نحو دراسة علمية لتاريخ التفسير وتطوره
الدكتورة : فريدة زمرد
هذا البحث عموما هو محاولة لبيان أهمية الدرس التاريخي بالمعنى الفلسفي الإبستيمولوجي لعلم التفسير باعتباره وسيلة تُعيننا – لا شك – على مكامن القوة والضعف في هذا العلم (علم التفسير) ، وذلك من أجل تدارك ما قد يكون قد وقع فيه من خلل ، واستئناف القول فيه على بصيرة ، وتحقيق التجديد المنشود فيه . ولربما هذه النقطة الأخيرة هي التي كانت حافزا لي للمشاركة بهذا الموضوع في مؤتمر تطوير الدراسات القرآنية .
في تقديمي لهذا الموضوع لا بد من الإقرار لمسألتين أو لحقيقتين :
الأولى تتعلق بالإقرار بعلمية التفسير : فالحديث عن مفهوم تاريخي أو مفهوم علمي لتاريخ العلم – أي علم – يقتضي منا أن ننطلق من مسلمة علمية هذا العلم .
المسألة الثانية : مع الإقرار بأهمية هذا النوع من التأريخ ، الإقرار بصعوبته أيضا . وهذه الصعوبة ترجع من جهة إلى الدارس الذي ربما لا تكاد تكون لديه أدوات الدرس التاريخي بهذا المفهوم . وأيضا إلى الموضوع المدروس ، وهو (علم التفسير) الذي يعرف تشعبا في قضاياه ، حيث يصعب على المتتبع لتاريخه السيطرة عليها .
مع ذلك فإن هذه مغامرة لتقديم مقترح هذا الموضوع على صعوبته . فالذي يسر لي نوعا ما هذا الأمر ، أولا : تجربة دراسة وتدريس لمادتي تاريخ التفسير والتفسير المقارن . واحدة نظرية والثانية تطبيقية ، ثم وأن مجموعة من الملاحظات استقيتها أو سهل لي ويسر لي الوصول إليها برنامج الجامع التاريخي للتفسير .
اقترحت في هذه الورقة أن أعرض لمستويين من التأريخ للتفسير :
مستوى التأريخ الأفقي ومستوى التأريخ العمودي .
الذي درج عليه الباحثون كثيرا في التأريخ لعلم التفسير والعناية بالتاريخ الأفقي الذي يرصد أو يصف تاريخ التفسير من حيث النشأة والتطور والمراحل والمدارس والمصنفات وما إلى ذلك . وهذا المستوى حقيقة فيه الكثير من التأليف وإن كانت فيه مجموعة من الثغرات لن أقف عندها الآن .
المستوى الذي يهم والذي نحتاج إلى تَبيُّنِه ثم إلى إعماله وتطويره ، هو المستوى العمودي الذي يحفر نوعا ما في دقائق العلم والتأريخ لهذه الدقائق . وهو أيضا مستويان :
مستوى التأريخ للنظريات والمناهج التفسيرية ، ومستوى التأريخ للقضايا والمفاهيم التفسيرية التي تداولها المفسرون في مختلف العصور .
هذا النوع من التأريخ العمودي لم يحظ بعناية الباحثين ، وهو في غاية الأهمية ؛ يعيننا على تَبيُّن حقيقة التطور الذي حصل في علم التفسير .
على مستوى التأريخ الأفقي الذي فيه مؤلفات ، اقترحت أن يتم النظر فيه من خلال ثلاث محطات :
محطة التأسيس / محطة الجمع / محطة الترسيم .
ولكل محطة خصائص ومميزات ، وفيها كلام مفصل تجدونه في الورقة .
المهم أن هذا التأريخ بمستوييه من الطبيعي أو من المفروض أن يؤدي بنا أو يعيننا على ملاحظة التطور الحاصل في العلم .
ومن خلال مجموعة من الملاحظات الأولية في جزء من التراث التفسيري (لأن صعوبة الدارس ترجع إلى تشعب وضخامة التراث التفسيري) ، فبالنظر إلى ما يكون النظر فيه من كتب التفسير يلاحظ أن الذي حصل في تاريخ التفسير يمكن أيضا أن نميز فيه بين مستويين :
النظر الحاصل في المادة التفسيرية في المضامين
النظر الحاصل في المناهج التفسيرية .
على مستوى المادة التفسيرية ، نجد أن التطور الذي حصل في تاريخ التفسير بالنظر إلى المحطات السابقة لا يعدو التفصيل من جهة في كل مكونات المادة التفسيرية ؛ التفصيل إما في شرح المفردات ، أو التفصيل في بيان الأحكام والمعاني التي فُسرت بها الآيات . وحين أقول التفصيل ، فهو تفصيل لما أُجمل في مرحلة التأسيس التي كانت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، المفسرون الأوائل للنص القرآني . ثم الإضافة ، وهذه الإضافة في كل المستويات ؛ في الجانب اللغوي ، في الجانب النظري الاجتهادي ، وأيضا حتى في الجانب النقلي إلى حد ما . هذه الإضافة أيضا اتخذت صورا ؛ منها الإضافة على مستوى المعارف العلمية التي لها تعلق مباشر أو غير مباشر بالمعاني والأحكام ، وربما في كثير من الأحيان تكون لها علاقة بالمفسر بالدرجة الأولى بحكم اهتمامه الخاص بتخصصه العلمي ، وأيضا مذهبيته أو غير ذلك .
أيضا هناك مستوى من التطور حصل ، وهو الاستكثار من كثير من اللطائف سواء اللغوية أو البيانية أو حتى على مستوى المعاني ؛ من النكات العلمية التي قد لا تمت بصلة إلى البيان المباشر للقرآن الكريم .
على مستوى التطور الذي يمكن أن نلحظه على مستوى المناهج ، فالأمر يصعب كثيرا أن نُعطي حصيلة أو نقدم نتيجة لداسة التطور الحاصل حسب المناهج التفسيرية أو النظرية التفسيرية ، ولكن يكفي أن نشير إلى ملاحظات ؛ لأن المشروع كله هو مشروع مقترح قابل للتدقيق ويحتاج إلى التفصيل وإلى جهود متضافرة . لذلك هذه الملاحظات هي على مستوى تطور المناهج التفسيرية والنظرية التفسيرية .
الملاحظة الأولى : مرحلة التأسيس هي مرحلة جد مهمة وأساسية لرصد التطور العام والأسس العامة للمنهج التفسيري ، الذي أُرْسِيَ في تزامن مع نزول القرآن الكريم ، على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، ثم على يد التابعين بعدهم . ولذلك فأي درس للتطور الحاصل على مستوى المنهج التفسيري يجب أن ينطلق من تمحيص ومعرفة دقيقة بهذه المرحلة المؤسِّسة للقول التفسيري ، على مستوى المضمون ، وحتى على مستوى المنهج ؛ لأن رغم خلو هذه المراحل التأسيسية عموما من تاريخ العلم ، هي عموما تخلو من النظرات التقعيدية والجوانب النظرية . ولكن هذه النظرات هي – دون شك – كامنة وراء الممارسات التطبيقية والعملية التي كانت في هذه المراحل . ولذلك كثير من الباحثين استطاع أن يستنبط منهجاً للتعامل مع النص القرآني واستشراف نظرية للتفسير انطلاقا من منهج تعامل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مع كتاب الله عز وجل .
أيضا ملاحظة أخرى : وهي أنه حتى يتبين بوضوح ودقة طبيعة المنهج التفسيري في الفترات المتقدمة التي عليها يُبنى القول في المراحل الأخرى ، لا بد من النظر في العلوم المجاورة والمكملة لعلم التفسير وخاصة - ونحن نتحدث عن الجانب التنظيري – أصول الفقه ؛ لأنه وقع تداخل كبير – وهو معروف – في التنظير للنظر في كتاب الله عز وجل في هذا العلم . لذلك وجب أن ننظر إلى الموضوع بنوع من التكامل نوعا ما بين هذه العلوم المتجاورة .
هذه خلاصة مختصرة بحسب ما يسمح بها الوقت لهذه الفكرة ؛ فكرة أو خطة أو لنقول اقتراح مشروع لدراسة تاريخ التفسير من هذه الزاوية . هي في الحقيقة اعتبرها دعوة إلى إحياء روح التكامل المعرفي بين العلوم التي كانت حاضرة في الجسم العلمي بمفهومه الإسلامي الأصيل . وأقصد هنا بالدرجة الأولى ما أشرت إليه في البداية ، أن هذا النوع من التأريخ هو يستفيد أو يجب أن يستفيد من أدوات الدرس الإبستيمولوجي الفلسفي الذي أيضا نجد له ملامح في تاريخ العلم الإسلامي ، وليس فقط ما نجده في الغرب . أيضا هذا المشروع هو مشروع يحتاج إلى تضافر جهود كما قلت ؛ لأنه يتوقف على تمحيص دقيق للتراث التفسيري في جانبيه التنظيري والتطبيقي . وهو تراث ضخم – دون شك - وما وصَلَنا منه ربما ليس هو كل ما أُنتج . فلذلك أقترحْتُ مجموعة من التوصيات ، لعلها تعين على الانطلاق في هذا المشروع والعمل فيه ؛ من قبيل إنشاء خلايا البحث في نظريات تاريخ العلوم للاستفادة منها منهجيا . ونستفيد خصوصا من الباحثين في مجال العلوم الإنسانية في هذا الباب ، نظرا لقلة هذه الأدوات عند الباحثين في العلوم الشرعية .
أيضا أقترح وضع خطة عمل لجمع ما كتبه المفسرون حتى نكون على بينة ، وتكون لنا رؤية واضحة لواقعنا ، ثم نستشرف مستقبلنا ونبنيه ، لا بد من دراسة تاريخنا وجمع ما كتبه المفسرون وعلماء القرآن على مستوى المناهج التفسيرية والأسس النظرية - هذا في الجانب النظري في علم التفسير - على مر العصور . ولا يمكن وأن يُكلَّف بذلك مجموعة من الباحثين ؛ لأنه لم تُجمع لدينا – للأسف – هذه المادة وِفْقَ خطة علمية متكاملة وشاملة إلى حد ما .
أيضا أقترح وضع خطة عملية ، لرصد القضايا والمفاهيم العلمية التي عالجها المفسرون . وهي كثيرة جدا ومتشعبة ومتنوعة بتنوع المعارف والعلوم المختلفة ، التي وجَّهَتْ المفسرين حسب تخصصاتهم ، وحسب حاجات التخصص في كل عصر .
وأيضا ، لا شك أننا نحتاج إلى رصد ما أُنجِز من أعمال وأبحاث ومشاريع اليوم ، قد تكون لها علاقة بهذا المشروع ، وقد تكون مكملة له ، يمكن أن نستفيد منها ونبنيَ عليها ، حتى لا يكون عملنا يفتقر إلى المنهجية المطلوبة .