محمد خليل الزروق
New member
[align=justify][align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
تعليق على ما نشر في منتدى المجلس العلمي ( الألوكة ) ، من نقل حسين أحمد أمين عن الأستاذ محمود محمد شاكر رأيَه في الإمام محمد عبده ، وهو أنه خبيث وأس الفساد .
[align=center]* * *[/align]
رحمة الله عليك - يا شيخ محمد رشيد رضا - أيها الإمام ، كنت عالمًا سلفيًا ، وقد تلمذت للشيخ محمد عبده ، فهل كنت بهذه المنزلة من علم الدين ، وبهذه المثابة من تصفح أخلاق الناس - بحيث تغفل عن إنسان خبيث أو مفسد ، ولا تتفطن لخبثه وإفساده ، وتتمادى في صحبته ، وأخذ العلم عنه ، وتلقِّي التفسير منه ، وتدون كلامه على أنه أعلاق تُشَدُّ الأيدي عليها ، ونفائس يُضَنُّ بها ، وتبالغ - يا شيخ رشيد - في ذلك ، وتسمي هذا الرجل بالأستاذ الإمام ، وتكتب في سيرته كتابًا ، وتنشر علمه ، وتقرُّ له بالتلمذة ؟ ما هذا يا شيخ رشيد رضا ؟ ما هذا ؟ أين عقلك الكبير ، وعلمك الواسع بالدين ، وخبرتك بالناس ، وتصفحك للأخلاق ، كيف تقضي هذا العمر مع هذا الشيخ ولا تتفطن إلى أنه من أكبر الجناة على الأمة وأجيالها ؟
[align=center](1)[/align]
رويدَك - يا أخي الكريم - لا تعجل ، ولا تأخذْك العجلة مآخذَها ، ولا تطِرْ بك مَطارَها ، وفي التثبُّت زَيْن ، وفي الرَّويَّة صلاح وإصلاح ، وفي الأناة فضل ، ومزيد علم ، وتمحيص رأي ، وثوبة إلى رشاد .
وما هكذا تؤخذ الأمور ، ولا هكذا يُحكَم على الرجال ، وكم من عالمِ رُسوخ ، وداعية حق ، وإمام هدى ، تقوَّل عليه المتقوِّلون ، وحسده الحاسدون ، وكاد له الكائدون ، ينقمون منه ذكاءَه ونبوغه ، ويكرهون عمله ونُجْحه ، ويَضيقون برحابة صدره ، وسَعة أفقه ، وبعد نظره ، وجمال تحقيقه ، وحسن تجديده وتسديده ! وما خبر الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية عنكم ببعيد ، فقد كاد له خصومه من العلماء ، ورموه بكل سوء ، وسَعَوْا به إلى السلطان ، فمات مسجونًا مظلومًا مأخوذًا برأيه ، وطلاقة فكره ، ونُفُوذ عقله ، وحديد بصره ، مما لم يألفه علماء التقليد والترديد ، ولم يعرفه مَن حجتهم وجدنا آباءنا ، وأطعنا كبراءنا ، وتبعنا علماءنا !
وماذا فعل الأستاذ الفاضل الديِّن الغيور الأديب الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - غير أن نقل في الأستاذ الإمام محمد عبده آراء معاصريه وأقرانه من مشايخ الأزهر ممن لم يعجبهم سعيه في إصلاح التعليم ، ودعوته إلى تجديد الدين ، فنفِسوا عليه ذلك ، ورأوه غضًّا من شأنهم ، وتسفيهًا لطريقتهم في العلم والتعليم والفتوى !
[align=center](2)[/align]
وهل أتاك نبأ حسين أحمد أمين الذي يُنقَل كلامُه ، وتؤخذ شهادته ، كأنه شاهدٌ عدل ، ومسنِدٌ ثقة ، وراوية ثبَت ؟ وهو إنما أراد بكلامه الطعن على العلامة شيخ الآداب العربية وأستاذ أساتيذها في هذا العصر أبي فهر محمود محمد شاكر - عليه رحمة الله ، وسحائب رضوانه ومغفرته ! - وزرعَ الكراهة له في القلوب ، بترويج أنه حديد اللسان ، سريع البادرة ، لا يسلم من أذاه أحد ، ولا يبرأ من ذمه عالم ، ولا ينجو من لسانه فاضل ، كأنه وحش مفترس ، أو مجنون لا عقل له ، أو سفيه لا يضبطه ضابط ، ولا يربطه رابط ! هذا ما أراده حسين أحمد أمين ، ودونك ما كتبه تلميذ الشيخ شاكر وصاحبه وصفيُّه أبو أروى محمود محمد الطناحي - رحمه الله - في رد عدوانه على الشيخ ، وإبطال كلامه ، وفضح تجنِّيه ، وتعنيفه وتبكيته وتسكيته ( انظر مقالات الطناحي 2/608-631 ) .
وأما أن رأي الشيخ شاكر في جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده هكذا - فحق ، وليس مصدر ذلك حسين أحمد أمين ، ولو كان المتفردَ بهذا النقل لرُدَّ قوله ، ولضُعِّفت روايته ، لما عُرف من أمره . ولكن الشيخ نفسه صرَّح به في مقدمة كتاب أسرار البلاغة للإمام عبد القاهر الجرجاني ، وقد نشر سنة 1412=1991 .
والدكتور محمود الطناحي - برد الله مضجعه - أقرَّ به ، وسلَّمه له ، وأعطى فيه بيده ، وعمَد إلى تسويغه وشرحه ، وأثنى على الفاضلين الدكتور محمد عمارة والأستاذ فهمي هويدي - حفظهما الله - وذكر أنه لم يسمع العلاَّمة شاكرًا يذكرهما بسوء ، وذكر أنه غيَّر رأيه في الدكتور عمارة بعد ما عُرف مَشْرَعه ، وظهر منْزَعه .
[align=center](3)[/align]
وما لنا والبحثَ عن الناقل ، والأخذ بالإسناد النازل ، واعتماد الوسائط والوسائل ، وهذه نشرة الشيخ من كتاب أسرار البلاغة بين أيدينا !
ذكر في مقدمتها تصحيحات الشيخ محمد عبده التي أثبتها السيد محمد رشيد رضا في نشرته من الأسرار ، وقال : " وقد أوقع في قلبي الريبة من هذه التصحيحات ما أعلمه من تسرع الشيخ عبده وطغيانه في التصحيح بغير دليل ، اعتمادًا على ذكائه ، وحبه للظهور على أقرانه . ولكن سكّن ريبتي استعانة رشيد رضا بالشيخ الشنقيطي ؛ لما أعرفه عنه من التثبُّت ، وحسن بصره بلغة القوم في عصورهم المختلفة " ( أسرار البلاغة 8 ) .
فهذا ذم له في علمه بقلة التثبت ، وفي نيته بحب الظهور !
ثم أثبت مقدمة الشيخ رشيد في مقدمة نشرته من الأسرار ، وكرَّ عليها بتعليق طويل من ص 17 إلى ص 30 ، كله في رَدِّ ما أصاب الحياة الأدبية من فساد ، وما دَرَج عليه زعماء التنوير أو زاعموه ، من الاستهانة بالتراث ، وبكُتب العلم ، ومَن جاء بعدهم من باحثين أو ناكثين ، ومن تلاهم من أطفال ( كما سماهم ) وناشئين - ردَّ كل ذلك إلى الشيخ محمد عبده ، وحَمَّله وزرَه ، ونسب إليه شرَّه ، وجعله أول من ابتدأه ، ونقب نقبه ، مستدلاًّ بمعركته مع شيوخ الأزهر على أيامه ، وبما كتبه من تقريظ لنشرة أحد تلاميذه لكتاب التلخيص لعلوم البلاغة للقزويني ، وهو الأستاذ الأديب عبد الرحمن البرقوقي - رحمه الله - وفي هذا التقريظ قول الشيخ محمد عبده : " شرَحه كثير من الناظرين في الفن ، وتعلَّق الأغلب بلفظه ، ولم ينظروا الغايةَ من وضعه ، فصرفوا الوقت فيه ، وفاتتهم البلاغة نفسها بجميع مقاصدها ، فلا هم يحسنون إذا كتبوا ، ولا هم يُقنعون إذا خطبوا ، ولا يحسنون السماع إذا خوطبوا ، كما هو معروف لأنفسهم ، ولكل من يعرفهم " ( التلخيص 19 ) .
وذكر ما وصف به الشيخ رشيد رضا عمل السكَّاكي في المفتاح ومن جاء بعده من أنه : " لم يسلم من التكلف في بعض عباراته ، والتعقيد في بعض منازعه ... كان السكاكي وسطًا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأضرابه من البلغاء العاملين ، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية ... ثم تنافسوا في الاختصار والإيجاز ، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمَّيات والألغاز ... وكان من أثر فساد ذوق اللغة اختيار هذه الكتب التي ملكت العُجمةُ عليها أمرَها ، على الكتب التي تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها ، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها ومناحيها ، فكادت كتب عبد القاهر تُمحى وتُنسخ ، وصارت حواشي السعد تُطبع وتنسخ " ( أسرار البلاغة نشرة الشيخ رشيد ص : ز-ح ) .
وقال الشيخ شاكر : " ... فراعني يومئذ ( أي في صدر شبابه ) ما يقوله الشيخ في السعد التفتازاني الذي أثنى عليه كل من ترجم له ... ومع ذلك فقد دعاني ما كتبه عن كتب السعد أن أنظر فيها وأقرأها ، فوجدت أنه قد ظلم السعد ظلمًا بيِّنًا ؛ لأن الرجل كان يكتب لأهل زمانه ، وما ألِفوا من العبارة عن علمهم ، وأن فيه من النظر الدقيق في البلاغة قدرًا لا يستهين به أحد يحمل في نفسه قدرًا من الإنصاف " .
ثم ذكر أنه قرأ مقدمة الأستاذ البرقوقي للتلخيص ، وفيها : " ظهر حوالي ذلك قوم دَرَجوا في عُش الفلسفة ، فوضعوا على هذا الكتاب الشروح والحواشي ، وسلكوا بها مسلكًا تنكره اللغة ، ويستهجنه البلغاء ، فأغمضوا عن أسرار البلاغة ، وتشبَّثوا بالفلسفة ، وحمي بينهم وطيس المناظرة ، حتى أتوا على الذَّمَاء الباقي من هذا العلم ... " ( التلخيص 4 ) .
وأثنى الأستاذ البرقوقي على الشيخ محمد عبده ، وذكر فضله في العناية بكتابي عبد القاهر الأسرار والدلائل ، ونشْره لهما ، إقرائه لهما ، وحثه على قراءتهما . ونقل هذا الشيخ شاكر مختصَرًا قائلاً في الحاشية : " اختصار لثرثرة طويلة من مقدمة الشيخ البرقوقي " ( أسرار البلاغة 18 ) .
وذكر أن ما قاله الشيخان رضا والبرقوقي على ما حدَّثه به الكبار الذين أدركوا ذلك الزمن - إنما هو ترديد لما كان يقوله الشيخ محمد عبده في دروسه ومجالسه في ذم الكتب التي كان الطلبة في الأزهر يدرسونها ، قال : " فتلقفوا عنه هذا الطعن بالتسليم دون فحص أو نظر . وهذه الخصلة وحدها ليست من خصال أهل العلم ، إنما هي تشدُّق وثرثرة ، كل امرئ قادر على أن يتبجح بها ويتباهى ، وقبل كل شيء فهي في حقيقتها صد صريح عن هذه الكتب ، يورث الازدراء ، ويغري بالانصراف عما فيها ، ويحمل على تحقير أصحابها . وفُتح هذا الباب ولم يغلق إلى هذا اليوم " ( أسرار البلاغة 18-19 ) ... " فكان هذا أول صَدْع في تراث الأمة العربية الإسلامية ، وأول دعوة لإسقاط تاريخ طويل من التأليف ، وما كتبه علماء الأمة المتأخرون إسقاطًا كاملاً ، يتداوله الشباب بألسنتهم ... وأورثهم الاستهانة بها " ( ص 21 ) .
ثم ذكر الدكتور طه حسين وأنه " سمع ما كانت تتناقله الألسنة الطاعنة في كتب الأزهر باستهانة وبلا مبالاة ، فوقرت الاستهانة في أعماق نفسه " ( ص 21-22 ) ... " وأن الذي هوَّن على الدكتور طه أن يأتي بنظريته في الطعن في الشعر الجاهلي وفي علماء الأمة هو ما تأثر به من سماع ما تناقلته ألسنة المحيطين بالشيخ عبده من الطعن في كتب البلاغة وعلمائها الكبار باستهانة ، وبلا مبالاة ، فوقرت هذه الاستهانة في أعماق قلبه ، ونضَحت نضْحَها في كل صفحة من صفحات كتابه في الشعر الجاهلي " ( ص 23 ) .
ومضى الشيخ شاكر شوطًا آخر في تحميل الشيخ محمد عبده ما وصل إليه الناس ، قال : " إنما قصصت هذا التاريخ الطويل لأنه تاريخ لداء الاستهانة وقلة المبالاة الذي سرى في الناس ، ولأنه يكشف لنا بوضوح أسباب فساد حياتنا الأدبية التي نعيشها اليوم ، وهي حياة فاسدة ؛ لأن أساتذتنا الكبار استهانوا بما يقولون ، وتركوا ألسنتهم تطول وترعى في مرتع وخيم ، واستهانتهم هذه لم تقتصر جنايتها على العلم والأدب أو التاريخ أو الدين ، بل جنت أيضًا على الحياة السياسية التي جاءت بعد ثورة مصر سنة 1919 ، بل استشرت أيضًا حتى جنت على ما هو أعظم ، جنت على عامة الناس في حياتهم اليومية ، وأعمالهم التي يزاولونها بأيديهم وعقولهم ليكسبوا رزق أيامهم ، وقُوت أنفسهم وقوت عيالهم . كانت الاستهانة شرارة خفية تحت الرماد ، وإذا بها اليوم نار ساطعة يستطير لهيبها يمينًا وشمالاً .. " ( ص 25-26 ) .
[align=center](4)[/align]
حنانيك - أستاذنا وإمامنا - أكلُّ هذا جناه الشيخ محمد عبده ، أكلُّ ما في الحياة العربية والإسلامية من فساد في العلم والأدب والتاريخ والدين والسياسة والعمل لكسب الرزق - من ورائه محمد عبده ، وآراء محمد عبده ؟!! أكان الرجل مفسدًا إلى هذا القدر ؟ بل أكان في قدرته وطوقه ومُكنته أن يُحدث كل هذا الفساد في كل هذه الْحيَوَات ، وفي كل العلوم ، حتى يصل شره إلى العامة في أعمالهم وصنائعهم ؟!!
ولنا - يا أستاذنا وإمامنا - أن نستعين عليك بكلامك ، ونردَّ قولك بقولك ، ونحتج عليك بمثل حجتك ، فقد قلت - رحمك الله وتغمدك بمغفرته ! - فيما قال الشيخان رشيد والبرقوقي : " إنما هو ترديد لما كان يقوله الشيخ محمد عبده ... فتلقَّفوا عنه هذا الطعن بالتسليم دون فحص أو نظر . وهذه الخصلة وحدها ليست من خصال أهل العلم ، إنما هي تشدُّق وثرثرة ، كل امرئ قادر على أن يتبجح بها ويتباهى ، وقبل كل شيء فهي في حقيقتها صدٌّ صريح عن هذه الكتب ، يورث الازدراء ، ويغري بالانصراف عما فيها ، ويحمل على تحقير أصحابها " .
قلتَ هذا ، فهل تأذن لنا أن نتوقف في مقالتك في الشيخ محمد عبده ، وألا نردِّد ما تقوله ولا نتلقَّف هذا الطعن بلا فحص أو نظر ، حتى لا ندخل فيما ذممته من التشدُّق والثرثرة ، وحتى لا يورثنا ذلك الازدراء والاستهانة بكتب الشيخ محمد عبده وأصحابه وتلاميذه ، وهم ليسوا بالمنزلة الهينة علينا ، ولا بالقدر الضعيف عندنا ، وفيهم علماء وأدباء وأئمة ، ولو ذهبنا نعدهم لما أحصيناهم ، وليس الشيخان رشيد والبرقوقي بأولهم ولا آخرهم ، أليس منهم مصطفى صادق الرافعي ، وحافظ إبراهيم ، ومطفى لطفي المنفلوطي ، ومحمد مصطفى المراغي ، ومصطفى عبد الرازق ، ومحمد كرد علي ؟ حتى قال الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي في أول كتابه : ( النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين ) ، وذكر كتاب الأستاذ أحمد أمين : ( زعماء الإصلاح في العصر الحديث ) - وقد أراد تكملته والتذييل عليه ؛ إذ اقتصر أحمد أمين على عشرة منهم ، ابتدأهم بالإمام محمد بن عبد الوهاب ، وختمهم بالإمام محمد عبده ، ولخص الدكتور البيومي مقالة الدكتور أحمد أمين في هؤلاء - ثم قال عند ذكر محمد عبده : " ويختم المؤلف كتابه بالحديث عن الأستاذ الإمام محمد عبده - رحمه الله تعالى - فيُفيض في تعداد مآثره إفاضة صادقة ، ويفسح له من مؤلفه الحافل أطيب مكان ، ومحمد عبده جدير بكل ما يساق إليه من ثناء ، فهو أظهَرُ هؤلاء جميعًا جهادًا في حَوْمة الفكر الإسلامي ، وأبرزُهم في حَلْبة الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية ؛ إذ ترك من الآراء ، وخلَّف من التلاميذ مَن حمل الراية ، وسار في طريقه ، فأكمل الشوط مهتديًا بنبراسه . وقد لاحظتُ وأنا أتحدث عمن تلا جيل الرواد من مصلحين أن أكثرهم قد انتفع بمحمد عبده ، وسار على هديه أكثر مما انتفع بزملائه الذين خصهم أحمد أمين بالحديث . ومردُّ ذلك إلى مقامه الجهير في الإصلاح من ناحية ، وكثرة تلاميذه المقتدين به من ناحية ثانية ؛ إذ أتيح له أن يقود الصفوة من نوابغ عصره قيادة فكرية ساطعة " ( النهضة الإسلامية 1/36-37 ) .
هل تأذن لنا أيها الأستاذ أن نتوقف ، ونقول : إن الإمام محمدًا عبده لم يقصد إلى أن تُطَّرَح كتب المتأخرين مما كان يُعلّم في الأزهر جملة ، وألا ينتفع بها بإطلاق ، ولم يقصد أنها خالية من العلم لا خير فيها ، وما أظن هذا الفهم هو المتبادر إلى الذهن من تلك الدعوة ، إنما كان الحديث في تعليم المبتدئين ، وتلقين المتعلمين ، ولم يُرِد الإمام أيضًا أن يذهب هؤلاء المبتدئون إلى كتابي عبد القاهر وكتب المتقدمين في العلوم بغير تمهيد وتأسيس ، ودليل ذلك أن صاحبه البرقوقي اعتنى بالتلخيص للقزويني ، وشرَحه ونشَره ، وهو واسطة بين كتابي عبد القاهر وما يمكن أن يُلّقَّنَه الشادون مما يناسبهم ، ويناسب زمانهم .
وهأنت هذا - أيها الشيخ الإمام - تُقرُّ أن تلك الكتب جرَت في أساليبها على ما يناسب الأزمنة التي وُضعت فيها ، فهل من جُناح علينا أن نضع لأزمنتنا ما يناسبها ، ويناسب أهلها ؟ فإني وجدتك تقول : " ثم خلف من بعد عبد القاهر أيمة من الخلَف اتَّبعوه وزادوا عليه ، وأرادوا أن يقعِّدوا قواعد علم البلاغة ، فشقُّوا لأنفسهم في زمانهم ، ثم لنا من بعدهم طريقًا جديدًا يلاقي طريقه من وجه ، ويخالفه من وجه آخر . كان ذلك اجتهادًا منهم أحسنوا فيه غاية الإحسان ، وأساؤوا بعض الإساءة " ( أسرار البلاغة 3 ) ، ووجدتك تقول : " فوجدت أنه ( الشيخ رشيد ) قد ظلم السعد ظلمًا بينًا ؛ لأن الرجل كان يكتب لأهل زمانه وما ألِفوا من العبارة عن علمهم " ( أسرار البلاغة 17 ) .
فإذا كنت ترى أنه لا قدرة للمبتدئ على الخوض في كتب المتقدمين لصعوبتها - وما صعوبتها إلا لأنها ألِّفت لزمان غير زماننا - وترى أن كتب المتأخرين جرَت على أساليب زمانها ، فما بالنا نحن وحدَنا أهلَ هذه العصور لا نراعي الزمن ، ولا نجري في شؤوننا معه ، ولا نعرف له حقَّه !!
وهل ذنب الأستاذ محمد عبده أنه رأى في كتابي عبد القاهر بلاغةً غير البلاغة ، وبيانًا غير البيان ، وعلمًا غير العلم ؛ إذ كانا معدِن هذا الفن ، وكان مؤلِّفُهما أديبًا ذا بيان وبراعة ، فأراد أن يعرِّف الناس بفضله وفضل كتابيه ، فصحَّحهما ، وأقرأهما ، وحرَّض أصحابه على قراءتهما ، وعلى نشرهما ؟!! وما أظن أحدًا فهم من عمله أنهما يكونان مادة لتعليم الطالب الذي لم يتمكن من النحو والصرف ، ولم يتقن المبادئ والأصول .
وهل كان تعريفه بهذين الكتابين وتنويهه بشأنهما في ذلك الزمن ذنبًا يؤاخذ به ، أم فضلاً يُحمَد عليه ؟! كيف وقد قرأهما الشيخ شاكر أول الأمر في نشرة السيد محمد رشيد رضا لهما ، ولَمَّا نشرَهما جعل نشرة السيد رشيد أصلاً استعان به ، وبنى عليه ؟!
وقد وجدتك - أيها الأستاذ الشيخ - تثني على شيخ الأزهر في مقالة لك سنة 1940 ، وتقول : " وقد كتب الأستاذ الزيات ... يطالب الأزهر بالرجوع إلى المنابع الأولى للدين واللغة والأدب والعلم ... نعم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر لم يقصِّر في اجتهاده أن يجعل الأزهر مثابة للعلم الصحيح ، ولم يتخلَّف عن النصيحة له بما توحي به الرغبة الصادقة في تحريره من آصار قديمة عاقته عن بلوغ غايته التي يحق له أن يبلغها . فقد وضع الأستاذ الأكبر من عشر سنين نظامه الجديد للكليات في الأزهر ... وأمدَّ هذه الكليات العالية في دراستها لما خُصصت له بالكتب الأصول المعتمدة في بابها ، ككتاب سيبويه ، وخصائص ابن جني ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ، وتصريف المازني ، وكتاب فيلسوف النحو رضي الدين الإسترباذي صاحب شرح الشافية ، وشرح الكافية ، وهما عمدة أصحاب النحو والتصريف . وكذلك جُعلت كتب عبد القاهر دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ، وكتاب الصناعتين لأبي هلال ، وأدب الكاتب والكامل والأمالي ، وغير هذه من أصول الأدب واللغة هي مادة الدراسة في هذه الكليات " ( جمهرة مقالاته 1/158-159 ) .
وشيخ الأزهر في تلك الأيام التي يذكرها الشيخ شاكر هو الإمام محمد مصطفى المراغي ، أحد تلاميذ الشيخ محمد عبده ، وما يثني عليه الشيخ شاكر سنة 1940 من عمل شيخ الأزهر هو ما دعا إليه الأستاذ الإمام محمد عبده ، وجاهد في سيبله ، ولقي ما لقي حيًّا وميتًا !!
[align=center](5)[/align]
ما كان العلامة محمود محمد شاكر إلا مخطئًا في رأيه في الأستاذ الإمام - رحمهما الله ، وأحسن إليهما - ولم يكن الشيخ شاكر معصومًا ، ولا ادَّعى ذلك لنفسه ، ولا حَجَر على أحد أن يخالفه ، وأن يقول بخلاف قوله ، وأن ينسب الخطأ إليه ، وقول الشيخ محمد رشيد رضا أولى من قوله ، وهو الذي صحب وصافح ، وشافه وشاهد ، وسمع ورأى ، وسأل وأجاب ، وعاين وراجع ، ومبدأ صحبته للإمام سنة 1315=1897 ، ووفاة الإمام سنة 1323=1905 ، فتلك ثمان سنوات ، وعاش بعده إلى سنة 1354=1935 ، وهذا نحوٌ من ثمان وثلاثين سنة ، لم يغيِّر فيه رأيه ، ولا بدَّل فيه اعتقاده .
ورأيه فيه ، ومنزلته منه ، بيَّنها شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق - رحمه الله ، وهو من تلاميذ الإمام أيضًا - بقوله : " أول من ترجم للشيخ محمد عبده ، وعُني بنشر آثاره ، هو السيد محمد رشيد رضا ، والسيد محمد رشيد رضا هو أول من لقَّب الشيخ محمد عبده بالأستاذ الإمام ، وهذا اللقب نفسه ينبئ عن الصورة التي أراد أن يرسمها السيد رشيد لشيخه فيما كتب عنه ، وينبئ بالفكرة السائدة في وجهة نظر التلميذ إلى أستاذه . الشيخ محمد عبده عند السيد رشيد رضا : إمام من أئمة الإسلام ، وله في الدين مذهب يقوم أصحابه على روايته وتدوينه كما قام أصحاب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما على ما لأولئك الأئمة من مذاهب . وإذا كان الشيخ محمد عبده إمامًا في الدين فالسيد رشيد رضا لا شك صاحبه ومفسر مذهبه ومكمله ، وقد بذل صاحب المنار - رحمة الله عليه - في هذه الناحية مجهودًا ضخمًا حافلاً بالمباحث الدينية ، والمناقشات الفقهية ، وكان لهذا المجهود العظيم أثر غير ضئيل في طلاب العلوم الدينية ومن إليهم ، وفي توجيه الدراسات الشرعية في بلاد الإسلام المختلفة " ( مجلة الرسالة 9/7/1945 ) .
ويقول الأستاذ الإمام في منزلته منه : " إن الله بعث لي بهذا الشاب ليكون مددًا لحياتي ، ومزيدًا في عمري ، إن في نفسي أمورًا كثيرة أريد أن أقولها أو أكتبها للأمة ، وقد ابتليت بما شغلني عنها ، وهو يقوم ببيانها كما أعتقد وأريد ، وقد رأيت في سفري من آثار عمله ، وتأثير مناره ، ما لم أكن أظن ولا أحسب ، فهو قد أنشأ لي أحبابًا ، وأوجد لي تلاميذ وأصحابًا " ( النهضة الإسلامية في سير أعلامها للبيومي 1/244 ) .
[align=center](6)[/align]
وفي الناس ناسٌ لا يسلم السيد محمد رشيد رضا نفسه عندهم من قدح ومذمة ، وما نال الأستاذَ الإمام ناله بسببه وبغير سببه ، وما من حيلة لك مع امرئ لا يرضى عنك ، ولا يُقرُّ لك بفضل ، ولا يرعى لك حرمة ، إلا أن توافقه في كل شيء ، وتكون نسخة منه ، وتجري على هواه ، وتقول بقوله ، وتنطق بألفاظه ، وتقصد إلى أغراضه ، وإلا كنت ما شاء هو أن ينسبك إليه من بدعة أو ضلال وما فوقهما وما دونهما . والله قد خلق الناس مختلفين ، ومنحهم عقولاً ليفكروا بها ، وطبعهم على طبائع لا يطيقون الانسلاخ منها ، وقسَم بينهم حظوظًا من العلم ومن الفهم ، فيختلفون في الرأي ، وليس حتمًا أن يتعادى المختلفون ، ولا أن يتدابروا أو يتقاطعوا .
فدعك من هذا إذًا إن لم تجد فيه مَقْنَعًا ولا غَناء ، وانظر في رأي عالم جليل ، وإمام كبير ، وأحد جهابذة السنة النبوية ، وأحد أئمة الفقه ، وأحد أعلام الأدب في هذا العصر ، إنه أبو الأشبال أحمد محمد شاكر أخو محمود ، رفيق أَمِّه ، ورضيع لِبان أُمِّه ، وأحد أشياخ علمه ، فله في الأستاذ الإمام محمد عبده رأي يخالف رأي أخيه الذي أذاعه بأخَرَة .
يقول في مقالة له سنة 1349=1931 بعنوان : ( تفسير القرآن الحكيم ) : " ولقد كان المتقدمون يُعنَوْن في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث مرفوعة ، وآثار موقوفة ، وباستنباط أحكام الفقه منه ، تعليمًا للناس كيف يفهمون ، وكيف يصلون إلى الاجتهاد . ثم ترك المتأخرون ذلك ، ولم يكن من همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى لها ، ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ ، حتى إن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم ، وكثيرة بين أيديهم ، لا يطمئن الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها ، ولا إلى استنباط حكم ، بل ولا إلى الثقة بالنقل ، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة ، وبأحاديث موضوعة ، من غير تحرٍّ في الرواية ، ولا استعمال لموهبة العقل السليم " ( جمهرة مقالاته 1/174 ) .
وأقف هنا قبل أن أتمم النقل لأسأل : هل يُتهم الشيخ أحمد شاكر بقوله هذا بأنه مُغْرٍ بالاستهانة بالتراث وازدرائه ، وداعٍ إلى إسقاطه بمرة ، والاستغناء عنه جملة ؟ هل يصح أن يفهم ذلك ؟ لا ، بلا شك ، ونحو هذا ما كان يقوله الأستاذ الإمام محمد عبده .
ثم يقول الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - : " ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته ، وعلَمًا من أعلام الهدى ، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي كتابها ، ودلَّها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره ، وكان منارًا يُهتدى به في هذا السبيل ، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير ، وكان فيما أظن يرمي بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك ، فينهجوا نهجه ، ويسيروا على رسمه ، ولكنهم لم يأبهوا به إلا قليلاً ، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ ، وبقي دهماؤهم على ما كانوا عليه . ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار ، فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام ، وزادها وضوحًا وبيانًا ، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة ، وجمعها في أجزاء على أجزاء القرآن الكريم ، ومضى لطَيَّته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه ، فكأنه أُلهم روحَه ، لم يكِلَّ ولم يضعف ... فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طبع على الإطلاق ، ولا أستثني ، فإنه هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح ؛ إذ هو كتاب هداية عامة للبشر ، لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين . ثم هو يُظهر الناسَ على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة غير مقلد ولا متعصب بل على سَنَن العلماء السابقين ، كتاب الله وسنة رسوله . ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها ، وتمييز الصحيح من الضعيف منها - ما جعله حجة وثقة في هذا المقام ، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه . ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله فيها ، وأرشد إلى الموعظة بها ، وكبَت الملحدين والمعترضين بأسرارها ، وأعلن حجة الله على الناس . فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطُعُونهم في الأديان السماوية ، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنه ، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء ، مع البلاغة العالية ، والقوة النادرة ، لله دره !! ... ( وأطال في الوصف إلى أن قال : ) وإنه لكتاب العصر الحاضر ، يفيد منه العالم والجاهل ، والرجعي والمجدد ، بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين . وأنا أرى أنه من الواجب على كل من عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه ، وبث ما فيه من علم نافع ، لعل الله يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام ، وأن ينير قلوبًا أظلمت مِن مَلئها بالجهالات المتكررة ... ولعلي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم يشف فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله ، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث فيها ، وذلك بحول الله وقوته " ( جمهرة مقالاته 1/174-177 ) .
فهذا هو رأي الشيخ أحمد شاكر في الشيخ محمد عبده ، وفي تلميذه الشيخ رشيد رضا ، وفي التفسير الذي ابتدأه الشيخ محمد عبده ، وأتمه صاحبه سائرًا على نهجه ، مكمِّلاً مباحثَه ، ومتمِّمًا معانيه ، ومحققًا أغراضَه .
ويقول في مقالة أخرى له سنة 1354=1935 في تأبين الشيخ رشيد رضا وترجمته : " ويجدر بنا في هذا الموضع أن نصحح خطأ مشهورًا يظنه كثير من الناس صوابًا ، وذلك أنهم يزعمون أن السيد رشيد - رحمه الله - جاء إلى مصر لإتمام الدراسة العلمية ، ولذلك تتلمذ للشيخ محمد عبده ، والحقيقة أنه - رحمه الله - لم يغادر بلاده إلا بعد إتمام دراسته ، وبعد نيل الشهادة العالمية والإذن له من شيوخه بالتدريس ، وكان قد جاوز الثلاثين من عمره ، وإنما اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده كما يتصل العالم الصغير بالعالم الكبير ، وبقي تلميذًا له على هذا المعنى إلى حين وفاته ، كما كان يفعل سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - ولو بقي الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى الآن حيًّا لبقي السيد رشيد تلميذه إلى الآن ، ولوفى له في حياته كما وفى له بعد مماته ، رضي الله عنهما . فكان السيد - رحمه الله - مع الأستاذ الإمام تلميذًا له وصديقًا ، وناصحًا ومخلصًا ، وكان مستودع أسراره ، والداعية لآرائه ، والمدافع عنه في كل معركة من معارك جهاده ، بل كان كما وصفه الأستاذ الإمام لوالدي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد شاكر - حفظه الله - : ترجمان أفكاره ( جمهرة مقالاته 2/658-659 ) .
وهو فصل ممتع فيه أدب وعلم ووفاء ، فانظره هناك ، ولوددت أن أنقله لك لولا طوله ، وفيه يقول الشيخ أحمد شاكر في السيد رشيد : " وكنت من أقرب الناس إليه ، وأبرهم به " . وأنت ترى الإشارة إلى الوالد محمد شاكر ، وهي تدل على أنه كان له صلة به ، ورأي حسن فيه .
[align=center](7)[/align]
وما بي أن أجعل الأستاذ محمدًا عبده بريئًا من كل عيب ، فما من البشر أحد يوصف بهذا ، ولا أنا بسبيل ترجمته ، أو بيان مناقبه ، أو قص تاريخه ، فما هذا في قدرتي الآن ولا في نيتي ، ولكني أدعو إلى قراءة ترجماته التي كتبها الكبار : تاريخ الأستاذ الإمام ، ثلاثة أجزاء ، للشيخ رشيد رضا ، وسيرة الإمام الشيخ محمد عبده للشيخ مصطفى عبد الرازق ، وزعماء الإصلاح في العصر الحديث للأستاذ أحمد أمين ، والمعاصرون للأستاذ محمد كرد علي ، وما كتبه الأستاذ العقاد والدكتور محمد عمارة ، وغيرهم .
وأختم برأي إمام آخر من أئمة الدين هو الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي - أطال الله في العافية بقاءه - قال بأسلوبه السهل الممتنع في التفصيل ، وطريقته الساحرة التي يلقيها على المشكلات فتحلها ، وعلى الملتبسات فتكشفها - : " والناظر في شخصيات المدرسة التجديدية الإحيائية الإسلامية التي بدأت بجمال الدين الأفغاني يجد أن أولها - وهو السيد جمال الدين - كان أكثرها انطلاقًا ، وأقلها انضباطًا بقيود الشرع وضوابط الكتاب والسنة ، فقد كان أقلهم حظًّا من التبحر في علوم الشريعة ومصادرها ، ونجد تلميذه وصديقه الأستاذ الإمام محمد عبده أقرب إلى الالتزام والانضباط منه ؛ لأنه أكثر علمًا بالشرع ، وأكثر تبحرًا في معارفه بحكم تكوينه الأزهري الأصيل ، ونجد تلميذ الأستاذ الإمام رشيد رضا أكثر التزامًا وانضباطًا من شيخه ، وشيخ شيخه من باب أولى . فقد أتيح له أن يطلع على آثار المدرسة السلفية التجديدية الكبرى المتمثلة في شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ... فالسيد جمال الدين أقرب إلى عقلية الفلاسفة ، أعني فلاسفة المدرسة المشَّائية الإسلامية من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم . والإمام محمد عبده أقرب إلى عقلية المتكلمين من أمثال الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم . والسيد رشيد أقرب إلى عقلية فقهاء المحدثين الجامعين بين المعقول والمنقول ، أمثال الإمام محمد بن إدريس الشافعي وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم وابن الوزير وأمثالهم " ( فتاوى معاصرة 2/84-85 ) .
هذا ، وقد رأيتُني حقيقًا بمناقشة شيخنا الأستاذ محمود محمد شاكر في رأيه ؛ لأنني ثمرة من ثمراته ، وتلميذ ضعيف من تلامذته ، ولكني لست بعبد الشيخ شاكر ، ولا هو يرضى لأحد أن يكون كذلك ، على حدته واعتداده بنفسه ، وثقته بعلمه وعمله ، وكما قيل : هو حبيب إلينا ، والحق أحب إلينا منه .
ما أُتي الشيخ محمد عبده إلا من بعض معاصريه من علماء الأزهر الذين أشاعوا عنه قالة السوء ، فسودوا صفحته ، وأذاعوا زلته ، وما كان إلا إمامًا فذًّا ، وأحد أفراد الدهر ، يخطئ ويصيب كغيره ، ويؤخذ من كلامه ويترك ، وقال فيهم حافظ إبراهيم :
[align=center]وآذوك في ذات الإله وأنكروا * مكانك حتى سودوا الصفحات
رأيت الأذى في جانب الله لذة * ورُحت ولم تَهْمُم له بشكاة
لقد كنت فيهم كوكبًا في غياهب * ومعرفةً في أنفس نكرات[/align]غرة شعبان 1430
23/7/2009[/align]
تعليق على ما نشر في منتدى المجلس العلمي ( الألوكة ) ، من نقل حسين أحمد أمين عن الأستاذ محمود محمد شاكر رأيَه في الإمام محمد عبده ، وهو أنه خبيث وأس الفساد .
[align=center]* * *[/align]
رحمة الله عليك - يا شيخ محمد رشيد رضا - أيها الإمام ، كنت عالمًا سلفيًا ، وقد تلمذت للشيخ محمد عبده ، فهل كنت بهذه المنزلة من علم الدين ، وبهذه المثابة من تصفح أخلاق الناس - بحيث تغفل عن إنسان خبيث أو مفسد ، ولا تتفطن لخبثه وإفساده ، وتتمادى في صحبته ، وأخذ العلم عنه ، وتلقِّي التفسير منه ، وتدون كلامه على أنه أعلاق تُشَدُّ الأيدي عليها ، ونفائس يُضَنُّ بها ، وتبالغ - يا شيخ رشيد - في ذلك ، وتسمي هذا الرجل بالأستاذ الإمام ، وتكتب في سيرته كتابًا ، وتنشر علمه ، وتقرُّ له بالتلمذة ؟ ما هذا يا شيخ رشيد رضا ؟ ما هذا ؟ أين عقلك الكبير ، وعلمك الواسع بالدين ، وخبرتك بالناس ، وتصفحك للأخلاق ، كيف تقضي هذا العمر مع هذا الشيخ ولا تتفطن إلى أنه من أكبر الجناة على الأمة وأجيالها ؟
[align=center](1)[/align]
رويدَك - يا أخي الكريم - لا تعجل ، ولا تأخذْك العجلة مآخذَها ، ولا تطِرْ بك مَطارَها ، وفي التثبُّت زَيْن ، وفي الرَّويَّة صلاح وإصلاح ، وفي الأناة فضل ، ومزيد علم ، وتمحيص رأي ، وثوبة إلى رشاد .
وما هكذا تؤخذ الأمور ، ولا هكذا يُحكَم على الرجال ، وكم من عالمِ رُسوخ ، وداعية حق ، وإمام هدى ، تقوَّل عليه المتقوِّلون ، وحسده الحاسدون ، وكاد له الكائدون ، ينقمون منه ذكاءَه ونبوغه ، ويكرهون عمله ونُجْحه ، ويَضيقون برحابة صدره ، وسَعة أفقه ، وبعد نظره ، وجمال تحقيقه ، وحسن تجديده وتسديده ! وما خبر الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية عنكم ببعيد ، فقد كاد له خصومه من العلماء ، ورموه بكل سوء ، وسَعَوْا به إلى السلطان ، فمات مسجونًا مظلومًا مأخوذًا برأيه ، وطلاقة فكره ، ونُفُوذ عقله ، وحديد بصره ، مما لم يألفه علماء التقليد والترديد ، ولم يعرفه مَن حجتهم وجدنا آباءنا ، وأطعنا كبراءنا ، وتبعنا علماءنا !
وماذا فعل الأستاذ الفاضل الديِّن الغيور الأديب الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - غير أن نقل في الأستاذ الإمام محمد عبده آراء معاصريه وأقرانه من مشايخ الأزهر ممن لم يعجبهم سعيه في إصلاح التعليم ، ودعوته إلى تجديد الدين ، فنفِسوا عليه ذلك ، ورأوه غضًّا من شأنهم ، وتسفيهًا لطريقتهم في العلم والتعليم والفتوى !
[align=center](2)[/align]
وهل أتاك نبأ حسين أحمد أمين الذي يُنقَل كلامُه ، وتؤخذ شهادته ، كأنه شاهدٌ عدل ، ومسنِدٌ ثقة ، وراوية ثبَت ؟ وهو إنما أراد بكلامه الطعن على العلامة شيخ الآداب العربية وأستاذ أساتيذها في هذا العصر أبي فهر محمود محمد شاكر - عليه رحمة الله ، وسحائب رضوانه ومغفرته ! - وزرعَ الكراهة له في القلوب ، بترويج أنه حديد اللسان ، سريع البادرة ، لا يسلم من أذاه أحد ، ولا يبرأ من ذمه عالم ، ولا ينجو من لسانه فاضل ، كأنه وحش مفترس ، أو مجنون لا عقل له ، أو سفيه لا يضبطه ضابط ، ولا يربطه رابط ! هذا ما أراده حسين أحمد أمين ، ودونك ما كتبه تلميذ الشيخ شاكر وصاحبه وصفيُّه أبو أروى محمود محمد الطناحي - رحمه الله - في رد عدوانه على الشيخ ، وإبطال كلامه ، وفضح تجنِّيه ، وتعنيفه وتبكيته وتسكيته ( انظر مقالات الطناحي 2/608-631 ) .
وأما أن رأي الشيخ شاكر في جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده هكذا - فحق ، وليس مصدر ذلك حسين أحمد أمين ، ولو كان المتفردَ بهذا النقل لرُدَّ قوله ، ولضُعِّفت روايته ، لما عُرف من أمره . ولكن الشيخ نفسه صرَّح به في مقدمة كتاب أسرار البلاغة للإمام عبد القاهر الجرجاني ، وقد نشر سنة 1412=1991 .
والدكتور محمود الطناحي - برد الله مضجعه - أقرَّ به ، وسلَّمه له ، وأعطى فيه بيده ، وعمَد إلى تسويغه وشرحه ، وأثنى على الفاضلين الدكتور محمد عمارة والأستاذ فهمي هويدي - حفظهما الله - وذكر أنه لم يسمع العلاَّمة شاكرًا يذكرهما بسوء ، وذكر أنه غيَّر رأيه في الدكتور عمارة بعد ما عُرف مَشْرَعه ، وظهر منْزَعه .
[align=center](3)[/align]
وما لنا والبحثَ عن الناقل ، والأخذ بالإسناد النازل ، واعتماد الوسائط والوسائل ، وهذه نشرة الشيخ من كتاب أسرار البلاغة بين أيدينا !
ذكر في مقدمتها تصحيحات الشيخ محمد عبده التي أثبتها السيد محمد رشيد رضا في نشرته من الأسرار ، وقال : " وقد أوقع في قلبي الريبة من هذه التصحيحات ما أعلمه من تسرع الشيخ عبده وطغيانه في التصحيح بغير دليل ، اعتمادًا على ذكائه ، وحبه للظهور على أقرانه . ولكن سكّن ريبتي استعانة رشيد رضا بالشيخ الشنقيطي ؛ لما أعرفه عنه من التثبُّت ، وحسن بصره بلغة القوم في عصورهم المختلفة " ( أسرار البلاغة 8 ) .
فهذا ذم له في علمه بقلة التثبت ، وفي نيته بحب الظهور !
ثم أثبت مقدمة الشيخ رشيد في مقدمة نشرته من الأسرار ، وكرَّ عليها بتعليق طويل من ص 17 إلى ص 30 ، كله في رَدِّ ما أصاب الحياة الأدبية من فساد ، وما دَرَج عليه زعماء التنوير أو زاعموه ، من الاستهانة بالتراث ، وبكُتب العلم ، ومَن جاء بعدهم من باحثين أو ناكثين ، ومن تلاهم من أطفال ( كما سماهم ) وناشئين - ردَّ كل ذلك إلى الشيخ محمد عبده ، وحَمَّله وزرَه ، ونسب إليه شرَّه ، وجعله أول من ابتدأه ، ونقب نقبه ، مستدلاًّ بمعركته مع شيوخ الأزهر على أيامه ، وبما كتبه من تقريظ لنشرة أحد تلاميذه لكتاب التلخيص لعلوم البلاغة للقزويني ، وهو الأستاذ الأديب عبد الرحمن البرقوقي - رحمه الله - وفي هذا التقريظ قول الشيخ محمد عبده : " شرَحه كثير من الناظرين في الفن ، وتعلَّق الأغلب بلفظه ، ولم ينظروا الغايةَ من وضعه ، فصرفوا الوقت فيه ، وفاتتهم البلاغة نفسها بجميع مقاصدها ، فلا هم يحسنون إذا كتبوا ، ولا هم يُقنعون إذا خطبوا ، ولا يحسنون السماع إذا خوطبوا ، كما هو معروف لأنفسهم ، ولكل من يعرفهم " ( التلخيص 19 ) .
وذكر ما وصف به الشيخ رشيد رضا عمل السكَّاكي في المفتاح ومن جاء بعده من أنه : " لم يسلم من التكلف في بعض عباراته ، والتعقيد في بعض منازعه ... كان السكاكي وسطًا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأضرابه من البلغاء العاملين ، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية ... ثم تنافسوا في الاختصار والإيجاز ، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمَّيات والألغاز ... وكان من أثر فساد ذوق اللغة اختيار هذه الكتب التي ملكت العُجمةُ عليها أمرَها ، على الكتب التي تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها ، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها ومناحيها ، فكادت كتب عبد القاهر تُمحى وتُنسخ ، وصارت حواشي السعد تُطبع وتنسخ " ( أسرار البلاغة نشرة الشيخ رشيد ص : ز-ح ) .
وقال الشيخ شاكر : " ... فراعني يومئذ ( أي في صدر شبابه ) ما يقوله الشيخ في السعد التفتازاني الذي أثنى عليه كل من ترجم له ... ومع ذلك فقد دعاني ما كتبه عن كتب السعد أن أنظر فيها وأقرأها ، فوجدت أنه قد ظلم السعد ظلمًا بيِّنًا ؛ لأن الرجل كان يكتب لأهل زمانه ، وما ألِفوا من العبارة عن علمهم ، وأن فيه من النظر الدقيق في البلاغة قدرًا لا يستهين به أحد يحمل في نفسه قدرًا من الإنصاف " .
ثم ذكر أنه قرأ مقدمة الأستاذ البرقوقي للتلخيص ، وفيها : " ظهر حوالي ذلك قوم دَرَجوا في عُش الفلسفة ، فوضعوا على هذا الكتاب الشروح والحواشي ، وسلكوا بها مسلكًا تنكره اللغة ، ويستهجنه البلغاء ، فأغمضوا عن أسرار البلاغة ، وتشبَّثوا بالفلسفة ، وحمي بينهم وطيس المناظرة ، حتى أتوا على الذَّمَاء الباقي من هذا العلم ... " ( التلخيص 4 ) .
وأثنى الأستاذ البرقوقي على الشيخ محمد عبده ، وذكر فضله في العناية بكتابي عبد القاهر الأسرار والدلائل ، ونشْره لهما ، إقرائه لهما ، وحثه على قراءتهما . ونقل هذا الشيخ شاكر مختصَرًا قائلاً في الحاشية : " اختصار لثرثرة طويلة من مقدمة الشيخ البرقوقي " ( أسرار البلاغة 18 ) .
وذكر أن ما قاله الشيخان رضا والبرقوقي على ما حدَّثه به الكبار الذين أدركوا ذلك الزمن - إنما هو ترديد لما كان يقوله الشيخ محمد عبده في دروسه ومجالسه في ذم الكتب التي كان الطلبة في الأزهر يدرسونها ، قال : " فتلقفوا عنه هذا الطعن بالتسليم دون فحص أو نظر . وهذه الخصلة وحدها ليست من خصال أهل العلم ، إنما هي تشدُّق وثرثرة ، كل امرئ قادر على أن يتبجح بها ويتباهى ، وقبل كل شيء فهي في حقيقتها صد صريح عن هذه الكتب ، يورث الازدراء ، ويغري بالانصراف عما فيها ، ويحمل على تحقير أصحابها . وفُتح هذا الباب ولم يغلق إلى هذا اليوم " ( أسرار البلاغة 18-19 ) ... " فكان هذا أول صَدْع في تراث الأمة العربية الإسلامية ، وأول دعوة لإسقاط تاريخ طويل من التأليف ، وما كتبه علماء الأمة المتأخرون إسقاطًا كاملاً ، يتداوله الشباب بألسنتهم ... وأورثهم الاستهانة بها " ( ص 21 ) .
ثم ذكر الدكتور طه حسين وأنه " سمع ما كانت تتناقله الألسنة الطاعنة في كتب الأزهر باستهانة وبلا مبالاة ، فوقرت الاستهانة في أعماق نفسه " ( ص 21-22 ) ... " وأن الذي هوَّن على الدكتور طه أن يأتي بنظريته في الطعن في الشعر الجاهلي وفي علماء الأمة هو ما تأثر به من سماع ما تناقلته ألسنة المحيطين بالشيخ عبده من الطعن في كتب البلاغة وعلمائها الكبار باستهانة ، وبلا مبالاة ، فوقرت هذه الاستهانة في أعماق قلبه ، ونضَحت نضْحَها في كل صفحة من صفحات كتابه في الشعر الجاهلي " ( ص 23 ) .
ومضى الشيخ شاكر شوطًا آخر في تحميل الشيخ محمد عبده ما وصل إليه الناس ، قال : " إنما قصصت هذا التاريخ الطويل لأنه تاريخ لداء الاستهانة وقلة المبالاة الذي سرى في الناس ، ولأنه يكشف لنا بوضوح أسباب فساد حياتنا الأدبية التي نعيشها اليوم ، وهي حياة فاسدة ؛ لأن أساتذتنا الكبار استهانوا بما يقولون ، وتركوا ألسنتهم تطول وترعى في مرتع وخيم ، واستهانتهم هذه لم تقتصر جنايتها على العلم والأدب أو التاريخ أو الدين ، بل جنت أيضًا على الحياة السياسية التي جاءت بعد ثورة مصر سنة 1919 ، بل استشرت أيضًا حتى جنت على ما هو أعظم ، جنت على عامة الناس في حياتهم اليومية ، وأعمالهم التي يزاولونها بأيديهم وعقولهم ليكسبوا رزق أيامهم ، وقُوت أنفسهم وقوت عيالهم . كانت الاستهانة شرارة خفية تحت الرماد ، وإذا بها اليوم نار ساطعة يستطير لهيبها يمينًا وشمالاً .. " ( ص 25-26 ) .
[align=center](4)[/align]
حنانيك - أستاذنا وإمامنا - أكلُّ هذا جناه الشيخ محمد عبده ، أكلُّ ما في الحياة العربية والإسلامية من فساد في العلم والأدب والتاريخ والدين والسياسة والعمل لكسب الرزق - من ورائه محمد عبده ، وآراء محمد عبده ؟!! أكان الرجل مفسدًا إلى هذا القدر ؟ بل أكان في قدرته وطوقه ومُكنته أن يُحدث كل هذا الفساد في كل هذه الْحيَوَات ، وفي كل العلوم ، حتى يصل شره إلى العامة في أعمالهم وصنائعهم ؟!!
ولنا - يا أستاذنا وإمامنا - أن نستعين عليك بكلامك ، ونردَّ قولك بقولك ، ونحتج عليك بمثل حجتك ، فقد قلت - رحمك الله وتغمدك بمغفرته ! - فيما قال الشيخان رشيد والبرقوقي : " إنما هو ترديد لما كان يقوله الشيخ محمد عبده ... فتلقَّفوا عنه هذا الطعن بالتسليم دون فحص أو نظر . وهذه الخصلة وحدها ليست من خصال أهل العلم ، إنما هي تشدُّق وثرثرة ، كل امرئ قادر على أن يتبجح بها ويتباهى ، وقبل كل شيء فهي في حقيقتها صدٌّ صريح عن هذه الكتب ، يورث الازدراء ، ويغري بالانصراف عما فيها ، ويحمل على تحقير أصحابها " .
قلتَ هذا ، فهل تأذن لنا أن نتوقف في مقالتك في الشيخ محمد عبده ، وألا نردِّد ما تقوله ولا نتلقَّف هذا الطعن بلا فحص أو نظر ، حتى لا ندخل فيما ذممته من التشدُّق والثرثرة ، وحتى لا يورثنا ذلك الازدراء والاستهانة بكتب الشيخ محمد عبده وأصحابه وتلاميذه ، وهم ليسوا بالمنزلة الهينة علينا ، ولا بالقدر الضعيف عندنا ، وفيهم علماء وأدباء وأئمة ، ولو ذهبنا نعدهم لما أحصيناهم ، وليس الشيخان رشيد والبرقوقي بأولهم ولا آخرهم ، أليس منهم مصطفى صادق الرافعي ، وحافظ إبراهيم ، ومطفى لطفي المنفلوطي ، ومحمد مصطفى المراغي ، ومصطفى عبد الرازق ، ومحمد كرد علي ؟ حتى قال الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي في أول كتابه : ( النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين ) ، وذكر كتاب الأستاذ أحمد أمين : ( زعماء الإصلاح في العصر الحديث ) - وقد أراد تكملته والتذييل عليه ؛ إذ اقتصر أحمد أمين على عشرة منهم ، ابتدأهم بالإمام محمد بن عبد الوهاب ، وختمهم بالإمام محمد عبده ، ولخص الدكتور البيومي مقالة الدكتور أحمد أمين في هؤلاء - ثم قال عند ذكر محمد عبده : " ويختم المؤلف كتابه بالحديث عن الأستاذ الإمام محمد عبده - رحمه الله تعالى - فيُفيض في تعداد مآثره إفاضة صادقة ، ويفسح له من مؤلفه الحافل أطيب مكان ، ومحمد عبده جدير بكل ما يساق إليه من ثناء ، فهو أظهَرُ هؤلاء جميعًا جهادًا في حَوْمة الفكر الإسلامي ، وأبرزُهم في حَلْبة الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية ؛ إذ ترك من الآراء ، وخلَّف من التلاميذ مَن حمل الراية ، وسار في طريقه ، فأكمل الشوط مهتديًا بنبراسه . وقد لاحظتُ وأنا أتحدث عمن تلا جيل الرواد من مصلحين أن أكثرهم قد انتفع بمحمد عبده ، وسار على هديه أكثر مما انتفع بزملائه الذين خصهم أحمد أمين بالحديث . ومردُّ ذلك إلى مقامه الجهير في الإصلاح من ناحية ، وكثرة تلاميذه المقتدين به من ناحية ثانية ؛ إذ أتيح له أن يقود الصفوة من نوابغ عصره قيادة فكرية ساطعة " ( النهضة الإسلامية 1/36-37 ) .
هل تأذن لنا أيها الأستاذ أن نتوقف ، ونقول : إن الإمام محمدًا عبده لم يقصد إلى أن تُطَّرَح كتب المتأخرين مما كان يُعلّم في الأزهر جملة ، وألا ينتفع بها بإطلاق ، ولم يقصد أنها خالية من العلم لا خير فيها ، وما أظن هذا الفهم هو المتبادر إلى الذهن من تلك الدعوة ، إنما كان الحديث في تعليم المبتدئين ، وتلقين المتعلمين ، ولم يُرِد الإمام أيضًا أن يذهب هؤلاء المبتدئون إلى كتابي عبد القاهر وكتب المتقدمين في العلوم بغير تمهيد وتأسيس ، ودليل ذلك أن صاحبه البرقوقي اعتنى بالتلخيص للقزويني ، وشرَحه ونشَره ، وهو واسطة بين كتابي عبد القاهر وما يمكن أن يُلّقَّنَه الشادون مما يناسبهم ، ويناسب زمانهم .
وهأنت هذا - أيها الشيخ الإمام - تُقرُّ أن تلك الكتب جرَت في أساليبها على ما يناسب الأزمنة التي وُضعت فيها ، فهل من جُناح علينا أن نضع لأزمنتنا ما يناسبها ، ويناسب أهلها ؟ فإني وجدتك تقول : " ثم خلف من بعد عبد القاهر أيمة من الخلَف اتَّبعوه وزادوا عليه ، وأرادوا أن يقعِّدوا قواعد علم البلاغة ، فشقُّوا لأنفسهم في زمانهم ، ثم لنا من بعدهم طريقًا جديدًا يلاقي طريقه من وجه ، ويخالفه من وجه آخر . كان ذلك اجتهادًا منهم أحسنوا فيه غاية الإحسان ، وأساؤوا بعض الإساءة " ( أسرار البلاغة 3 ) ، ووجدتك تقول : " فوجدت أنه ( الشيخ رشيد ) قد ظلم السعد ظلمًا بينًا ؛ لأن الرجل كان يكتب لأهل زمانه وما ألِفوا من العبارة عن علمهم " ( أسرار البلاغة 17 ) .
فإذا كنت ترى أنه لا قدرة للمبتدئ على الخوض في كتب المتقدمين لصعوبتها - وما صعوبتها إلا لأنها ألِّفت لزمان غير زماننا - وترى أن كتب المتأخرين جرَت على أساليب زمانها ، فما بالنا نحن وحدَنا أهلَ هذه العصور لا نراعي الزمن ، ولا نجري في شؤوننا معه ، ولا نعرف له حقَّه !!
وهل ذنب الأستاذ محمد عبده أنه رأى في كتابي عبد القاهر بلاغةً غير البلاغة ، وبيانًا غير البيان ، وعلمًا غير العلم ؛ إذ كانا معدِن هذا الفن ، وكان مؤلِّفُهما أديبًا ذا بيان وبراعة ، فأراد أن يعرِّف الناس بفضله وفضل كتابيه ، فصحَّحهما ، وأقرأهما ، وحرَّض أصحابه على قراءتهما ، وعلى نشرهما ؟!! وما أظن أحدًا فهم من عمله أنهما يكونان مادة لتعليم الطالب الذي لم يتمكن من النحو والصرف ، ولم يتقن المبادئ والأصول .
وهل كان تعريفه بهذين الكتابين وتنويهه بشأنهما في ذلك الزمن ذنبًا يؤاخذ به ، أم فضلاً يُحمَد عليه ؟! كيف وقد قرأهما الشيخ شاكر أول الأمر في نشرة السيد محمد رشيد رضا لهما ، ولَمَّا نشرَهما جعل نشرة السيد رشيد أصلاً استعان به ، وبنى عليه ؟!
وقد وجدتك - أيها الأستاذ الشيخ - تثني على شيخ الأزهر في مقالة لك سنة 1940 ، وتقول : " وقد كتب الأستاذ الزيات ... يطالب الأزهر بالرجوع إلى المنابع الأولى للدين واللغة والأدب والعلم ... نعم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر لم يقصِّر في اجتهاده أن يجعل الأزهر مثابة للعلم الصحيح ، ولم يتخلَّف عن النصيحة له بما توحي به الرغبة الصادقة في تحريره من آصار قديمة عاقته عن بلوغ غايته التي يحق له أن يبلغها . فقد وضع الأستاذ الأكبر من عشر سنين نظامه الجديد للكليات في الأزهر ... وأمدَّ هذه الكليات العالية في دراستها لما خُصصت له بالكتب الأصول المعتمدة في بابها ، ككتاب سيبويه ، وخصائص ابن جني ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ، وتصريف المازني ، وكتاب فيلسوف النحو رضي الدين الإسترباذي صاحب شرح الشافية ، وشرح الكافية ، وهما عمدة أصحاب النحو والتصريف . وكذلك جُعلت كتب عبد القاهر دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ، وكتاب الصناعتين لأبي هلال ، وأدب الكاتب والكامل والأمالي ، وغير هذه من أصول الأدب واللغة هي مادة الدراسة في هذه الكليات " ( جمهرة مقالاته 1/158-159 ) .
وشيخ الأزهر في تلك الأيام التي يذكرها الشيخ شاكر هو الإمام محمد مصطفى المراغي ، أحد تلاميذ الشيخ محمد عبده ، وما يثني عليه الشيخ شاكر سنة 1940 من عمل شيخ الأزهر هو ما دعا إليه الأستاذ الإمام محمد عبده ، وجاهد في سيبله ، ولقي ما لقي حيًّا وميتًا !!
[align=center](5)[/align]
ما كان العلامة محمود محمد شاكر إلا مخطئًا في رأيه في الأستاذ الإمام - رحمهما الله ، وأحسن إليهما - ولم يكن الشيخ شاكر معصومًا ، ولا ادَّعى ذلك لنفسه ، ولا حَجَر على أحد أن يخالفه ، وأن يقول بخلاف قوله ، وأن ينسب الخطأ إليه ، وقول الشيخ محمد رشيد رضا أولى من قوله ، وهو الذي صحب وصافح ، وشافه وشاهد ، وسمع ورأى ، وسأل وأجاب ، وعاين وراجع ، ومبدأ صحبته للإمام سنة 1315=1897 ، ووفاة الإمام سنة 1323=1905 ، فتلك ثمان سنوات ، وعاش بعده إلى سنة 1354=1935 ، وهذا نحوٌ من ثمان وثلاثين سنة ، لم يغيِّر فيه رأيه ، ولا بدَّل فيه اعتقاده .
ورأيه فيه ، ومنزلته منه ، بيَّنها شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق - رحمه الله ، وهو من تلاميذ الإمام أيضًا - بقوله : " أول من ترجم للشيخ محمد عبده ، وعُني بنشر آثاره ، هو السيد محمد رشيد رضا ، والسيد محمد رشيد رضا هو أول من لقَّب الشيخ محمد عبده بالأستاذ الإمام ، وهذا اللقب نفسه ينبئ عن الصورة التي أراد أن يرسمها السيد رشيد لشيخه فيما كتب عنه ، وينبئ بالفكرة السائدة في وجهة نظر التلميذ إلى أستاذه . الشيخ محمد عبده عند السيد رشيد رضا : إمام من أئمة الإسلام ، وله في الدين مذهب يقوم أصحابه على روايته وتدوينه كما قام أصحاب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما على ما لأولئك الأئمة من مذاهب . وإذا كان الشيخ محمد عبده إمامًا في الدين فالسيد رشيد رضا لا شك صاحبه ومفسر مذهبه ومكمله ، وقد بذل صاحب المنار - رحمة الله عليه - في هذه الناحية مجهودًا ضخمًا حافلاً بالمباحث الدينية ، والمناقشات الفقهية ، وكان لهذا المجهود العظيم أثر غير ضئيل في طلاب العلوم الدينية ومن إليهم ، وفي توجيه الدراسات الشرعية في بلاد الإسلام المختلفة " ( مجلة الرسالة 9/7/1945 ) .
ويقول الأستاذ الإمام في منزلته منه : " إن الله بعث لي بهذا الشاب ليكون مددًا لحياتي ، ومزيدًا في عمري ، إن في نفسي أمورًا كثيرة أريد أن أقولها أو أكتبها للأمة ، وقد ابتليت بما شغلني عنها ، وهو يقوم ببيانها كما أعتقد وأريد ، وقد رأيت في سفري من آثار عمله ، وتأثير مناره ، ما لم أكن أظن ولا أحسب ، فهو قد أنشأ لي أحبابًا ، وأوجد لي تلاميذ وأصحابًا " ( النهضة الإسلامية في سير أعلامها للبيومي 1/244 ) .
[align=center](6)[/align]
وفي الناس ناسٌ لا يسلم السيد محمد رشيد رضا نفسه عندهم من قدح ومذمة ، وما نال الأستاذَ الإمام ناله بسببه وبغير سببه ، وما من حيلة لك مع امرئ لا يرضى عنك ، ولا يُقرُّ لك بفضل ، ولا يرعى لك حرمة ، إلا أن توافقه في كل شيء ، وتكون نسخة منه ، وتجري على هواه ، وتقول بقوله ، وتنطق بألفاظه ، وتقصد إلى أغراضه ، وإلا كنت ما شاء هو أن ينسبك إليه من بدعة أو ضلال وما فوقهما وما دونهما . والله قد خلق الناس مختلفين ، ومنحهم عقولاً ليفكروا بها ، وطبعهم على طبائع لا يطيقون الانسلاخ منها ، وقسَم بينهم حظوظًا من العلم ومن الفهم ، فيختلفون في الرأي ، وليس حتمًا أن يتعادى المختلفون ، ولا أن يتدابروا أو يتقاطعوا .
فدعك من هذا إذًا إن لم تجد فيه مَقْنَعًا ولا غَناء ، وانظر في رأي عالم جليل ، وإمام كبير ، وأحد جهابذة السنة النبوية ، وأحد أئمة الفقه ، وأحد أعلام الأدب في هذا العصر ، إنه أبو الأشبال أحمد محمد شاكر أخو محمود ، رفيق أَمِّه ، ورضيع لِبان أُمِّه ، وأحد أشياخ علمه ، فله في الأستاذ الإمام محمد عبده رأي يخالف رأي أخيه الذي أذاعه بأخَرَة .
يقول في مقالة له سنة 1349=1931 بعنوان : ( تفسير القرآن الحكيم ) : " ولقد كان المتقدمون يُعنَوْن في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث مرفوعة ، وآثار موقوفة ، وباستنباط أحكام الفقه منه ، تعليمًا للناس كيف يفهمون ، وكيف يصلون إلى الاجتهاد . ثم ترك المتأخرون ذلك ، ولم يكن من همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى لها ، ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ ، حتى إن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم ، وكثيرة بين أيديهم ، لا يطمئن الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها ، ولا إلى استنباط حكم ، بل ولا إلى الثقة بالنقل ، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة ، وبأحاديث موضوعة ، من غير تحرٍّ في الرواية ، ولا استعمال لموهبة العقل السليم " ( جمهرة مقالاته 1/174 ) .
وأقف هنا قبل أن أتمم النقل لأسأل : هل يُتهم الشيخ أحمد شاكر بقوله هذا بأنه مُغْرٍ بالاستهانة بالتراث وازدرائه ، وداعٍ إلى إسقاطه بمرة ، والاستغناء عنه جملة ؟ هل يصح أن يفهم ذلك ؟ لا ، بلا شك ، ونحو هذا ما كان يقوله الأستاذ الإمام محمد عبده .
ثم يقول الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - : " ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته ، وعلَمًا من أعلام الهدى ، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي كتابها ، ودلَّها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره ، وكان منارًا يُهتدى به في هذا السبيل ، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير ، وكان فيما أظن يرمي بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك ، فينهجوا نهجه ، ويسيروا على رسمه ، ولكنهم لم يأبهوا به إلا قليلاً ، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ ، وبقي دهماؤهم على ما كانوا عليه . ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار ، فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام ، وزادها وضوحًا وبيانًا ، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة ، وجمعها في أجزاء على أجزاء القرآن الكريم ، ومضى لطَيَّته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه ، فكأنه أُلهم روحَه ، لم يكِلَّ ولم يضعف ... فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طبع على الإطلاق ، ولا أستثني ، فإنه هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح ؛ إذ هو كتاب هداية عامة للبشر ، لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين . ثم هو يُظهر الناسَ على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة غير مقلد ولا متعصب بل على سَنَن العلماء السابقين ، كتاب الله وسنة رسوله . ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها ، وتمييز الصحيح من الضعيف منها - ما جعله حجة وثقة في هذا المقام ، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه . ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله فيها ، وأرشد إلى الموعظة بها ، وكبَت الملحدين والمعترضين بأسرارها ، وأعلن حجة الله على الناس . فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطُعُونهم في الأديان السماوية ، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنه ، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء ، مع البلاغة العالية ، والقوة النادرة ، لله دره !! ... ( وأطال في الوصف إلى أن قال : ) وإنه لكتاب العصر الحاضر ، يفيد منه العالم والجاهل ، والرجعي والمجدد ، بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين . وأنا أرى أنه من الواجب على كل من عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه ، وبث ما فيه من علم نافع ، لعل الله يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام ، وأن ينير قلوبًا أظلمت مِن مَلئها بالجهالات المتكررة ... ولعلي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم يشف فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله ، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث فيها ، وذلك بحول الله وقوته " ( جمهرة مقالاته 1/174-177 ) .
فهذا هو رأي الشيخ أحمد شاكر في الشيخ محمد عبده ، وفي تلميذه الشيخ رشيد رضا ، وفي التفسير الذي ابتدأه الشيخ محمد عبده ، وأتمه صاحبه سائرًا على نهجه ، مكمِّلاً مباحثَه ، ومتمِّمًا معانيه ، ومحققًا أغراضَه .
ويقول في مقالة أخرى له سنة 1354=1935 في تأبين الشيخ رشيد رضا وترجمته : " ويجدر بنا في هذا الموضع أن نصحح خطأ مشهورًا يظنه كثير من الناس صوابًا ، وذلك أنهم يزعمون أن السيد رشيد - رحمه الله - جاء إلى مصر لإتمام الدراسة العلمية ، ولذلك تتلمذ للشيخ محمد عبده ، والحقيقة أنه - رحمه الله - لم يغادر بلاده إلا بعد إتمام دراسته ، وبعد نيل الشهادة العالمية والإذن له من شيوخه بالتدريس ، وكان قد جاوز الثلاثين من عمره ، وإنما اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده كما يتصل العالم الصغير بالعالم الكبير ، وبقي تلميذًا له على هذا المعنى إلى حين وفاته ، كما كان يفعل سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - ولو بقي الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى الآن حيًّا لبقي السيد رشيد تلميذه إلى الآن ، ولوفى له في حياته كما وفى له بعد مماته ، رضي الله عنهما . فكان السيد - رحمه الله - مع الأستاذ الإمام تلميذًا له وصديقًا ، وناصحًا ومخلصًا ، وكان مستودع أسراره ، والداعية لآرائه ، والمدافع عنه في كل معركة من معارك جهاده ، بل كان كما وصفه الأستاذ الإمام لوالدي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد شاكر - حفظه الله - : ترجمان أفكاره ( جمهرة مقالاته 2/658-659 ) .
وهو فصل ممتع فيه أدب وعلم ووفاء ، فانظره هناك ، ولوددت أن أنقله لك لولا طوله ، وفيه يقول الشيخ أحمد شاكر في السيد رشيد : " وكنت من أقرب الناس إليه ، وأبرهم به " . وأنت ترى الإشارة إلى الوالد محمد شاكر ، وهي تدل على أنه كان له صلة به ، ورأي حسن فيه .
[align=center](7)[/align]
وما بي أن أجعل الأستاذ محمدًا عبده بريئًا من كل عيب ، فما من البشر أحد يوصف بهذا ، ولا أنا بسبيل ترجمته ، أو بيان مناقبه ، أو قص تاريخه ، فما هذا في قدرتي الآن ولا في نيتي ، ولكني أدعو إلى قراءة ترجماته التي كتبها الكبار : تاريخ الأستاذ الإمام ، ثلاثة أجزاء ، للشيخ رشيد رضا ، وسيرة الإمام الشيخ محمد عبده للشيخ مصطفى عبد الرازق ، وزعماء الإصلاح في العصر الحديث للأستاذ أحمد أمين ، والمعاصرون للأستاذ محمد كرد علي ، وما كتبه الأستاذ العقاد والدكتور محمد عمارة ، وغيرهم .
وأختم برأي إمام آخر من أئمة الدين هو الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي - أطال الله في العافية بقاءه - قال بأسلوبه السهل الممتنع في التفصيل ، وطريقته الساحرة التي يلقيها على المشكلات فتحلها ، وعلى الملتبسات فتكشفها - : " والناظر في شخصيات المدرسة التجديدية الإحيائية الإسلامية التي بدأت بجمال الدين الأفغاني يجد أن أولها - وهو السيد جمال الدين - كان أكثرها انطلاقًا ، وأقلها انضباطًا بقيود الشرع وضوابط الكتاب والسنة ، فقد كان أقلهم حظًّا من التبحر في علوم الشريعة ومصادرها ، ونجد تلميذه وصديقه الأستاذ الإمام محمد عبده أقرب إلى الالتزام والانضباط منه ؛ لأنه أكثر علمًا بالشرع ، وأكثر تبحرًا في معارفه بحكم تكوينه الأزهري الأصيل ، ونجد تلميذ الأستاذ الإمام رشيد رضا أكثر التزامًا وانضباطًا من شيخه ، وشيخ شيخه من باب أولى . فقد أتيح له أن يطلع على آثار المدرسة السلفية التجديدية الكبرى المتمثلة في شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ... فالسيد جمال الدين أقرب إلى عقلية الفلاسفة ، أعني فلاسفة المدرسة المشَّائية الإسلامية من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم . والإمام محمد عبده أقرب إلى عقلية المتكلمين من أمثال الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم . والسيد رشيد أقرب إلى عقلية فقهاء المحدثين الجامعين بين المعقول والمنقول ، أمثال الإمام محمد بن إدريس الشافعي وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم وابن الوزير وأمثالهم " ( فتاوى معاصرة 2/84-85 ) .
هذا ، وقد رأيتُني حقيقًا بمناقشة شيخنا الأستاذ محمود محمد شاكر في رأيه ؛ لأنني ثمرة من ثمراته ، وتلميذ ضعيف من تلامذته ، ولكني لست بعبد الشيخ شاكر ، ولا هو يرضى لأحد أن يكون كذلك ، على حدته واعتداده بنفسه ، وثقته بعلمه وعمله ، وكما قيل : هو حبيب إلينا ، والحق أحب إلينا منه .
ما أُتي الشيخ محمد عبده إلا من بعض معاصريه من علماء الأزهر الذين أشاعوا عنه قالة السوء ، فسودوا صفحته ، وأذاعوا زلته ، وما كان إلا إمامًا فذًّا ، وأحد أفراد الدهر ، يخطئ ويصيب كغيره ، ويؤخذ من كلامه ويترك ، وقال فيهم حافظ إبراهيم :
[align=center]وآذوك في ذات الإله وأنكروا * مكانك حتى سودوا الصفحات
رأيت الأذى في جانب الله لذة * ورُحت ولم تَهْمُم له بشكاة
لقد كنت فيهم كوكبًا في غياهب * ومعرفةً في أنفس نكرات[/align]غرة شعبان 1430
23/7/2009[/align]