في ذلك .
منهجه في تناول الرويات عنهم رحمهم الله
لم يختلف منهج ابن كثير – رحمه الله – في تناول المروي عن التابعين عن منهجه في المروي عن الصحابة y ، وإليك أمثلة : 1 - عند قوله تعالى : ] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [ [ البقرة : 30 ] ، قال ( دار طيبة : 1/ 219 ، 220 ) : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام الرازي ، حدثنا ابن المبارك ، عن معروف ، يعني ابن خَربوذ المكي ، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول : السجِل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [ قالا ذلك استطالة على الملائكة . قال ابن كثير – رحمه الله : وهذا أثر غريب ؛ وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم ؛ ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ، وهو خلاف السياق. وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم – أيضًا - حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن أبي عَبْد الله ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : ] أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [ كانوا عشرة آلاف ، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم . قال ابن كثير : وهذا - أيضًا - إسرائيلي منكر ، كالذي قبله ، والله أعلم .
2 - وعند آية الكرسي ، قال ابن كثير – رحمه الله : ( دار طيبة : 1/ 678 ، 679 ) : وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : ] لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [ أن موسى u سأل الملائكة هل ينام الله U ؟ فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا ، فلا يتركوه ينام ، ففعلوا ، ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما . قال : فجعل ينعس وهما في يده في كل يد واحدة ؛ قال : فجعل ينعس وينبه ، وينعس وينبه ، حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما ؛ قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله U ، يقول : فكذلك السموات والأرض في يديه . وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره ؛ وهو من أخبار بني إسرائيل ، ومما يُعلم أن موسى u لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله U ، وأنه منزه عنه . وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله e يحكي عن موسى u على المنبر ، قال : "وقع في نفس موسى: هل ينام الله ؟ فأرسل الله إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما " ؛ قال : " فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان ، فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان " قال : " ضرب الله له مثلا : أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " . وهذا حديث غريب جدًّا ، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع ، والله أعلم.
3 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 6 / 158 ، 159 ) : هؤلاء - أعني أصحاب الأيكة - هم أهل مدين على الصحيح ؛ وكان نبي الله شعيب من أنفسهم ، وإنما لم يقل هنا أخوهم شعيب ؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة ، وهي شجرة . وقيل : شجر ملتف كالغيضة ، كانوا يعبدونها ؛ فلهذا لما قال : كذب أصحاب الأيكة المرسلين ، لم يقل : ( إذ قال لهم أخوهم شعيب ) ، وإنما قال : ] إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [ ، فقطع نسبة الأخوة بينهم ؛ للمعنى الذي نسبوا إليه ، وإن كان أخاهم نسبا . ومن الناس مَنْ لم يتفطن لهذه النكتة ، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين ، فزعم أن شعيبًا u بعثه الله إلى أمتين ، ومنهم مَنْ قال : ثلاث أمم . وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي - وهو ضعيف - حدثني ابن السدي ، عن أبيه -وزكريا بن عمر ، عن خَصِيف ، عن عِكْرِمة قال : ما بعث الله نبيًا مرتين إلا شعيبًا ، مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة ، فأخذهم الله بعذاب يوم الظُّلَّةِ. وروى أبو القاسم البغوي ، عن هُدْبَة ، عن هَمَّام ، عن قتادة في قوله تعالى : ] وَأَصْحَابَ الرَّسِّ [ [ ق : 12 ] قوم شعيب ، وقوله : ] وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ [ [ق:14] قوم شعيب . قال إسحاق بن بشر : وقال غير جُوَيْبر : أصحاب الأيكة ومدين هما واحد . والله أعلم . وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة ( شعيب ) ، من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبيه ، عن معاوية بن هشام ، عن هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله e : "إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان، بعث الله إليهما شعيبًا النبي u " . قال ابن كثير : وهذا غريب ، وفي رفعه نظر ، والأشبه أن يكون موقوفًا ؛ والصحيح أنهم أمة واحدة ، وصفوا في كل مقام بشيء ؛ ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان ، كما في قصة مدين سواء بسواء ، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة .
4 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 6 / 190 ، 191 ) في هدية بلقيس لسليمان u : ذكر غير واحد من المفسرين ، من السلف وغيرهم : أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك ؛ وقال بعضهم: أرسلت بلَبِنَة من ذهب . والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب . قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما : وأرسلت جواري في زي الغلمان ، وغلمان في زي الجواري ، وقالت : إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي . قالوا: فأمرهم سليمان u أن يتوضؤوا، فجعلت الجارية تُفرغ على يدها من الماء ، وجعل الغلام يغترف ، فميزهم بذلك . وقيل : بل جعلت الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها، والغلام بالعكس. وقيل: بل جعلت الجواري يغتسلن من أكفهن إلى مرافقهن، والغلمان من مرافقهم إلى أكفهم . ولا منافاة بين ذلك كله ، والله أعلم . وذكر بعضهم : أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء ، لا من السماء ولا من الأرض ، فأجرى الخيل حتى عرقت ، ثم ملأه من ذلك ، وبخرزة وسلك ليجعله فيها ، ففعل ذلك . قال ابن كثير – رحمه الله : والله أعلم أكان ذلك أم لا ؛ وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات ، والظاهر أن سليمان u لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ، ولا اعتنى به ، بل أعرض عنه ، وقال منكرًا عليهم : ] أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ [ أي: أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم ؟! ] فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [ أي : الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه ، ] بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [ أي : أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف .
5 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 6 / 334 ) : ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيًّا ( أي لقمان ) ؛ وإنما ينقل كونه نبيًّا عن عكرمة - إن صح السند إليه - فإنه رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث وَكِيع عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة قال : كان لقمان نبيًّا .ا.هـ . وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي ، وهو ضعيف ، والله أعلم .
6 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة : 7 / 543) : قال جويبر عن الضحاك : إن الله تعالى لا يقسم بشيء من خلقه ، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه . قال ابن كثير – رحمه الله : وهذا القول ضعيف ، والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته .
7 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة :8 / 220 ) : وقال ابن زيد وغيره : ] سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [ أي : واد في جهنم ، يسيل يوم القيامة بالعذاب ( [2] ) . قال ابن كثير : وهذا القول ضعيف ، بعيد عن المراد .
8 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة :2 / 338 ) : وقيل: المراد بقوله : ] كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [ أي : سرابيلهم . حكاه ابن جرير ، وهو ضعيف ؛ لأنه خلاف الظاهر .
9 - قال ابن كثير – رحمه الله ( دار طيبة :2 / 360 ) : وقوله : ] وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [ أي : حصينة منيعة عالية رفيعة ؛ وقيل : هي بروج في السماء . قاله السدي ، وهو ضعيف . والصحيح : أنها المنيعة . أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت . أقول ها هنا - أيضًا : هذه أمثلة ، ولم اقصد استقصاء ، وهي تدل على موضع دراستنا ، والله وحده الهادي إلى سواء السبيل .
خاتمة
هذه ما يسره الله الكريم في كتابة هذه الدراسة المختصرة ، وفي هذه الأمثلة دلالة واضحة على منهج ابن كثير – رحمه الله – في تناول الروايات غير المرفوعة في التفسير ، وأنه أجرى عليها قواعد التصحيح والتضعيف عند أهل الحديث . وللإنصاف نقول هناك من النقول ما يمشيه دون النظر في إسناده ، ولكن هذا إنما يكون لعلة مما ذكرنا في صدر هذه الدراسة .. والعلم عند الله تعالى . ويتبين بهذا خطأ من ذهب إلى أن أهل الحديث يمرون نقول التفسير دون النظر في صحتها وضعفها ... هكذا على الإطلاق .
وصفوة القول أن المحدثين أجروا قواعد التحديث على الروايات في التفسير ، وأنهم قبلوا الروايات التي خالفت لاعتبارات أخرى ، كما ذكرت في صدر هذه الرسالة ؛ وأن القول بالتشدد في هذا ؛ بمعنى أنه تُجرى قواعد التحديث على جميع المرويات .. ليس صوابًا ، وكذلك القول بتساهلهم في إمرارها مطلقًا ... ليس صوابًا . هذا والعلم عند الله تعالى .
لكن قدرة مثلي غير خافية .... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
[2]- أسنده ابن جرير تفسير الطبري (23/ 600) قال : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله الله : ] سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [ قال : قال بعض أهل العلم : هو واد في جهنم يقال له : سائل .
هذه ما يسره الله الكريم في كتابة هذه الدراسة المختصرة ، وفي هذه الأمثلة دلالة واضحة على منهج ابن كثير – رحمه الله – في تناول الروايات غير المرفوعة في التفسير ، وأنه أجرى عليها قواعد التصحيح والتضعيف عند أهل الحديث . وللإنصاف نقول هناك من النقول ما يمشيه دون النظر في إسناده ، ولكن هذا إنما يكون لعلة مما ذكرنا في صدر هذه الدراسة .. والعلم عند الله تعالى . ويتبين بهذا خطأ من ذهب إلى أن أهل الحديث يمرون نقول التفسير دون النظر في صحتها وضعفها ... هكذا على الإطلاق .
وصفوة القول أن المحدثين أجروا قواعد التحديث على الروايات في التفسير ، وأنهم قبلوا الروايات التي خالفت لاعتبارات أخرى ، كما ذكرت في صدر هذه الرسالة ؛ وأن القول بالتشدد في هذا ؛ بمعنى أنه تُجرى قواعد التحديث على جميع المرويات .. ليس صوابًا ، وكذلك القول بتساهلهم في إمرارها مطلقًا ... ليس صوابًا . هذا والعلم عند الله تعالى .
الأخ الفاضل تابعت النقاش منذ البداية وعندي بعض التساؤلات:كيف اخترت الروايات التي أجريت عليها الدراسة؟ أليس من المناسب إجراء الدراسة على أجزاء محددة من التفسير وهكذا تصبح العينة أكثر منطقية؟؟طبعاً هذا لا يعني أن العينة العشوائية ليست مقبولة في البحث العلمي لكن ينبغي أن توضح كيف اخترتها يعني على سبيل المثال هل درست المرويات في الأجزاء الأولى او مثلاً في سورة البقرة، يعني بالنهاية القارئ بحاجة لمحددات بحثك؟؟السؤال الثاني كيف عممت نتائج دراسة منهج ابن كثير على المحدثين، مع أنك في البداية قلت أنك لن تسحب منهج ابن كثير على غيره لكنك في النتائج سحبته؟؟
وقد حضرت مناقشة رسالة قبل زمن ليس بالقصير كان من نتائجها حسب ما أذكر أن البخاري نزل عن شرطه في كتاب التفسير وفي المغازي، اما في مرويات التفسير أو أسباب النزول خارج كتاب التفسير فقد بقي على شرطه. وأثبتت هذه الدراسة أن مسلم لم ينزل عن شرطه في مرويات التفسير، وهذا يعني أن لكل منهجه المستقل.
إن جاز لي إبداء الرأي وأنا لست متخصصة في الحديث فأنا أعتقد أن الدراسة قيمة في الوقوف على منهج ابن كثير، إذا تم تحديد علمي لا ختيار عينة المرويات العشوائية، وان لا يتم تعميم النتائج،إضافة إلى تعليل منطقي لعدم نقد ابن كثير لبعض الروايات، لأن الحديث عن منهج يعني الحديث عن منطق داخلي، فإن خالف المفسر أو المحدث منطقه فيكون من المناسب أن يعرف الباحث العلة في هذه المخالفة.
فاشكر لك مرورك ومتابعتك ثم نقاشك ، وأرجو أن يرزقنا الله تعالى الصواب في القول والعمل ؛ وهذه إجابتي على أسألتك .. وأسأل الله تعالى التوفيق . أما قولك : ( كيف اخترت الروايات التي أجريت عليها الدراسة ؟ ) فالإجابة كما يرى من قرأ الدراسة : هي الروايات التي علق عليها ابن كثير بالتضعيف ، واستعمل معها النقد بطريقة المحدثين . وأما قولك : ( أليس من المناسب إجراء الدراسة على أجزاء محددة من التفسير وهكذا تصبح العينة أكثر منطقية ؟؟ طبعًا هذا لا يعني أن العينة العشوائية ليست مقبولة في البحث العلمي ) . فاسمحي لي أن أقول : قد أجبتِ بالشطر الثاني على الشطر الأول ؛ وأزيدك بأن ما ذكرته من الأمثلة أوقع في الدلالة من أن يكون البحث محددًا ، فيقول قائل : هذا استقراء ناقص لا يُقبل في هذا المحل . وإني لأعجب ممن ينتقد المنهج مع إقراره أنه مقبول علميًّا .. أليس هذا عجبًا ؟
وأما قولك : ( لكن ينبغي أن توضح كيف اخترتها ؟ يعني على سبيل المثال هل درست المرويات في الأجزاء الأولى ، أو مثلاً في سورة البقرة ، يعني بالنهاية القارئ بحاجة لمحددات بحثك ؟؟ ) . فمن الذي يجزم بهذا الانبغاء – أختي الكريمة ؟ إن القارئ يحتاج إلى الدلالة على القول ، لا إلى محددات البحث ؛ ويبقى أن محددات البحث اختيار الباحث لا اختيار القارئ ، وإذا كان ما اخترته – كما شهدتِ أنت – مقبولا في البحث العلمي ... فأي انتقاد يكون عليه ؟؟ وأنا لي سؤال على كلامك عن المنهج : هل هو مفرع على كلام الدكتور مساعد - حفظه الله ؟ أنتظر الرد .
وأما إجابة سؤالك الثاني : ( كيف عممت نتائج دراسة منهج ابن كثير على المحدثين ، مع أنك في البداية قلت أنك لن تسحب منهج ابن كثير على غيره لكنك في النتائج سحبته ؟؟ ) لو رجعت – أختي الكريمة - إلى المقالة الأولى والثانية والتي ناقشت فيهما الدكتور مساعد – حفظه الله - لوجدت الآتي : ( ولم أسحبه بعد على غيره، وإن كان هذا يمكن بعد دراسة لمنهج غيره ، وقد رأيت ابن حجر – رحمه الله - في كتاب ( العجاب في بيان الأسباب ) ينحو هذا المنحى ، ولا يخفاك ذلك ، فإنه قال في مقدمته بعد أن تكلم عن الثقات والضعفاء الذين رووا التفسير عن ابن عباس t : وإنما قدمت هذه المقدمة ليسهل الوقوف على أوصافهم لمن تصدى للتفسير ، فيقبل من كان أهلا للقبول و يردُّ من عداه .ا.هـ . وقد قال ابن تيمية – رحمه الله - في ( مقدمة التفسير ) : ( وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ ، مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزمخشري فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ والثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ ، وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ ، يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ ؛ والْوَاحِدِيُّ صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ ، والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ ، لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ ) . أتراه يقول ذلك إقرارًا ، أم نقدًا ؟ وفي المقالة الثانية : زدت السيوطي ، والبغوي – رحمهما الله . وأذكر أن الدكتور - مساعد – حفظه الله – ذكر في بعض مقالاته أن ابن جرير استعمل ذلك في مواطن قليلة من تفسيره . ومن الْمُحْدَثين - ولا يخفى هذا على من له اطلاع – محدِّث الديار المصرية في زمانه : العلامة أحمد شاكر رحمه الله ؛ وتعليقاته موجودة على تفسير شيخ المفسرين : محمد بن جرير الطبري رحمه الله ، وكذا على الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في ( عمدة التفسير ) . فهؤلاء سبعة من محققي المحدثين ؛ فهل يمكن أن يرد أحد هذا القول بعد ذلك ؟ أعلم أن بعض النفوس تأبى أن ترجع عن قولها وإن استبان لها الدليل ، ولكن هذا بعيد عن المنصفين من العلماء . وإذا كان الذهبي - رحمه الله – قال في مواطن كثيرة من كتابه ( سير أعلام النبلاء ) : فما أقل الإنصاف !! فماذا نقول في زماننا ؟ وأما قولك : ( وقد حضرت مناقشة رسالة قبل زمن ليس بالقصير كان من نتائجها حسب ما أذكر أن البخاري نزل عن شرطه في كتاب التفسير وفي المغازي ، أما في مرويات التفسير أو أسباب النزول خارج كتاب التفسير فقد بقي على شرطه . وأثبتت هذه الدراسة أن مسلم لم ينزل عن شرطه في مرويات التفسير ، وهذا يعني أن لكل منهجه المستقل ) . فليس هذا – أختي الكريمة - محل البحث من هذه الدراسة ؛ إنما موضوع بحثنا : هل أجرى المحدِّثون قواعد الحديث في الحكم على روايات التفسير أم لا ؟ وأما قولك : ( إن جاز لي إبداء الرأي - وأنا لست متخصصة في الحديث - فأنا أعتقد أن الدراسة قيمة في الوقوف على منهج ابن كثير ، إذا تم تحديد علمي لاختيار عينة المرويات العشوائية ، وأن لا يتم تعميم النتائج ، إضافة إلى تعليل منطقي لعدم نقد ابن كثير لبعض الروايات ، لأن الحديث عن منهج يعني الحديث عن منطق داخلي ، فإن خالف المفسر أو المحدث منطقه فيكون من المناسب أن يعرف الباحث العلة في هذه المخالفة ) . لم أفهم قولك : ( إذا تم تحديد علمي لاختيار عينة المرويات العشوائية ) ألست قد حددت هذه المرويات إلى : إسرائيليات ، وما روي عن الصحابة ، وما روي عن التابعين ) ، وقد ذكرت في مقدمة الدراسة بعض هذه العلل ؟ أرى أن كلامك – أختي الكريمة – هو شهادة للدراسة .. ولكن على استحياء ؛ فكان ينبغي – وأنتي قد شهدت ابتداء أن المنهج منهج علمي – ألا تضعي مثل هذه المحددات في نهاية كلامك . في النهاية أشكر لك مناقشتك ، وأرجو أن أكون وفقت في الإجابة ، والله من وراء القصد . وأعيد قولي ها هنا : وصفوة القول أني في هذه الدراسة أريد أن أقول : إن المحدثين أجروا قواعد التحديث على الروايات في التفسير ، وأنهم قبلوا الروايات التي خالفت لاعتبارات أخرى ، كما ذكرت في صدر هذه الرسالة ؛ وأن القول بالتشدد في هذا ؛ بمعنى أنه تُجرى قواعد التحديث على جميع المرويات .. ليس صوابًا ، وكذلك القول بتساهلهم في إمرارها مطلقًا ... ليس صوابًا . والعلم عند الله تعالى . وفي انتظار رأي إخواننا المتخصصين ، ولا أدري لماذا لم أرى رأيهم ؟!! .. غفر الله لي ولإخوتي وأخواتي ، وهداني وإياهم سواء السبيل ؛ وصلى الله وسلم على النبي محمد وعلى آله وصحبه .
الأخ الفاضل لم أفهم سؤالك :(كلامك عن المنهج : هل هو مفرع على كلام الدكتور مساعد الطيار؟)لهذا لا أستطيع الإجابة.
الأمر الثاني : يبدو أني بحاجة لإعادة قراء ة الموضوع ومداخلات الأساتذة الأفاضل عليه، لأنني ما زال عندي حلقة مفقودة، وقد يكون سببها سوء فهمي للبحث، إذ أنني لا أفهم كيف يتم اختيار عينة مرويات قام ابن كثير بتضعيفها ونقدها حديثياً لأثبت أنه يقوم بنقد المرويات حديثياً ؟هذه لا تسمى عينة عشوائية في البحث العلمي، وأعود وأقول لعل الإشكال في رأسي فقط لهذا سأعود لقراءة الموضوع والمداخلات عليه مرة ثانية، وأستميحك عذراً للمداخلة.
( من أسند لك فقد أحالك ... من أسند فقد أحال ... من أسند فقد برئت ذمته ... من أسند فقد برئت عهدته . من أسند فقد أحال ومن أحال فقد برئ ) عبارات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى ، يقولها أهل الحديث إعذارًا للسابقين من المصنفين الذين جمعوا الروايات فكان فيها الصحيح والحسن ودون ذلك ؛ والمعنى : من أسند فقد برئت ذمته ، وإنما على المحقق أن يتبين صحة تلك المرويات بعد دراسة أسانيدها . قال الألباني – رحمه الله - في تحقيقه لكتاب ( اقتضاء العلم العمل ، ص 4 ) : إن القاعدة عند علماء الحديث أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده ، فقد برئت عهدته منه ، ولا مسؤولية عليه في روايته ، ما دام قد قرن معه الوسيلة التي تُمكِّن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحًا أو غير صحيح ، ألا وهي الإسناد .ا.هـ. وأول من ذكر هذه القاعدة في كتاب – فيما وقفت عليه – حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر ( ت : 463 هـ ) – رحمه الله – قال في ( التمهيد : 1 / 3 ) : وقالت طائفة من أصحابنا مراسيل الثقات أولى من المسندات ؛ واعتلوا بأن ( من أسند لك فقد أحالك ) على البحث عن أحوال من سماه لك ؛ ومن أرسل من الأئمة حديثًا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر .ا.هـ . وهذا يدل على أن العبارة كانت مستخدمة قبله - رحمه الله . فهي قاعدة في الإسناد قديمة ؛ وقد استعملها العلماء في كتبهم إما بلفظها أو بمعناها ، وجاء - أيضًا - عنهم ما يدل على نقدهم لمرويات التفسير ، وإعذار من يروي بالإسناد ، فمن ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله : فالموجود من كتب الرقائق والتصوف ، فيها الصحيح ، وفيها الضعيف ، وفيها الموضوع ؛ وهذا أمر متفق عليه بين جميع المسلمين ، لا يتنازعون في أن هذه الكتب فيها هذا ، وفيها هذا ، بل نفس الكتب المصنفة في الحديث والآثار ، فيها هذا وهذا ، وكذلك الكتب المصنفة في التفسير ، فيها هذا وهذا ، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات ، وفي كتبهم هذا وهذا ، فكيف غيرهم ؟ والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه ، أو التصوف ، أو الحديث ، ويروون هذا تارة ، لأنهم لم يعلموا أنه كذب ، وهو الغالب على أهل الدين ، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب ، وتارة يذكرونه وإن علموا أنه كذب ، إذ قصدهم رواية ما رُوي في ذلك الباب . ورواية الأحاديث المكذوبة ، مع بيان أنها كذب ، جائز ، وأما روايتها - مع الإمساك عن ذلك - رواية عمل فإنه حرام عند العلماء ، كما ثبت في الصحيح عن النبي e أنه قال : " من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب ، فهو أحد الكاذبين " ؛ وقد فعل ذلك كثير من العلماء متأولين أنهم لم يكذبوا ، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم ، وهذا يسهل إذ رووه ليعرف أنه رُوي ، لا لأجل العمل به والاعتماد عليه ( [1] ) . وقال - أيضًا : وما يرويه أبو بكر الخطيب ، وأبو الفضل بن ناصر ، وأبو موسى المديني ، وأبو القاسم ابن عساكر ، والحافظ عبد الغني ، وأمثالهم ممن لهم معرفة بالحديث ، فإنهم كثيرًا ما يروون في تصانيفهم ما رُوي مطلقًا على عادتهم الجارية ؛ ليعرف ما رُوي في ذلك الباب ، لا ليحتج بكل ما رُوي ، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ، ويقول : غريب ، ومنكر ، وضعيف ، وقد لا يتكلم ( [2] ) . وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - وهو يترجم للطبراني رحمه الله : وقد عاب عليه إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي جمعه لأحاديث الأفراد مع ما فيها من النكارة الشديدة والموضوعات ، وفي بعضها القدح في كثير من القدماء من الصحابة وغيرهم ؛ وهذا أمر لا يختص به الطبراني ، فلا معنى لإفراده باللوم ؛ بل أكثر المحدثين في الأعصار الماضية - من سنة مائتين وهلمَّ جرَّا - إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته ؛ والله اعلم ( [3] ) . وقال الحافظ العراقي - رحمه الله - بعد أن ذكر حديثًا باطلاً طويلًا روي عن أُبي بن كعب t في فضائل القرآن سورةً سورة : وكل من أودع حديث أُبي المذكور في تفسيره ، كالواحدي ، والثعلبي ، والزمخشري ، مخطئ في ذلك ، لكن من أبرز إسناده منهم ، كالثعلبي والواحدي ،فهو أبسط لعذره ؛ إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده ، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه ، وأما من لم يُبرز سنده ، وأورده بصيغة الجزم ، فخطؤه أفحش كالزمخشري . قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - معلقًا على كلام شيخه العراقي : قلت : والاكتفاء بالحوالة على النظر في الإسناد ، طريقة معروفة لكثير من المحدثين ، وعليها ما صدر من كثير منهم ، من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها صريحًا ، وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة ، وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان ( [4] ) . أحسب أنه بعد هذه النقول قد استبان أمر هذه القاعدة ، وأنها مطردة في الإسناد ، ولا يرد باستعمالها طعن على الأولين مما أورده الدكتور مساعد والدكتور حاتم – حفظهما الله – بل فيها دفاع عنهم وإعذار لهم . ولهذا قال الأستاذ محمود شاكر - رحمه الله - دفاعا عن الطبري - رحمه الله - واعتذارًا عنه : ( تذكرة ) : تبين لي مما راجعته من كلام الطبري ، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها ، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ ، أو بيان سياق عبارة ؛ فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى ( الخليفة ) ، و ( الخلافة ) ، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى ( الخليفة ) . وجعل استدلاله بهذه الآثار ، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله ؛ وهذا بين في الفقرة التالية للأثر رقم : 605 ، إذ ذكر ما روي عن ابن مسعود وابن عباس ، وما روي عن الحسن في بيان معنى ( الخليفة ) ، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم . ومن أجل هذا الاستدلال ، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه . ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر : 465 عن ابن مسعود وابن عباس ، فيما مضى ص : 353 : ( فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . . ) ، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد ، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده ، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه . وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال . ومثله - أيضًا - ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها ، أو في كونها من الإسرائيليات ، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم ، بل يسوق الطويل الطويل ، لبيان معنى لفظ ، أو سياق حادثة ، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين ، ولا في التفسير التام لآي كتاب الله . فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون ، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم ، كما يستظهر بالشعر على معانيها ؛ فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا ، ولما لم يكن مستنكرًا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله ، ما صحت لغته ؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث ، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين ، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن ، وكيف فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم . وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري ، إذا ما انتهى إلى شيء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر ؛ ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال ، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه ، والحمد لله أولا وآخرًا .ا.هـ ( [5] ) . وقال د. محمد الذهبي – رحمه الله – في ( التفسير والمفسرون ) : ثم إن ابن جرير وإن التزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها ، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف ، لأنه كان يرى - كما هو مقرر في أصول الحديث - أنَّ مَن أسند لك فقد حمَّلك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ، ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانًا موقف الناقد البصير ، فيُعَدِّل مَنْ يُعَدِّل من رجال الإسناد ، ويُجرِّح مَنْ يُجَرِّح منهم ، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ، ويُصرِّح برأيه فيها بما يناسبها ... ثم ذكر مثالا لذلك عند تفسيره للآية ( 94 ) من سورة الكهف ( [6] ) . وبنحو هذا قال د. نور الدين عتر في ( علوم القرآن الكريم ) : ويمتاز عمل ابن جرير في التفسير بالمأثور أنه يورد الروايات بأسانيدها، لكنه وقد التزم هذا الأسلوب لم يلتزم الصحة فيما يورده، كما أنه قلّما يعقّب على الروايات بتصحيح أو تضعيف، وذلك لأنه كان يرى- فيما يبدو- أن من أسند فقد حمَّلك البحث عن رجال السند ودرسه ، وكان عصره عصر العلم بهذا الفن يسهل على طالب العلم معرفة حال الروايات أسانيد ومتونا ، فاعلم ذلك وراعه ( [7] ) .ا.هـ . وفي مقال له بـ ( مجلة البحوث الإسلامية ) عنوانه : ( التفسير بالأثر والرأي وأشهركتب التفسير فيهما ) قال الدكتور عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الوهيبي : وقد التزم ابن جرير في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها ، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف ، لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث ، أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ، ومعرفة مبلغهم من العدالة والجرح ، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ، ومع ذلك فابن جرير يقف أحيانًا من السند موقف الناقد البصير ، فيعدل من يعدل رجال الإسناد ، ويجرح من يجرح منهم ، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها ؛ ( وهذا نقله عن الذهبي كما سبق ) ثم قال : ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار إسرائيلية يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج والسدي وغيرهم ، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة النصارى . وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات ، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة . فعلى الباحث في تفسيره أن يتابع هذه الروايات بالنظر الشامل والنقد الفاحص ، وقد يسر لنا ابن جرير الأمر في ذلك حيث إنه ذكر الإسناد ، وبذلك يكون قد خرج من العهدة . انتهى المراد منه . وبعد ؛ فقد استبان أمر هذه القاعدة : ( من أسند لك فقد أحالك ) واستعمال العلماء لها ، والمقصد من استعمالها ، وأنها مطردة في الإسناد ؛ فما رأي الأساتذة الكرام في هذه الدراسة الموجزة ؟ انتظر جوابكم ، غفر الله لي ولكم .