"مناسبة النزول لا سبب النزول" مسألة للمدارسة

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

قرأت في أحد البحوث كلاماً عن أهمية أسباب النزول في فهم النص ، ذكر الباحث في آخر كلامه عن هذا الأصل ما نصه :

[align=justify] ( نرى الاستغناء عن مصطلح " أسباب النـزول، وأسباب الورود" وتبديله بمصطلح " مناسبات النـزول والورود "، وذلك لأنَّ مصطلح المناسبة تعني الملاءمة، والموافقة، فإذا أضيف إليه النـزول أو الورود، فإنه يصبح معناه الظروف التي صادف أو وافق حدوثها نزول النص، ووروده، ويعني هذا أنَّ مواكبة النَّصِّ ووروده لهذه الظروف مقصودة للشارع، جلَّ في علاه، قصدًا تعليميًّا، وتربويًّا. وليس لتلك الظروف أي أثرٍ في ورود النص، ونزوله في تلك الفترة، كما ليس لها أيُّ دورٍ في تحديد مصير ذلك النَّصِّ وجودًا وعدمًا، فالنَّصُّ الشَّرْعِيّ،كتابا وسنة، حاكم ومتعالٍ على الظروف والأمكنة والبيئة، لأنه يخاطب الحاضر، والمستقبل، ولذلك لم يشأ النص أن يتضمن الإشارة المباشرة إلى تفاصيل تلك الظروف، ولا ربط مضامينه بها البتة .

إنَّ هذا المصطلح المقترح بديلا لمصطلح " أسباب النـزول والورود" كما سيضع حدًّا لذلك النـزاع المفتعل حول علاقة النص بسبب وروده، فإنَّه سيعمل على إبراز السمة العالميَّة للنصِّ الشَّرْعِيّ الذي لا يمكن لظرف من الظروف أن يحدِّد عمره، أو مداه، أو مجاله. إذْ إنَّ مناسبات النـزول لا تعدو في تصورنا أن تكون الأجواء التي نزل فيها الوحي، والشأن في تلك الأجواء من حيث التعميم والتجريد، كشأن الناس الذين نزل فيهم الوحي، فكما لا يختص به أولئك الناس بهذا، فكذلك لا يمكن أن يخصص به تلك الأجواء أيضا، وذلك لأنَّ هذه الأجواء ـ ظروفًا وأوضاعًا وأحداثًا ـ مجرد مناسبات للتكليف وليست بأي حال من الأحوال داخلة في بنية النَّصِّ الشَّرْعِيّ ذاته، وإلا لاْشتملت عليه ألفاظ وتراكيب ذلك النص، ورحم الله سيد قطب الذي ألمح إلى هذا من خلال وصفه للمنهج الإسلامي المنبثق عن النَّصِّ الشَّرْعِيّ، فقال :

" .. إنَّ هذا المنهج ثابت في أصوله، ومقوماته، لأنَّه يتعامل مع "الإنسان" . وللإنسان كينونة ثابتة، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى . وكلُّ التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغيِّر من طبيعته، ولا تبدل من كينونته، ولا تحوِّله خلقًا آخر . إنما هي تغيرات وتطورات سطحيَّة، كالأمواج في الخضم، لا تغير من طبيعته المائية، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة! ومن ثمَّ تواجه النُّصُوص القرآنية الثابتة تلك الكينونة البشرية الثابتة، ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان، فإنَّها تواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة بنفس المرونة التي يواجه بها الإنسان ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة ... فالنُّصُوص القرآنيَّة جاءت لتعمل في كل جيلٍ، وفي كل بيئة .. ( بل) هذه النُّصُوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانيَّة في أيِّ طورٍ من أطوارها . والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية، هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة -أيًّا كان موقفها على الدرج الصاعد- ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى يوم التقطها من ذلك السفح السحيق .. " .

فالإنسان المخاطب بهذا النصِّ "..أعمُّ من ذلك الإنسان ذي الظروف والأوضاع المعينة الذي خوطب به حال نزول الوحي، وهو ما يشهد به لفظ الخطاب وصيغه .. فإذا ما اعتبرت -المناسبات ظروفًا وأوضاعًا وأحداثًا- عنصرًا مخصِّصًا للفهم تخصيصًا زمنيًا، فإنَّ الأمر يؤول إلى محذورٍ عظيمٍ كفيلٍ بأن يعرض منهاج الخلافة بأكمله إلى الانتقاض..".


وهكذا، يمكن أن يتبدى لنا ما رمناه من تفضيل مصطلح "مناسبات النـزول والورود " على مصطلح " أسباب النـزول والورود " ولئن سأل سائل عن الفرق بين مناسبة تنـزيل، وسبب تنـزيل ، أجبناه بأنَّ مناسبة التنـزيل عبارة عن الجوِّ الذي نزل فيه الوحي، وليس له أي تأثير على النص من حيث وجوده وعدمه، اعتبارًا بمعنى المناسبة في اللغة التي تعني الملاءمة والموافقة.

وأما سبب التنـزيل، فإنه يعني الجوَّ الذي استدعى نزول النص، واستوجب ورده، وله تأثير على النصِّ من حيث وجوده وعدمه، انطلاقًا من معنى السبب الاصطلاحيِّ الذي يراد به الشي الذي يلزم من وجوده وجود المسبب، ويلزم من عدمه عدم المسبب . )

فما تعليقكم على ما رآه الباحث هنا ؟
[/align]
 
أقول في هذا المجال :

إن التفسير ينظر إلى أسباب النـزول بأنها أسباب تاريخية خاضعة للظروف ، وللبيئة وللزمان والمكان ، تسري عليها ما يسري على غيرها من النسبية وعدم الإطلاق ، بمعنى أن تلك الأسباب استدعت نـزول وورود النص لظروف معينة، فإذا ما تولت تلك الظروف ، ينبغي أن يتولى معها النص الشرعي مطلقاً.
وقال سامر إسلامبولي في كتابه : ظاهرة النص القرآني تاريخ ومعاصرة ( صفحة 130 ) ::
لا يصح استخدام كلمة ( سبب ) على نـزول التشريع ، لأن السبب هو : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ... والأصح إطلاق كلمة ( تاريخية نـزول التشريع ) التي تفيد دلالة الوقت ، والحدث المناسب الذي تم اختياره من قبل الخالق، لينـزل النص التشريعي بصياغة مناسبة فوراً .
إن هذه الوجهة في تكييف علاقة النص بسببه تنظر إلى أسباب النـزول بأنها أسباب ، وإن كانت تاريخية ، إلا أنها فوق التاريخ ذاته ، لا تخضع ما تخضع له الأسباب التاريخية من النسبية والجزئية الحقيقية ،فهي حاكمة على التاريخ وليس العكس، لأن مصدره وجد قبل أن يوجد التاريخ ، بل هو الذي أوجد التاريخ ، وهو الذي يصنع التاريخ ويؤثر في التاريخ ، ولا يمكن الاستناد إلى التاريخ في تفسيره.
والسبب في هذا أن الأسباب في نظرنا إذا كانت تاريخية فإنها تعني أن النص الذي ارتبط ورودها ونـزولها بها يجب أن يكون تاريخياً أيضاً ، ومعروف أن التاريخ أحداث في الماضي، لا ينبغي إسقاطها على الحاضر، وليس ذلك النص الشرعي ، فإنه نص للماضي وللحاضر وللمستقبل ،ولا يحكمها أحداث تاريخية معينة بل فوق كل الأحداث والظروف، والنص كان سيرد ولو لم يكن هناك ذلك الجزئي المسمى بالسبب، ويعني هذا أن النص الشرعي يمثل خطاب الإله الموجه إلى العالم القائم وقت نـزوله ، وإلى العالم الذي سيأتي من بعده وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فأسباب النـزول نماذج ودلائل وأمارات على أسباب حقيقية ، يتوقف إدراكها على إدراك هذا النموذج ، مما يعني ضرورة النظر إلى الأسباب على أنها أدوات معينات ومساعدات على حسن فهم النص الشرعي ، وإدراك مراميه ، ومغازيه وأبعاده، ورحم الله الإمام الدهلوي الذي كشف النقاب عن هذا الأمر في كتابه القيم ( الفوز الكبير في أصول التفسير : 31 وما بعدها ).
وقد رأيت أن يكون المصطلح البديل لأسباب النـزول هو ( مناسبات النـزول ) وتدرس هذه المناسبات في مجال الاجتهاد في أمور التشريع والدعوة الإسلامية، وفي مجال تدبر القرآن الكريم، لأن معانيه وإن جردت من ملابسات الزمان والمكان، إلا أنها تصلح لكل زمان ومكان.
 
نتفق مع قاله الدكتور قطب مصطفى سانو، والأستاذ سامر الإسلامبولي تمام الاتفاق!
ولقد قالا فأوفيا, ونزيد على ذلك نقطة صغيرة, وهي أهمية ذلك بالنسبة للإنسان العامي, فإذا قلنا له سبب النزول, ارتبط مفهوم الآية في ذهنه بهذه الحادثة, ومن ثم قد يعزلها عن واقعه, بخلاف إذا ما قلنا أنها مناسبة النزول! فلا تنحصر عنده في الماضي!
 
جزاكم الله خيرا شيوخنا الأفاضل
...
وبما أن الموضوع للمدارسة والإثراء أذكر وجهة نظر أحد أساتذتي من أهل العلم والخلق والفضل وفقه الله ؛ قال بما معناه : من الخطإ قول "أسباب النزول" والصواب "مناسبات النزول" لأن أحكام الله عز وجل لا تعليل لها ولا أسباب .
فما رأي شيوخنا الأفاضل هنا ، لا سيما والشيخ مقر ومثبت بداهة لحكمة الله عز وجل ؟
 
الحمد لله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده،
وبعد،،،

كل ما أدلى به الإخوة يبدو مقنعا عند أول قراءة، من تعليل أن لفظة "سبب" توحي بأن هناك عامل خارجي عن رب الكون والزمن والتاريخ والأسباب حدا به إلى الوحي بهذه الآية أو تلك، ومن تعليل بأن الإنسان المخاطب أعم من المعاصر لنزول الوحي، ومن تعليل بأن تعبير "مناسبة النزول" أقرب إلى أفهام العوام من تعبير "أسباب النزول"،،،

كل هذا يبدو مقنعا لأول وهلة، لكني دائما أقول وأسأل: لماذا تتم معالجة اللفظ أو المصطلح بعيدا عن المعاجم والقرآن وكتب التفسير؟ ما هو معنى "سبب" في معاجم اللغة؟ ما هو المعنى الذي عني به القرآن للفظة "سبب"؟
السبب في اللغة كل ما يوصل إلى المطلوب.

قد ورددت كلمة "سبب" بمشتقاتها أكثر من مرة في القرآن، ولم تشر إلى المعنى هذا المعنى الضيق- الذي تحدث عنه الإخوة- إلا في سورة الكهف في معرض الحديث عن ذي القرنين (الكهف: 84، 85، 89). وحتى في هذه الآية لم يكن سبب ذي القرنين منقطعا عن المصدر الرئيس في السماء "وآتيناه من كل شيء سببا" الكهف:84. فالمانح هو رب الأسباب ومصدرها.

أما في سورة البقرة:166، فهي تعني الروابط والصلات والعلاقات وكل ما من شأنه أن يجمع بين اثنين فأكثر

وفي سورة الحج:15، فهي تعني الكيد والحيلة والأداة والوسيلة.

وفي سورة ص:10، فهي تعني السماوات وأبوابها والملائكة لأنهم جنود الله ورسله، وهذا تعجيز للكفار لهم لأنهم لا يملكوا السموات ولا ينفذون إلا بسلطان، وفي هذه الآية وآية سورة الحج تفسير لمساعي الغرب لغزو الفضاء لعلهم يقطعون أسباب النصر لدين الله في الأرض.

وفي سورة غافر:36،37، فهي تعني كل ما سبق من مصدر الوحي والنصر لهذا الدين والحيلة التي تمكنه من النصر دائما والوسيلة التي ينتصر بها وهي مخزونة في السماء وسعي فرعون إلى قطع هذه الصلات والروابط وقنوات الاتصال بين المصدر والمتلقي، وفي هذا لطيفة غاية في الإعجاز وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه قد لقي ربه، إلا أن الصلة بين الأمة وربها لازالت قائمة وأسباب السماوات مازالت مع هذه الأمة.

ومن هنا تتضح الأسباب وراء اختيار هذا التعبير بالذات عن غيره.

أما فيما يخص العوام، أقول ماقاله الشيخ محمد الغزالي رحمه الله. فقد كان يلقي خطبة الجمعة باللغة العربية الفصحى، فطلب إليه أحد المصلين أن يمزج الخطبة بالعامية حتى يفهم العوام فقال أنه لا بد أن يرفع الخطيبُ الناس إليه لا أن ينزل هو إليهم،

حجة العوام هذه أقرب إلى السماح بقراءة القرآن باللهجات حتى يتيسر على الناس قراءة القرآن وإلا هجروه.

والله الهادي إلى سبيل الرشاد
 
كل ما أدلى به الإخوة يبدو مقنعا عند أول قراءة، من تعليل أن لفظة "سبب" توحي بأن هناك عامل خارجي عن رب الكون والزمن والتاريخ والأسباب حدا به إلى الوحي بهذه الآية أو تلك، ومن تعليل بأن الإنسان المخاطب أعم من المعاصر لنزول الوحي، ومن تعليل بأن تعبير "مناسبة النزول" أقرب إلى أفهام العوام من تعبير "أسباب النزول"،،،

كل هذا يبدو مقنعا لأول وهلة، لكني دائما أقول وأسأل: لماذا تتم معالجة اللفظ أو المصطلح بعيدا عن المعاجم والقرآن وكتب التفسير؟ ما هو معنى "سبب" في معاجم اللغة؟ ما هو المعنى الذي عني به القرآن للفظة "سبب"؟
السبب في اللغة كل ما يوصل إلى المطلوب.

قد ورددت كلمة "سبب" بمشتقاتها أكثر من مرة في القرآن، ولم تشر إلى المعنى هذا المعنى الضيق- الذي تحدث عنه الإخوة- إلا في سورة الكهف في معرض الحديث عن ذي القرنين (الكهف: 84، 85، 89). وحتى في هذه الآية لم يكن سبب ذي القرنين منقطعا عن المصدر الرئيس في السماء "وآتيناه من كل شيء سببا" الكهف:84. فالمانح هو رب الأسباب ومصدرها.
ومن هنا تتضح الأسباب وراء اختيار هذا التعبير بالذات عن غيره.
جزاكم الله خيرا .
...
شيخنا الفاضل : لا زال السؤال قائما ؛ هل يُعَدُّ بعض الفروق بين مصطلحي ( سبب النزول ، مناسبة النزول ) امتدادًا لأصول عَقَدِيَّة مختلفة بُنِيَ عليها ؟ فمثلا : المُأَوِّل لا يقول بمصطلح السبب ، والمُثْبِت لا يقول بمصطلح المناسبة ؟ وما هي هذه الأصول التي تفرع منها الاختلاف في تسمية [ ما ورد قرآن بشأنه وقت وقوعه ] ؟
أرجو إفادتي متفضلين ومأجورين جزاكم الله خيرا .
 
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

قرأت في أحد البحوث كلاماً عن أهمية أسباب النزول في فهم النص ، ذكر الباحث في آخر كلامه عن هذا الأصل ما نصه :

[align=justify] ( ..... ولئن سأل سائل عن الفرق بين مناسبة تنـزيل، وسبب تنـزيل ، أجبناه بأنَّ مناسبة التنـزيل عبارة عن الجوِّ الذي نزل فيه الوحي، وليس له أي تأثير على النص من حيث وجوده وعدمه، اعتبارًا بمعنى المناسبة في اللغة التي تعني الملاءمة والموافقة.

وأما سبب التنـزيل، فإنه يعني الجوَّ الذي استدعى نزول النص، واستوجب ورده، وله تأثير على النصِّ من حيث وجوده وعدمه، انطلاقًا من معنى السبب الاصطلاحيِّ الذي يراد به الشي الذي يلزم من وجوده وجود المسبب، ويلزم من عدمه عدم المسبب . )

فما تعليقكم على ما رآه الباحث هنا ؟
[/align]

سلام الله عليكم

أحسب أن الباحث وقع في خطأ منهجي ، هو أخذه بالمعنى اللغوي لكلمة ( المناسبة ) و تركه له في كلمة ( السبب ) بغير مسوّغ ، و أخذه بالمعنى الاصطلاحي المستعمل في أصول الفقه ، و استعماله في غير موضعه ؛ إذ محلّه الأحكام لا نزول الآيات ؛ لأن نزول الآيات الكريمات غير متوقف على أسباب نزول ، و منها ما تنزّل على سببٍ من سؤال أو حادثة ، و منها ما نزل ابتداءً على غير أسباب .

و ( سبب النزول ) أو ( أسباب النزول ) هي الكلمة أو العبارة التي استعملها الأئمة المتقدّمون في ذِكْر القصة - سؤالاً أو واقعة - التي نزلت الآية أو الآيات الكريمة بشأنها ؛ بياناً لِحكْمٍ ، أو ذِكْراً لِعبْرة ، و غير ذلك من مقاصد .

و من هؤلاء الأئمة : الإمام أحمد ؛ فقد أخرج البيهقي في " شعب الإيمان " عن عبد الله بن عمر قال : ( « كنا نقول : ما لمفتتن توبة ، وما الله بقابل منه شيئا ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » والآية التي بعدها .
قال الإمام أحمد : « وروينا عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية ما »...) . أهـ

و نجد في " السنن الكبرى " للبيهقي : باب سبب نزول الرخصة في التيمم ، و باب سبب نزول قول الله تبارك وتعالى { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها } ) ، و باب سبب نزول آية الظهار ، و باب سبب نزول قول الله عز و جل { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } )، و غيرهم من أبواب .

و كذلك نجد ذِكر أسباب النزول في تفسير القرطبي ، و غيره من كتب التفاسير.

و للإمام العلامة أبي الحسن ، على بن أحمد الواحدي النيسابوري ( ت 468 هـ ) كتاب : ( أسباب النزول ) ، كتب في مقدمته :
( ...غير أن الرغبات اليوم عن علوم القرآن صادفة كاذبة فيها، قد عجزت قوى الملام عن تلافيها، فآل الامر بنا إلى إفادة المبتدئين المتسترين بعلوم الكتاب، إبانة ما أنزل فيه من الاسباب، إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الاسباب، وبحثوا عن عِلمها وجَدّوا في الطلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في هذا العلم بالنار.
أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن ابراهيم الواعظ قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد ابن حامد العطار قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدثنا ليث بن حماد قال: حدثنا أبو عوانة، عن عبد الاعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتقوا الحديث إلا ما علمتم، فإنه من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار) والسلف الماضون رحمهم الله كانوا من أبعد الغاية احترازا عن القول في نزول الآية.
أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبد الله المخلدي قال: أخبرنا أبو عمرو بن نجيد قال:
أخبرنا أبو مسلم قال: حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال: حدثنا أبو عمير عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: اتق الله وقل سدادا، ذهب الذين يعملون فيما أنزل القرآن.
وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا ملقيا زما مه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية وذلك الذي حَدا بي إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للاسباب، لينتهى إليه طالبو هذا الشأن والمتكلمون في نزول القرآن، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب، ويجِّدّوا في تحفظه بعد السماع والطلب، ولابد من القول أولا في مبادئ الوحي وكيفية نزول القرآن ابتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعهد جبريل إياه بالتنزيل، والكشف عن تلك الاحوال والقول فيها على طريق الاجمال، ثم نفرع القول مفصلا في سبب نزول كل آية روى لها سبب مقول، مروي منقول، والله تعالى الموفق للصواب والسدد، والآخذ بنا عن العاثور إلى الحدد...) . أهـ

* * *

قال الشيخ محمد أي زهرة في كتابه ( أصول الفقه ) :
هذا و من المقررات الفقهية أن سبب النص العام لا يعد مخصصا له ، بل إن العام على عمومه من غير نظر إلى السبب الخاص الذي جاء النص مقترنا به ، و لذا يقول الأصوليون : " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " ، لأن الحجية في النصوص لا في أسبابها ، و لا في بواعثها ، و قد تكون أسباب النزول طريقا لتفسيرها ، و لكنها لا تصلح طريقا لتخصيصها . أهـ
 
[align=center][/align]
[align=justify] ( نرى ...وليس لتلك الظروف أي أثرٍ في ورود النص، ونزوله في تلك الفترة، كما ليس لها أيُّ دورٍ في تحديد مصير ذلك النَّصِّ وجودًا وعدمًا، فالنَّصُّ الشَّرْعِيّ،كتابا وسنة، حاكم ومتعالٍ على الظروف والأمكنة والبيئة، لأنه يخاطب الحاضر، والمستقبل، ولذلك لم يشأ النص أن يتضمن الإشارة المباشرة إلى تفاصيل تلك الظروف، ولا ربط مضامينه بها البتة .

[/align]
يبدو أن الباحث جعل ماتحته خط مسلمة فبنى عليه بقية كلامه.. وأجد أن ذلك بحاجة إلى دليل..
وكون النص الشرعي حاكما على الظروف وغيرها ليس بدليل ناهض..
إذ إن القائلين بأن للحوادث والظروف أثرا في النص الشرعي لم يبطلوا حاكميتع وتعاليه على الظروف، ولذلك قُررت قاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب)على التفصيل المقرر في مظانه..

[align=center]
إنَّ هذا المصطلح المقترح بديلا لمصطلح " أسباب النـزول والورود" كما سيضع حدًّا لذلك النـزاع المفتعل حول علاقة النص بسبب...
[/align]

النزاع المفتعل ليس قائما على ظنون واجتهادات في المقام الأول بقدر قيامه على ثبوت ورود السبب مع أهليته للسببية من خلال سياقه وألفاظه.
وعليه فلامسوغ لتفضيل مفهوم كلام الباحث على القول بالسببية..

وقلت (مفهوم) لأن النقاش ليس واقعا على التسمية بالمناسبة أو السببية،بل على الأمر الذي قام عليه ترجيح الباحث.



لأن أحكام الله عز وجل لا تعليل لها ولا أسباب .
فما رأي شيوخنا الأفاضل هنا ، لا سيما والشيخ مقر ومثبت بداهة لحكمة الله عز وجل ؟

(شائبة أشعرية)

الأشاعرة وإن كانوا يثبتون الحكمة لله تعالى فإنهم ينفون أن يكون لأفعاله أسبابا.. وخلط بعضهم بين هذا وذاك فقال أن نفيهم للثاني يلزم منه نفي الحكمة من الله بالكلية وليس بلازم.. فليُتنبه إلى مثل هذا ..
وعليه فقول: (لاسيما والشيخ مقر ومثبت بداهة لحكمة الله عز وجل ) لاعلاقة له بما قرره.

---
 
ملخص ما ذُكر أن المسألة لها وِجهتان :
1- وِجهة اصطلاحية مُحْدَثة أخرجتْ ما يدخل في الفهوم المعاصرة لمعنى مفردة "سبب" مع أن الفهم لم يتوارد إلى أذهان أئمة القرون المتقدمة .
2- وَوِجهة اعتقادية خاصة بأصحابها قامت على أساس من نفي التعليل لأفعال الله عز وجل .
وفي كلا الوجهتين يُلاحَظ مدى العمق والأصالة في التصوُّر والاحتِراز لاصطلاحات أئمة السلف المتقدمين رحمة الله عليهم أجمعين .
 
يبدو أن الباحث يريد أن ينحو بأسباب النزول منحى يبعد بها عن أفكار العلمانيين في الربط بين الآية القرآنية وسببها كما يربط بين العلة والمعلول.
وهذا منحى خطير من العلمانيين تستغل فيه أسباب النزول لتكريس فكرتهم عن القرآن الكريم وأنه بشري المصدر

لي عودة مع هذا الموضوع المهم إن شاء الله
 
أوافق الكاتب ليس في تغيير الاسم فحسب بل في تغيير المفهوم ومحتواه أيضا ؛ إذ إن مفهوم "أسباب النزول " لضيقه تنفلت منه جزئيات كثيرة مهمة جدا ؛ إذ عرّف العلماء مفهوم سبب النزول بقولهم" سبب النزول هو ما نزلت الآية أيام وقوعه " ولذلك أنكروا على الواحدي إيراده قصة قدوم أبرهة الأشرم باعتباره سببا لنزول سورة الفيل ؛ بل وجعلوا هذا الإنكار جزءا من تعريف المفهوم فقالوا بعد ذلك التعريف " ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل" إذ استندوا على لفظ (السبب) وما يقتضيه من معنى .
وإذا كان ما ذكروه صحيحا فإنهم قد وقعوا في الإشكال المفهومي نفسه ؛ إذ ذكروا من الأسباب المهمة جدا تعلّق آيات كثيرة بأفعال كانت للعرب في الجاهلية ؛ واذكر منها ثلاثة أمثلة فقط ؛ وهي :
طواف المرأة عارية :
قال تعالى :(يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
ويتعلق ذلك بمخالفة عادة في مجتمع مكة الجاهلي وهي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة فأُمر المسلمون بأخذ الزينة (لبس الثياب) وكان هولاء الجاهليون لا يأكلون اللحم في أيام الحج فأمر الله المسلمين بالأكل والشرب خلافاً لفعل الجاهليين، وروى النسائي : ( عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة ......) فنزلت( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي عند كل صلاة وطواف ، ولهذا قال أكثر أهل العلم وجمهور فقهاء الأمصار أن ستر العورة من فروض الصلاة واستدل بعضهم بأن الله عز وجل قرن في هذه الآية أخذ الزينة بذكر المساجد يعني الصلاة ، لأن الآية نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء
مضاعفة الربا:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) فالآية تنهي عن أكل الربا المضاعف الذي كان في الجاهلية ، وهي لم تتناول الربا بإطلاقه ؛ وإنما تناولت – للتشنيع - حالة من حالته الفظيعة في الجاهلية فحسب. وقد كانت عادتهم إذا حلّ أجل قضاء الدين يقول صاحب المال للمدين : إما أن تقضي ما عليك وإما أن تربي ، أي : تزيد ، وهكذا يتضاعف القليل كل عام فيصبح كثيراً مضاعفاً ، فالنهي في الآية نهي عن أخذ هذا الربا المضاعف الذي كان في الجاهلية معمولا به .
وراثة النساء :
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) والآية تصور عادة اجتماعية ذميمة عند العرب الجاهليين ليست فيها من العدالة شيء ، كما أن فيها ظلم كبير يقع على المرأة التي كانت مضطهدة في الجاهلية فكرّمها الإسلام، وقد كانت عادة الجاهليين التي نهى الله عنها في هذه الآية هي: أنهم كانوا يرثون النساء أنفسهن ؛ وليس أموالهن ؛ كأنهن نوع من الأنصبة الموروثة ؛ إذ كانوا إذا مات الرجل منهم كان ورثته يرثون - ضمن ما يرثون - زوجاته ، فيصيرون أحق بها من نفسها وأهلها فإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا حبسوها عندهم وأمسكوها حتى تدفع لهم ما ورثته من الميت فدية وربما ألقى عليها الوارث ثوبا فيرث نكاحها فيكون هو أحق بها وقد تعدى الفعل "ترثوا " إلى النساء ؛ لتنزيلهن منزلة الأموال الموروثة ، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية وقد جاءت الآية لإلغاء ولاية أهل الزوج بعد موته على الزوجة ، وهذه الملابسات لا يمكن فهم الآية بدونها إطلاقاً.
وكل تلك الآيات قد تعلقت بأمور قبل الإسلام ولا يمكن أن تفهم إلا بها ومثلها في كتب" أسباب النزول " كثير ؛ وهي أوصاف لمقامات وأحوال تناولتها الآيات وليست بأسباب نزول ؛ إذ ليس كل مقام سببا وإن كان كل سبب مقاما .
ورغم أن هولاء العلماء الذين أنكروا على الواحدي إيراده قصة الفيل قد قالوا بضرورة وقوع سبب النزول أيام نزول الآية إلا أنهم أوردوا فصلا في كتبهم عن "تقدم نزول الآية على الحكم" أي أن تنزل الآية أولاً ثم تقع الحادثة التي نزلت فيها.
وبذلك تنفلت بصورة واضحة جدا بعض النماذج عن القاعدة التي حددوها ؛ إذ أنه إذا كانت الأخبار الماضية لا تصلح أسباباً عندهم فينبغي أن تكون كذلك الأمور المستقبلية إلا أنهم ذهبوا رغم ذلك إلى أن نزول الآية قد يسبق سبب نزولها ؛ وذلك نحو قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) التي قال عمر بن الخطاب فيها : لم أعلم أي جمع حتى وقعت بدر والحق أن هذه الواقعة لا تصلح سببا بحسب تعريفهم الأول إلا أنها واقعة مهمة تشكل المقام المستقبلي الذي نزلت فيه الآية .
أما قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) في سورة الأعلى المكية التي ذهبوا إلى أنها قد نزلت في زكاة الفطر ولم يكن في مكة من زكاة ولا عيد ؛ فهي – كما هو واضح - لا تشير إلى معنى مستقبلي ، ولهذا فإن نزولها بمكة قبل سببها الذي جاء بعد سنوات بالمدينة أمر لا يُتصور ؛ وذلك للآتي :
- وردت ثلاث آيات مكية أخرى وهي تحمل هذا اللفظ " تزكى" أي : تتطهر من دنس الكفر ، ولم يقل أحد أنها بالمعنى الشرعي للزكاة التي هي دفع مال مخصوص ؛ ومن ذلك قوله تعالى :(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) وقوله : (وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) ، وجاء على لسان موسى لفرعون : (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى) وسورة الأعلى التي فيها الآية المعنية سبقت في النزول السور المكية الأخرى التي فيها لفظ " تزكى" وهي : فاطر وطه والنازعات .ولهذا ذهب الطبري لهذا المعنى الذي هو التطهر من دنس الكفر؛ يقول في معنى هذه الآية : ( قد نجح وأدرك طلبته من تطهَّر من الكفر ومعاصي الله، وعمل بما أمره الله به، فأدّى فرائضه ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل)
- من الأدلة التي تؤكد أن الزكاة هنا هي زكاة النفس لا المال أن قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) كقوله عن النفس في سورة مكية أخرى :(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) والتزكي في الآيتين واقع على النفس لا المال ، ولهذا قال قتادة: " تزكى " أي :بعمل صالح
- إذا كانت الزكاة هنا هي زكاة المال لا النفس ، فليس هذا دليلا على أن المقصود زكاة الفطر التي جاءت بالمدينة ، وقد جاء في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أرأيت قوله : (قد أفلح من تزكى) للفطر ؟ قال : هي في الصدقة كلها( ويبدو أن الزكاة – وإن لم تحدد بالشكل المعلوم – قد كانت معروفة بمكة قبل الهجرة ؛ وليس ذلك فحسب بل قد وردت في سورة المزمل ؛ وهي من أوائل السور نزولا ؛ وذلك في قوله : (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، ولما كان الأمر كذلك فليس هنالك من مبرر لادعاء مدنية سبب تلك الآية التي يمكن أن يصرف فيها معنى التزكي بسهولة إلى تزكية النفس من ناحية ، ثم إن ذكر الزكاة المتعلق بالمال لم يقتصر في السور المكية على المزمل فحسب من ناحية أخرى بل وردت زكاة المال في آيات مكية كثيرة ؛ وذلك نحو قوله : (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ ) في سورة الأعراف ، وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) في سورة المؤمنون وقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) في سورة النمل وقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) في سورة لقمان ، وقوله : (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) في سورة فصلت ، فلا يُتصوَر أن تكون كل هذه الآيات آيات مدنية أو ذات أسباب مدنية وهي في سور مكية.
والحق أن أسباب النزول هذه – على أهميتها – لا تراد إلا للفهم والتفسير ؛ إذ هي تشكل المقام الذي يفهم في إطاره المعنى ولا قيمة لخصوصيتها إطلاقا غير ذلك ؛ إذ إن العبرة بعموم اللفظ في الآية.
وأسباب النزول المروية ليست على درجة واحدة في الإفهام وبيان المقام ؛ فمنها ما هو مهم جداً حيث يتوقف فهم المراد من الآية على علمه أو كذلك الذي يأتي مبيناً للمجملات ودافعاً للمتشابهات ومنها ما ليس مهماً أصلا في ذلك الإفهام ؛ وذلك كالحوادث التي تأتي مساوية لمدلولات الآيات فلا تبين مجملا و لا تخصص مدلولاً ولا تقيده ،أو تلك الحوادث التي تكثر أمثالها فتختص بشخص واحد كمثال "
وإذا كان سبب النزول – على قلة رواياته الصحيحة – يبين المقام فحسب -فكل ما يؤدي دوره في تبيين المقام يكون إطارا بشرط أن يكون صحيحا سواء جاء من الروايات الصحيحة أو تم استنباطه من النص القرآني نفسه بصورة سليمة ؛ ولهذا يقول ابن عاشور " نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ، وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل .
ومفهوم الصحابة هذا لأسباب النزول- وإن تم التعامل معه في مصنفات العلماء باعتباره ليس دقيقاً فإن الباحث يرى أن ذلك يحتاج إلى دراسات معمقة؛ إذ لاحظ الباحث أن العبرة عند هولاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إنما تعلقت بالأوصاف والأفعال الواقعية التي حدثت وما يترتب عليها من أحكام في الآية ولا عبرة بالأشخاص والأعيان الذين نزلت فيهم الآية ؛ فهذه الأسباب لا تراد لذاتها بل تراد لمعان دقيقة كامنة فيها ، ولهذا تراهم رووا في أسباب نزول آية واحدة ثلاث قصص مختلفة ولا جامع بين هذه القصص إلا الوصف أو الفعل الذي تعلقت به الآية ، وهذا يدل دلالة واضحة جداً على أنه لا عبرة إلا بهذا الوصف الذي يقع من الناس في كل زمان ومكان ؛ وبذلك ينفتح تعريفهم على المقام بصورة أكبر مستخلصين منه النقاط المنهجية التي كانت أهمية الأسباب والمقامات فيها .
وإذا كان مفهوم "سبب النزول" بصورته المتأخرة هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه- فإن المقام هو ما نزلت الآية متحدثة عنه بشكل من الأشكال أو مبينة لحكمه فحسب ؛ ولأجل ذلك فهما متداخلان يقول ابن عاشور "ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه وهي تعين على تصوير مقام الكلام
إلا أن الفرق هو أن سبب النزول جزء من المقام وليس العكس ؛فكل سبب نزول هو مقام وليس كل مقام سببا ؛ إذ إن مفهوم المقام أوسع وأشمل
واقترح أن تُسمى أسباب النزول بـ"المقام" وبعضهم يسمي هذا المقام سياق الحال أو مقتضى الحال ونحو ذلك .
اعتراض على تسمية "مناسبة النزول"
أعجبتني الفكرة ، ولكن التسمية الجديدة التي اقترحها رغم أنها قد تكون مناسبة جدا في إطار الدراسات القرآنية ، ولو لا أمر شديدة البشاعة في واقعنا الفكري المعاصر - لوافقته عليها بلا تحفظ ، ولكني أجد نفسي تتزاور عن هذه التسمية ذات اليمين وذات الشمال ،وما ذاك إلا لأن الحداثيين الذين ينخرون في عظم الأمة ويحاولون هدم ثوابتها قد ركزوا دراساتهم حول "أسباب النزول " وهي عندهم كـ"مناسبة القصيدة "تماما ؛ بل وأحيانا يقلبون التسميات فيقولون "مناسبة الآية" و" أسباب نزول القصيدة " وهم بذلك يحاولون إزاحة الأحكام القرآنية بالجملة والكلية ؛ بدعوى ارتباط هذه الأحكام بواقع مخصوص هو "أسباب النزول " أو واقع النزول لا غيره ؛ وبناء على ذلك تم تقييد الآيات في الزمان والمكان اللذين نزلت فيهما من ناحية وخصصت بالأعيان والأشخاص بحيث لا تتعداهم إلى سواهم من ناحية أخرى ؛ فأفضى ذلك – عندهم – إلى القول بأن الآيات القرآنية وأحكامها كانت حلولاً مؤقتة لزمن ومكان مخصوصين ، وقد ذهب عبد المجيد الشرفي إلى أن أسباب النزول تثبت أن القرآن قد انطوى على حلول ظرفية استجابت لواقع تاريخي محدد ولوضع معرفي معين .
وقد جعل أصحاب الحداثة أسباب النزول مدخلاً للتاريخانية التي حاولوا من خلالها -كما يدعون - الكشف عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي تولّد منه هذا الدين وإعادة تفسيره حسب مقتضيات العصر ؛ فذهبوا إلى أن القرآن مرهون بتاريخه ؛ إذ هو عندهم مجرد إنتاج نسبي مقيّد بزمانه وغير صالح لكل زمان ، وزعموا أن هذه التاريخانية تمثل الثورة الكوبرنكية في الدراسات القرآنية.
ومن أسوأ كتبهم في ذلك "أسباب النزول علما من علوم القرآن" لبسام الجمل الذي تخبّط تخبطا شديدا ودرس أسباب النزول من وجهة نظر علمانية بحتة ، وكذلك كتاب أستاذه عبد المجيد الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ " وأيضا هنالك كتب كبيرهم الذي علمهم السحر محمد أركون "تاريخية الفكر العربي "و"الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" ، وقد ذهب محمد أركون من خلال "أسباب النزول" إلى أن القرآن مشروط بتاريخيته أو بلحظته التاريخية التي ظهر فيها ، وذهب أيضا إلى أن مقولة " الإسلام صالح لكل زمان و مكان " ما هي إلا مجرد صرامة عقائدية جامدة للتصورات القديمة الموروثة عن الإسلام ، ويجب أن لا تجعل الإسلام مستعصيا على التاريخ أو أنه فوق الزمن و الواقع التاريخي وذكر أيضا أن أسباب النزول لم تُوضع بعد على محك النقد التاريخي و الأدبي ، الذي لا بدّ عنه ، ومن تلك الكتب أيضا كتاب "من العقيدة إلى الثورة " لحسن حنفي الذي ذهب إلى أن كل الآيات لصلتها القوية بذلك الواقع التاريخي قد كان لها أسباب ؛ إذ أن أسباب النزول تعني – عنده – أولوية الواقع على الفكر وأن كل آية إنما هي تعبير عن موقف وحل لمشكل وهذا دليل – عنده - على تكيّف الوحي بالواقع ومناداته له.
أخيرا أليس لي العذر بعد ذلك في رفض التسمية التي اقترحها الكاتب رغم جمالها داخل ذلك الإطار الذي ينطلق منه
 
التعديل الأخير:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحسن الله إليك فضيلة الشيخ أبا مجاهد، فالتعبير بالمناسبة أدق من التعبير بالسبب، وأقل إثارة للشبهات. ويا ليت الدارسين لكتاب الله اليوم يراجعون هذه المسألة! والله الموفق للخير والمعين عليه.
 
وهذا نقل نفيس من كتاب الدكتور / محمود توفيق سعد - حفظه الله - التفكير البلاغي في بيان الوحي
يقول فيه : وأهل العلم بكتاب الله  لا يجعلون أسباب النزول مخصّصة للمعنى القرآني بحيث لا يؤخذ من البيان إلا ما كان متعلقا بسبب نزوله وإن كان ذلك السبب متواترًا ، فإنّهم على وعي بالغ أنَّ ذلك ما سُمي سببا من أنّه كان علة نزول الآية أو الآيات وأنه لولاه ما تنزلت الآيات ، بل النّزول كان عند حدوث هذا الحدث فبينهما علاقة اقتران ، لا علاقة تسبب وتعلل بحيث إذا حدثت العلة حدث المعلول، وإذا ارتفعت العلة ارتفع المعلول ، فذلك لا يقول به المحققون من أهل العلم بكتاب الله  ، ولذا كان من قولهم في هذا الباب:" العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" وتسميتها أسباب نزول منظور فيها إلى جانب الاقترانِ لا جانب العليّة
 
وهذا نقل نفيس من كتاب الدكتور / محمود توفيق سعد - حفظه الله - التفكير البلاغي في بيان الوحي
يقول فيه : وأهل العلم بكتاب الله  لا يجعلون أسباب النزول مخصّصة للمعنى القرآني بحيث لا يؤخذ من البيان إلا ما كان متعلقا بسبب نزوله وإن كان ذلك السبب متواترًا ، فإنّهم على وعي بالغ أنَّ ذلك ما سُمي سببا من أنّه كان علة نزول الآية أو الآيات وأنه لولاه ما تنزلت الآيات ، بل النّزول كان عند حدوث هذا الحدث فبينهما علاقة اقتران ، لا علاقة تسبب وتعلل بحيث إذا حدثت العلة حدث المعلول، وإذا ارتفعت العلة ارتفع المعلول ، فذلك لا يقول به المحققون من أهل العلم بكتاب الله  ، ولذا كان من قولهم في هذا الباب:" العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" وتسميتها أسباب نزول منظور فيها إلى جانب الاقترانِ لا جانب العليّة
 
عودة
أعلى