مناظرة
في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
( في كلية الحقوق من الجامعة المصرية )
شعبان - 1348هـ
يناير - 1929م
(30/535)
وقعت هذه المناظرة بالصفة المبينة في المقالة الأولى من المقالات الآتية ،
فكان لها تأثير عظيم في جميع الطبقات المصرية في العاصمة وسائر البلاد ، وظهر
لنا من هذا التأثير بما رأيناه منه وما سمعناه عنه وما قرأناه بشأنه في الصحف : أن
ما كان يذيعه دعاة الإلحاد من انتشار إلحادهم في النابتة العصرية المتعلمة حتى كاد
يكون عامًّا فيهم - كذب وبهتان ، بل السواد الأعظم من شباننا سليم العقيدة يؤمن
بالله وبكتابه العزيز المعجز للبشر إلى آخر الدهر ، ورسوله محمد خاتم النبيين
صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، ويغارون على الإسلام ويؤيدون من يدافع عنه ،
على ضعف تعليم الدين في المدارس كلها ، وإهمال تربيته الصحيحة فيها وفي أكثر
البيوت أيضًا ، وعلى ما في هذه البلاد ولا سيما عاصمتها من حرية الكفر والفسق .
وإننا ننشر هذه المقالات التي كتبناها ونشرناها في جريدة كوكب الشرق
الشهيرة إجابة لاقتراح بعض طلاب الجامعة الغيورين ، وسننشر بعدها بعض ما
نُشر في الجرائد في موضعها وما كان من تأثيرها . المقالة الأولى
في صفة المناظرة
كان بعض طلبة كلية الحقوق من الجامعة المصرية زاروني في مكتبي
وأخبروني أن لجنة الخطابة والمناظرات للجامعة تختارني لمناظرة الأستاذ عبد
الوهاب عزام في موضوع ( حرية المرأة كالرجل ) إذا كنت أقبل أن أكون
المعارض له فيه ، فقلت : لا مانع لدي من القبول .
ثم زارني اثنان آخران بعد المغرب من يوم الثلاثاء ( سابع شعبان ويناير معًا )
وألقيا إليَّ طائفة من رقاع الدعوة من تلك اللجنة ( لحضور مناظرتها الأولى التي
تقام في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء 8 يناير سنة 1930 بكلية الحقوق
بحدائق الأورمان بالجيزة برياسة النائب المحترم محمد توفيق دياب موضوعها
( يجب مساوة المرأة بالرجل ) [1] .
( وسيؤيد الرأي الدكتور محمود عزمي والآنسة هانم محمد الطالبة بكلية
العلوم ، وسيعارض الرأي حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا ومحمد
أفندي شوكت التوني الطالب بكلية الحقوق ) هذا نص الدعوة .
فلم أجد بدًّا من قبول الدعوة مع العتاب على ترك استشارتي في الأمر قبل
يومين أو ثلاثة أيام ، لعلمي [2] أنها مناظرة بين الدين والإلحاد .
وقد ذهبت قبيل الموعد ، ولما دخلنا حجرة المناظرة ألفينا مدارجها مكتظة بطلبة
كليات الجامعة وغيرها من المدارس وبعض مجاوري الأزهر الشريف وفي أدناها
كثير من كبار الفضلاء والأستاذِين ، كان تجاهي منهم صديقنا أحمد شفيق باشا من
عشاق العلم والعمل ، ثم اشتد الزحام حتى كثر الواقفون في أثناء المدارج وجوانبها
وأعلاها وفي طريقها أيضًا وقدَّرهم الرئيس بألف نسمة أو أكثر .
وما زال الناس يهرعون حتى غص بهم المكان وصاروا يتدافعون في الأبواب ،
وكاد يتعذر حفظ النظام ؛ ولكن الرئيس الموكول إليه ذلك تمكن بحزمه وفصاحته
وصوته الجهوري من تسكين المتحركين ، وتسكيت المتكلمين ، ثم من كف تصدية
المصفقين ، وافتتح الكلام ببيان موضوع المناظرة والتعريف بالمتناظرين : الموجب
منهم للموضوع ، والسالب المعارض له ، والمؤيد لكل منهما ، وما للسامعين من
حق إبداء الرأي بالكلام في كل من جانبي السلب والإيجاب ، وبيان الوقت المحدد
لكل متكلم ، وهو عشرون دقيقة لكل من الأولين ، وخمس عشرة دقيقة لكل من
الرديفين ، وخمس دقائق لمن يريد تأييد أحد الجانبين .
ثم طريقة أخذ الأصوات ، وهي أن يخرج الذين يرون عدم المساواة من الباب
الأيمن ، ويخرج الذين يرون وجوب المساواة من الباب الأيسر ، فيجد كل منهم
صندوقًا خارج الباب يضعون فيهما البطائق المطبوعة التي وُزعت عليهم بعد أن
يكتب كل منهم فيها اسم من يؤيده ويرى رأيه ، وإمضاءه هو ، ثم على لجنة
المناظرت أن تحصي بطاقات أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وتعلن النتائج لمن
شاء الانتظار ، ومن لم يشأ قرأها في الصحف غدًا .
ثم أذن للدكتور محمود عزمي بالكلام .
خطاب محمود عزمي
كان هذا الخطاب مكتوبًا بالأسلوب الخطابي الذي يُقصد به التأثير بخلابة
القول وما يزينها من المعاني الشعرية ، ولعله ينشره في بعض الجرائد اليومية التي
يبث فيها دعايته وآراءه [3] وقد بدأه بقضايا ظن أنها كليات لأشكال منطقية يلزم من
تسليمها النتيجة المطلوبة ، والحق أنها في عرف المنطق الصحيح إما شخصية وإما
جزئية لا يصح تأليف الأشكال المنتجة منها ، وأن ما قد يضاف إليها من الكليات لا
يمكن أن يكون مسلَّمًا فيحتج بنتيجتها ، وقد سماها منطقية وهي تسمية مردودة عند
من له إلمام بعلم المنطق ، وما في باب الحجة والقياس من الشروط في تأليف
الأشكال المنتجة للبرهان .
ذلك أنه ذكر أسماء بعض النساء في أوربة وفي الشرق من معاصرات
وغابرات ( كمدام كوري وملكة هولندة وأميرة لوكسمبرج وخالدة أديب والأميرة
نازلي هانم وهدى هانم ومي وسيزا نبراوي وإحسان أحمد وأم المحسنين وأم
المصريين من المعاصرات ، وكسارة وهاجر ومريم وفاطمة وعائشة وكليوبترة
وشجرة الدر وغيرهن من نساء التاريخ )
فالقضايا التي تتركب من هذه الأسماء تسمى في المنطق قضايا شخصية لا
يصح أن يتألف منها منفردة ولا مجتمعة قياس برهاني على وجوب مساواة النساء
للرجال في جميع الحقوق والواجبات ، وذكر أيضًا بعض أعمال النساء العامة في
أوربة وما كان من جهودهن في إبان الحرب العظمى ، وهؤلاء وإن كن كثيرات لا
يصح الاحتجاج بهن على المطلوب ؛ لأنها جزئيات لم تصل إلى حد الاستقراء التام
الذي يفيد البرهان اليقيني ، ولا الاستقراء الناقص المنطقي الذي يفيد الظن دون
اليقين .
فالاستقراء عند المنطقيين : قول مؤلف من قضايا ناطقة بالحكم على
الجزئيات لإثبات الحكم الكلي ، فإن كان الحكم فيها على جميع الجزئيات سمي
استقراء تامًّا ، كقولنا : كل جسم متحرك بالقوة أو بالفعل . وإن كان الحكم فيه على
أكثر الجزئيات سمي استقراء ناقصًا ، ومثَّلوا له بقولهم : كل حيوان يتحرك فكه
الأسفل عند المضغ ، بناء على أن أكثر ما عُرف من أنواع الحيوان كذلك لا كلها .
وقد قال موجب المساواة بعد ذكر ما تقدم : إنه يدل عليها دلالة منطقية ، ولهذا
ذكرنا الاصطلاح المنطقي في إبطال قوله ، وأن المنطق لا يدل على ذلك دلالة
يقينية ولا ظنية ، وأما أسلوبه الخطابي أو الشعري في منطقه هذا فهو أنه قال : ما
كنت أحسب وقد ملأت الدنيا أنباء الفُضليات من النساء اللاتي يضربن الآن بسهم
في مختلف نواحي النشاط البشري الراقي وفي الملك الدستوري النابه ( ؟ ) وفي
إدارة شؤون الدول وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب ولا يزال يطن في آذاننا جميعًا
دوي تلك الجهود الهائلة التي قام بها النساء خلال الحرب الكبري وقد استحلن عمالاً
خشنين ( ؟ ) يبرزن ( ؟ ) على الرجال في المعامل والمصانع المدنية منها
والعسكرية وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب وتعاليم التاريخ العام والخاص منتشرة
بينكم فتعرفون منها ما كان على البشرية من فضل لسارة وهاجر و أم هارون ومريم
وفاطمة وعائشة ... إلخ - وأنتم تتبعون أثر الأميرة نازلي واجتماعات قصرها في
تكييف مَلَكَة التفكير العام عند من تدينون له بالزعامة فيما شهدت منكم من حركة
قومية ... إلخ .
وما زال يقول ( ما كنت أحسب ) ويذكر جملاً حالية معروفة حتى جاء بإتمام
الجملة فقال : ما كنت أحسب وكل هذه الظروف تكتنفنا أن وجوب تسوية المرأة
بالرجل في الحقوق والواجبات يمكن أن يكون محل مناظرة !! لأنها في رأيه كما
نقل عن الأستاذ ( لالند ) قد ( كانت يوم قال بها ( المفتون الأول ) خيالاً من
الخيالات ؛ ولأنها أصبحت اليوم بدهية من البدهيات ، وحقيقة من الحقائق العلمية
التي لا يماري فيها إنسان ) .
ولعمري إن هذا قول لا يقوله إنسان يفهم معنى البداهة ومعنى الحقيقة العلمية
إلا على سبيل الخلابة ، إذ ليست المسألة من البديهيات ولا من الحقائق العلمية في
عُرف هذا العصر ، فالبديهي في عرف أهل المنطق ما لا يتوقف حصوله على نظر
ولا كسب كتصور الحرارة والبرودة والتصديق بأن النقيضين لا يجتمعان ولا
يرتفعان ، ولو كانت كذلك لما احتيج إلى المناظرة فيها كما قال ، ولما كانت نتيجة
التصويت فيها تأييد المعارضة ونبذ بدعة المساواة المطلقة بالأكثرية الساحقة الماحقة ،
بل لما كانت هذه النظرية من البدع العصرية التي نجم قرنها في هذا القرن
المضطرب ، الذي لم يستقر بعد على حال من القلق .
بعد إلقاء الدكتور عزمي لهذه المقدمات العقيمة ، التي لا تنتج على تقدير
تسليمها ، وما هي على علات بعضها بمُسلَّمة - شرع في بيان الحقوق فقال : إن
أولها حق الوجود واستنشاق الهواء كالرجل ؛ لأنها كائن موجود مثله سواء ، وإن
النتيجة المنطقية لذلك هي تمزيق الحجاب وهتك الستر والاختلاط مع الرجال في كل
مجال ، فهو القاعدة الأولى لحق الوجود ، وأفاض في مدح هذا الاختلاط وعدَّه من
مهذبات الرجل في ملبسه وزينته وكلامه وتفكيره ، واستشهد على ذلك برحلته الأخيرة
إلى فرنسة فذكر أنه كان يحلق ذقنه كل يوم مرة أو مرتين لأجل الاجتماع بالنساء ؟ !
وذكر أيضًا من مزايا هذا الاجتماع بهن التفكير الطاهر البريء ! ! ( سبحان
الله وبحمده ) ثم ثنَّى بذكر حق تعلم المرأة لأجل التثقف وتهذيب نفسها وغيرها
كالرجل .
وانتقل منه إلى حق الحياة في المجتمع ، ومنه أن يكون لها حق اختيار الزوج
وحق الطلاق ، واتقاء ما يهدد حياتها من عواصف تعدد الزوجات .
وقفى عليه بحق الاشتراك مع الرجل في تربية الأولاد وتوجيه أنفسهم إلى
الأعمال .
وعطف على هذا حق الامتلاك بالإرث والكسب ، فارتطم ههنا في حمأة
مصادمة الشرع ، إذ زعم أنه يجب مساواة الأنثى للذكر في الإرث ، فكان كعاصفة
على البحر ، اضطرب جمهور الموجودين لها كاضطراب الموج ، واصطخبوا
كاصطخابه عندما يتكسر على الصخر ، وأرادوا منعه من الكلام ، فقام الرئيس
ورفع عقيرته بالتضرع إليهم أن يحفظوا النظام ، ولما أمكن إتمام القول لجأ إلى
التأويل ، فزعم أن مسألة الإرث عند كثير من علماء الشرع ليست كمسائل العبادات
التي تجب المحافظة عليها والجمود على نصوصها ، بل هي من مسائل المعاملات
المالية التي يجوز تعديلها وتغييرها بحسب تطور الزمان والمكان ( ! ! ) قال : وإذا تعنت معنا أصحاب الجمود على الآراء الدينية فلماذا لا يتعنتون في
تعديل قواعد الحدود الشرعية كرجم الزاني والزانية ، وقطع يد السارق ورجله من
خلاف ( أو قال أيدي وأرجل وفيه ما فيه على كل حال ) فإن الحدود قد عُطِّلت وهم
ساكتون ، فليسكتوا إذًا على تغيير أحكام الميراث ، والدليل على أن هذه الأحكام لا
يمكن الاستمرار عليها أن المسلمين أنفسهم قد شعروا بذلك فرأوا الخروج من هذا
الجمود بالوقف الذي هو عبارة عن حيلة يجيزها الإسلام الصحيح للخروج من
الشيء إلى ما هو أوسع منه ، وقد جزم الحكم بأن أبناءنا سيرون هذا التغيير إن لم
نره نحن ! !
وختم هذه الحقوق بالحق السياسي ، وهو أنه لما كانت المرأة عنده كالرجل من
كل وجه وجب أن يكون لها الحق في جميع أعمال الحكومة ووظائفها والانتخاب
لمجالسها ، وقد حال انتهاء مدة كلامه بيان إفاضته فيها ، فسكت مسخوطًا عليه من
الكثيرين ، وصفق له الأقلون ، وقد علمت بعد الخروج أن أكثرهم من غير
المسلمين وأقلهم من ملاحدتهم ، وقد عبَّر عن ذلك من نقل أخبار المناظرة لجريدة
الأهرام ( أحمد الصاوي ) بغير تدقيق بقوله ( إلى هنا هتف الشباب لمحامي الشباب )
وما كان ثمة من هتاف ، ولولا رواية الأهرام لم نذكر هذه المسألة .
ردنا الإجمالي
ما كان الوقت الذي وُقِّت لنا بالذي يتسع للرد التفصيلي ، وبيان ما في هذه
المسائل من حق وباطل ، ولا بالرد الإجمالي المفيد على كل منها ، فاكتفيت بتفنيد
مقدماتها في فاتحة الكلام ، وأرجئ الرد التفصيلي إلى المقالات التالية التي اقترحها
عليَّ الكثيرون من أولئك الطلاب النجباء ، وأذكر أولاً ملخص الرد الإجمالي الذي
ألقيته في مجلس المناظرة ، مع شرح قليل أميزه عنه لتعميم الفائدة .
قمت بإذن الرئيس ، فقوبلت بتصفيق قوي شديد من جميع الجوانب طال أمده ،
حتى تعبت مع حضرة الرئيس في التوسل إلى الجمهور بالكف عنه ، وقد سكت
عن ذكر هذا راوية الأهرام ، وما قاله عني بعضه غير صحيح ، وبعضه غير دقيق ،
كما يعلم من بياني الآتي له . المقالة الثانية
في ردي الإجمالي في المناظرة
شهادة راوية الأهرام
أراد راوية الأهرام ( أحمد الصاوي ) أن ينصر ما خذل الله والمؤمنون من
دعاية الإلحاد ، ويخذل ما أيَّد الله والمؤمنون من حق الدين وإصلاح الإسلام ، فسمَّى
الداعي إلى ترك القرآن ونبذ الإسلام ( محامي الشباب ) وزعم أن الشباب هتفوا له ،
وهذا يتضمن الشهادة على جميع أولئك الشبان بالإلحاد ، وهي من شهادة الزور
التي يسجلها عليه الدكتور عزمي نفسه ويُبرئ منها ذلك الاجتماع ، فقد قال لي
الدكتور عزمي على مسمع من الناس : إنك غلبتني ، فإن الذين أعطوني أصواتهم
261 وليس لي غيرهم ، وإن الذين أعطوك أصواتهم 363 ، وإن الأكثرين خرجوا
من غير أن يعطوا أصواتهم ( إذ لم يكن معهم بطائق التصويت ) ولو أعطوها
لكانوا كلهم معك ولعلهم 700 أو يزيدون ، وهذا من حرية عزمي وصراحته النادرة .
ثم قال راوية الأهرام : وقام الأستاذ صاحب الفضيلة الشيخ رشيد رضا فكان
من اللباقة بحيث لا يصطدم بالصخر مغمض العينين ، فاعتذر بأنه لم يحضر
الموضوع ، وأنه لم يسمع به إلا يوم أمس ، وما كان له نصف ساعة يستجمع فيها
ما هو بحاجة إليه من وثائق الدفع ... إلخ .
وأقول : ما كان له لولا ما ذكرت من نزعته وشهادته أن يسمي دفاعي بالحجة
والبرهان ، عن الحق الذي أنزله الله تعالى في القرآن : اصطدامًا بالصخر الجلمود ،
ويزعم أنني اعتذرت عن ضعفي بعدم الاستعداد لهذا اليوم الموعود ، فوالحق
الذي قام به الوجود ، ما كان صخره عندي إلا زبدًا أو غثاء سيل ، أو ضغثًا جمعه
حاطب ليل ، وما ذكرت ما تقدم شرحه في صدر المقال الأول إلا بيانًا للواقع
ومخالفته للمعتاد ، وسيعلم أنني قبلت لأنني لا أراني في حاجة إلى الاستعداد ،
ويشهد لي طلبة الحقوق الذين كلموني في أول مرة أنني اشترطت عليهم أن أتكلم
بالارتجال ، وذلك أن هذه المسائل قد قتلتها بحثًا بالقول والكتابة ، والدرس والخطابة ،
ومن فروعها مسألة الجمع بين الذكران والإناث في المدارس الثانوية والعالية ،
وكانت الجامعة المصرية قد جعلتها موضوع مناظرة بيني وبين الدكتور محمود
عزمي نفسه في السنة الماضية ، ثم أمرت الحكومة بمنعها قبل موعدها بساعة أو
نصف ساعة ، فكتبت رأيي في مقال للمنار ، وجعلته قبل نشره موضوع محاضرة
ألقيتها في جمعية الشبان المسلمين ، فعسى أن تنشرها جريدة كوكب الشرق بعد
انتهاء هذه المقالات . قاعدتان أساسيتان للرد
ذكرت قاعدتين أساسيتين لمعارضة الخصم ( إحداهما ) الحاجة إلى الدين
وفائدته في الأمم ، وبيان نصوص الإسلام القطعية الدائمة التي لا يجوز فيه لأحد
نقضها ولا تغييرها ولا التبديل لأحكامها ، والنصوص التي يجوز الاجتهاد فيها ،
ومن النوع الأول آيات المواريث وبناؤها على كون الأنثى ترث نصف ما يرث
الذكر خلافًا لما زعمه الخصم من جواز تعديلها ، وذكرت في هذا البحث حكمة
وجود أحكام ثابتة في الشرع وفائدته في ثبات الأمة ، كما بيَّنت فيه حكم الضرورة
التي تبيح المحرَّم لذاته كأكل الميتة ، والحاجة التي تبيح المحرَّم لسد الذريعة كرؤية
الطبيب لبدن المرأة وعورة الرجل .
( الثانية ) معنى الحق والواجب ، ومن يجعل الحق حقًّا على الناس والواجب
واجبًا ؟ أأفراد الناس من الخطباء وغيرهم كمحمد رشيد ومحمود عزمي ؟ أم رب
الناس وخالقهم ؟ ومن شرع لهم الرب هذا الحق من أهل الحل والعقد الذين يمثلون
الأمة في سياستها ومعاملاتها الاجتهادية ؟ وراوية الأهرام لم يفهم ما قلناه في هاتين
القاعدتين ولم يذكره كما قيل .
كلامنا الوجيز في الحقوق السبعة قلت فيما ذكره الخصم في المقدمات من نابغات النساء : إن المرأة إنسان فلا
يستنكر أن يظهر في بعض النسوة عالمات فاضلات ومهذبات نابغات ... إلخ ،
أشرتُ بهذا إشارة يفهمها الذكي إلى أن وجود من ذكرهن ليس دليلاً على مساواتهن
للنابغين من الرجال على قلة أولئك وكثرة هؤلاء ، أعني أن قداسة مريم أم عيسى
وفاطمة بنت محمد عليهما السلام هي دون قداسة عيسى ومحمد عليهما صلوات الله
وسلامه ، وأن فقه عائشة رضي الله عنها لا يساوي فقه الخلفاء والعبادلة رضي الله
عنهم ، وأن سياسة الأميرة نازلي لا تسمو فتصل إلى سياسة سعد باشا وإن زعم أن
اجتماعات قصرها كانت هي العاملة في ( تكييف ملكات التفكير العام عنده ) وإنني
أعرف تلك الاجتماعات وقد حضرت بعضها مع سعد وأستاذه وأستاذنا الإمام
( رحمهم الله أجمعين ) وإنما الفضل الأول لتكوين ملكات التفكير في عقل سعد هو
الأستاذ الإمام وكان سعد يعترف بهذا قولاً وكتابة ، وقد نشرنا بعض مكتوباته له في
المنار ، ونقلها عنا كوكب الشرق المنير ، وعلى هذا يُقاس سائر النابغات في
الشرق والغرب .
بطلان كلامه في السفور والمخالطة
ثم قلت فيما سمَّاه ( حق الوجود واستنشاق الهواء ) إنه ثابت بنفسه في الواقع
وخلق الخالق ، فالكلام فيه من تحصيل الحاصل ، فلا يحتاج وجود النساء إلى
إثبات الخطيب لحقيته بالدلائل ، فالنساء موجودات بدون حاجة إليه ؛ وإنما الباطل
هو استدلاله به على وجوب تمزيق المرأة للحجاب والستور ، الذي يعبرون عنه
بالسفور ، واختلاط النساء بالرجال الذي ذقنا مرارته وتجرعنا غصصه بخروجهن كاسيات عاريات يسبحن مع الرجل على شواطئ البحار ، ويرقصن معهم في
مواخير الفساد ، وكان من سوء تأثيره ما تردد الجرائد الشكوى منه من إعراض
الشبان عن الزواج ، وأن عقلاء أوربا يشكون منه كما يشكو عقلاؤنا وفضلاؤنا ،
ويخافون أن يقضي على تكوين الأسرة ( العائلة ) الذي يفضي إلى القضاء على
الأمة ، ولا منجاة من هذا الخطر إلا بأحكام الإسلام وآدابه في الستر والصيانة كما
سنبينه في التفصيل الآتي :
حق المرأة في التعلم وأما حق المرأة في التعلم فقد قلت فيه : إن الله تعالى فرض طلب العلم على
النساء كما فرضه على الرجال - فهو واجب عليهن في الدين ، وحق لهن على
الوالدين والأولياء ، ومن العلم ما هو واجب عيني على الصنفين ، وما هو واجب
كفائي ، ومنه ما هو واجب عيني على أحدهما دون الآخر كالأحكام الخاصة بالنساء
فيما هو خاص بطبيعتهن كبعض أحكام الطهارة المعروفة ، وما يَحْرُم عليهن في تلك
الأحوال ، فهي أحكام تجب على كل امرأة ولا تجب إلا على بعض الرجال حفظًا
للعلم ... إلخ .
فكل علم تنتفع به المرأة في تهذيب نفسها وتربية أولادها وتدبير منزلها ، فهو
حق مشروع ، وقد جعل الشرع لها حق حضانة الأطفال دون الرجل ، ولا يمكنها
القيام بها كما يجب إلا بمعلومات كثيرة تدخل في عدة علوم من أهمها على الصحة ،
ولها أن تتعلم كل علم نافع للبشر وإن لم يكن مفروضًا عليها إذا كان لا يشغلها عن
المفروض من علم وعمل . قلت : وما ظَلَمَ النساء مَن ظَلَمهن من الرجال إلا بسبب امتهان الأقوياء غير
المهذبين بتهذيب الدين للضعفاء ، وذلك شأن كل قوي غير مهذب من ذكر وأنثى مع
من هو أضعف منه حتى الوالدين مع الأولاد ، والعلم قوة يُحترم المتسلح بها بالطبع ،
فتعلم النساء العلم الصحيح النافع يُثمر لهن احترام أزواجهن وغير أزواجهن لهن ،
كما يحترم الوالدان الولد المتعلم المهذب ، ويحتقران أخاه الجاهل الفاسد الأخلاق .
ومما أزيده على ذلك الإجمال في المناظرة أنني قد بيَّنت هذا الموضوع أحسن
البيان في مواضع من المنار أعمها ما قلته وما نقلته عن الأستاذ الإمام في تفسير
قوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } ( البقرة :
228 ) في الجزء الثاني من تفسير المنار وسأذكر بعضه في هذه المقالات .
وأما حق الحياة في المجتمع فقد بيَّنت حكم الشرع فيما ذكره منه ، وهو حق
اختيار الزوج ، وحق الطلاق كالرجل ، وحق صيانة نفسها من ضرر تعدد الزوجات.
قلت : إن الرضا بالزوج حق شرعي قررته السنة الصحيحة للمرأة ، وأن من
قال من الفقهاء بجواز إجبار الأب لبنته البكر على الزواج قد اشترطوا له شروطًا
ولصحته شروطًا منها الكفاءة وعدم العداوة الظاهرة بينها وبين الولي ، وعدم العداوة
الظاهرة أو الباطنة بينها وبين الرجل الذي يراد تزويجها به ، وقرأت أبياتًا فقهية في
هذه الشروط . وأما الطلاق فلو جُعل حقًّا مطلقًا للنساء كالرجال لفسدت البيوت ، وانقطع
سلك نظام ( العائلات ) بالإفراط فيه كما تُحدِّثنا الصحف عن أعظم أمم الغرب مدنية
ولا سيما الأميركان ، على أن للمرأة أن تشترط في عقد النكاح أن يكون أمرها بيدها ،
وهذا الشرط يعطيها حق تطليق نفسها ، وقد فعل هذا كثيرات ، ومن الفقهاء من
أباح للزوجة أن تشترط على الزوج أن لا يضارها بزوج أخرى ، وسنبين هذا في
مقال آخر إن شاء الله تعالى .
وأما حق الامتلاك للنساء كالرجال ، فالشرع الإسلامي فيه أوسع الشرائع
وأرحمها ، ومن رحمته وحكمته أحكام الإرث ، وقد تكلمت في ذلك حتى أسكتني
الرئيس بانتهاء الوقت ، فلا أذكر مما قلته شيئًا في هذا الإجمال ، بل أدعه للتفصيل
تفاديًا من التكرار ، وكذلك الحق السياسي وحسبنا ما كتبناه اليوم .
( يُنظر الجزء التالي )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) وضع هذا العنوان خطأ من لجنة المناظرة لأنه حكم بالباطل في موضوع تطلب المناظرة فيه .
(2) هذا تعليل لقبول الدعوة على شذوذها وعدم لياقة المناظرة بي ، ووجهه أنني أريد إظهار ضلال هذه الآراء في المدرسة الجامعة .
(3) كنت ظننت أنه ينشره , ولعله لم يفعل لما ظهر من قوة حجتنا على بطلانه .
لاأجد بين المقالة الأولى ومقالتنا هذه المرقومة برقم 3، لم أجد رقم2، وقد تأكدت من ملفات الورد
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
مناظرة
في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
( في كلية الحقوق من الجامعة المصرية )
- 3 -
رأي الآنسة هانم محمد
نهضت الآنسة هانم محمد الطالبة في كلية العلوم لتأييد الأستاذ محمود عزمي
في وجوب المساواة
[*] ، فصفق لها الجمهور تصفيق الترحيب والتكريم ، فشرعت
في قول كان مكتوبًا واضطرت إلى الخروج عنه أو الزيادة فيه للرد عليَّ ، فكانت
مظهر الأنوثة المهذبة في خشوع الصوت ولين القول وضعف الحجة ، وحكاية
الأقوال المشهورة في الموضوع ، كقولهم : إن النساء نصف الأمة ، فإذا مُنعن من
العلم والعمل كالرجال كان هذا المنع قضاء على نصف الأمة بالشلل ، وحينئذ يتعذر
عليها العمل ، وضربت مثلاً قول الغربي للشرقي : ( محال يا صاحبي أن تلحقني
وأنا أسير إلى المحطة متكئًا على ذراع زوجتي ، وأنت تسير حاملاً زوجتك على
ظهرك ) .
واحتجت أيضًا بمساواة نساء الفلاحين لرجالهم في جميع الأعمال الزراعية ،
ومثل هذا وذاك ليس في شيء من وجوب المساواة التي هي موضوع المناظرة ،
وإن أُخِذ على ما صوَّرته به ، فجُعل من القضايا المسلّمة ، فالآنسة كانت بحالها
ومقالها وجدالها آية بينة على تفاوت استعدادَيْ الذكر والأنثى وعدم جواز تساويهما
في جميع الحقوق والواجبات .
وأحسن ما قالته بداهة ، وألطفه في الجدال موقعًا ، وأدله على ثبات الجأش
وتعود محاورة الرجال كلمة لها أزالت بها سوء تأثير كلمة قبلها استنكرها السامعون
منها فابتدروها يتنادرون عليها ، فصاح بهم رئيس الجلسة صيحة منكرة ورفع
عقيرته بعذلهم والتثريب عليهم ، وإننا نشير إلى هفوتها ألطف إشارة ، ليدرك
القارئ حسن موقع تلك العبارة .
ذلك أنها أرادت أن تحتج على وجوب المساواة في الحقوق والواجبات
بالمساواة في القوة والحواس والملكات ، فذكرت المساواة في الأعضاء ، بعبارة
ساذجة تسيغها غرارة العذراء ، دون أبناء البلد من الأدباء ، إلا أن تكون بحضرة
النساء ، وكأن الذين اضطربوا لها ، وتهامسوا يتنادرون عليها ، قد راعوا عقيدتها
ومذهبها في مساواتهم ، فجعلوها كواحد منهم ؛ ولكن رئيس الجلسة خالفهم في ذلك
واشتد في الإنكار عليهم كما تقدم ، وهذا دليل على أنه لا يرى وجوب المساواة
المطلقة ولا جوازها .
وبعد أن سكنت الزعازع ، وسكت المنازع ، جهرت الفتاة بكلمتها ملقية إياها
بهدوء وسكينة وهي ( لو كنتم معتادين على الاختلاط لما حدث مثل هذا الضجيج )
وإنما يصح هذا القول في الرجال الذين اعتادوا مخالطة النساء وهم يعتقدون أن ما
بينهم وبينهن من الفرق - بل الفروق - في المدارك والعواطف وغيرها لا يبيح لهم
من الحرية في حضرتهن ما يستبيحونه عادة فيما بينهم ، ولعمري إن الرجل الذي
يتفق له حضور مجلسهن وهو غير معتاد له لأجدر بالأدب والحياء فيه من غيره ؛
وإنما ترجُّل المرأة ومزاحمتها للرجل فيما يعده من خصائص الرجال هو الذي
يُذهب كرامتها النسائية من نفسه حتى يظهر ذلك في معاملته لها ، وقد حدَّثونا عن
ظهور هذه المعاملة لهن في أوربة في هذا العهد الذي قوين فيه على مباراة الرجال
في الكسب ، وزاحمنهم بالمناكب بما اضطرتهم إليه ضرورات الحرب ،
وللضرورات أحكام تُقَدَّر بقدرها ، ولا يجوز أن تتجاوزها فتُجعل أصلاً دائمًا .
كتب بعضهم مقالاً في استقلال المرأة الغربية الاقتصادي الذي انتزعت به حق
الاستقلال السياسي ، فصارت ترى نفسها مساوية للرجل في كل شيء قال فيه :
( يدهش الرجل الشرقي منا إذا زار أوربة ، وكان يسمع أن المرأة عندهم محل كل
تبجيل واحترام- يدهش إذ يرى في قطار مزدحم امرأة تفتش عن محل خال فلا
تراه ، والرجال من دونها قعود لا يخلون لها محالهم ) أي خلافًا للمعهود معهن من
قبل ولا يزال معهودًا عندنا من إيثار الرجل المرأة على نفسه في مكان جلوسه . ثم إن الآنسة طفقت تردُّ عليَّ حتى في إنكار سباحة النساء مع الرجال
ورقصهن معهم ، وكان خيرًا لها لو لم تفعل ، بل كان خيرًا لها وأليق بها أن تقول :
إن هذا إسراف من الفريقين في الشر ، ونحن إنما نريد المساوة في العلم الصحيح
والعمل النافع للأمة ، وإن أطلقته وجعلته عامًّا . وأما الطلاق فقد ذكرتْ في الرد عليَّ أن الرجل كثيرًا ما يرسل إلى المرأة
كتاب طلاقها وهي لا تدري له سببًا ، وأنا لا أنكر وقوع هذا وقبحه ؛ ولكني أقول
لو أعطيت المرأة حق الطلاق أيضًا ، وهي أكثر من الرجل انفعالاً وأسرع هربًا مما
يسوء إذا استطاعت إليه سبيلاً - فإن هذا الطلاق القبيح الضار يتضاعف أضعافًا ،
وهو مخرب البيوت ، ومقطع سلك النظام . رد شوكت أفندي التوني
ولما انتهى وقت الآنسة هانم محمد نهض الشاب الأديب شوكت أفندي الطالب
في كلية الحقوق فاستقبله الشبان بتصدية الفتوة والقوة ؛ لأنه من أفصحهم لسانًا ،
وأقواهم جنانًا ، فاستهل رده عليها بأسجاع فصيحة بدأها بذكر ما كان من عادته
وآدابه في تكريم النساء ومقابلته لمن تلقاه منهن بالاحترام والود ، ونثره بين يديها
زهر النرجس وورق الورد ( وكأنه ذكر ورقه دون زهره اجتنابًا لشوكه وإن كان
هو نفسه شوكة وردية ) وأنه لما رآهن قد شببن عن طوقهن ، وخرجن من قرارة
ضعفهن وضؤولتهن ، اضطر أن يصارحهن بحقيقة حالهن .
وما كاد ينطق بهذه الألفاظ حتى استشاط الرئيس غضبًا ، وألقى عليه من
سماء الرياسة شهبًا ، وحرَّم عليه أن ينطق بمثل هذه الألفاظ التي تخدش منهن
ملمس الكرامة ، فاعترض عليه كثير من الشبان ، وعدُّوا هذا المنع تحكمًا منافيًا
لحرية الكلام ! فأجاب بأنه يحترم الحرية كل الاحترام ، بشرط أن لا تمس الكرامة ،
وتعد من الإهانة .
ثم عاد الخطيب إلى سياق دفاعه ، مصرحًا بطاعته لحضرة الرئيس في
أسلوبه مع إصراره هو على رأيه ، وطفق يرد على الدكتور عزمي أولاً فبيَّن أن
العلماء والأطباء متفقون على أن المرأة أضعف من الرجل جسمًا وعقلاً وأعجز عن
إتقان الأعمال ولا سيما الشاقة ، وأن النابغات منهن لا يبلغن شأو النابغين من
الرجال ولا يقربن منهم ، ولما شرع في التفصيل بدأ بذكر من تولين الملك والحكم ،
فعارضه الرئيس بما بدأ به من وصف مذموم لهن ، رأى أنه لا يليق ذكره في ذلك
المجلس الذي يحضره جماعة العقائل والأوانس ، وهذا مبني على عدم جواز
المساواة بين الرجال والنساء ، فهو يتضمن ترجيحه لرأينا ، وإن استنبط بعض
الحاضرين من جملة مسلكه أنه كان علينا لا على الحياد ، وقد كلمني بعضهم في
ذلك فلم أوافقه عليه ، فانا موافق للرئيس شعورًا ووجدانًا على تقييد حرية اللسان في
مجالس النساء ، بحيث لا يُذكر فيه كل ما يُذكر عادة في مجالس الرجال ، وإن كان
النساء يقبلن مثله وأكثر منه في مجالسهن الخاصة .
وأرى مع هذا الشعور الذي مكَّنته في نفسي التربية والعادات أن النساء
اللواتي يدّعين مساواة الرجال ويناظرنهم في ذلك ويزاحمنهم بالمناكب ، لا يكرهن
أن يقال على مسامعهن كل ما يقال على مسامعهم ، وأن من تكره منهن ذلك أو ترى
فيه امتهانًا لها لا ينبغي لها أن تكون مترجلة ولا طالبة مساواة ، ولا تعذر في
مطالبة الرجل بهذا الأدب معها ، ولا في لومه على تركه وحسبانه إهانة لها .
وجملة القول إن شوكت أفندي ما جاء شيئًا فريًّا في مناظرته ، ولا خرج عن
حد المعقول في نظريته ، ولا تعدى قوانين علمه ( الحقوق ) في مرافعته ، وإنما
خالف فيها شعور الذين يبالغون في التفرقة بين الرجال والنساء ، ومذهب الذين
يحرِّمون تمزيق الحجاب بينهما ولا يبيحون المخالطة المطلقة حتى في الرقص
والسباحة والسياحة والخلوة عملاً بحكم الدين فيهن ، وصيانة لأمزجتهن الرقيقة
وعواطفهن الدقيقة عن مهاب الأهواء التي يخشى عليهن من عواقبها ما هو شر
وأدهى وأمر مما يخشى على الرجال ، وإنما خالف هذا الشعور وهو من أهله ،
وخرج عن جادة هذا المذهب وهو مذهبه ليقنع طوالب المساواة المطلقة وأنصارهن ،
أنها شر لا خير لهن ، وأن أنصارهن لا يطيقون احتمال عواقبها فضلاً عنهن ،
وإلا فلماذا أنكروا على جمهور الشبان انتقاد هفوة الفتاة وهم يعترفون بأنها هفوة ،
ولم يعذروا الفتى فيما أداه إليه اجتهاده من جفوة ؟
وأختم هذا الوصف الإجمالي للمناظرة بانتقاد لجنة المناظرات في الجامعة
على تقصير وقت المتناظرين في الموضوعات الكبيرة ، ذات القضايا الكثيرة ، مع
عدم حصر الموضوع وبيانه لكل منهما قبل الدخول فيها ، وقد اضطر الرئيس
الحافظ للنظام في مناظرتنا إلى منع السامعين من بيان آرائهم في تأييد كل منا
لضيق الوقت ، وضياع طائفة كبيرة منه في الإخلال بالنظام ، وسأتكلم في سائر
فصول هذا المقال في تفصيل ما أجملت من المسائل كما وعدت .
- 4 -
تأثير المناظرة والآراء فيها
لخَّصت في مقالاتي الثلاث الأولى ما دار في مجلس المناظرة ، ثم عرض لي
من الشواغل ما صرفني عن الشروع في التحقيق التفصيلي الذي اقترحه علي بعض
طلاب الجامعة النجباء ، ولا سيما طلاب كلية الحقوق منهم ، وقد زارني في هذه
الأيام بعض الأفاضل من أستاذي المدارس الثانوية والعالية وغيرهم شاكرين
ومهنئين بالفلج والظفر في نصر الحق على الباطل ، والدين على الإلحاد ،
ومستحسنين لنشر الموضوع في جريدة كوكب الشرق ، ومقترحين لنشره في المنار
أيضًا ، وجاءتني مكتوبات وبرقيات في ذلك في بعضها إطراء لي وإغراق في
الطعن والزراية على مناظري ، ورأيت من المتكلمين معي في ذلك من يعتقدون أن
هذه المناظرة كانت ممالأة مدبرة من دعاة الإلحاد والإباحة على الدين ورجاله ،
أعدوا لها عدتهم ، ولم يخبروني بها قبل موعدها بيوم واحد إلا لأخذي على غرة
حتى لا أجد وقتًا للاستعداد ، ولا للاستشارة ، ولا لدعوة من أعلم أنهم على عقيدتي
ورأيي ، وهذا خلاف للمعروف والمألوف وللأدب أيضًا ، وأنه لولا ( طيبة القلب )
لما قبلت ، وأنه كان ينبغي لي أن أدعو إخواني وتلاميذي لحضور المناظرة لتكثير
الأنصار وإن كان الوقت الذي أُعطي لي قصيرًا لا يتسع لرؤية كثير منهم أو
مخاطبتهم بالتيلفون - وأن أشترط إخراج الفتاة من المناظرة ... إلخ .
قلت لأخلص أصدقائي من هؤلاء الذين كلموني في مكتبي : أما إجابة الدعوة
بالقبول فلم يكن منه بدٌّ ولا عنه مندوحة بعد طبع اللجنة لرقاع الدعوة ونشر خبرها
في الصحف ، لما يتوقع لردها من سوء التأويل ، وكثرة القال والقيل .
وأما ما ذكرتم من التدبير والسعي من جماعة الملاحدة فمعقول ، ومن دلائله ما
علمته علم اليقين من توزيع بعض أركانهم لرقاع الدعوة على من يختارون قبل أن
أراها وأن أعلم بموضوعها وموعدها ، ومن براهينه ما صرَّح به مناظري بعد
انتهاء المناظرة لبعض أصحابه من أن فلانًا - من غلاة دعاتهم إلى ترك الشريعة
الإسلامية - هو الذي لقّنه ما قاله في مجلس المناظرة من أن بعض علماء الإسلام -
ويعني نفسه - يقولون : إن جميع أحكام المعاملات الشرعية يجوز للمسلمين تركها إذا
رأوا ذلك من مقتضيات الزمان والمكان ، وأما الذي لا بد منه في الإسلام فهو
العبادات فقط ، ولا يبعد أن يكون من آيات ذلك أنهم لم يرسلوا لي إلا عشر رقاع
من رقاع الدعوة ، بناء على أن حضور المناظرة مباح لا يتوقف على حملها ، وقد
أعطيت بعضها لبعض من قبل من أعضاء مجلس إدارة الرابطة الشرقية عندما
أُلقيت إليَّ ( وعلمت أن بعضهم كان يحمل طائفة منها ! ! ) وبقي سائرها عندي إلى
الآن .
هذا وإنني بعد أن عدت من نادي الرابطة الشرقية إلى الدار رأيت فيها ورقة من
بعض طلبة الأقسام العالية في الأزهر الشريف يطلبون مني أن أضع لهم في مكتبة
المنار طائفة كبيرة من تلك الرقاع ليحضروا المناظرة مؤيدين لي لعلمهم بأنني
أنصر الدين وما شرعه الله تعالى للناس - وكانوا قد أرسلوا إلى المكتبة بعض
إخوانهم لطلب الرقاع قبل أن أعلم بخبرها ، على أنني لم أترك لهم شيئًا من القليل
الذي بقي معي .
ولعل من آيات ذلك التدبير ما ظهر عند أخذ بطائق التصويت ممن حضر
المناظرة من الأزهريين على قلتهم وغيرهم أن أكثرهم لم يُعطوا منها شيئا ، ويمكن
الرد على هذا الاحتمال بأن رئيس الجلسة خاطب جمهور الحاضرين على مسمع منا
بأن من لم يكن أخذ منها قبل المناظرة يمكنه أن يأخذ بعدها ، ولكن تبين أن هذا لم
يكن ممكنًا .
وأما طعن من ذكرت آنفًا على محمود عزمي أفندي نفسه بالإلحاد وسوء النية
فقد شاركهم فيه كثيرون من طلبة الجامعة الذين مشوا معي بعد الخروج من مجلس
المناظرة ، وطعنوا في أستاذ آخر من إخوانه ومدرسي الجامعة وناقشهم في ذلك
بعض الطلبة من القبط ، وأنكروا عليهم رميهم للأستاذين بسوء النية وكونهما
يتقاضيان على الطعن في الإسلام أجرًا ، فرد عليهم الطلبة المسلمون بقولهم : وماذا
يعنيكم منا في دفاعنا عن ديننا وأنتم أقباط لا علاقة لكم بذلك ؟
مع هذا كله ومع العلم بأن بعض الجرائد الإفرنجية انتصرت للأستاذ محمود
عزمي أفندي عليَّ ، وطعنت على الجمهور الذين أيدوني بما يطعن به الإفرنج على
كل مسلم معتصم بدينه - مع هذا وذاك لا أزال مصرًّا على ما كتبته من إعجابي
بحرية الرجل وصراحته وإنصافه فيما صرح به أمامي وأمام غيري من الثناء علي
والإعجاب بما قلت في الرد عليه ، ومنه قوله لي على مسمع من صاحب جريدة
كوكب الشرق ، وعبد الخالق باشا مدكور ، وعبد الله بك البشري في إدارة الكوكب :
إننا نبالغ فيما نطلب للنساء من الحقوق في مقابلة ما نعلم من مبالغة رجال الدين في
هضم حقوقهن لنصل إلى الاعتدال الذي يقول به مثلك ، أو نحن نعلم أنه لا سبيل إلى
إجابتنا إلى كل ما نطلب لأنه من المحال - أو ما هذا مؤداه .
نعم لقد أكبرت من إنصافه في هذا المقال ، وزاد إعجابي به ما علمته من أنه
قال هذا أو ما يقرب منه في مجالس أخرى ، ومنه ما كتبه عنه صديقه صاحب
جريدة الشورى الغراء ، فقد كتب في العدد الذي صدر في 15 شعبان ( ويناير )
خبر المناظرة ، وكان من حاضريها ثم قال في آخر ما كتبه :
( وجاء الأستاذ عزمي ثاني يوم الاجتماع إلى إدارة الشورى مسرورًا مبتهجًا ،
فقلنا وكيف تُسر وقد انتصر عليك السيد رشيد بالأمس ؟ فقال إنني لم أستغرب
هذا وكنت أتوقعه ؛ ولكنني طلبت للمرأة كل شيء ليصرِّح رجال الدين الإسلامي
للمرأة ولو ببعض الشيء ، وقد رأيت أن السيد رشيد كان عظيمًا جدًّا في رده علي ،
إذ أنه أجاد وأحسن ، وكان مثلاً لمشايخ المسلمين ، ولولا الضجة التي قامت في
النهاية لألقيت كلمة في الثناء عليه ) اهـ . فأنا أثني على نيته هذه كما أثنيت على
كلماته المنصفة ، وما رأيت له شبهًا في دعاة الإلحاد إلا زعيمهم السابق الدكتور
شبلي شميل ، فقد كان يعترف بما يظهر له من الحق في المسائل ولو كان مخالفًا
لرأيه ،وأما الإلحاد فهو مجاهر بشر أنواعه وهو التعطيل المطلق لا نبذ الشرائع
الإلهية فقط ، ويروى أنه لما سأله رجال الإحصاء عن دينه قال اكتبوا ( لا ديني )
ويقال إن زوجه اليهودية الأصل مثله .
وقد كثر كلام الناس في رئيس الجلسة النائب المحترم توفيق أفندي دياب
أيضًا فانتقدوا شدته وحدته في الإنكار ، وضعفه في حفظ النظام ، ورموه بالمحاباة
للفريق الموجب لمساواة النساء بالرجال بما حباه من عطف ، على الفريق السالب
بما قابله به وقابل مُظهري الميل له من عنف .
فأما الشدة والحدة ، فقد اعتذر هو عن بوادرها في الجلسة ، وأما الضعف في
حفظ النظام الذي أثار الشدة والحدة ، فسببه شذوذ كثير من حاضري المناظرة في
إظهار ما استحسنوا وما استهجنوا بما لا يبيحه النظام في أثناء المناظرة ، وعدم
طاعتهم له بما به أمر من معروف ، وما نهى عنه من منكر ، فمن لم يسمع منهم
نئيم جرس المدرسة الصغير الذي كان يدقه بيده ، فقد صخ سمعه جرس صوته
الخارج من حنجرته ؛ وإنما سبب هذا الشذوذ كثرتهم وقلة حضور بعضهم لأمثال
هذه المناظرات في مثل هذا المكان ، وعدم تعود ما يلزم فيها من نظام .
وأما المحاباة لخصمنا علينا وإظهار ضلعه معه فلا أوافق لامزيه بتوخيه له ؛
وإنما كان الذي أظهره علنًا هو ما بينته من قبل من استنكاره الشديد لأي مغمز أو
ملمز للنساء جنسهن وأفرادهن ، كاللائي ولين أمر المُلك في غابر التاريخ فيما
حظره على شوكت أفندي حظرًا باتًّا لا هوادة فيه ، وهذا أدل على إنكار فطرته
وذوقه لمساواة النساء بالرجال منه على وجوب المساواة المطلق كما بينته في المقالة
الثالثة ، وكنت أريد الاقتصار على ما تقدم في شأن المناظرة ورئيسها وخصمي فيها ،
بيد أن كثرة كلام الناس فيها وكتابتهم أيضًا أوجبا عليَّ هذا البيان ، وسأشرع غدًا
في التحقيق التفصيلي في الموضوع إن شاء الله تعالى .
التحقيق التفصيلي في موضوعات المناظرة
- 5 -
معنى الحق وموضوعه وأقسامه :
كتبت منذ أربع وعشرين سنة مقالة طويلة عنوانها ( الحق والباطل والقوة )
نشرتها في ( ج1 م9 من المنار الذي صدر في غرة المحرم سنة 1324 ) قلت فيها :
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع ، والباطل هو ما لا
ثبوت أو لا تحقق له في نفسه ، وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يمحق ما كان ثابتًا
متحققًا ، كما هو الشأن في الموجود والمعدوم ، والمعلوم والموهوم ، وهذا مما لا
مجال فيه لاختلاف العقلاء ، إن يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية ،
والدينية والشرعية ، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية ، وفي كل ذلك
حق وباطل . ثم بيَّنت أن الحق والباطل يتنازعان في الفلسفة والنظريات العقلية والوجود
والسنن الكونية ( أي الطبيعية ) والسنن الاجتماعية والقوانين والمواضعات العرفية
والدين والشريعة الإلهية ، وفصَّلت القول في هذه الأمور الكلية تفصيلاً بالبينات
والدلائل . والذي يقتضيه المقام من الكلام في الحقوق هنا أن ما جعله الله تعالى حقًّا
بالخليقة والفطرة لا يدخل في موضوع بحثنا ولا مناظرتنا ؛ لأنه لا نزاع فيه كما
بيَّناه في ردنا على ما سماه مناظرنا ( حق الوجود واستنشاق الهواء ) ومنها ما جعله
الله تعالى حقًّا فيما شرعه لنا من الدين ، وهذا لا يتنازع فيه اثنان ممن يدين الله
بالدين الذي جعله حقًّا ما داموا يؤمنون به ؛ وإنما يجوز لهم التنازع فيما تختلف فيه
أفهامهم من أدلته إذا لم تكن قطعية كما سنبينه ، ولهذا قلنا إن المناظرة التي دعينا
إليها مناظرة بين الدين والإلحاد ، وما أجبنا الدعوة إليها على ما كان من شذوذ لجنة
المناظرة والخطابة معنا فيها إلا للدفاع عن الدين ، وبيان علو حقه على باطل
الملحدين والمعطلين { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ *
لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ } ( الأنفال : 7-8 ) وأما ما يُسمى
حقًّا بالعرف العام أو الخاص أو القوانين الوضعية فإن أهله يلتزمونه ما دام
الاصطلاح والعرف متبعًا والقانون نافذًا ، وقد يكون في نفسه حقًّا بموافقته للمصلحة
وإقامة العدل ، وعدم منافاته لهداية الدين وقطعيات الشرع ، وقد يكون باطلاً
باشتماله على شيء من المفاسد أو الظلم ، فتحسن المناظرة فيه للتمييز بين الحق
والباطل ، وإقناع أهل العرف أو الحكومة الواضعة للقانون بالرجوع إلى ما يقوم
الدليل على أنه هو الحق ، إذ لا يمكن تقرير الحق فيه إلا بإرجاعهما عن اقتناع ،
فأما الحكومات فيسهل إقناعها على العالم بالأصول التشريعية التي تعتمد عليها في
وضع قوانينها ، وأما الأمم فلا بد في إقناعها من معرفة عقائدها وتقاليدها ومراعاتها
في ذلك ، على أن إرجاعها بالعقل عن عرف عام بمجرد إقامة الدليل على كونه
باطلاً أو ضارًّا غير ممكن فلا بد من الاستعانة على ذلك بالتربية والتعليم .
وأما الحق في النظريات العقلية والفلسفة فسبيله أدق ، ومسلكه أعسر ،
والاتفاق عليه أعز ، والذين يقتنعون به أقل ؛ وإنما تفيد هذه النظريات في التقوية
عند بعض الناس دون جمهورهم لما فيها من الخلاف وكثرة المذاهب ، وكدورة
المشارب .
الحقوق العشرة المدعاة للنساء :
بعد هذا التمهيد أقول : إننا إذا لفتنا نظرنا عن تعبيرات مناظرنا الضعيفة ،
ومؤيدته النحيفة فيما سماه حق الوجود واستنشاق الهواء ، وحق الحياة في المجتمع ،
وحصرناه في الحقوق الشرعية والعملية التي تقابل الواجبات ، ألفيناه قد ادَّعى
للنساء الحقوق العشرة الآتية لتحقيق مساواتهن للرجال التي يدعي وجوبها ، وهي :
( 1 ) رفع الحجاب وتمزيق الأستار ( 2 ) الاختلاط بالرجال بلا شرط ولا قيد
( 3 ) تعلم المرأة ما يتثقف به وتثقف غيرها ( 4 ) الاشتراك مع الرجل في تربية
الأولاد ( 5 ) الامتلاك بالإرث والكسب ( 6 ) المساواة بين الذكور والإناث في
الميراث ( 7 ) وجوب الاعتراف بما تشاء ( 8 ) جميع أعمال الحكومة ومصالحها
( 9 ) التصويت في انتخاب المجالس البلدية والتشريعية وغيرها ( 10 ) عضوية
هذه المجالس ورياستها ، هذا ما قرره محمود أفندي عزمي ؛ ولكنه أجمل القول في
الحقوق الانتخابية والتشريعية لانتهاء الوقت المحدد له كغيره . إن بعض هذه الأمور حق لا نزاع فيه ، وبعضها منكر دينًا وشرعًا وعقلاً
وأدبًا وقانونًا وعرفًا ، وبعضها منكر في بعض هذه المناطات للحقوق دون بعض ، ومن العجيب أن مناظرنا الموجب للمساواة بين الجنسين ومؤيدته فيه لم يذكرا
الوظائف الطبيعية التي تخالف فيها المرأة الرجل فتكسبها من الحقوق ما ليس له ، وتفرض عليها من الواجبات ما لا تفرضه عليه كالحمل والولادة والرضاعة ، ولم
يُلما بالسنن الاجتماعية التي هي قوام تكوين الأسرة التي هي قوام تكوين الأمة ،
وهي تقتضي توزيع الأعمال المنزلية وغيرها بين النساء والرجال . ولكن الشرع الإسلامي الذي هو نظام دين الفطرة لم ينسهما ، فأعطى كلاًّ من
الرجل والمرأة من الحقوق وفرض عليه من الواجبات ما يناسب فطرته وقواه
البدنية والعقلية ، وهما وأمثالهما من النساء الثوائر والرجال الثائرين على الدين
المطلق ، يجهلون هذا الدين القويم وهذا الشرع العادل أصوله وفروعه . ألم تر أن محمود عزمي أفندي ، وهو من حملة لوائهم يقول : إننا نطلب للمرأة
كل شيء ليسمح لها رجال الدين ببعض الشيء ، ويقول بعبارة أخرى : إننا نبالغ
ونغلو في حقوقها في مقابلة مبالغة رجال الدين في هضم حقوقها ؟ وهو يخص
علماء الأزهر في هذا بالذكر ، وإن لم ننقله عنه ، وعلماء الأزهر لا يقولون إلا بما
في كتب المذاهب الأربعة المتبعة المشهورة ، وهذه الكتب تبالغ في حقوق النساء
مبالغة لا يعد ما يقابلها من الواجبات عليهن فيها شيئًا ، وسنشير إلى ذلك في محله.. وجملة القول إن الشرع الإسلامي قد أبطل كل ما كان عليه جميع أمم الأرض
من هضم حقوق النساء وإهانتهن واحتقارهن وأعطاهن من الحقوق ما لم يسبق له
نظير في دين ولا شرع ولا عُرف أمة من الأمم ، وما لم يبلغ شأوه فيه قانون مدني
إلى هذا العهد ، وإن هذا الغلو فيهن الذي ابتدع في هذا العهد شر لهن سيظهر فساده
الكبير وضرره الخطير بعد حين . وإننا قبل بيان الحق التفصيلي في ذلك نقول كلمة في معنى الدين ووجه حاجة
البشر إليه ، وما في الاعتصام به من المصالح ، وما في ترك هدايته من المفاسد ،
وما يهدد مصر من الخطر في دعاية الإلحاد والإباحة التي فشت فيها في هذا العهد ،
وموعدنا المقالة الآتية .
هداية الدين وجناية الإلحاد
- 6 -
لا شك في أن الذين يدعوننا إلى المساواة المطلقة بين النساء والرجال حتى
في أحكام المواريث والطلاق ، وإلى إباحة الاختلاط بينهما في كل شيء حتى الرقص والسباحة في البحر - يقصدون بهذه الدعوة أن نترك ديننا وننبذه وراءنا
ظهريًّا ، وربما كان هذا هو المقصد الأصلي لهم وكان ذاك وسيلة له أو مقصدًا
ثانويًّا ؛ فإن هذه الدعوة ليست كدعوة أحد الفساق صاحبًا له إلى شرب الخمر أو
لعب القمار معه ، أو دعوة أحد الأشقياء لآخر منهم إلى مساعدته على سرقة دار أو
قتل نفس ؛ فإن كلاًّ من هذين الفاسقين يعلم أنه يدعو إلى شر محرَّم له فيه منفعة
متوهمة أو مظنونة ، وقد يتوب من العودة إليها في يوم من الأيام ، وربما تلومه
نفسه أو يحيك في صدره استقباح فعله في أثناء اقترافه له ، وهو على كل حال لا
يدَّعي أنه يعمل حسنًا أو أنه يدعو إلى خير . وأما أولئك الدعاة إلى مخالفة الدين حتى فيما هو قطعي من نصوصه ،
ومجمع عليه بين أهله ، فيدّعون أنهم يدْعون الأمة إلى ما هو خير لها وأصلح
لأمورها ، وأنهم لا يريدون على ذلك جزاء ولا منفعة ، ولا يصدقهم أحد من العقلاء
في هذه الدعوى ؛ فإنهم يعلمون أنه لا توجد أمة من الأمم مجردة من الدين ، بل
يعلمون أن الأمم الإفرنجية التي يوهمون الأغرار من الشبان والشواب أنهم يقلدونها
ويتبعون خطوات حضارتها - هي أشد أمم الأرض عصبية لدينها وعناية بنشره ، وأنهم ما أسسوا المدارس الكثيرة في بلادنا إلا لأجل دعوتنا إليه وإدغامنا فيه ، وهم
يبذلون في سبيل ذلك الملايين من الجنيهات على جمعيات الدعوة إليه والتبشير به .
الدين هداية روحية ، لا تتم تربية الأنفس على الأخلاق الكريمة والفضائل
وصدِّها عن الرذائل وتثقيفها بالعمل الصالح بدونه ، لما سنشير إليه في هذا المقال
وطالما بسطناه في التفسير والمنار ، وهم يبغون حرماننا من ذلك كله . الدين رابطة من أقوى الروابط البشرية ، وجامعة من أعظم الجامعات
السياسية ، وفصل من الفصول المنطقية المقومة للشعوب التي يتألف منها أو ينقسم
إليها نوع الإنسان ، ودين الإسلام أقواها في هذه الروابط والجوامع والمقومات ،
فهو يهب كل فرد من أفراده ملايين من الإخوة الروحيين يعطفون عليه ويحنون إليه
في كل قطر من الأقطار التي يقيمون فيها كما جرَّبنا ذلك في سياحاتنا الواسعة ، وهؤلاء الدعاة إلى الإلحاد يريدون حرماننا من هذا كله .
الدين حاجة من حاج الفطرة البشرية ، بل ضرورة من ضروراتها الاجتماعية ،
بل غريزة من غرائزها النفسية ، فإن اختلف بعض الحكماء في بعض هذه الثلاث ،
فلن يتفقوا على إنكارها كلها ، وقد قال حكيمنا الإسلامي المصري الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده قدَّس الله روحه في رسالة التوحيد : ( فبعثة الأنبياء صلوات الله
عليهم من متممات كون الإنسان ومن أهم حاجاته في بقائه ، ومنزلتها من النوع ،
منزلة العقل من الشخص ) .
وجد أفراد من البشر في أمم مختلفة اهتدوا بعقولهم إلى كثير من الفضائل
والآداب ودعوا إليها وهم الذين يسمون الحكماء ؛ ولكنهم لم يبلغوا من القداسة
والهداية أدنى ما بلغ الأنبياء ، ولم تهتد أمة من الأمم وتصلح وتتهذب بعلوم أحد
منهم وفلسفته ، كما اهتدت كل أمة باتباع رسول الله إليها ما دامت متبعة له ،
وهؤلاء الملاحدة يتوخون إبعادنا عن هذه الهداية .
إن من أصحاب العلم الناقص كثيرًا من المعجبين بعلوم هؤلاء الحكماء
القاصرين عن إدراك علو رتبة الأنبياء عليهم ، إذ لم ينقل عن الأنبياء من العلوم
والفنون الكسبية ما نُقل عنهم ؛ ولكن الحكماء المهتدين بالدين الذين يعقلون ما له من
العلو والسلطان على العقول وعلومها الكسبية يدركون ذلك .
كان للفيلسوف الإسلامي الأكبر الرئيس أبي علي بن سينا ( الذي لُقِّب المعلم
الثاني عند من يُلقِّبون فليسوف اليونان الأكبر أرسطو بالمعلم الأول ) خادم ذكي
لزم خدمته في السفر والحضر لإعجابه بعلومه ومعارفه الواسعة ، حتى إنه كان
يفضله على الرسول الأعظم ومصلح البشر الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم ،
وكان لا يخجل من مصارحته بذلك ومكاشفته بتعجبه منه لاتباعه لمن يزعم هو أنه
دونه ، فصبر عليه الفيلسوف إلى أن وجد فرصة لإقناعه بضلاله .
ذلك أنه كان في أصفهان في ليلة من ليالي الشتاء الشديدة البرد ، فأيقظه من
نومه ليأتيه بماء يتوضأ به ، فاعتذر لكسله وتألمه من البرد بأن الليل لا يزال طويلاً ،
فأيقظه مرة ثانية فاعتذر ، فأيقظه الثالثة في وقت آذان الصبح إذ كان المؤذن
يقول : أشهد أن محمدًا رسول الله . وسأله : ما هذا الذي نسمع ؟ قال : الأذان ، قال :
ماذا يقول المؤذن ؟ قال : أشهد أن محمدًا رسول الله ، قال له الرئيس حينئذ ما معناه :
لقد آن لي أن أفهمك الفرق بيني وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستمع لما أقول : إنني لم أر أحدًا من الناس معجبًا بي كإعجابك وأنت خادمي وأنا
أدعوك في داخل الدار لإتياني الماء المرة بعد المرة ، وأنت تخالفني وتعتذر لي ،
وهذا المؤذن الفارسي يقف في هذا البرد القارس في أعلى المنارة يشيد بالشهادة
لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة احتسابًا لوجه الله تعالى بعد وفاته بزهاء
أربعمائة سنة ، فتاب ذلك الخادم المغرور وأناب ؛ ولكن ملاحدة زماننا لا يتوبون بمثل حجة الرئيس ابن سينا ، ولا بما هو أنصع منها ، ولا يعقلون سر سلطان
النبوة على الأنفس .
وأراني ههنا قد وجدت مناسبة قوية لبيان حقيقة يجهلها هؤلاء المغرورون
ببعض قشور الفلسفة التقليدية لبعض علماء الإفرنج ، وهي أن الدين لم يكن له من
التأثير في هداية البشر وإصلاحهم ما ليس للعلوم والفلسفة البشرية إلا لأن مصدره
السلطان الإلهي الأعلى الذي هو فوق قوى البشر العقلية والحسية ، ذلك بأن الإنسان
يشعر بغريزته أن كل ما هو تحت إدراك عقله ومشاعره فهو دونه ، وهو لا يدين
لما هو دونه ولا لمن هو مثله ؛ وإنما يدين لمن هو فوقه لا في شخصه فقط ، بل
في نوعه وجنسه الأعلى ذي السلطان الغيبي الذي يشعر به وجدانه ، ولا يحيط به
عقله وجنانه ، وهو لا يتم تهذيبه وصلاحه بإقناع أمثاله من البشر له باتباع الحق
والهدى وترجيحهما على الباطل والهوى ، إن أمكن هذا الإقناع ، ووقع عليه
الإجماع ، فكيف إذا اختلفت فيه الآراء ، وعصفت بأهلها الأهواء ، كدأب البشر في
كل آرائهم ونظرياتهم في الآداب والسياسة وشؤون الاجتماع ، قلما يتفقون وقلما
يعملون بما يتفقون على حسنه إذا خالف شهواتهم النفسية ، أو عارض مصالحهم
القومية أو الدولية ؛ وإنما تذعن الأنفس البشرية للحق إذا كان إيمانًا وجدانيًّا ، وتقف
عند حدود الفضائل إذا كان وضعها وحيًا إلهيًّا ، وتطيع الأمر بالخير والنهي عن
الشر إذا كان الوازع فيهما نفسيًّا ، ولا معنى للدين إلا هذا ، ولهذا لا يكون إلا
وضعًا إلهيًّا ، وقد وضع بعض فلاسفة أوربة قواعد جميلة معقولة سموها الديانة
الطبيعية ؛ ولكن لم يتدين بها أي شعب من شعوبها ولا فرد من أفرادها .
( للمقالات بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) يجب أن تعلم هذه الفتاة هي وأهلها أنها إذا كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه المساواة ،
وتنكر حقية ما قرره الإسلام وحسنه ، فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها ولا ترث المسلمين ولا
يرثونها .
الكاتب : محمد رشيد رضا مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
الرد التفصيلي في موضوع المناظرة
- 7 -
سلطان الدين الأعلى
إن الشعور بقوة فوق قوى الطبيعة ، وسلطان غيبي أعلى من نواميس الخليقة ،
وجدان غريزي في أنفس البشر ؛ لذلك كانوا ولا يزالون يخضعون خضوع التعبد
لكل ما يظهر لهم أنه صادر عن ذلك السلطان الغيبي الأعلى لمخالفته السنن
الطبيعية ومجيئه على غير نظام الأسباب والمسببات ؛ وإنما يخطئون أحيانًا في
التمييز بين الحقيقي والوهمي من خوارق العادات ، فالأول كالآيات التي أيَّد الله
تعالى بها أنبياءه المرسلين ، والثاني كالمصادفات والسحر وشعوذة الدجالين ،
وأشهر الأمثلة لهما الآيات التي أيَّد الله بها نبيه موسى عليه السلام ، والتخيلات
الصناعية التي جاء بها سحرة فرعون .
ولما كانت تلك الآيات الكونية لا يؤمن بها إلا من شاهدها مدركًا للفرق بينها
وبين السحر والشعوذة ، ومن ثبت عنده الأمران بالتواتر القطعي ، ولما كان اجتماع
الأمرين عزيزًا نادرًا بعد طول الزمان ، وكان ذلك محتملاً للشك والتأويل والاحتمال ، جعل الله تعالى آية خاتم النبيين حسية عقلية ، دائمة باقية ، وجعل دلالتها على
رسالته علمية برهانية ، ألا وهي ظهور أعلى العلوم الإلهية ، والقواعد الأدبية ،
وأرقى الأصول التشريعية ، من سياسية ومدنية وشخصية ، وأنفع الوصايا الصحية ،
وأصلح السنن الاجتماعية ، والإرشاد إلى العلوم الصحيحة ، وأبلغ الحكم العقلية ،
والمواعظ التاريخية ، في كتاب معجز للبشر بأسلوبه ونظمه وتأثيره وهدايته وبلاغته ، واشتماله على أخبار الغيب الماضية والحاضرة والمستقبلة ، وكون هذا
كله جاء على لسان نبي أمي لم يقرأ قبل هذا الكتاب سطرًا ، ولا نظم شعرًا ، ولا
ارتجل خطبة ، ولا نطق بحكمة . وقد جاءه هذا كله دفعة واحدة بعد بلوغ أشده ،
واستكماله للأربعين من عمره ، ثم كان من تأثيره في قلب نظام الكون كله ،
واستيلاء قومه الأميين بهديه وتأثيره على أعظم أمم الأرض ودولها علمًا وحضارة
وقوة وثروة ، حتى صاروا يدخلون في دينه أفواجًا ... إلخ ، فأي برهان على
الوحي الإلهي والتشريع السماوي أظهر وأبهر وأنور وأقهر للقلوب والعقول من هذا ؟ من أعظم ما انفرد به هذا التشريع الإلهي دون سائر الشرائع السماوية
والأرضية - إبطال ظلم جميع البشر وتحقيرهم للنساء وهضمهم لحقوقهن فيما
سنبين نماذجه العليا في مقالاتنا هذه ، ولو لم يكن منه إلا قوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( البقرة :
228 ) وإلا قول نبيه صلوات الله وسلامه عليه في تربيتهن وتعليمهن ( أيما رجل
كانت عنده وليدة فعلَّمها فأحسن تعليمها ، وأدبها فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها
فله أجران ) رواه الإمام أحمد و البخاري و مسلم وأصحاب السنن إلا أبا دواد من
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وإلا قوله صلى الله عليه وسلم في
تكريمهن : ( ما أكرم النساء إلا كريم ، وما أهانهن إلا لئيم ) رواه ابن عساكر من
حديث علي كرَّم الله وجهه - لو لم يكن إلا هذا وذاك لكفى تفضيلاً للإسلام على
جميع الشرائع والقوانين ، وإذا لم يكن هذا الإصلاح العظيم وحيًا لذلك النبي الأمي
فمن أين جاء ؟ ولكن هؤلاء الملاحدة يدعوننا إلى نبذ هذا الإصلاح الذي تخضع له أنفس
المؤمنين سرًّا وجهرًا متى علموه وتربوا عليه ، وإلى تقليد البلاشفة وأمثالهم من
ملاحدة الإفرنج وممن سرت إليهم عدواهم وهم يئنون منها ، ويود حزب تجديد
الإلحاد والإباحة لو يزجوننا فيها . مع هذا كله نرى السواد الأعظم من شعوب أوربة كلها يخضعون لغير
المعقول من الدين مما ليس له نظير في الإسلام كالتثليث وألوهية المسيح واستحالة
الخبز والخمر إلى لحمه ودمه حقيقة لا مجازًا ، بل يخضع الملايين منهم للخرافات
الوهمية باسم الدين كالعين المقدسة التي يزعمون أنها تشفي المرضى في فرنسة .
نعم إن هذه العقائد وأمثالها كانت سببًا لكثرة الإلحاد في أوربة ، ولرواج
الأفكار المادية التي أفسدت الأخلاق ، وقوَّضت أركان الفضائل حتى في المتدينين ، كما كان سلطان البابوات الشديد الوطأة على العقول والأبدان والحكام سببًا لما نجم
في القرون الوسطى من قرون الإلحاد ، ولحدوث ما يسمى مذهب الإصلاح ، وقد
بلغ طغيان الأفكار المادية والإسراف في الشهوات البدنية حدهما الأقصى في أثناء
حرب المدنية الأخيرة وبعدها ، ثم طفق الناس هناك يتلمسون هداية الدين للخروج
من هذه الفوضى التي دمرت تلك القيصرية الروسية الواسعة بالحكم البلشفي أو
كادت ، فالحكومة البلشفية هي الدولة الوحيدة التي تُكره الشعوب المقهورة بقوتها
على ترك أديانهم ، وإباحة الفجور لنسائهم ورجالهم ، وقطع أسلاك عقود الزوجية ،
ونثر ما كان يجمعه نظامها من أفراد الأسرة ، وجعل القول للمرأة فيمن تلصق به
ولدها ، فالقانون البلشفي يجبر كل رجل على نفقة من تلصقه به من أولادها [1]
فعظمت الخطوب ، وتفاقمت الكروب ، واستشرى الفساد ، وخرب كثير من البلاد ،
وهلك الملايين من العباد ، وحل الرعب في كبريات الدول ، أن تسري إلى شعوبها
عدوى هذا الخلل ، وصارت كل حكومة من حكومات الأرض تضرب الحَجْرَ
السياسي لمنع هؤلاء الناس من دخول بلادها ، وتخشى من عاقبة تفلت أحدهم أشد
مما تخشى من المصاب بأشد الأمراض الوبائية أن يندس فيها ، إذ لا عاصم من
عدواها إلا الاعتصام بالدين ، وقد كادت تنقسم عروته بالفوضى الأدبية ، وشعر
العلماء والحكماء وكذا الحكام بوجوب تجديد هدايته ، وطفقوا يؤلفون الجمعيات
ويصنفون الكتب في ذلك ، وقد ذهبوا فيه خمسة مذاهب : مذهب العصريين ،
ومذهب الأصوليين ، ومذهب الروحانيين ، ومذهب العلم المسيحي ، ومذهب
الكاثولوكية البابوية .
يجد القارئ بيان هذه المذاهب في الجزء الثالث من مجلد المنار الثلاثين ( أي
مجلد هذا العام الهجري ) وإنما نقول بالإجمال : إن العصريين يرجحون استقلال
العقل في العقائد ويلتزمون تعاليم الكنيسة في الأمور الأدبية والمواعظ ، وقد كثروا
بعد الحرب في بلاد الإنكليز ، وأما الأصوليون فيرجعون في الدين إلى عقائد أهل
القرن السابع عشر وهو التسليم والإذعان لنصوص التوراة بظواهرها حتى
التاريخية ، ورد كل ما يخالفها من أحكام العقل ومقررات العلم ولا سيما مذهب
النشوء والارتقاء ، وأكثر أتباع هذا المذهب في الولايات المتحدة ، وأما الكتب التي
يؤلفونها فمنها ما هو مدح في الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما
هو في التنفير عنه خوفًا من انتشاره ، ومنها ما هو نفي لألوهية المسيح ، وتفصيل
هذا كله في المنار .
أَفَلَسْنَا نحن المسلمين أحق وأجدر باتباع نصوص ديننا القطعية ، وكلها موافقة
للعقل والعلم والمصلحة ، وباتباع الراجح من نصوصه الظنية الاجتهادية أيضًا ،
وهي واقية لنا من مفاسد البلشفية ، ونزعات المادية ، ومفاسد الإباحية ، وحافظة
لصحتنا الجسدية ، وفضائلنا النفسية ؟
أوليست مصر أولى البلاد الإسلامية بالاعتصام بهذا الدين القويم من سائر
الأقطار الإسلامية ؛ لأن لها فيه من الفوائد والمصالح الدينية والأدبية والسياسية
والاقتصادية ما ليس لغيرها ؟
بلى ، إن مصر مرشحة بل مرجحة بعد سقوط الدولة العثمانية لزعامة العالم
الإسلامي من مشرقه إلى مغربه ، وهؤلاء الملاحدة يريدون حرمانها من هذه
الزعامة بما يبثون فيها من دعاية الإلحاد الذي يضرها ولا يفيد إلا الأجانب
الطامعين فيها . بلى ، إن مصر كانت مع وجود الدولة العثمانية زعيمة الأمة العربية في لغتها
وعلومها الأدبية والدينية ، وهؤلاء الملاحدة يريدون إسقاطها من هذه الزعامة بالطعن في اللغة العربية ، والآداب العربية ، والثقافة العربية ، والمدنية العربية
والديانة العربية ، ويحاولون أن يبتدعوا لها ثقافة أوربية ومدنية فرعونية ، ولو كان
للفراعنة لغة حية مدونة لقلدوا الترك بوجوب استبدالها باللغة العربية ، وتحريم تعلم
اللغة العربية ! فانظروا أيها المسلمون الغافلون فيما يريده منكم هؤلاء الملحدون
الإباحيون ، وما يظاهرهم به إخوانهم المنافقون { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } ( النساء : 89 ) { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ
أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } ( المجادلة : 19 ) وإن حزب الله هم
المفلحون .
***
حكم الله في المساواة بين الرجال والنساء
- 8 -
أبدأ هذا الرد التفصيلي بالكلام العام في موضوع المساواة الذي فسرت به الآية
الكريمة التي ذكرتها في المقالة السابقة ، وقد كنت نشرته في الجزء العاشر من مجلد
المنار الثامن الذي صدر في جمادى الأولى سنة 1323 ( يوليو1905 ) أي قبل أن
تُخلق الآنسة هانم محمد ، وقبل أن يصير محمود عزمي كاتبًا ، وهذا نصه نقلاً عن
الجزء الثاني من التفسير مع اختصار قليل ، قال تعالى :
{ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } ( البقرة :
228 ) .
هذه كلمة جليلة جدًّا جمعت على إيجازها ما لا يؤدَّى بالتفصيل إلا في سفر
كبير ، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرًا
واحدًا عبر عنه بقوله : ] وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [ وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى :
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } ( النساء : 34 ) الآية ، وقد أحال في معرفة ما لهن
وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم ، وما
يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم ، فهذه الجملة
تعطي الرجل ميزانًا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال ، فإذا هَمَّ
بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه ، ولهذا قال ابن عباس
رضي الله عنهما : ( إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية ) .
وليس المراد بالمثل المثل لأعيان الأشياء ؛ وإنما أراد أن الحقوق بينهما
متبادلة وأنهما أكفاء ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا للرجل عمل يقابله لها ،
إن لم يكن مثله في شخصه ، فهو مثله في جنسه ، فهما متماثلان في الحقوق
والأعمال ، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل ، أي أن كلاًّ
منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه ، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به ، ويكره
ما لا يلائمه وينفر منه ، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدًا
يستذله ويستخدمه في مصالحه ، لا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة
المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه .
قال الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه : هذه الدرجة التي رُفع النساء إليها لم
يرفعهن إليها دين سابق ، ولا شريعة من الشرائع ، بل لم تصل إليها أمة من الأمم
قبل الإسلام ولا بعده ، وهذه الأمم الأوربية التي كان مِن تَقَدُّمها في الحضارة
والمدنية أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم
والفنون - لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها ، ولا تزال قوانين
بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها .
وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة
عشر قرنًا ونصف ، وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في
كل شيء ، كما كن في عهد الجاهلية عند العرب أو أسوأ حالاً ، ونحن لا نقول إن
الدين المسيحي أمرهم بذلك ؛ لأننا نعتقد أن تعليم السيد المسيح لم يخلص إليهم كاملاً
سالمًا من الإضافات والبدع ، ومن المعروف أن ما كانوا عليه من الدين لم يُرَقِّ
المرأة ؛ وإنما كان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي .
وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن
النساء يفخرون علينا ، بل يرموننا بالهمجية في معاملة النساء ، ويزعم الجاهلون
منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا .
ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أن أحد السائحين من الإفرنج زاره في الأزهر
وبينا هما ماران في المسجد رأى الإفرنجي بنتًا مارة فيه فبهت وقال ما هذا ؟ أنثى
تدخل الجامع ! ! فقال له الإمام : وما وجه الغرابة في ذلك ؟ قال : إننا نعتقد أن
الإسلام قرر أن النساء ليس لهن أرواح ، وليس عليهن عبادة فبين له غلطه وفسَّر له
الآيات فيهن ، قال : فانظروا كيف صرنا حجة على ديننا ، وإلى جهل هؤلاء الناس
بالإسلام حتى مثل هذا الرجل الذي هو رئيس لجمعية كبيرة فما بالكم بعامتهم ؟
إذا كان الله قد جعل للنساء على الرجال مثل ما لهم عليهن إلا ما ميزهم به من
الرياسة ، فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة أن يعلموهن ما يمكِّنهن من
القيام بما يجب عليهن ، ويجعل لهن في النفوس احترامًا يعين على القيام بحقوقهن
ويسهل طريقه ، فإن الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدبًا عالمًا بما يجب عليه
عاملاً به ، ولا يسهل عليه أن يمتهنه أو يهينه ، وإذا بدرت منه بادرة في حقه رجع
على نفسه باللائمة فكان ذلك زاجرًا له عن مثلها . خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات
والمعاملات ، كما خاطب الرجال ، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن ،
وقرن أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة ، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم
المؤمنات كما بايع المؤمنين ، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم ، وأجمعت
الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا
والآخرة ، أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمن من العلم بما عليهن من الواجبات
والحقوق لربهن ولبعولتهن ولأولادهن ولذي القربى وللأمة والملة ؟ العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجه النفس إليه ؛ إذ يستحيل أن تتوجه
إلى المجهول المطلق ، والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببًا
للعناية بفعله والتوقي من إهماله ، فكيف يمكن للنساء أن يؤدين تلك الواجبات
والحقوق مع الجهل بها إجمالاً وتفصيلاً ؟ وكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة
نصفها كالبهائهم لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا للناس ؟ والنصف الآخر
قريب من ذلك ؛ لأنه لا يؤدي إلا قليلاً مما يجب عليه من ذلك ، ويترك الباقي ومنه
إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه أو إلزامه إياه بما له عليه من
السلطة والرياسة .
إن ما يجب أن تعلمه المرأة من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود ؛ ولكن ما
يُطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات-
إن كانت في بيت غنى ونعمة - يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال ، كما
يختلف بحسب ذلك الواجب على الرجال ، ألا ترى الفقهاء يوجبون على الرجال
النفقة والسكنى والخدمة اللائقة بحال المرأة ؟ ألا ترى أن فروض الكفايات قد
اتسعت دائرتها ، فبعد أن كان اتخاذ السيوف والرماح والقسي كافيًا في الدفاع عن
الحوزة صار هذا الدفاع متوقفًا على المدافع والبنادق والبوارج ، وعلى علوم كثيرة
صارت واجبة اليوم ، ولم تكن واجبة ولا موجودة بالأمس ؟ ألم تر أن تمريض
المرضى ومداواة الجرحى كان يسيرًا على النساء في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم وعصر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم ، وقد صار الآن متوقفًا على تعلم فنون
متعددة وتربية خاصة ؟ أي الأمرين أفضل في نظر الإسلام ؟ أتمريض المرأة
لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرضة أجنبية تطلع على عورته ، وتكتشف مخبآت
بيته ؟ وهل يتيسر للمرأة أن تمرض زوجها أو ولدها إذا كانت جاهلة بقانون
الصحة وبأسماء الأدوية ؟ نعم يتيسر لكثيرات قتل مرضاهن بزيادة مقادير الأدوية السامة ، أو جعل
دواء مكان آخر .
( وقد ذكرنا في التفسير ههنا كلامًا للمحدثين والفقهاء في حقوق كل من
الزوجين على الآخر ، كقول الأكثرين إن المرأة لا يجب عليها للرجل غير الطاعة
في نفسها دون خدمة الدار ، ورده بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنته فاطمة بخدمة
البيت ، وبأمر علي بما كان في خارجه ، وجزم بعض المحققين من الحنابلة أن ذلك
يرجع إلى عرف الناس ، ثم قلنا ) .
وما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم بين بنته وربيبه وصهره ( عليهما
السلام ) هو ما تقضي به فطرة الله تعالى ، وهو توزيع الأعمال بين الزوجين :
على المرأة تدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه ، وعلى الرجل السعي والكسب
خارجه ، وهذا هو المماثلة بين الزوجين في الجملة ، وهو لا ينافي استعانة كل
منهما بالخدم والأُجراء عند الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه ، ولا مساعدة كل منهما
للآخر في عمله أحيانًا إذا كانت هناك ضرورة ، ورأوا ذلك هو الأصل والتقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس ، وهم لا يستغنون في ذلك ولا في غيره عن
التعاون { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ( البقرة : 286 ) { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ } ( المائدة : 2 ) وما قاله
الشيخ تقي الدين وما بيَّنه في الإنصاف من الرجوع إلى العرف لا يعدو ما في الآية
الشريفة قيد شعرة .
وإذا أردت أن تعرف مسافة البعد بين ما يعمل أكثر المسلمين وما يعتقدون من
شريعتهم ، فانظر في معاملتهم لنسائهم تجدهم يظلمونهن بقدر الاستطاعة لا يصد
أحدهم عن ظلم امرأته إلا العجز ، ويحملونهن ما لا يحملنه إلا بالتكلف والجهد ،
ويكثرون الشكوى من تقصيرهن ، ولئن سألتهم عن اعتقادهم فيما يجب لهم عليهن
ليقولن كما يقول أكثر فقهائهم إنه لا يجب لنا عليهن خدمة ولا طبخ و لا غسل ولا
كنس ولا فرش ولا إرضاع طفل ولا تربية ولد ولا إشراف على الخدم الذين
نستأجرهم لذلك ، إن يجب عليهن إلا المكث في البيت والتمكين من الاستمتاع ،
وهذان الأمران عدميان ، أي عدم الخروج من المنزل بغير إذن ، وعدم المعارضة
بالاستمتاع ، فالمعنى أنه لا يجب عليهن للرجال عمل قط ، بل ولا للأولاد مع
وجود آبائهم . وأما قوله تعالى : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } ( البقرة : 228 ) فهو يوجب
على المرأة شيئًا ، وعلى الرجل أشياء ، ذلك أن هذه الدرجة هي درجة الرياسة
والقيام على المصالح المفسَّرة بقوله تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ
اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ( النساء : 34 ) فالحياة الزوجية
حياة اجتماعية ولا بد لكل اجتماع من رئيس ؛ لأن المجتمعين لا بد أن تختلف
آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس
يُرجع إلى رأيه في الخلاف ، لئلا يعمل كل على ضد الآخر ، فتنفصم عروة الوحدة
الجامعة ويختل النظام ، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على
التنفيذ بقوته وماله ، ومن ثم كان هو المطالب شرعًا بحماية المرأة والنفقة عليها ،
وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف ... إلخ . انتهى ما أردنا نقله من تفسيرنا للآية .
***
مسألة المساواة في الميراث
- 9 -
أول من ابتدع الدعوة إلى المساواة بين الذكران والإناث في الإرث وغيره شاب قبطي اسمه سلامة موسى اشتهر عنه شدة البغض والشنآن للإسلام وللعرب ؛
لأنهم فتحوا بلاده وجعلوها إسلامية عربية ، وكان يفضل على ذلك أن تظل خاضعة
للرومان المسيحيين على ظلمهم لقومه القبط ، وما هو معلوم بالتواتر من عدل العرب
فيهم الذي لولاه لم يدخلوا في الإسلام أفواجًا بمحض اختيارهم حتى كان هذا سببًا
لتبرم بعض عمال المسلمين بذلك وشكواه منه للخليفة الأموي العادل عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه بتقليله مال الجزية فأجابه عمر بتلك الكلمة المأثورة التي
تشبه كلمات جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي ( أن محمدًا صلى الله
عليه وسلم بُعث هاديًا ولم يبعث جابيًا ) فلهذا البغض والشنآن للعرب والإسلام -
ولسبب آخر يتعلق بالمبشرين كما يقال - أخذ سلامة موسى عهدًا على نفسه أن
يطعن فيهما ، وينفر مسلمي مصر ويصدهم عنهما ، بالدعوة إلى الإلحاد تارة وإلى
الاندغام في الإنكليز تارة ، وآخر ما رأيناه له دعوتهم إلى دين البابية البهائية الذين
جعلوا أساس دينهم القول بألوهية بهاء الله المدفون في عكا ، وعبادته ، وغرضه من
هذا تحويل المسلمين عن الإسلام ، ولو إلى عبادة الشيطان ، وقد راجت دعايته
الإلحادية عند بعض الملاحدة من المسلمين بعنوان التجديد فشايعوه عليها عدة
سنين [2] ؛ ولكننا نراهم في هذه الأيام قد شعروا أنهم مخطئون خاطئون ، إلا قليلاً
منهم لا يزالون مخدوعين .
منذ سنتين ألقى سلامة أفندي موسى محاضرة في جمعية الشبان المسيحيين !
بدعوى وجوب مساواة المرأة للرجل في الإرث أينما كان مصدره بناءً على أن
الإسلام ظلمها بتفضيل الرجل عليها ، ثم تمكَّن من نشر هذه الدعاية الباطلة في
مجلة الرابطة الشرقية في العام الماضي حتى اضطر رئيس الجمعية إلى الرد عليه
فيها ، وكاد هو وأمثاله يُحْدِثون في الجمعية شقاقًا يقضي عليها ، وقد ردَّ عليه
كثيرون في ذلك الوقت وأخلفت ظنه ( جمعية الاتحاد النسوي المصري ) إذ حاول
إغواءها بإغرائها بالمطالبة بهذه المساواة فكتبت هدى شعراوي هانم يومئذ ردًّا عليه
نشرته في الجرائد صرَّحتْ فيه بأنه ليس من موضوع هذه النهضة النسائية الخروج
عن الشريعة أو عليها بتغيير أحكام الإرث في الإسلام .
ثم إن محمود عزمي أفندي من زملائه أعاد هذه الدعاية في مناظرته لنا في
كلية الحقوق من الجامعة المصرية ، واستند فيها إلى شبهات عاطلة ، ودعاوى
باطلة ، بيَّنا فسادها هنالك بالبرهان ، وأيَّدنا فيها الرأي الإسلامي العام ، وأنكر
الأمير عمر طوسون باشا الشهير على الحكومة السماح للملاحدة بمثل هذا الجهر في
الطعن على الإسلام والدعوة إلى ترك نصوصه القطعية في مدارسها الرسمية وهي
حكومة إسلامية ، وكتب بذلك إلى سعادة وزير المعارف وهو وزير متدين ولله الحمد ،
لا يسمح بما كان يسمح به غيره من قبل .
بيد أننا رأينا بعد هذا كله قبطيًّا آخر كاثوليكيًّا يقدِّس نصوص الكتب السماوية
سواء أكانت معقولة أم غير معقولة ، وهو لم يشتهر بالإلحاد ، ولم نعرف عنه قبل
اليوم طعنًا في الإسلام ، قام يعزز سلامة موسى ومحمود عزمي في الغلو في مسألة
مساواة النساء للرجل ، فجهر بمسألة وجوب مساواة الميراث في محاضرة ألقاها في
الجامعة الأميركانية التبشيرية محتميًا بما لها من الامتيازات الأجنبية ، فكان أشد
قذعًا وفحشًا في الطعن على الإسلام وعلى المتدينين به ، واستهزاء بمن أنكر حق
النساء في هذه المساواة منهم من أمير ووزير وعالم نحرير ( وهو الدكتور فرج
ميخائيل ) .
ولم يكتف بالجهر بهذا السوء باللسان ، بل طبعه لتعميم الدعاية في البلاد ، قد
بدهه بعض الشبان المسلمين بالإنكار في وجهه عند التصريح بهذه المسألة ، ثم ذهب
أفراد منهم إلى مكاتب جميع الجرائد اليومية فأخبروها بما كان ، ومنهم من كتب
إليها بالرد والإنكار ، فأجمعت على استقباح ذلك واستفظاعه ، ثم دعته النيابة العامة
للتحقيق معه تمهيدًا للحكم عليه بما يستحقه جرمه ، وكانت فعلته داعية لسؤال بعض
نواب الأمة حكومتها في المجلس : ماذا فعلت في مقاومة هذا الهجوم على دين الأمة
وحكومتها ، الذي يخشى أن يكون موقدًا لنار الشقاق الديني فيها ؟
إننا ندع هذا المتهور وشأنه مع الحكومة ، فلا نتصدى للبحث في العقاب
القانوني الذي يستحقه ، ونختص بكلامنا ما يجب علينا شرعًا من الدفاع عن ديننا
في جملته ، وتحذير المسلمين من دسائس الطاعنين به ، ومن تفنيد شبهاتهم على ما
يدعون من ظلم الإسلام للنساء في هذه المسألة وغيرها .
أول ما أقوله في الواجب الأول : إن أمر الدين ليس كأمر القوانين والعرف
القومي في جواز وضع نصوصه موضع البحث والنظر لنترك ما لا نستحسنه منها
ونُبقي ما نستحسنه ، بل مقتضى الدين عند جميع الأمم أن يخضعوا ويدينوا لله
تعالى بقبول كل ما هو قطعي منه كما هو ، سواء أدركوا وجه حسنه ومنفعته أم لا ،
فشأنهم فيه كشأن المريض مع الطبيب النطاسي الماهر يقبل قوله في مرضه وما
يصف له من الدواء من غير أن يقيم له الدلائل والبراهين على فائدة الطب وعلى
وجوب جعل الدواء مركبًا من أجزاء معدودة ، على نسب بينها محدودة ، هذا مع
القطع بأن الأطباء كثيرًا ما يجهلون حقيقة المرض ، وكثيرًا ما يُخطئون في وصف
الدواء له ، وأن طبيب الأرواح والاجتماع بهداية الدين وأصول الشرع هو الله
المنزَّه عن الجهل والخطأ ، وإنما يجوز للناس أن ينظروا في أدلة الأحكام الدينية
للتمييز بين القطعي منها وغير القطعي وعن حكمة التشريع والمصلحة التي أناط بها
الشارع الحكم .
حضرت منذ ثلاثين سنة ونيف مجلسًا من أرقى مجالس أركان النابغين من
هذه الأمة في دار المرحوم سعد باشا زغلول في حي الظاهر كان منهم أحمد فتحي
زغلول وقاسم أمين ، وكان واسطة عقدهم الأستاذ الإمام رحمهم الله أجمعين ، وبقي
من الأحياء الذين حضروا تلك الجلسة الشيخ محمد زيد بك الفقيه المشهور ، دارت
المذاكرة بينهم كعادتهم في الأحكام الفقهية والقانونية والمقابلة بينها وما ينتقد منها ،
فجرى على لسان أحدهم التمثيل بمسألة الربا ، فقال المرحوم قاسم أمين : هذه
المسألة منصوصة في القرآن الكريم ، فيجب علينا أن نأخذها قضية مسلَّمة بدون
بحث وإلا كنا غير مسلمين ؛ وإنما نبحث في الأحكام الشرعية الراجعة إلى اجتهاد
المجتهدين ، فوافق الجميع على قوله هذا . وللفيلسوف ابن رشد حكيم الإسلام في الأندلس الذي كانت فلسفته من أعظم
أسباب نهضة أوربا العلمية كلمة في هذا الموضوع ، وهي أن الفيلسوف لا يستبيح
لنفسه جعل الدين موضع بحث ونظر في قبوله ، والحاجة إلى الاهتداء به أم لا ؟
( أو قال كلمة بهذا المعنى ) وعلل ذلك بقوله : لأن هذا بمعنى التشكيك في الفضيلة
هل هي حاجة من حاج البشر أم لا ؟ وسأبين تفنيد ما زعمه عزمي من جواز ترك جميع أحكام الإسلام الدنيوية
ومنها الإرث واستبدال غيرها إذا ظهر بمقتضى تغير أحوال الزمان والمكانة عدم
صلاحيتها ، وأفصِّل ما أجملته في الجامعة من انقسام نصوص الدين إلى قطعي
الرواية والدلالة لا مجال للاجتهاد فيه ، وما هو غير قطعي فيجوز الاجتهاد فيه ،
وما يبيح ترك كل منهما بإذن الشارع من اضطرار وغيره وحكمة هذا التقسيم
ومصلحة المكلفين فيه .
وإنما أقول هنا بالاختصار : إن مثل هؤلاء الثلاثة الجاهلين بنصوص الإسلام
ومعانيها وأصولها وحكمها ، والكافرين بكتابه ورسوله ، ليسوا أهلاً لأن يأخذ
المسلمون بآرائهم وأقوالهم في شيء مما ذكر ، حتى أن ما يتعلق من ذلك برأي
الأطباء كالمرض المبيح للفطر في رمضان ، وترك استعمال الماء في الوضوء
والغسل ، والاضطرار المبيح لأكل المحرَّم أو شربه - لا يجوز الأخذ فيه بقول مثل
الطبيب فخري ميخائيل في تعصبه وظهور تحامله على الإسلام وإهانته للمسلمين .
وما جرَّأ هؤلاء على هذا العدوان واحتقار المسلمين وحكومتهم معًا إلا
الإسراف في حرية الإلحاد والفسق في هذه العاصمة الذي لا نظير له في أوربا ولا
أمريكة حتى صاروا يعتقدون أن المسلمين لم يبق عندهم مسكة من الغيرة الدينية
والحمية الملية ، وهو يعلمون أنه لا يستطيع أحد في مدرسة من مدارس أوربا أن
يجاهر بالطعن في الإنجيل ولا في التوراة من الجهة التي يؤمن النصارى بها ، وقد
بلغ من تعصب طلبة العلم في الولايات المتحدة أن أقاموا النكير على أستاذ مدرسة
قرر فيها نظرية دارون المشهورة المخالفة للتوراة حتى اضطرت حكومة تلك الولاية
إلى إخراج الأستاذ من المدرسة ، وتحريم تقرير هذه النظرية في مدارسها كلها .
إنني لا أعقل أن تكون هذه المسألة التي اضطرب المسلمون كلهم لها ( مسألة
الإرث ) هي المقصودة بالذات من هذه الدعاية ، ولا أن المقصود بالذات إعطاء
النساء ما يعتقد هؤلاء الدعاة أنه حق لهن حبًّا بالعدل وكراهة للظلم ، ولا أعقل أنهم
يعتقدون أن استحسانهم لهذه المساواة واستقباحهم لما هي مخالفة له من حكم الله يقنع
المسلمين أمة وحكومة برفع هذا الظلم المزعوم ، وتقرير ذلك العدل الموهوم ، كيف
وهم يَدُعُّون النساء دعًّا إلى مهاوي الهلكة لهن ولبيوتهن ( عائلاتهن ) .
وإنما المقصود بالذات صدهم للمسلمين عن الإسلام نفسه وتحويلهم عنه
بإبطال ثقتهم به وغيرتهم عليه ، وتقطيع الروابط التي تربطهم بالأمة العربية
العظيمة ، وفصم عروة الجامعة التي تضم إليهم 350 مليونًا من البشر لا يرون
لملتهم زعيمًا بعد الدولة العثمانية أولى من مصر ، ولا يخفى ما وراء ذلك وما
يلزمه من الفوائد لهم ولمن يستخدمهم .
وما أطمعهم في هذه الأمنية إلا إخوانهم من ملاحدة المسلمين الذين كانوا أجرأ
منهم وأسبق إلى الجهر العريان بالطعن في الثقافة الإسلامية والحضارة العربية
والآداب العربية كما تقدم في مقال سابق ، وإلا ما علموا من حرمان النشء
الإسلامي الحديث من التعليم الإسلامي والتربية الإسلامية في البيوت والمدارس معًا ، وما يشاهدون من ثورة النساء وخروجهن إلى الإباحة لا إلى التبرج فقط ، فأرادوا
أن يجعلوا جندهم في تجديد الإلحاد من الشبان والنساء ، ولذلك يكثرون اللهج بالثقة
بهما .
والدليل على أن هذا غرضهم ما صرحوا به في الاستدلال على وجوب قبول
المساواة بين المرأة والرجل في الميراث ، وهو أن المسلمين قبلوا ورضوا بترك
حكومتهم لإقامة حدود القرآن على السارقين والزناة ، وبحكم المحاكم الأهلية في
الدماء والأموال وترك حكم الشريعة ، فلماذا لا يرضون إذًا بترك أحكام الإسلام في
الأمور الشخصية ؟ وأما أحكام العبادات فهم يشاهدون درجة التهاون بها ، ولا
يشكون بقرب زوالها .
وقد فنَّدت هذا القياس الشيطاني الفاسد في محاضرتي الأخيرة في الجمعية
الجغرافية الملكية من بضعة وجوه ، وضربت له مَثَلَ مَن قصَّر في حفظ ماله
وصيانته لغصب بعضه ولم يسع لرده ، فقيل له إنك عرضت بعض مالك للزوال
فيجب عليك أن تعرض الباقي حتى تبقى معدمًا ! !
وسأذكر في الفصل الآتي تلك الأدلة ، بل الشبهات التي أوردها كل من عزمي
وفخري مع تفنيدها وأحذف ذلك من المحاضرة .
***
تفنيد شبهات المساواة في الميراث
- 10 -
إن لنا في الكلام في هذه المسألة مسلكين ( أحدهما ) ما هوَّن به دعاة الإلحاد
على المسلمين ترك حكم الله في المسألة ( وثانيهما ) ما يرجحون به حكمهم على
حكم الله عز وجل ، ويحتجون به على تفضيله عليه ، مع علمهم بأن أعظم شعوب
أوربة وأعدلها في نظرهم وعرفهم - كالدولة البريطانية - لا تورث النساء ألبتة ،
ومن هؤلاء الملاحدة من دعا أهل هذه البلاد إلى تسليم أمرهم إليها ، وترك قوميتهم
إلى قوميتها ، ووطنيتهم إلى وطنيتها .
أما المسلك الأول فإننا نبدأ القول فيه بتفنيد ما زعمه عزمي أفندي من أن
بعض علماء المسلمين قال إنه يجوز لهم ترك جميع أحكام الشريعة الدنيوية حتى
الثابت منها بالنصوص القطعية إلى ما يرونه خيرًا منها ؛ لأنها أحكام تختلف
المصلحة فيها باختلاف الزمان [3] ومنها الأحكام المالية كالميراث وغيره ؛ وإنما
الذي يجب المحافظة عليه أحكام العبادات فقط ، ثم نفنِّد ما اشترك فيه معه غيره
كالدكتور فخري ميخائيل فرج ، فنقول :
تفنيد دعوى كون الأحكام الدنيوية في الإسلام اختيارية
إن هذا الزعم الذي جهر به عزمي في مجلس المناظرة لم يقل به عالم من
علماء المسلمين المتقدمين ولا المتأخرين ، ولا يتجرأ عليه إلا بعض الزنادقة الذين
لا يبالون ما يقولون ، فإنه مخالف لنصوص الكتاب والسنة وللإجماع والقياس ،
فالقول به كفر صريح يعد صاحبه به مرتدًّا عن الإسلام بالإجماع .
لا فرق عند علماء المسلمين بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات في أدلة
ثبوتها ووجوب العمل بها ، إلا ما يقوله بعض أئمتهم من أن مدار ثبوت العبادات
كالتحريم الديني على نصوص الكتاب والسنة دون الرأي والاجتهاد ؛ وإنما يختص
الاجتهاد بصفة العمل بها كالاجتهاد في القبلة مثلاً - ومن أن المعاملات المالية
والسياسية وغيرها هي التي فوَّض الشارع إلى الأمة الاجتهاد فيها واستنباط الأحكام
للمصالح التي لا نص له فيها ، ومن القواعد المسلَّمة عند جميع الفقهاء أنه لا اجتهاد
في مورد النص ، وعلماء القوانين الوضعية يوافقون علماء الشرع على أن الاجتهاد
المخالف لنص القانون باطل ؛ وإنما محله تفسير القانون وتطبيقه على القضايا ،
وفي هذه المسائل تفصيل يتوقف بيانه على ذكر مذهب الظاهرية ، ومذهب أهل
الرأي ، ومذهب فقهاء الحديث ، وليس هذا المقام بالذي يتسع لهذا كله ولا بالذي
يقتضيه ، وحسبنا أن نفنِّد ذلك الزعم الإلحادي بإثبات الإجماع الذي لا نزاع فيه
على أن نصوص الشارع القطعية الرواية والدلالة تجب المحافظة عليها ، ولا يجوز
رد شيء منها ، ولا تركه بدون عذر شرعي . وإن من جحد شيئًا منها عالمًا به فهو
مرتد عن الإسلام خارج من الملة .
وأما ما كان غير قطعي الرواية أو غير قطعي الدلالة فهو محل للاجتهاد عند
من كان أهلاً له من العلماء ، وقد ضربت له المثل في مجلس المناظرة بآية البقرة
في تحريم الخمر والميسر وهي قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } ( البقرة : 219 ) فإنها تدل
على التحريم دلالة ظنية راجحة ؛ ولكنها غير قطعية ، والحكم في مثلها أن من فهم
منها الدلالة على التحريم وجب عليه العمل بمقتضى فهمه كما وقع من بعض
الصحابة رضي الله عنهم ؛ فإنهم تركوا الخمر والميسر عقب نزولها ، وبقي بعضهم
يشرب الخمر ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك ؛ لأنه اجتهاد في
موضعه ، حتى إذا ما نزل النص القطعي الدلالة على التحريم في آيات سورة
المائدة أهرق الصحابة كلهم ما كان عندهم من الخمر حتى صارت تجري كالسيل
في شوارع المدينة ، وصار النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب من ثبت عليه شربها .
هذا حكم المسائل الظنية التي يجوز فيها الاجتهاد ، أعني حكمها في حق
الأفراد من الناس ، وأما ما كان منها متعلقًا بالمصالح العامة والحقوق ، فإذا ثبت
منها شيء عند أولي الأمر وأمر به الإمام وجبت طاعته فيه ، فلا يجوز لأحد أن
يخالف الحكومة في أمور المصالح العامة ولا في الحقوق عملاً باجتهاده . ومسألة الميراث التي هي موضوع مناظرتنا مع الملاحدة وبعض النصارى
المعتدين على ديننا من المسائل القطعية الرواية والدلالة ، أما الرواية فهي آيات
القرآن وكلها متواترة قطعية بغير خلاف ، وأما دلالتها على ما ذكر فهي قطعية
أيضًا لأنها لا تحتمل في لغة القرآن معنى غير المعنى المتبادر منها ، ولا يشتبه في
هذا أحد له أدنى إلمام بهذه اللغة ، وأولها قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } ( النساء : 11 ) ويلي هذا النصوص في الإخوة
والأخوات والأزواج وكلها صريحة قطعية ؛ وإنما يوجد في مسائل الإرث قليل من
الأحكام الاجتهادية الأخرى .
والدليل من نص القرآن على أن أحكام الإرث محكمة لا اختيار لأحد في
تركها ، وأن الله تعالى يعاقب من عصى أمره فيها يوم القيامة ويثيب من أطاعه
قوله عز وجل عقبها : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ( النساء : 13-14 ) .
فأي مسلم يؤمن بالله وكتابه وبرسوله يرضى بأن يعرِّض نفسه للحرمان من
ذلك الفوز العظيم بمثوبة الله بتلك الجنات الخالدة الدائمة ، ولصلي تلك النار الخالدة
والعذاب المهين فيها ، بإيثاره للنظريات الفاسدة التي يدعوه إليها أفراد من الملاحدة
والقبط المساعدين لدعاة النصرانية ( المبشرين ) على إفساد عقائد المسلمين
وتحويلهم عن شريعتهم ، ليسهل عليهم استعباد الأجانب لهم ؟ .
حسبنا في المسلك الأول هذا التفنيد الموجز لزعم عزمي أنه يوجد في علماء
المسلمين من يبيح لهم ترك ما شرعه الله تعالى من أحكام المعاملات الدنيوية المالية
والشخصية والسياسية ، وهو ما صرَّح به إلا لأن هؤلاء الملاحدة يبغون غش
الصحيحي العقيدة من المسلمين وخداعهم لهدم الإسلام كله ؛ فإنهم إذا تركوا قسم
الأحكام المذكورة من شريعتهم يسهل عليهم أن يكون جميع حكامهم من الملاحدة
والإفرنج ، فلا يبقى للإسلام حكومة في هذه الأرض ، فيكونون كاليهود بل أذل ؛
فإن اليهود استعاضوا عن عزة الملك بعزة الثروة التي لها الشأن الأكبر في إدارة
أمور الدنيا ، على أنهم على قلتهم وتفرقهم لا يزالون يسعون لإعادة ملكهم ، فإن كان
أكثر الناس يجهلون سعيهم فقد ذكرتهم به ثورة فلسطين الأخيرة ، وهم يعتقدون أن
إقامة دينهم لا تتم بدون ملك ؛ لأنه دين تشريع وحكم ، والمسلمون أحق منهم بهذا
الاعتقاد . وإن أكبر الجهاد الذي يجاهدهم به أعداء دينهم موجه إلى هدم سيادته
الحكمية التشريعية ، وهم يعلمون أن القسم التعبدي الروحي لا يلبث بعد ذلك أن
يزول معظمه ، ويبقى قاصرًا على عدد قليل في كل بلد أو قطر .
هذا ما انفرد به عزمي بوحي شيطاني من أحد أركان حزبه ، وأما ما اتفق
عليه عزمي وفخري فهو محاولة إقناع المسلمين بترك أحكام دينهم في الميراث وكذا
في الطلاق وغيره من أحكام الزوجية بقياسه على ترك الحكومة المصرية لإقامة
الحدود الشرعية وغيرها من أحكام العقوبات والمعاملات المدنية .
والفرق بين هذا وما قبله في إيذاء المسلمين واحتقارهم أن هذا دعوة لهم إلى
ترك ما يؤمنون بأنه من أحكام الله التي وعد من أطاعه فيها بسعادة الدنيا والآخرة ،
وأوعد من عصاه فيها بالعذاب المهين ، أي إلى نبذ عقيدتهم ، وتوطين أنفسهم على
سخط ربهم وغضبه وعقابه بدعوى أنه لا مندوحة لهم في هذا العصر عن ذلك ،
فهذا احتقار لهم وسخرية منهم ما بعدها غاية في الإيذاء المعنوي ؛ وإننا قد اطلعنا
على كثير مما كتبه أعداء الإسلام والمسلمين في الدين والسياسة فلم نرهم على
تعصبهم وتشويههم لمحاسن الإسلام يدعون أن تفضيل الذكور على الإناث في
شريعته كان سببًا من أسباب ضعفهم المدني أو الاجتماعي ، بل هذا مما انفرد به
هذان القبطيان وأعوانهما من ملاحدة مصر .
وأما ما قبله فهو خداع يتضمن رمي مسلمي مصر بالجهل بدينهم ، وأنهم بلغوا
من ذلك ما يؤهل مثل عزمي في مجاهرته بالإلحاد بل التعطيل التام ، لأن يقبل قوله
في الصد عن أكمل هذه الأديان ، وأقواها حجة وأعظمها أثرًا في الحضارة
والعمران ، ويصدق بأن بعض علماء المسلمين قال بجواز ترك أحكام القرآن
الدنيوية ؛ لأنها بزعمه اختيارية .
وقد بدا لهم من هذا التهور ما لم يكونوا يحتسبون ، فصاح شبان المسلمين
المتعلمين في وجوههم الصيحة بعد الصيحة في الجامعة المصرية ، ثم في الجامعة
الأميركية ، وكانوا يظنون أنهم جندهم الذي يدين لهم بالطاعة العمياء والتقليد لخدعة
التجديد ، وتبارت أقلام الكتاب المرهفة في حلبة الصحف في تفنيدهم والإزراء بهم .
نعم غرَّ فخري ميخائيل قول راوية الأهرام في مناظرة الجامعة ( أن الشباب
صفَّق لمحامي الشباب ) إذ لم يقرأ أو لم يصدِّق مما كُتِبَ في الصحف عن تلك
المناظرة إلا شهادة الزور التي رواها للأهرام ( أحمد الصاوي ) من أنصار التجديد
الإلحادي ، غرَّه هذا وصدَّقه فصرَّح في محاضرته المنكرة بأنه يعتمد على الشباب
المسلمين في مناقشة الذين يتحككون بالشريعة الإسلامية في هذه المسألة دفاعًا عن
حق المرأة - فجبهه من حضر من أولئك الشبان الأباة الضيم في وجهه ، ودمغوه
بالإنكار في أثناء إلقائه لسخفه ؛ ولكن كان قد طبعه ووزَّعه على الناس ، وإننا ننقل
نص عبارته لأنها أوسع وأوضح من عبارة عزمي في مناظرته ، ثم نقضي عليها
بتفنيدها من الوجوه التي أجملناها في محاضرتنا في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية
كما وعدنا ، وهذا نص عبارته الركيكة المعسلطة :
عبارة الدكتور فخري في المساواة في الإرث :
وإذا تحكك المدافعون عن نظرية حق البنت في الميراث ؛ فإننا نتركهم
يتحككون بأحكام الشريعة في هذه المسألة ، ونتركهم يصرخون ويستصرخون وزير
المعارف وغيره لحماية الإسلام كما يدَّعون ، نترك عليهم المفكرين الحديثين من
شبان المسلمين يناقشونهم الحساب دفاعًا عن حق المرأة ، ولكن قبل تركهم نسألهم
سؤالاً واحدًا في خشوع واحترام لأشخاصهم بغض النظر عن ادعاءاتهم :
أيها السادة : لماذا لا تطالبون بتطبيق أحكم الشريعة الإسلامية في مسائل
السرقة والزنا والقتل ؟ ولماذا تُجيزون للقاضي الأهلي أن يحكم على أي واحد منا
بالإعدام ولا يحكم في مسألة نفقة شهرية ؟
ولما تجيزون للقاضي الأهلي أن يحكم على أي واحد منا بتجريده من ثروته
وإعلان إفلاسه ، ولا يحكم في مسألة طلاق بسيطة ؟ لا تتذمرون من أن القاضي
الأهلي أصبح مختصًّا في الحكم على كل ما يتعلق بكرامتنا وبشرفنا وبأعراضنا
وبثروتنا وبحريتنا وبإعدامنا أو تخليصنا من الإعدام ، وتعرضون لمجرد مناقشتنا
في مسألة بسيطة وهي حظ الأنثى في الميراث ... حقًّا ما أكثركم غيرة على الشريعة ،
وما أحركم هيامًا بالدين .
( أيها السادة إن كنتم غيورين على الشريعة فنادوا - إن كنتم شجعانًا - بتطبيق
أحكام الشرع الشريف في كل شيء ) .
( وأما كنتم لا تغارون على الشرع أو الدين ، بل إنكم تغارون على ( ميراث
العمارات والأفدنة والطين ) ، فسيروا في طريقكم ، ودعوا المفكرين الحديثين في
طريقهم كل يعمل بعقيدته وإيمانه ، والله ولي التوفيق ) اهـ .
وهذا الكلام يتضمن الطعن على جميع المسلمين بجعلهم أحدهما منافق وهو
الذي يدَّعي الغيرة على الدين والمحافظة على أحكامه ، وهو فريق الشيوخ والكهول ،
وغير المفكرين الحديثين من الشبان ، وفريق مارق ملحد وهو فريق الشبان
المفكرين الذين هم محل أمله وأمل أمثاله في القضاء على البقية الباقية من الإسلام
اتباعًا لأهوائهم وشهواتهم ، وانخداعًا بأوهامهم التجديدية ، ولولا سوء اعتقاده
بغرارة هؤلاء الشبان ، وانسلاخهم من كل وجدان وغيرة على شرف دينهم ، لما
تجرأ على التهكم باستصراخ أمير من أكبر أمراء هذا الشعب [4] لوزير المعارف
بأن يمنع مثل هذه التصريحات المنكرة في الإسلام على مسمع من طلاب العلم في
مدارس هذه الحكومة الإسلامية .
وما كررنا هذا المعنى في كشف عوار هذه الدعاية الإلحادية إلا لتستقر في
أذهان الشبان وغيرهم ، وليعرفوا قيمتهم عند هؤلاء الناس وما يريدون .
وموعدنا المقال الحادي عشر في الرد العلمي العقلي عليهم .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أثبت هذا كاتب أمريكاني وانتقده الأمير شكيب وسننشر انتقاده .
(2) إن جريدة السياسة قد عُنيت بنشر الدعاية الإلحادية ، وسلامة موسى يصرِّح بأن عقيدته وعقيدة صديقة محمد حسين بك هيكل رئيس تحرير السياسة واحدة .
(3) قد رأينا هذا الزعم الباطل مكررًا في كتاب (السفور والحجاب) الذي نُشر في بيروت باسم الآنسة نظيرة زين الدين فردَّ عليه كثير من علماء المسلمين وكتابهم ، وكان جُل ما عنوا بالرد عليه مسألة الحجاب ، وهذا الزعم شر ما فيه ؛ لأنه هدم لنصف الإسلام سيلزم هدم النصف الآخر .
(4) هو الأمير عمر طوسن باشا المشهور .