منهاج القارئ في تعامله مع مسائل الخلاف في علم التجويد (لمحمد يحيى شريف حفظه الله)

إنضم
17/03/2005
المشاركات
937
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
منهاج القارئ في تعامله مع مسائل الخلاف في علم التجويد

--------------------------------------------------------------------------------

منهاج القارئ في تعامله مع مسائل الخلاف في علم التجويد

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وبعد :

إنّ أفضل وسيلة يريد أن يحققها قارئ القرءان الكريم ليكون مع السفرة الكرام البررة إن شاء الله تعالى هو أن يقرأ القرءان كما أنزل ولا يتأتى ذلك إلاّ بشروط وضوابط أريد أن أُشير إليها لتكون سراجاً للمقرئ المبتدئ وتذكاراً للمقرئ المنتهي ، وهذه الشروط والضوابط لا تتعلّق بالشروط القراءة الصحيحة من صحة السند وموافقة أحد المصاحف العثمانية وموافقة وجه من أوجه اللغة العربية لأنّ هذه الشروط كانت ضرورية في وقف تدوين القراءت أمّا الآن فلا شك أنّ القراءات المقروءة اليوم سواء من الشاطبية أو من الدرة أو من الطيبة متواترة قطعاً قد توفرت فيها الشروط الثلاثة. وإنّما أريد أن أتعرّض في هذا البحث إلى صحة القراءة من حيث الأداء فيما يتعلق بمخارج الحروف والصفات وما ينشؤ عن تلك الصفات حال تركيب الحروف.
وسبب عرض هذه المسألة يرجع إلى اختلاف أهل الأداء في بعض المسائل وهذا الخلاف مع الأسف يمسّ بعض الأحكام التي الخلاف فيها يترتب عليه تغيير في الصوت القرءاني لأنّ مسائل التجويد يمكن تقسيمها إلى قسمين :
أولاً : المسائل التي الخلاف فيها لفظي ونظري لا يترتب عليه تغييرٌ في الصوت مثال ذلك إدغام النون في الميم نحو { من مال } فوقع الخلاف هل هذا الإدغام ناقص أم كامل بمعنى هل الغنّة هي للميم أم للنون وكذلك القلقلة هل تكون في الساكن فقط أم تكون في المتحرّك وغير ذلك من الأمثلة. فالخلاف في هذه المسائل لا يضر لأنّه لا يترتّب عنه تغييرٌ في الصوت ولأجل هذا كان مجال الاجتهاد في هذا النوع من المسائل غير مذموم.
ثانياً : المسائل التي الخلاف فيها تطبيقي ويترتبّ عنه تغييرٌ في الصوت كمسألة الضاد ، والفرجة عند إخفاء الميم والإقلاب ، ومراتب التفخيم والذي يتمثّل في جعل الساكن بعد الكسر في مرتبة المكسور فيقرءون مثلاً القاف في { اقترب } في نفس المرتبة القاف المكسورة نحو { قيل } وكذلك صوت القلقلة هل هو مستقلّ أو يكون مائلاً إلى الفتح مطلقاً أو إلى حركة ما قبلها وترقيق راء {ونذر} وغير ذلك. فهذه المسائل يجب علينا أن نعطي لها أهمّية كبيرة ولا نتساهل فيها ولا نقلّد فيها تقليداً أعمى من غير تدقيق ولا تحقيق ولا نتسرّع في ترجيح أحد الأقوال فيها والتلقي من المشايخ فيها لا يكفي في الاستدلال على ترجيح أحد القولين على الآخر لأنّ كل شيخ يقول هكذا تلقّيت عن شيخي والمخالف يقول هذا أيضاً. فأين الحق وكلٌّ يدّعي أنّه تلقى ذلك الوجه عن الشيخه بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا نستخلص أنّ التلقي وحده عن المشايخ لا يكفي احتجاجاً للنطق الصحيح في المسائل الخلافية التي يترتّب عليها تغييرٌ في الصوت فلابدّ حينئذٍ من شرط آخر وهو أنّ التلقى لا بدّ أن يوافق نصوص الكتب المعتمدة في هذا الفنّ لا سيما القديمة ككتاب الكتاب لسبويه في باب مخارج الحروف والصفات وكتاب الرعاية لمكّي القيسي وكتاب التحديد للداني وكتاب الموضح للقرطبي وكتاب التمهيد لأبي العلاء الهمذاني وكتاب التمهيد والجزرية لابن الجزرية وغيرها لأنّ معظم هذه الكتب تحتوى على نصوص نَقلت لنا الكيفية الصحيحة للنطق بالحرف العربيّ الأصيل الذي نزل به القرءان سواء كان الحرف بمفرده أو مقترناً بغيره حال التركيب. إذاً فهذه الكتب هي ينابيع هذا الفنّ إذ كان مؤلّفوها رحمهم الله أقرب الناس عهداً بالقرون الثلاثة الأولى التي شهد لها النبيّ صلى الله عليه وسلّم بالخيرية ومن خالف هذه النصوص فقد خالف السلف كما قال الله تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً } ولاشكّ أنّ سبيل المؤمنين ما رواه سلف هذه الأمة ومن أخذ عنهم.
وممّا يؤكّد أنّ التلقي وحده لا يكفي ما نجده اليوم من الخلافات في بعض المسائل التي ابتُدعت على أساس اجتهادٍ محض لا يؤيّده نص ولنضرب لذلك مثالين : أوّلهما ترك الفرجة عند إخفاء الميم والإقلاب. فقد نسب العلماء المعاصرون هذا القول إلى الشيخ الجهبذ المحقّق السيّد عامر عثمان رحمه الله تعالى شيخ عموم المقارئ المصرية في وقته حيث اجتهد وقام بقياس الميم المخفاة على النون المخفاة وذكر أنّه كما أنّ طرف اللسان ينفصل ولا يلتصق بالحنك الأعلى عند إخفاء النون فكذلك لا بدّ من فصل الشفتين من بعضهما عند الإقلاب والإخفاء الشفوي ولا يتأتّى ذلك إلاّ بترك الفرجة قياساً وليس هدفي الخوض في المسألة ولكنّي أريد أن ألفت انتباه القارئ أنّ هذا الكلام هو اجتهاد محض وقد ترتّب عنه صوتُ جديدٌ لم يُعهد من قبل وهو مخالف للمتلقى بالسند ومخالف لما ذكره القدامى الذين أثبتوا إطباق الشفتين عند إخفاء الميم وإقلاب النون وهي أقوال كلّ من طاهر بن غلبون وأبو عمرو الداني وأبو شامة وأبو محمد المقالي في شرح التيسير والمرادي في كتابه المفيد وشرح الشاطبية للإمام جلال الدين السيوطي الذي طُبعَ مؤخّراً وغيرهم رحمهم الله ولم أذكر هذه النصوص اختصاراً. وهذا الاجتهاد المحض ترتّب عنه مفاسد وهي :
أوّلاً : أنّه مخالف للمتلقّى عن المشايخ حيث قرأ الشيخ عامر بانطباق الشفتين عن مشايخه كما ذكر غير واحدٍ من الثقات.
ثانياً : مخالف للنصوص القديمة.
ثالثاً : أنّه قياس محض لا يؤيّده نص إذ الأصل في القراءة الاتباع كما قال الشاطبيّ رحمه الله :

وما لقياسٍ في القراءة مدخل.........فدونك ما فيه الرضا متكفّلا
والقياس لا يكون إلاّ في المسائل التي فيها غموض ولم يرد فيها نص كما حقق ذلك بن الجزري في النشر كالسكت عند إظهار الهاء في { ماليه هلك } إذ لا يتأتّى الإظهار إلاّ مع السكت لخفاء الهاء وبُعْدِ مخرجها خاصّة إذا تكررت. وكذلك الوقف على { شيء } ونحوها لمن قرأ بالسكت لحفص من طريق الطيّبة حيث لا يُتمكّن من السكت عند الوقف إلاّ إذا وُقِفَ بالروم على الهمزة. إذاً فالقياس أُخِذَ به ضرورةً. أمّا في مسألة الفرجة فلا داعي للقياس لأنّ المسألة ليس فيها غموض وخاصّة أنّ نصوص القدامى متوافرة في هذه المسألة والتلقّي فيها جليّ.
رابعاً : أنّ ترك الفرجة أصبح اليوم من المتلقّى بالسند إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم بعد ما كان اجتهاداً محضاً. وإذا سألت الآخذين بالفرجة من أين لكم ذلك ؟ يقولون تلقّيناها عن مشايخنا. فانظر أخي الكريم كيف أنّ المسألة منشؤها ومنبعها قياس واجتهادٌ محض يحتمل الخطأ والصواب ثمّ يصير بعد عدّة سنوات من المتلقّى بالسند. أليست هذه مصيبة ؟.

المثال الثاني : ترقيق راء {ونذر} في المواضع الستّة في القمر. فاختلف المتأخّرون في ترقيقا. وأوّل من قال بترقيقها هو العلاّمة المتولّي في فتح المعطي وتبعه في ذلك العلامة الضباع حيث استحسن الترقيق في أرشاد المريد وكذالك معظم المشايخ الذين جاءوا من بعدهم. ويبدو أنّ المتولّي قاسها على { يسر} كما قال المحقق عبد الرازق علي إبراهيم موسى في تحقيقه لكتاب الفتح الرحماني ص147و148 . وذلك أنّ بن الجزري ذكر في النشر ما يرقّق فرقاً بين كسرة الإعراب وكسرة البناء في ثلاث كلمات بالتحديد وهي { أن أسر } عند من قطع وسكن النون وكذلك { فأسر } عند من قطع ووصل وكذا { والليل إذا يسر } في الوقف على السكون على قراءة من حذف الياء. ولم يتعرّض بن الجزري إلى كلمة { ونذر } لا من قريب ولا من بعيد.
وما فعله العلاّمة المتولّي في قياس { ونذر } و{ ويسر } قياسٌ غير صحيح كما ذكر الشيخ عبد الرّازق حفظه الله لما سيأتي :
أوّلاً : أنّ الياء في { يسر } أصلية لأنّها واقعة في لام الكلمة إذ أصلها يسري على وزن يفعل ، أمّا الياء في { ونذر } فهي ياء للإضافة زائدة.
ثانياً : أنّ الراء في { ونذر } معربة وإنّما كُسِرت لمناسبة الياء عند من أثبتهاحيث يمكن رفعها في غير القرءان نحو جاء نذرُ فلان ، أمّا في {يسر} فهي كسرة للبناء لأنّ الراء في عين الكلمة لا تتغيّر في جميع الأحوال لذا رُقّقت فرقاً بين كسرة البناء وكسرة الإعراب على ما نصّه بن الجزري.
ثالثاً : أنّ راء { يسر } سُبقت بساكن وقبله فتح بخلاف راء { ونذر } فقد سبقت بضمتين فأين وجه القياس.
ومن أراد المزيد من المعلومات في هذه المسألة فاليرجع إلى كتاب فتح الرحماني شرح كنز المعاني للجمزوري تحقيق فضيلة الشيخ عبد الرازق علي إبراهيم موسى ص 147و148. والفوائد التجويدية في شرح المقدّمة الجزرية للشيخ عبد الرازق علي إبراهيم موسى ص 65.
فالشاهد في هذه المسألة من ترقيق راء { ونذر} :
أوّلاً : أنّها مخالفة لنصوص القدامى.
ثانياً : أنّها مخالفة للمُتلقّى بالسند حيث لم أقرأ في المدينة النبوية وفي دمشق إلاّ بالتفخيم. وقد سئِلَ الشيخ الزيات عن ترقيق راء { ونذر } فقال رحمه الله "لم نقرأ ولم نُقرئ إلاّ بالتفخيم في هذه اللكمة " وقيل له لماذا وافقت على ترقيقها ؟ فقال رحمه الله "خوفاً من الفتنة " ( هذا الكلام منقول من كتاب الفوائد التجويدية ص69).
ثالثاً : أنّ دليل الترقيق هو القياس وقد ذكرنا أنّ القيلس لا يُؤخذ به إلاّ عند الغموض وعدم النصّ كما ذكر بن الجزري في النشر والصاحب إتحاف فضلاء البشر. وكما هو ظاهر أنّ المسألة ليس فيها غموض بل إنّ هذا القياس غير صحيح كما بيّن الشيخ عبد الرازق حفظه الله ومخالف للنصوص وللمُتلقّى عن المشايخ.
وممّا زاد إعجابي في هذه المسألة أنّي سألت أحد كبار المشايخ في المدينة النبوية ما هو دليل ترقيق راء {ونذر } فاستدلّ بقول العلامة إبراهيم شحاته السمنودي حفظه الله تعالى في لآلئ البيان. وقلت له هل يعني من هذا القول أنّ كل راء جاء بعدها ياء محذوفة يجوز أن ترقّق نحو { ولم أدر } و { وله الجوار } و { فلا تمار } فأجاب بِنَعَم. فانظر يرحمك الله كيف أنّ المسألة بدأت باجتهادٍ محضٍ في كلمة واحدة وهي { ونذر } ثمّ انتشرت إلى عدّة كلمات فيما بعد ؟؟؟؟. فالأمر خطيرة لا بدّ أن يوضع له حدّ بِوَضع ضوابط وحدود.

فالخلاصة من هذين المثالين يمكن تلخيصهُ بما يلي :
أوّلاً : أنّ التلقّي من المشايخ لا يكفي في بيان الحقّ في مسألة خلافية لأنّ الكلّ يدّعي أنّه تلقّى ذلك عن شيخه والحقّ لا يتعدّد كما هو معلوم. وأنّ النصوص المعتبرة هي الفاصل بين المسائل الخلافية ، لأنهّ في عصر تدوين القراءات والتجويد كان كلّ واحدٍ من أهل الأداء يجمع ما تلقاه عن مشايخه من القراءات والروايات في كتاب ثمّ يقرئ بمضمون ذلك الكتاب كالتيسير للداني والكامل للهذلي والوجيز للأهوازي وغيرها من الكتب فكان الأصل هو التلقيى. أمّا الآن فقد قلّت الهِمم وكثر الغلط وقلّ المتقنون من أهل الأداء فكثُر الخلاف في بعض المسائل وكلّ فريق يدّعي أنّه تلقّى ذلك بالسند. فالنص هو الفاصل بين القولين لأنّه يبيّن الوجه الصحيح المقروء به عند القدامى. وهذا يدلّ أنّه إذا تعارض النصّ مع المتلقّى فيقدّم النصّ لأنّ النصّ لا يتغيّر مهما طال الأمد بخلاف التلقّى الذي يعتريه شيء من التغيير مع مرّ الزمان وإن كان قليلاً ، والحمد لله أنهّ تعالى يسخّر في كلّ زمان علماءاً محققين يصحّحون للناس ما يَعرض للعلم من الغلط.
ثانياً : كم من مسألة منشؤها ومنبعها اجتهادٌ محض صارت فيما بعد من المتلقّى بالسند إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأخذت أبعاداً كما شاهدناه في المثالين.
ثالثاً لا يكون القياس إلاّ في المسائل التى فيها غموض ولم يرد فيها نصّ وليس هناك حلّ سوى ذلك. أمّا المسائل التي ورد فيها نص ولم يختلف فيها القرّاء أَداءاً فلا يؤخذ بالقياس.
رابعاً : كلّ المسائل التي اختلف فيها القرّاء المعاصرون لا بدّ أن تُحقّق وأن يُرجع إلى كتب القدامى المعتبرة لعلّه يوجد نص يفصل بين الفريقين. وإذا وُجِدَ نص فلا بدّ من إذعان له. بخلاف ما نشاهده اليوم من التعصّب في بعض المسائل وإن كانت مخالفة للنصوص صراحة.

وإنّي لست بصدد تقعيد القواعد والأصول بل هذا الأمر يحتاج إلى جهابذة وعلماء بمعنى الكلمة وإنّما هدفي ممّا ذكرت هو أن أثيرَ نقاشاً بين العلماء وطلبة العلم حتّى نستفيد من المداخلات والردود وأن ألْفِتَ انتباه العلماء علىأهمّية هذه القضية حتّى يُعْنَوْ بها. ولم أجد لحدّ الآن حسب ماطلعت عليه من تعرّض إلى هذه المسألة في بحث مستقلّ.
وبالمناسبة أريد طرح سؤالي مهمّ على العلماء وهو هل في هذا الزمان نحتاج إلى الاجتهاد والقياس في علم التجويد والقراءات وذلك في المسائل التي يترتّب عنها تغييرٌ في الصوت ؟

هذا ما أردتّ أن أقوله في هذه القضيّة ولا أدّعي الصواب فيما ذكرت والإنسان لا يخلو من التقصير والغلط وما هدفنا من هذا الكلام إلاّ الاستفادة من الردود والتعقيبات وإلفات انتباه المشايخ إلى أهمّية هذه المسألة والله شهيدٌ على ما أقول وصلّى الله على سيّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
محمد يحي شريف الجزائري
 
هذا الموضوع من موضوعات ملتقانا الحبيب. قلما يهتدي إليه الإخوة الأعضاء لذا كررته ربما سقط من قواعد بيانات الملتقى أثناء حدوث خلل ما.

خادمكم
 
عودة
أعلى