مناظرة بين مطلع سورة البقرة ومطلع سورة لقمان

د محمد الجبالي

Well-known member
إنضم
24/12/2014
المشاركات
400
مستوى التفاعل
48
النقاط
28
الإقامة
مصر
مناظرة بين مطلع سورة البقرة ومطلع سورة لقمان
في مطلع سورة البقرة نجد القرآن (هدى للمتقين)،
أما في مطلع سورة لقمان فإننا نجد القرآن (هدى ورحمة للمحسنين)
فلماذا؟
لماذا كان القرآن هدى للمتقين في البقرة، وكان هدى للمحسنين في لقمان؟
ولماذا زيدت (رحمة) في لقمان؟

قبل أن نعلل ذلك يجب أن نضع نُصْبَ أعيننا مايلي:
أولا: إن سورة البقرة مَدَنِيَّة حيث استقر الإيمان في القلوب، وجاءت مرحلة بَسْطِ التكاليف والواحبات والمنهيات. لذلك نزلت السورة بأكثر أحكام الدين من الفرائض والواجبات والتكاليف.
أما سورة لقمان فقد نزلت في مكة، حيث كان الشرك ومحاربة الإسلام والمسلمين، وكان القرآن ينزل في مكة يؤسس للعقيدة، فيدعو للنظر والتأمل في آيات كتاب الله لأجل الوصول للإيمان بالله وحده ونبذ الشرك.

ثانيا: السياق في كل من البقرة ولقمان:
تأملوا معي الآيات في السورتين:
  • {(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}) [البقرة: 1 - 5]
  • {(الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))} [لقمان: 1 - 5]
  1. أما الحروف المقطعة أول السورتين [الـم] فإنها بعض أسرار الله في كتابه، فهي من المتشابه، والأولى عندي ترك الخوض في تأويلها.
  2. في البقرة قال عز وجل: ({ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)} ذكر الكتاب كله جُمْلَةً، ثم وصفه بألا شك فيه، فالمقام هنا مقام إيمان بالكتاب كله، ويقين به، والعمل بما جاء فيه.
أما في لقمان فقال تعالى: ({تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم)} فذكر آيات الكتاب، ولم يقل الكتاب جُمْلَةً، فالمقام هنا مقام نَظَرٍ في تلك الآيات وتأمل وتَدَبُّر. قال ابن عجيبة رحمه الله: "لذلك خَصَّهُ بقوله: {لِلْمُحْسِنِينَ}، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان؛ لأنهم هم الذين يغوصون على أسراره ومعانيه".
  1. {(هدى للمتقين)}............({هدى ... للمحسنين)}
لا شك أن رُتْبَةَ المحسنين أعلى من رُتْبَةِ المتقين، فالمتقون العاملون بالطاعات، التاركون للمخالفات خوفا من عذاب الله، وطمعا في رحمته وجنته. أما المحسنون فقد زادوا على ذلك، فإنهم يراقبون الله في حركاتهم وسكناتهم، قلوبهم معلقة بالله، وجاء في الحديث: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك"[1]. متفق عليه.
  1. ({هدى للمتقين)}...... ({هدى ورحمة للمحسنين})
زاد في لقمان (ورحمة)، عَلَّلَ العلامة السامرائي تلك الزيادة قائلا: "فالمحسن زاد على المتقي، فزاد الله تعالى له الرحمة، والإحسان من الرحمة فزاد الله تعالى له الرحمة، فكما زاد المحسنون في الدنيا زاد الله تعالى لهم الرحمة في الدنيا والآخرة، والجزاء من جنس العمل".
  1. في البقرة قال عز وجل: ({الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)} إن التكاليف في آيات البقرة أكثر وأوسع، لأنها نزلت في المدينة على مجتمع مسلم مستقر الإيمان.
أما في لقمان فقال عز وجل: { (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)}، زاد هنا أسلوب القصر المركب {(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)} الذي يؤكد تأكيدا على ثبات الإيمان وقوته، لأنها نزلت في مُؤْمِني مكة الذين كانوا يتعرضون لِفِتَنٍ عظيمة، فهم على ما ينالهم من عذاب وتنكيل مستمسكون ثابتون، فكانت مَرْتَبَتُهم أعلى، ألا وهي الإحسان.
  1. جاءت الآية الخامسة في كل من البقرة ولقمان سواء تماما في اللفظ، قال الله عز وجل: ({أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)}، فهل المعنى سواء؟
لا أرى ذلك، فلستُ ممن يقول بالتكرار في القرآن، فإنَّ كل لفظ نزل في القرآن يؤدي معناه في سياقه الذي نزل فيه، فلا تكرار، وإن تشابه اللفظ فلا تكرار، فالألفاظ إنما هي أوعية تحوي معاني مختلفة، وقد تتشابه الأوعية لكن المحتوى يختلف، إن مَثَلَ التشابه اللفظي في القرآن كَمَثَلِ قِنَانِ الطيب المتشابهة القَوَامِ، القِنَان مُتَشَابِهَةٌ لكن في هذه القِنِّينَة عَنْبَرٌ، وفي هذي كافور، وفي تلك مِسْكٌ، تشابهت القِنَان، واختلف المحتوى، أو كَمَثَلِ فَتَيَاتٍ جميلات يَرْتَدِينَ جميعا أثوابا مُتَشَابِهَةً في كل شيء، فإنْ تشابهت الأثواب فلا شك أنَّ الفتيات يختلفن اختلافا، كذلك مواطن الآيات المتشابهات لفظا في القرآن الكريم، إنما الألفاظ أثواب لمعانٍ محتلفة.
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله حين فَسَّرَ آيات لقمان: " فكل آية ذَكَرَت ناحية مِن نواحي كمال القرآن وجِهَةً من جهات عظمته، إذن: فهي لَقَطَات مختلفة لشيء واحد متعدد الْمَلَكات في الكمال، وكذلك تجد تعدد الكمالات في الآية بعدها: {هُدًى وَرَحْمَةً ... }.. فحين نوازن بين صدر سورة البقرة، وبين هذه الآية {هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} نرى أن القرآن لا يقوم على التكرار، إنما هي لَقَطَاتٌ إعجازية كل منها يؤدي معنى، وإنْ ظن البعض في النظرة السطحية أنه تكرار، لكن هو في حقيقة الأمر عطاء جديد لو تأملته"
وقد يعجز الباحثون والدارسون في كثير من المواطن المتشابهة لفظا عن الوقوف على أسرار تكرار الألفاظ، أوتكرار الآيات، ويعجزون عن إدراك الحكمة من التكرار، حينئذ على الباحث والدارس أن يرد ذلك على قصور نفسه.
إن فَيْضَ القرآن لا نهاية لها، وأسراره لا يَسْبِرُها كُلُّ أَحَدٍ، إن القرآن لا يمنح لَآلِئَهُ كُلَّ أحَدٍ، فقد يمنح القرآن بعض مَنْ يصطفيهم الله بفضله فيمنحهم القرآن -بِقَدَر- بعضا من فَيْضِه، وشيئا مِنْ لَآلِئِه، وقد يكون هذا البعض عظيما جليلا، وتلك اللآلِئ عزيزة بديعة نفيسة، لكنها قليل من كثير، لأن فيض القرآن لا ينقطع، وأسراره لا نهاية لها.
والله أعلم
د. محمد الجبالي


[1] الحميدي، محمد بن فتوح، الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم، ط2، 1423هـ - 2002م، دار ابن حزم، بيروت، ج3، ص124، رقم: 2398
 
عودة
أعلى