تابع الدرس الثالث: تفسير سورة البقرة (الجزء الثاني)
من الآية [142 – 145]
هذه الآيات شرّف الله بها هذه الأمة بأعظم شرف، وهو: شرف ولاية قبلة إبراهيم.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر البيت، وذكر تشريف إسماعيل ببنائه، توجس المشركون وأهل الكتاب من أنّ الله عز وجل سيُشرّف وسيُكلف هذه الأمة بقبلة إبراهيم عليه السلام، فنبه الله المؤمنين تهيئة بما سيقع من الكافرين والمنافقين وأهل الكتاب قبل وقوعه، فقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).
الفائدة الثانية: قال الله عز وجل: (سيقول) ولم يقل: (قال) مع أنّ الآية نزلت بعد تحويل القبلة إلى البيت الحرام، لكنّها وضعت في هذا الموضع: تهيئة للمؤمنين ليستقبلوها ويُعدوا أنفسهم لما سيُواجهونه.
الفائدة الثالثة: المقصود من قول الله: (السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ): المنافقون، ومشركو أهل مكة، وأهل الكتاب من اليهود، وعبّر عنهم بالسفهاء: تقليلًا لشأنهم، فكأنّ الله تعالى يقول: اتركوهم، فهؤلاء لا عقول لهم.
الفائدة الرابعة: تساءل السفهاء فقال: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)؟ والمقصود بالقبلة التي كانوا عليها مختلف فيه:
- فقيل: هي الكعبة، قبل أن يوجّه النبي لبيت المقدس.
- وقيل: هي بيت المقدس.
- وقيل: هي بيت الحرام بعد أن وجّه وحُوّل من بيت المقدس.
والآية محتملة لجميع الأقوال.
ثم رد الله على سؤالهم، فقال: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي: ما شأنكم؟ الأمر لمن؟ من الذي يُدبّر الأمر؟
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل إشارة لشرف المؤمنين: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالله هداهم إلى قبلة الأنبياء جميعًا.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وهذه الآية ليس لها ارتباط صريح بالقبلة، وإنما ارتباطها بأنّ الله لمّا ولى أمة محمد القبلة، وأراد لها أن تشّرف، قال: أنتم الخلفاء في الأرض، أنتم الذين تنالون شرف أمانة الدين.
الفائدة السابعة: في قوله تعالى: (أُمَّةً وَسَطًا) دليل على أن الدين الإسلامي دين متوسط بين التشديد والتساهل.
الفائدة الثامنة: نأخذ من قول الله عز وجل: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) مشروعية الشهادة، خصوصًا في أمور الدين لمن كمُل إيمانه وعدالته.
الفائدة التاسعة: نأخذ من قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) أنّنا مأمورون بتبليغ هذا الدين، ونحن شهود عليه.
الفائدة العاشرة: اشتملت القبلة في قول الله عز وجل: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) على أمرين: التشريف والتكليف للأمة:
- تشريف بأنّ الله ولاهم قبلة إبراهيم.
- وتكليف لأنّها ستُلاقي بسبب هذا الابتلاء الاستهزاء والسخرية.
الفائدة الحادية عشرة: قال تعالى مبتليًا المؤمنين: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي: ممن هو صادق في إتباع الرسول فيما ولاه الله عليه.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) يعني أمر تحويل القبلة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) يعني إلا من كان إيمانه مستقرًّا.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عز وجل: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) لأنّه لما حوّل القبلة من البيت المقدس إلى البيت الحرام، وكان من المؤمنين من قد تُوفي قبل تحويل القبلة، قال المنافقون محاولين زعزعة قلوب المؤمنين: ماتوا على غير الإسلام.
فقال المؤمنون من الصحابة: ما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟
فرد الله عليهم وسدّ كل الشبه، فقال: (وما كان الله ليضيع إيمانكم).
الفائدة الرابعة عشرة: عبّر الله عن الصلاة بالإيمان: للدلالة على أنّ الإيمان هو مناط القبول في الصلاة، وأنّ الله تعالى سيتقبّل من أولئك صلاتهم لإيمانهم وصدق توجههم؛ فكأنّ الله يقول: ما دام أنهم ماتوا على الإيمان فإنّي سأتقبّل منهم كل شيء عملوه لي، فشملت الصلاة وغيرها.
الفائدة الخامسة عشرة: صرّح الله عز وجل بالأمر باستقبال البيت الحرام بعد أن مهد بعدة ممهدات، فقال: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) والممهدات هي:
- قوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
- وقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى).
- وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ).
- وقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ).
- وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
كل ذلك تهيئة لهذه الأمة لأن تتلقى أمر الله بالقبول والتسليم والانقياد والطمأنينة التامة في مواجهة ما يلاقونه من استهزاء وسخرية وكيد.
الفائدة السادسة عشرة: جاء الخطاب للنبي مباشرة في قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) والمعنى: قـد نرى أنك تتطلع إلى ربك إلى أن يحولك من بيت المقدس إلى البيت الحرام، ويدل قوله هذا: (قَدْ نَرَى) على:
- عناية الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم-.
- وعلى كريم وعظيم أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يريد ويتطلع إلى أن يحول إلى بيت الله الحرام، لكنه لم يسأل ربه أدبًا منه، ولأنه يخشى أن يكون في ذلك كلفة على نفسه أو على أمته.
الفائدة السابعة عشرة: قال الله عز وجل: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) ولم يقل: (لنصرفنك) أو (لنحولنك): لأن التولية تدل على ولاية وعناية الله.
الفائدة الثامنة عشرة: قال الله عز وجل: (تَرْضَاهَا) ولم يقل: (تهواها) أو (تحبها): لأن الرضا رغبة ومحبة ناشئة عن تعقل.
الفائدة التاسعة عشرة: خص الله عز وجل الأمر ابتداءً إليه -عليه الصلاة والسلام- فقال: (فَوَلِّ وَجْهَكَ): لأنه هو الأصل في التبليغ، وأمته متبعة له.
الفائدة العشرون: نأخذ من الآية السابقة عدة أحكام:
- لزوم تولي الإنسان وجهه إلى القبلة، وعدم جواز الالتفات في الصلاة.
- لزوم استقبال جهة القبلة لمن لم يكن معاينًا لها.
الفائدة الحادية والعشرون: قال الله تعالى: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) ولم يقل: (شطر البيت): لأن الأمر متعلق بالصلاة، فتسميته بالمسجد أنسب.
الفائدة الثانية والعشرون: قال الله عز وجل بعد أن خص النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأمر: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فعممه للأمة ليتعين أمرها، مع أن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- يكفي، والسبب هو: أن الأمر متعلق بالقبلة، والقبلة أمرها عظيم في الإسلام، فهي أصل في الدين، لهذا أكد الله الأمر.
الفائدة الثالثة والعشرون: قال الله عز وجل مخبرًا عن حال أهل الكتاب: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لأن في كتبهم ما يدل على أن هذا النبي ستكون قبلته البيت الحرام، لكنهم كتموا ذلك.
الفائدة الرابعة والعشرون: قال الله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وفي قراءة قال: (عما تعملون): فعما تعملون أنتم يا أمة محمد في اتباع أمر الله لكم، وعما يعملون هم -أي أهل الكتاب- في مخالفتهم وفي كتمانهم.
الفائدة الخامسة والعشرون: أخبر الله عز وجل عن عدم متابعة أهل الكتاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال مفاصلًا: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) فالله تعالى آنس نبيه -عليه الصلاة والسلام- وطمأنه وسلاه بهذه الآية؛ لئلا يضيق صدره وصدر المؤمنين عليهم.
الفائدة السادسة والعشرون: في قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) دليل على ثبوت أمر القبلة إلى قيام الساعة.
الفائدة السابعة والعشرون: قال الله تعالى مؤكدًا على أن أهل الكتاب لن يتبعوا النبي: (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) يعني أن أهل الكتاب لا يمكن أن يتبعوا قبلة بعض، فاليهود لن يتبعوا قبلة النصارى، والنصارى لن يتبعوا قبلة اليهود، فكيف بقبلتك يا محمد!
الفائدة الثامنة والعشرون: قال الله عز وجل مخاطبًا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا خطاب شديد وعظيم فيه توعد، ليعظم الأمر ولتتبعه أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعده، وليس مقصود به ذات النبي، وإنما المقصود به ذات الأمر.
الفائدة التاسعة والعشرون: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقصد مخالفة اليهود بعد هذه الآية؛ لهذا يجب علينا مخالفة اليهود.
من الآية [146 -150]
ثم قال الله عز وجل مبينًا كتمان أهل الكتاب للحق: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وهذا يدل -كما قيل سابقًا- على أنهم كانوا يعرفون محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أتى به، ويدخل في ذلك معرفتهم أمر القبلة.
والمفسرون اختلفوا في الذي يعرفونه: فقيل: هو أمر القبلة، وقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو القرآن.
لكن الظاهر -والله أعلم- أن المقصود به هنا: النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ لأنه ملائم لسياق الآيات.
ثم أكد على أن أهل الكتاب يعرفون النبي حق المعرفة، بل هم أعرف بالنبي من العرب، فقال: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) لكن (فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أي: الذي في كتبهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه الحق.
ثم ذكر الله عز وجل في الآية التي تليها كلمة فيها الفصل، وفيها إثبات الأمر؛ حتى يستقر في نفوس المؤمنين، وحتى لا يتزعزعون في أمر القبلة، وحتى يرسخ في قلوبهم أن هذا هو الحق، وأن هذه القبلة هي القبلة ولا شك فيها، فقال: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وهو خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه متوجه لأمته.
ثم قال: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ولم يقل: (الشاكين): لأن الامتراء أدق من الشك.
ثم قال تعالى في الآية التي تليها: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي: أن كل أمة لها قبلة، فاليهود لهم قبلة، والنصارى لهم قبلة، وأنتم يا أمة الإسلام لكم قبلتكم تولونها.
ثم قال: (فاستبقوا الخيرات) أي: اغتنموا هذه النعمة الربانية -أي: القبلة- التي شرفكم الله بها وصلوا إليها، واتركوا الخوض في الجدال مع أهل الكتاب، فأنتم لستم مسؤولون عنهم.
قال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ولم يقل: (استبقوا توجه القبلة): ليعم ذلك جميع الأعمال الصالحة، والقبلة أصل.
فائدة: جاء الأمر بالتوجه للقبلة ثلاث مرات:
- الأمر الأول: أمر بالتوجه ابتداءً (... فول وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...)
- والأمر الثاني: أمر لإثبات أنه الحق (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
- والأمر الثالث: أمر لإقامة الحجة (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لئلا يكون للناس عليكم حجة) أي: بعد هذا البيان التام.
والمقصود بالناس في قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) هم الظالمون والكافرون واليهود والمنافقون والمشركون.
ثم قال: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي: إلا الذين خرجوا عن أمر الله وجاؤوا بأمر من عندهم سيبقون على عنادهم واحتجاهم بأوهى الحجج (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) وهذا دليل على حفظ الله ومدافعته للمؤمنين إلى يوم القيامة.
ثم قال: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي: نعمة الدين، وهذه الجملة فيها إشارة للتشريعات التي ستنزل بعد تحويل القبلة.
ثم قال: (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فكأنه بهذه الجملة أراد أن يشوق المؤمنين للتشريع؛ لأنهم إذا كانوا متشوقين لأمر، لا شك أنهم سيتلقونه بالقبول.
من الآية [151 – 153]
ثم ذكر الله تعالى هنا منته على المؤمنين، فقال: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ) أي: أتممت عليكم بأن منحتكم خير قبلة كما أرسلنا فيكم خير رسول، فاغتبطوا بهاتين النعمتين.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى هنا: (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ويعلمكم الكتاب والحكمة) وقال في الآيات السابقة في قصة إبراهيم: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) فقدم التزكية هنا، وأخرها هناك:
لأن الحديث هناك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ووظائف الرسول بالترتيب: تلاوة ثم تعليم ثم تزكية.
أما الحديث هنا عن الأمة، وما منّ الله تعالى به عليهم، فقدم التزكية لأنها هي الثمرة المرجوة للأمة.
الفائدة الثانية: أقرب طريق للتزكية هو تلاوة القرآن المتدبرة.
الفائدة الثالثة: وعد الله الأمة بأن يفتح لها العلم والعلوم، فقال: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) فمن أخذ هذا القرآن وتعلمه وتزكى به فإن الله سيفتح له آفاق العلم.
الفائدة الرابعة: مناسبة قول الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) أن الله بعد أن منح هذه الأمة هذه النعم التي لم يمنحها أحـد قبلهم، شرع لهم أن يذكروه ويشكروه حق شكره.
الفائدة الخامسة: قال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي) ولم يقل: (اشكروني) يعني اشكروا لي بالعمل، وبالتمسك بهذا الدين واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الفائدة السادسة: مناسبة قول الله تعالى: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ): أن الله بعد أن حول المسلمين إلى القبلة، ورسخ في قلوبهم أنها الحق، كان ذلك دافعًا للكافرين والمنافقين واليهود إلى أن يشنوا هجومهم -بقدر استطاعتهم- على المسلمين بعد أن أكرمهم الله بهذه القبلة؛ حسدًا وبغيًا، فأمر الله المؤمنين أن يستمسكوا بهذا الحق وألا يفرطوا فيه، ونبههم على إنهم سيواجهون حربًا بعد اليوم، فيجب أن يستعينوا بالصبر والصلاة.
الفائدة السابعة: يدل قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) على أن الله مع هذه الأمة ما دامت مستمسكة بدين الله سبحانه.
الفائدة الثامنة: خص الصبر والصلاة هنا؛ لأن الصبر يكون على حصول ما لا ينبغي، والصلاة تكون لحصول ما ينبغي.
من الآية [154 – 157]
ثم ذكر الله هذه الآيات التي نزلت في قتلى بدر من المسلمين التي هي مناسبة مع الأمر بالصبر في الآية السابقة.
وسبب النزول: أن الناس كانوا يقولون للرجل الذي يُقتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) ولم يقل: (ماتوا) لأن معنى أموات: أي مات ذكرهم وحظهم من الدنيا، وأما معنى ماتوا: هم من ماتوا بأشخاصهم، فدل قوله (أموات) على المعنيين جميعًا، أي: موتهم وموت ذكرهم ونعيمهم.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (بَلْ أَحْيَاءٌ) فخصص الذين قتلوا في سبيل الله بالحياة، مع أن كل من مات هو حي في قبره، لكن الذين قتلوا في سبيل الله لهم حياة خاصة ورزق خاص في الجنة، لهذا خصهم الله تعالى بالحياة هنا، وفي هذا دليل على فضل الشهداء إذا ماتوا في سبيل الله.
الفائدة الثالثة: مناسبة قول الله عز وجل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أن الله تعالى يوم أن أكرم أمة الإسلام بكثير من النعم قال: لا تحسبون الحياة كلها رفاهية وراحة، لا، بل لابد من المشقة ولابد من الصعوبة ولابد أن يواجهكم أعداء الله، وستجدون في ذلك فقرًا وجوعًا ونقصًا؛ لأنهم سيحملون هذا الدين، فربما يشغلهم عن أمر دنياهم.
الفائدة الرابعة: كلمة (شيء) تفيد أن هذا الذي سيصيبكم ليس بشيء، أو هو شيء يسير في مقابل ما هم فيه من نعم.
الفائدة الخامسة: خص الخوف والجوع ونقص الأموال والأولاد والثمرات في الآية السابقة؛ لأنها أمور متعلقة بالجهاد، فالذي يذهب للجهاد يكون في قلبه خوف طبيعي بشري، ويكون خروجه هذا دون أمواله فيكون معرضًا للفقر المسبب للجوع، ويكون خروجه سببًا في قلة العناية بمزارعه وثماره فيضعف إنتاجه، ويكون معرضًا للقتل، فيقول الله لهم: اصبروا واحتسبوا.
الفائدة السادسة: وقعت هذه الأمور الخمسة للصحابة:
فالخوف الشديد: حصل في وقعة الأحزاب، وأما الجوع: فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة لقلة أموالهم، أما النقص في الأموال والأنفس: فقد حصل عند محاربة العدو؛ لأنهم ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد، ولأنهم وقد يقتلون، أما نقص الثمرات: فقد كان بالجدب وبترك العمارة؛ وذلك بسبب انشغالهم بجهاد الأعداء عن مزارعهم وثمارهم.
الفائدة السابعة: قال الله عز وجل في خاتمة الآية السابقة: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ثم ذكر صفات الصابرين الخُلّص (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
الفائدة الثامنة: قال الله تعالى لهم: قولوا (إِنَّا لِلَّهِ) لأنها تتضمن إقرارهم بالعبودية، وتفويض الأمور إليه سبحانه، والرضا بقضائه وقدره فيما يبتليهم به، أي: نحن لله عز وجل فما يكتب لنا، فهو خير لنا؛ لأن الله عز وجل لا يريد بنا إلا الخير.
وقال لهم أيضًا: وقولوا (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) لأنها تتضمن كمال اليقين، يعني: نحن راجعون إليه فسوف يجازينا على هذه المصائب وهذا الابتلاءات.
الفائدة التاسعة: قوله تعالى: (قَالُوا) يفيد أن الاعتقاد يقوى بالتصريح والقول، ويدل على ذلك أن الإنسان إذا أعلن شيئًا ما، فهذا يدل على أنه مستقر في قلبه، وإذا أخفاه دل على أن عنده شك فيه.
الفائدة العاشرة: قال الله عز وجل في جزاء الصابرين: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) وقوله: (أُولَئِكَ) يدل على بُعد منزلتهم في الكمال، وقوله تعالى: (صلوات) بالجمع، يدل على عدة معاني:
- يدل على الثناء عليهم، والمغفرة لهم.
- ويدل على كثرة وتكرار الصلاة والثناء منه سبحانه وتعالى لهم.
- ويدل على المبالغة في كمال الرضا منه سبحانه وتعالى؛ لأنهم كَمُل رضاهم بربهم، فكان الجزاء من جنس العمل.
الآية [158]
ثم قال الله عز وجل هذه الآية التي هي متعلقة بآيات القبلة وليست متعلقة بآيات الصبر؛ فبعد أن ثبّت الله تعالى أمر القبلة ورسخها في قلوب المؤمنين ونفوسهم، توجّه إلى شأن ما يتعلق بالقبلة، وهو الصفا والمروة، الشعائر التي ورد فيها خلاف وإشكال.
فالصفا والمروة كانتا من مشاعر الجاهلية، وكان فيهما صنمان لقريش، فكان الأنصار يتحرجون ولا يسعون بينهم؛ لأنهم كانوا لا يريدون أن يتابعوا قريش على ذلك، فلما جاء الإسلام سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فأنزل الله الآية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي: ليست من شعائر الجاهلية، بل من شعائر الله، فأراد الله تعالى أن يبين حكمها وحكم السعي بينها.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله عز وجل: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ولم يقل: (فمن حج البيت أو اعتمر فليسعى بينهما): لأنه لما كان هناك حرج واختلاف وخلاف وإشكال أراد الله أن يرفع الحرج فقال: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
الفائدة الثانية: لا يشرع السعي بين الصفا والمروة إلا في النسك، بخلاف الطواف حول الكعبة فيشرع في غير النسك؛ لأن الله تعالى قال: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) ولم يقل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فاطوفوا بهما).
الفائدة الثالثة: قال الله تعالى كلمة (خَيْرًا) نكرة في قوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) لأنها تدل على كل خير، وخاصة ما تعلق بالحج والعمرة؛ لأن السياق فيهما، ولذلك في الحج والعمرة تشرع كثرة الأعمال الصالحة، والذكر، وغيرها، وهذا من كمال الحج والعمرة.
من الآية [159 -162]
ثم قال الله عز وجل بعد أن بيّن حال القبلة، وحال الصفا والمروة وما تعلق بهما: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) فتوجّه الخطاب مرة أخرى إلى أهل الكتاب تهديدًا وتوعدًا وإيقافًا لسيل هجومهم على المسلمين.
ثم قال الله تعالى للفصل معهم: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) فطردهم من رحمته، بعد أن منح هذه الأمة الرحمة الكاملة.
ثم قال: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) لأنهم أخفوا الحق عن الناس فكان حقهم اللعنة من الناس.
ثم قال في الآية التي تليها: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) فرغبهم في التوبة.
ثم قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) يعني إن استمروا على هذا، فسيجدون عند الله في الآخرة -بعد لعنهم في الدنيا- لعنة الآخرة، لعنات متتالية متتابعة على من كفر وكذب بعد هذا البيان التام (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ).
من الآية [163 – 164]
بعد أن انتهى الله مع الكافرين وأهل الكتاب وقطع الأمر معهم، انتقل إلى الحديث عن المؤمنين وبيّن أصل تشريعهم.
وأصل التشريع هو: التوحيد، فكل عبادة لله عز وجل مرتبطة بالتوحيد، وكل عبادة خرجت عن التوحيد فهي غير مقبولة.
فأراد الله هنا أن يجعل هذه قاعدة للتشريع الذي سيبدأ في تشريعه وفي بيانه وتفصيله، فقال في تقرير أصل التشريع: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) والآية هذه جمعت بين الترغيب والترهيب.
ثم قال الله تعالى لترسيخ التوحيد في قلوبهم مرة أخرى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهذا يدل على العناية الربانية لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه أراد أن يرسخ ويرسخ ويرسخ هذه القاعدة حتى لا يكون هناك مجال لزعزعتها.
وخص الله الأمور المذكورة في الآية بالذكر: لأنها جامعة بين كونها دلائل وبراهين تدل على الإله الحق، وبين كونها نِعَمًا على المكلفين على أوفر حظ ونصيب.
من الآية [165 – 167]
بعد أن ذكر الله التوحيد، ذكر هنا الطائفة المخالفة لهذا التوحيد تحذيرًا للمؤمنين من أن يتشبهوا بهم أو يتأثروا بهم؛ لأنهم كانوا مخالطين لهم فقال الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا).
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: الأنداد هم:
- قيل: هم الآلهة.
- وقيل: هم أربابهم ورؤسائهم وزعمائهم الذين يأمرونهم وينهونهم.
وكلا القولان صحيحان؛ لأن الآلهة يعبدونها من دون الله، والرؤساء يطيعونهم من دون الله، فهم مشركون بالله في التوحيد، وفي العبادة.
الفائدة الثانية: قال تعالى: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) فأثبت لهم محبتهم له، مع شركهم بمحبة غيره.
الفائدة الثالثة: قال الله عز وجل ترغيبًا وتشويقًا وثناءً: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي: قد خلصت محبتهم لله سبحانه وتعالى.
الفائدة الرابعة: قد يرد إشكال، وهو: هل المؤمنون يحبون غير الله، لكن محبة الله هي أشد؟
لا، وإنما المقصود أن هؤلاء الكافرون يحبون الله محبة مشتركة، أما المؤمنون يحبون الله محبة خالصة، ولو قال (أكثر) لربما دل على ذلك، لكنه قال: (أشد) مما يدل على قوة محبتهم لله.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى في بيان شناعة حال المشركين في الآخرة بعد بيان شناعة حالهم في الدنيا: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) وهذا تهديد وتخويف لهم.
الفائدة السادسة: قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) أي: الرؤساء (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي: التابعين (وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) أي: أسباب النجاة.
فكأن الله يقول: هؤلاء الذين يشركون بالله سيرون أن هؤلاء الآلهة والأصنام والرؤساء هم الذين يتبرؤون منهم يوم القيامة، وهذا يدل على خسرانهم الشديد.
من الآية [168 – 169]
قال الله عز وجل هذه الآيات في بيان أن أصل التشريع هو الحلّ، وأن التشريع قائم على أصلين عظيمين: وهو الحلال الذي أمر الله به، والطيب.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: بدأ الله بذكر المطاعم والمكاسب قبل غيرها في هذه الآية، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) لأن باب المآكل والمشارب والمطاعم هو أول باب فتح في الجاهلية في التحليل والتحريم، فقد حرموا ما أحل الله من المطاعم ومن المكاسب، فابتدأ الله بما قد أُخل ليصحح التوحيد.
فقد أخل اليهود بالمكاسب، فأحلوا الربا، وأكلوا أموال الناس، وأدلوا للحكام بأموالهم.
وقد أخل المشركون بالمطاعم، فحرموا ما لم يحرمه الله من بهيمة الأنعام.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فالشيطان يأمر بكل خبيث:
- بالسوء، وهي الصغائر.
- وبالفحشاء، وهي الكبائر.
- وبالقول على الله بغير علم.
الفائدة الثالثة: التشريع مبني على التوحيد ومتفرع عنه، وأن التوحيد مستلزم لاتباع التشريع.
الفائدة الرابعة: مصدر الحلال ومنشؤه هو الشريعة وما تأمر به، ومصدر الحرام ومنشؤه هو الشيطان وما يأمر به.
الفائدة الخامسة: أصل الشريعة الحل ما لم يأت دليل على التحريم؛ فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) فالمحرمات معدودة والمباحات موسعة.
الفائدة السادسة: شرع الله مبني على موافقة الطبائع البشرية والفطر السليمة؛ لهذا قال: (طَيِّبًا) بخلاف ما يأمر به الشيطان.
الفائدة السابعة: كل ما أمر الله به وشرعه فهو حلال طيب وكل ما أمر به الشيطان فهو حرام خبيث، فكل ما أمر الله به طيب، وكل ما أمر به الشيطان خبيث.
من الآية [170 - 171]
ثم ذكر الله تعالى آية في بيان موقف المكذبين من التشريع، فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا) فكأنهم قالوا: لن نتبع هذه الشريعة، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من المعتقدات والتقاليد، فأعلنوا كفرهم وإشراكهم.
فرد الله عليهم: (أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون) أي: أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئًا من الهدى والنور، ولا يهتدون إلى الحق الذي يرضى الله عنه؟!
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى أن هؤلاء الكافرين الذين يتبعون أربابهم ورؤساءهم مثل الأنعام تناديها فتأتي، تسوقها فتذهب، فقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) فشبه المتبِعون الذين يسوقونهم أربابهم حيث يشاؤون بالبهائم؛ لأنهم يحلون ويحرمون لهم ما يريدون وما يشاؤون، فحكم الله عليهم أنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
من الآية [172 – 173]
هذه الآيات تأكيد وتوسيع للطيّب الذي في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) وبيان أن الحل الطيب واسع، وأنه يستحق الشكر والعبادة والامتثال.
ومناسبة الآية: أن الله لما بين أن بعض الناس لم يستجيبوا له، وقالوا: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا) وجانبوا الحق واتباعه، قال الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي: كونوا أنتم على الحق واشكروا الله عز وجل على هذه الهداية والتوفيق.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ): ليزيل ما قد يُظن من: أن هذا الدين يَمنع التوسع ويَأمر بالتضييق والتشديد.
وحقيقة هذا الدين عكس ذلك، فالدين: يوسع الطيبات ويحلها، ويحرم الخبائث وما هو ضار.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (مَا رَزَقْنَاكُمْ) ليبين أن هذه الطيبات مِنة منه أحلّها لكم.
الفائدة الثالثة: المراد بالشكر في قوله: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) يشمل القلب واللسان والجوارح.
الفائدة الرابعة: قرَنَ الله تعالى بين الشكر والعبادة في قوله: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ليبين أن شكر الله يتحقق بعبادته حق العبادة، فدل على أن الشكر لله يكون باللسان والعمل معًا.
الفائدة الخامسة: حصر الله عز وجل المحرمات في قوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مع أنها ليست هي هذه المحرمات فقط في الشرع!
الجواب على ذلك: أن الله هنا بيّن أصول المحرمات التي استباحها المشركون من الطيبات، وهي المتعلقة بجناب التوحيد، فهي ليست جامعة للمحرمات كلها، وإنما ذكر المحصور ردًا على المشركين وتعريضًا بهم.
الفائدة السادسة: المراد بالمحرمات المذكورة في هذه الآية:
- الميتة: هي كل ما مات دون ذكاة مما له دم، واستثني منه ميتتان، هما: الحوت والجراد.
- الدم: المقصود به الدم المسفوح -كما ذكر سورة الأنعام-.
- لحم الخنزير: وهو الحيوان المعروف.
- ما أهل لغير الله: وهو ما ذبح لغير الله عز وجل.
الفائدة السابعة: قال الله تيسيرًا للمضطر إلى أكلها: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه.
من الآية [174 – 176]
ثم قال الله عز وجل مهددًا أهل الكتاب مرة أخرى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ثم قال مبينًا جزاءهم في الآخرة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).
ثم ذكر الله خاتمة الجزء الأول من السورة، فقال: (ذَلِكَ) أي: ذلك هو الجزاء على كتمان العلم والهدى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) أي: بعد البيان الواضح في هذه السورة (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) وسيلقى جزاءه عند الله عز وجل.
الآية [177]
هذه الآية التي افتتح الله تعالى بها القسم الثاني من السورة، وتسمى آية البر.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: جاءت هذه الآية كحلقة وصل بين القسم الأول (بناء العقيدة) وبين القسم الثاني (بناء الشريعة) حيث جمعت ما سبقها من أصول الإيمان، وجمعت ما سيأتي بعدها من أصول الأعمال والأخلاق، إذن هذه الآية جمعت ثلاثة أصول:
- أصول الإيمان.
- أصول الأعمال.
- أصول الأخلاق.
الفائدة الثانية: ابتدأت الآية بتقرير حقيقة الدين، فقال الله عز وجل: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) والحقيقة هي: أن الدين ليس مجرد مظاهر ورسوم، وإنما هو الإيمان، وما يظهر من آثاره في النفس؛ من الأعمال والأخلاق.
الفائدة الثالثة: عبر الله تعالى بالبر عن الأصول كلها؛ لأن البر اسم جامع للخير كله.
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل مبينًا أصول الإيمان: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ثم قال مبينًا أصول الأعمال: (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ) ثم قال مبينًا أصول الأخلاق: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ).
الفائدة الخامسة: ذكر الله تعالى بعد أصول الإيمان أصول الأعمال التي هي ثمرته، ثم ذكر أصول الأخلاق التي هي ثمرة الأعمال، فثمرة الإيمان -إذن- الأعمال، وثمرة الأعمال الأخلاق.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (وآتى المال عَلَى حُبِّهِ) للدلالة على أن الإنسان يجب يؤتي المال بطواعية ورغبة.
الفائدة السابعة: قدم الله عز وجل إيتاء المال على الصلاة والصيام: لأن أهم أنواع البر المتعلقة بالخَلق بعد الدين البر بالمحتاجين، وأيضًا قدمها تحفيزًا لنفوس المسلمين في بدء نشأة الدولة المسلمة وتقوية أواصرهم وتكاتفهم وقيام هذه الدولة.
الفائدة السابعة: قدم الله عز وجل: (ذَوِي الْقُرْبَى) المحتاجين على باقي الأصناف؛ لأن الصدقة على الأقرباء صدقة وصلة.
الفائدة الثامنة: ذكر الله الأصناف الأحوج للنفقة؛ لضعفهم وعجزهم وانقطاع أمرهم.
الفائدة التاسعة: المقصود من الأمر بإيتاء المال هو: قضاء حاجة المحتاجين، وتقوية رابطة المجتمع المسلم.
الفائدة العاشرة: علاقة إقامة الصلاة بإيتاء المال: أن الصلاة هي الركن الروحي، وإيتاء الأموال هي الركن المادي، فبعد أن ذكر الركن المادي ذكر الركن الروحي الذي يعزز الركن المادي، فاجتمع في ذلك بناء مادي جسدي، وبناء روحي قلبي؛ وذلك ليكتمل بناء المجتمع المسلم.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله عز وجل: (وأقام الصلاة) يعني أدّوها على أكمل وجه، كما أمر الله تعالى ورسوله.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى: (وَآَتَى الزَّكَاةَ) مع أنه قال في بداية الآية: (وَآَتَى الْمَالَ): المقصود هنا: تأكيد فريضة وركن الزكاة وأنها من الدين أصلًا، أما ما سبق: فهو في الحديث عن النفقة عمومًا، والزكاة داخلة فيها، فكأن الأول ممهد للثاني.
الفائدة الثالثة عشرة: جمع الله تعالى بين صفة الوفاء بالعهد، والصبر، فقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ) فدل على أنهما أهم صفتين في الأخلاق.
الفائدة الرابعة عشرة: قال الله تعالى: (وَالصَّابِرِينَ) ولم يقل: (والصابرون) مع أنها معطوف على (والموفون): إشعارًا بأهمية الصبر وأنه ذو منزلة عظيمة جامعة، فالإيمان لا يكون إلا بالصبر، والأعمال الصالحة لا تكون إلا بالصبر، والأخلاق الفاضلة لا تكون إلا بالصبر، وأيضًا للدلالة على ما يجب التحلي به عند فرض التشريعات التي ستأتي.
الفائدة الخامسة عشرة: ذكر الله عز وجل أنواع الصبر، فقال: (الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ):
- فالبأساء: هي شدة المال؛ مثل الصبر على الفقر.
- والضراء: هي شدة الحال؛ مثل الصبر على مرض.
- وحِينَ الْبَأْسِ: مثل الصبر على الحرب والقتال.
الفائدة السادسة عشرة: ختم الله تعالى بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) إشارة إلى علو منزلة الصادقين والمتقين.
الفائدة السابعة عشرة: جمع الله تعالى بين الصدق والتقوى؛ لأن الصدق امتثال، والتقوى اجتناب.
الفائدة الثامنة عشرة: أعاد الله عز وجل اسم الإشارة (أُولَئِكَ): للدلالة على كمال أمـر هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات.
من الآية [178 – 179]
ثم ابتدأ الله الحديث هنا عن الأحكام مباشرة، وافتتح بأحكام القصاص أولًا دون أحكام الصيام، والحج، والأسرة وغيرها، والسر في ذلك: أن السورة جاءت في بناء المجتمع المسلم لإقامة الدين، ولا يقوم الدين إلا حين يلتئم الأمن وتستقر الحياة، فأراد الله عز وجل أن يحفظ حياة الناس أولًا قبل أن يشرع لهم التشريعات؛ لأن إقامة الأمن سبب في إقامة الدين، فهذه الآية دليل صريح ظاهر على العناية الإلهية.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) يعني فرض وأوجب عناية بكم وبحياتكم وبأمنكم، والكتابة هنا ليست هي الفرض بمعنى المتعين على كل شخص أن يقيمه، وإنما إذا وقعت واقعة من قتل أو نحوه تحتاج إلى إقامة هذه الشعيرة وهذا الحد.
الفائدة الثانية: المقصود بالقصاص: المماثلة والمساواة في الِقوَد.
الفائدة الثالثة: عبر الله عن قتل المعتدي بالقصاص: لتضمنه معنى المساواة، والتعبير به فيه إظهار لحكمة الإسلام في التشريع، وهو إقامة العدل والمساواة بين الناس في حفظ حقوقهم.
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل: (الحر بالحر وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) ولم يقل: (الذكر بالذكر):
- ليدل على عناية الله بالمرأة.
- ولأن حكم القصاص للرجل في الجاهلية معروف، فإذا قَتل رجلٌ رجلًا، قُتل الرجل وزيادة؛ لكن إذا قُتلت امرأة لا يقيمون حقها، فأقام الله حقها صريحًا هنا وذكرها بالخصوص.
الفائدة الخامسة: شرع الله العفو في القصاص ولم يكن ذلك في أي شريعة من قبل، فقال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أما القتل عند اليهود جزاؤه القصاص حتمًا لا عفو فيه، والقتل عند النصارى يجب فيه العفو، فجاءت الشريعة معتدلةً ومتوسطةً في ذلك.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى: (مِنْ أَخِيهِ) ولم يقل: (من وارث المقتول): للترغيب في العفو، يعني كأنه يقول هذا أخوك المسلم فاعفو عنه؛ ليحفزه ويدعوه لاستشعار هذه الأخوة، فيعفو.
الفائدة السابعة: قال الله تعالى: (شَيْء) فدل على أن أي عفو من أي فرد من أفراد المقتول يَسقُط به القصاص، وهذا يدل على رحمة الله وعنايته وحرصه على العفو.
الفائدة الثامنة: قال الله عز وجل موصيًا أهل الحق: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) فأوصاهم بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير تعنيف وتشديد وإلحاح، ثم قال موصيًا المعفو عنه: (وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) فحثه على أن يؤدي الدية التي عليه من غير مماطلة ومن غير بخس ونقص وتأخير، ففي ذلك ضبط لباب العفو، حتى لا يكون هناك مجال لأحد الطرفين في المراوغة أو المماطلة.
الفائدة التاسعة: قال الله عز وجل: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ليؤكد أن شريعة الله قد اشتملت على الرحمة والتخفيف.
الفائدة العاشرة: قال الله تعالى: (من ربكم) ولم يقل: (من الله): ليدل على عناية ورعاية الله بعباده، فاشكروه وأقيموا دينه كما أمركم.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي: من أولياء المقتول الورثة، بأن يقتل أحدهم أحدًا من ورثة القاتل بعد أن عفي عنه، أو بعد أن اعتُدي على أهل القاتل (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
الفائدة الثانية عشرة: مناسبة قول الله تعالى: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) هو قطع لباب الاعتداء الذي كان في أمر الجاهلية حيث كانوا يقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله تعالى تثبيتًا لحكم القصاص في نفوس المؤمنين وإشعارًا بأن هذه هي المصلحة، حتى لو رأيتم أن هذا فيه إزهاق لتلك النفس: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لأن قتل المعتدي -كما قيل- قطع لسبيل الاعتداء على الناس جميعًا، فهو إحياء للناس جميعًا.
الفائدة الرابعة عشرة: لما كانت حِكمة القصاص وغايته تحتاج إلى نظر وتدبر لمعرفة المصلحة الباقية قال الله تعالى: (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
الفائدة الخامسة عشرة: الشريعة تحث على النظر إلى المصلحة المستقبلية، لا إلى المصلحة الحالية؛ لأن الإنسان إذا نظر للمصلحة الحالية، من غير نظر للعواقب فقد يتسبب في خطأ في تصرفه وعمله.
من الآية [180 – 182]
ثم ذكر الله عز وجل آيات الوصية بعد آيات القصاص، ومناسبة ذلك: أن القصاص داعي إلى الموت، فحث الله المعتدي بأن يوصي قبل أن يقتص منه، وهذا من عناية ورحمة الله بأهل وقرابة المعتدي.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: آية الوصية هي أصل في حفظ الحقوق المالية، وأصل في آيات المواريث؛ لأنها نازلة قبل آية المواريث.
الفائدة الثانية: اختلف المفسرون في نسخ هذه الآية، هل هي منسوخة بآيات المواريث أم لا؟ والصحيح والله أعلم أنها ليست منسوخة، وإنما هي باقية في الأمر بالوصية لغير الورثة، أما حق الوالدين مذكور في آية المواريث.
الفائدة الثالثة: كان أهل الجاهلية لا يورثون إلا الأبناء الذكور، وإذا لم يوجد الأبناء فهي لأول رجل ذكر له حق العصمة، فذكر الله هنا حق الوالدين والأقربين، ولم يذكر حق الأبناء؛ لأنه باقي على حكمه لا يحتاج إلى ذكر، فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بالمعروف حقًا على المتقين).
الفائدة الرابعة: ختم الله آيات الوصية بتوثيق حق الميت في وصيته، فقال: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) يعني: أن من غير في الوصية فعليه إثم عظيم عند الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: سميع لما يقال عليم بما يفعل.
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) يعني من علِم من صاحب الوصية ميلًا أو اعتداءً، في حياته أو بعد موته، فأصلح ما أفسد بنصحه في حياته، أو إبطال الوصية بعد مماته (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
من الآية [183 – 186]
ثم بعد ذلك جاءت أحكام الصيام، والسياق ما يزال في التأسيس، فذكر الأمن، ثم ذكر ما يعين على تحمل الشريعة -وهو الصبر- ثم ذكر أعظم ما يتمثل فيه الصبر -وهو الصيام-، فالصيام يربي في الإنسان الصبر، واحتمال مشاق الطريق وتكاليف الدين.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى تهيئة قبل فرض صيام رمضان بالإلزام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعنى لا تحسبوه فريضة عليكم فقط، بل هو قد فرض على من كان قبلكم، وقال ذلك لأن الصيام لم تعتده العرب من قبل، وهو شاق عليهم؛ فشرع الصيام في بداية الأمر بالتخيير: فمن شاء صام، ومن شاء فدى.
الفائدة الثانية: الصيام سبب لتقوى الله، قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
الفائدة الثالثة: قال الله عز وجل مخففًا على المسلمين أمر الصيام: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) يعني هي ليست بشيء مقابل عدد أيام السنة، ثم قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه) وفي قراءةٍ (يُطَوقونَهُ) يعني وعلى الذين يصومون وعليهم مشقة ولو يسيرة، فعليهم (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) والطوق في اللغة: هو القدرة على الشيء مع كلفة.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى مرغبًا في الصيام: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نستنتج أن: الصيام هو الخير وهو الأكمل والأفضل؛ مثل: الصيام في السفر لمن لا مشقة فيه، والصيام للمريض إذا لم يكن عليه ضرر بالصيام.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى -أيضًا- تهيئة وتمهيدًا لفرض الصيام بالإلزام: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ) يعني أنتم مأمورون بصيام شهر فاضل يستحق الصيام؛ أنزل فيه القرآن.
الفائدة السابعة: الصيام والقرآن كلاهما يحققان التقوى والكمال والإيمان.
الفائدة الثامنة: قال الله تعالى: (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فأعاد ذكر الهدى مرتين: للإشارة إلى أن الصيام يورث القدرة على بيان القرآن وفهمه والوصول إلى هدايته، فالصائم بصفاء ذهنه وقلبه وجسمه يصفو عقله وقلبه لتأمل القرآن والتبصر فيه والاهتداء.
الفائدة التاسعة: أمر الله عز وجل صراحة بعد أن استقر الأمر: بالصيام في رمضان بالإلزام لمن قدر عليه، وعفى عن المريض والمسافر، ونسخ الأمر بالتخيير، فقال: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
الفائدة العاشرة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ) ولم يقل: (فمن رأى): لأن الشهادة تكون بأمرين: بالعلم أو الحضور للرؤية، فيدخل في ذلك علمه ورؤيته وحضوره.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله عز وجل: (الشَّهْرَ) بالألف واللام: لتدل على لزوم صوم الشهر كاملًا.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله عز وجل مخففًا مرة أخرى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فأعاد هذه الآية مع أنها ذكرت في الآية السابقة: خشية أن يظن أنها نسخت مع نسخ التخيير، ثم قال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عز وجل: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ولم يقل (ولتكملوا الشهر): لأن الآية دالة على القضاء، أي: عدة الأيام التي أفطرتم بها في رخصتكم.
الفائدة الرابعة عشرة: أُخذ من قوله عز وجل: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مشروعية التكبير ليلة العيد، ومشروعية الشكر والحمد لله بعد إتمام كل عبادة.
الفائدة الخامسة عشرة: قال الله عز وجل في آخر آيات الصيام: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان) فكأن الله تعالى يقول هذه جائزتكم إن أقمتم أمر الله وأتممتم هذه الشريعة، ولذلك ختم بقوله: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
الفائدة السادسة عشرة: آداب الدعاء وشروطه من هذه الآية الأخيرة:
- ورود الآية في سياق آيات الصيام يدل على فضل دعاءِ الصَّائم، وأنّه مرجوُ الإجابة.
- ورود الآية في سياق آيات الصيام يدلُّ على أنَّ من أحرى أحوال الإجابة: حال رقّة القلب وصفائه وخضوعه وخشوعه وانكساره وتعلّقه، وهذا مُتحقق في الصِّيام، وخصوصًا في وقت الإفطار.
- ورود الآية بعد قوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يدُلّ على أنّ الدُّعاء مشروعٌ بعد إتمام العمل الصالح؛ ولهذا شُرِعَ الدعاء بعد الطَّهارة، وبعد الأذان، ودُبِر كل صّلاة، وفي ختام أعمال الحجّ.
- ورود الآية بعد الأمر بالتكبير والشّكر في قوله: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يدل على مشروعية تقديم الثناء على الدُّعاء.
- قوله تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) يدلُّ على عدم مشروعية رفع الصُّوت بالدُّعاء، وهو الأصل.
- تقييد الإجابة بقوله: (إِذَا دَعَانِ) يدُلُّ على لزوم صِدق التّوجه إلى الله وحده في الدُّعاء.
- قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يدل على أن الاستجابة لأوامر الله بِصدقٍ وإخلاص سببٌ من أسباب الإجابة.
- قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يدل على مشروعية تقديم الأعمال الصَّالحة قبل الدُّعاء.
- قوله تعالى: (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) يدل على أنه يجب أن يكون الإنسان موقنًا بإجابة الله عزّ وجل.
الآية [187]
انتقل الحديث هنا إلى آيات الليل المشتملة على بعض أحكام الصيام ومحظوراته، فهذه الآية تعتبر مُكمّلة لأحكام الصِّيام.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: اشتملت هذه الآية على عدّة محظورات، وهي: الأكل، والشُرب، والجماع بعد تبيُّن الفجر، ومباشرة النّساء حال الاعتكاف.
الفائدة الثانية: قدَّم الله أمر المباشرة عامّة على باقي المحظورات؛ لأنه ألصق باللَّيل وأكثر وقوعًا.
الفائدة الثالثة: قول الله عزّ وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) يدلُّ على أنّ الجماع والأكل والشرب كان محرّمًا في اللَّيل أوّل ما فرض الصيام؛ لأنَّه ينافي حكمة الصِّيام، وهي رفع هذا القلب للتعلّق بالله، ثم بعد ذلك أُبيح في الليل بهذه الآية؛ تخفيفًا لهذه الأمّة.
الفائدة الرابعة: عبر الله عن الجماع بقوله: (الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُمْ): لأنه أمرٌ مُستكره في مثل هذه الأيام التي ينبغي أن تتعلّق فيها القلوب بالله.
الفائدة الرابعة: عبّر الله بقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) لشِدَّة الملاصقة والمُخالطة بين الرجل وامرأته، فلا يستطيعون أن يحافظوا على هذا الأمر، فعفا الله تعالى عنهم.
الفائدة الخامسة: قوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) يدل على سُنّة شرعية، وهي: حاجة الرّجل إلى المرأة، وحاجّة المرأة إلى الرّجل؛ ولكن حاجة الرّجل إلى المرأة أشد وأهم من حاجة المرأة إلى الرجل.
الفائدة السادسة: سبب نزول قول الله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ): أنه لما نزلت آية صوم رمضان، كان الصحابة لا يقربون النساء رمضان كله، وكان بعض الرجال تغلبهم أنفسهم فلا يستطيعون ترك ذلك فأنزل الله الآية.
الفائدة السابعة: المقصود بقوله: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) معنيان:
- جامعوهن وابتغوا قيام ليلة القدر؛ لأنَّ أعظم ما كتبه الله تعالى في هذه اللّيالي هُو ليلة القدر.
- جامعوهن وابتغوا الولد الصَّالح.
الفائدة الثامنة: قال الله عزّ وجل قاعدة من قواعد النِّكاح: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) فربط مقصد النّكاح بالمقاصد الشّرعية؛ من إعفاف كل واحدٍ لصاحبه وإحصانه، وقصد تكثير نسل أمّة محمد -صلى الله عليه وسلّم- لا لِمحض الشَّهوة الجنسية.
الفائدة التاسعة: سبب نزول قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) هو: أن قيسًا بن صَرِمة الأنصاري كان صائمًا، فلمَّا حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أَعِندكِ طعام؟ قالت: لا، لكن أنطلق فأطلبُ لك.
وكان يومه يعمل فغلبته عينه، فجاءته امرأته فلمَّا رأته قالت: خيبةً لك -يعني ستبيت جائعًا حتى يوم الغد-.
فلمّا انتصف النّهار غُشِيَ عليه من التَّعب، ولم يستطع أن يُقاوم، فذَكَر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية.
الفائدة العاشرة: قال الله عزّ وجل في تحريم المباشرة على المُعتكف ليالي رمضان: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) أيّ: لا تقربوهنّ ما دمتم عاكفين في المساجد.
الفائدة الحادية عشرة: الاعتكاف والصَّوم متحدان في الغرض، وهو: حبس النّفس عن الشّهوات؛ لتحقيق التّقوى وتقوية الصلّة بالله عزّ وجل، فلهذا شُرع الاعتكاف وشُرع فيه عدم المباشرة لينقطع الإنسان لربِّه، فلا يكون هُناك تعلّق بالدُّنيا.
الفائدة الثانية عشرة: كُلّ ما يقطع الإنسان عن علاقته بالله فهو محذور للمعتكف.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) ولم يقل (فلا تعتدوها) لأنَّها من الأحكام المرتبطة بالتَّشريع في العبادات، ولو كان الأمر متعلّقًا بحقوق العباد والمعاملات لقال: (لا تَعْتَدُوهَا).
الآية [188]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: علاقة الآية بآيات الصوم: أنَّ الحُكم هُنا داخل في المحظورات، فلَمَّا ارتقت النُّفوس بالتَّقوى، نهى الله عن أكل الأموال بغير حق.
الفائدة الثانية: عبّر الله عن أخذ الأموال بالأكل: لأنّ أعظم وأكثر منفعة في المال هو حصول الأكل منه.
الفائدة الثالثة: هذه الآية تشتمل على أصل من أصول الدّين وهو حفظ الأموال والحقوق، والمنع من الظّلم والتعدّي.
الفائدة الرابعة: يدخل في هذه الآية كل أكل للمال بالباطل؛ كالقمار والربا والخداع والغصب وغيرها.
الفائدة الخامسة: المقصود بقوله تعالى: (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) الحِيلة، فهذه الآية أصلٌ في تَحريم الحِيل.
الآية [189]
بعد انتهاء الصيام يأتي هلال شوال الذِّي به نهاية رمضان وبداية أشهر الحج، فقال الله عزّ وجل هذه الآية تهيئة وتمهيدًا لما سيأتي من أحكام للحجّ.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: السائل في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ): قيل: الصَّحابة -رضوان الله عليهم-، وقيل: المشركون.
الفائدة الثانية: سؤال السائلين هو: لماذا تبدو الأهلة صغيرة ثمّ تكبُر؟
فأجاب الله عزّ وجل عن حكمة ومقصود الأهلة، ولم يُجب عن سؤالهم؛ لأنه يريد أن يصَرَفهم إلى ما هو أَهم، فقال: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) والإجابة هذه تدل على أنّ الشريعة تعتني بالحِكَم، لا بالمظاهر والأمور النَّظرية الذّي لا طائلَ وراءها.
الفائدة الثالثة: في قول الله عزّ وجل: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أصلٌ من أُصول الدِّين، وهو: إقامة أحكام الشَّريعة على المواقيت، وبِنائِها عَلى الأهلّة.
الفائدة الرابعة: ربط الله تعالى الأهلة والمواقيت بالتشريع: للدَّلالة على وَحدانية مُوجِدِها ومُشَّرعها، وأنّ مُسيِّر الكون هو مسيِّر الشَّرع.
الفائدة الخامسة: جاءت آياتُ الأهلة بعد الصيام مباشرة: للدَّلالة على أنّ أشهر الحج تدخُل بهلال شوال، وهذا وجه تخصيص ذكر الحجّ في الآية.
الفائدة السابعة: سبب نزول قول الله عزّ وجل: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) كان الأنصار إذا أحرموا للحج لا يدخلون البيوت من الأبواب ولكن من الظهور؛ لئلا يُغطِّيهم السَّقف، اعتقادًا منهم أنّ الإنسان ما دام محرِمًا لا يجوز أن يُغطّيه حاجب ولا جدار، فجاء رجل من الأنصار فدخل من الباب، فعُير بذلك فنزلت الآية.
الفائدة الثامنة: قول الله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) يدل على أن البر لمن أطاع الله وآمن وصَدَّق وامتثل بما أمر.
الفائدة التاسعة: قول الله عز وجل: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) يدل على قاعدة من قواعد الدّين، وهي: أنه يجب على الإنسان يأتي الأمور على وجهها المعروف، ولا يتحايل.
الفائدة العاشرة: تدُلّ هذه الآية على أصلٌ من أصول الدِّيـن ومقصد من مقاصد الإسلام، وهو: ترك الغُلوّ، والتشّدد والابتداع في الدِّين.
من الآية [190 – 194]
ثمّ ذكر الله تعالى آيات القتال هذه النازلة في عُمرة قضاء الحديبية، والقصة هي: أنه لمّا مُنِعَ النَّبي -صلى الله عليه وسلّم- من البيت الحرام في سنة ستة، جاء في السنّة التي بعدها ليقضي عُمرته؛ لأنه كان في العهد الذي بينه وبين قريش أنه سيقضي عمرته في السنّة القادمة، فأَتى هو وأصحابه وكانوا مُتهيئِين للقتال بالسِّلاح؛ لأنهم لا يَدرُون ما سيفاجؤنهم به قريش، ربّما يخونونهم، أو يبغتونهم.
فلمَّا كانت نفوسهم متهيئة للقتال أنزل الله تعالى هذه الآيات، وليست هي تشريعٌ للقتال على وجه العموم، وإنّما إحكام القتال في أشهر الحج.
قال الله عزّ وجل: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي: فقط قاتلوا الذِّينَ يبدؤون قتالكم؛ ابتغاء رفع كلمة الله.
ثم قال: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعني: إذا ابتدؤوكم بالقتال اقتلوهم حيث وجدتموهم، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه -وهو مكة- (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يعني: والفتنة الحاصلة -وهي الصَّد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، ومنع المسلمين من العمرة- أعظم من القتل، ثم قال: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) يعني: ولا تبدؤوهم بقتال إذا دخلتم المسجد الحرام (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) يعني: حتى يبدؤوكم بالقتال فيه (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ...).
ثم قال: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) يعني الشَّهر الحرام هذا الذِّي تمكنتم فيه من دخول الحرم والعمرة، هو مثل الشّهر الحرام الذّي جِئتم فيه ومُنعتم فيه من دخول الحرم، يعني كأنه يقول: يومًا بيوم، ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) يعني: يجب أن يكون الاعتداء لمن اُعتديَ عليه فقط بالمماثلة (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
الآية [195]
ثم قال عز وجل آية الإنفاق هذه.
وعلاقتها بآيات القِتال قبلها، وبآيات الحجّ بعدها: هو أن القتال يحتاج إلى نفقة، والحجّ يحتاج إلى نفقة، فقال الله عزّ وجل هذه الآية إعدادًا للقتال، وتهيُّئًا للحج.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: المقصود من هذه الآية: لا تذهبوا للقتال من غير عُدَّة؛ لأن هذا إلقاءٌ للنّفس في التهلكة.
الفائدة الثانية: دلت هذه الآية على لزوم أخذ العدّة للقتال حال الخروج، ولا يكفي في ذلك التّوَكل على الله؛ لأن التّوكل لا ينافي الأسباب بل يُوافقها ويُكمّلها.
الفائدة الثالثة: دلت الآية على أنه لا يجوز أن يأتي الإنسان للحجّ وهو ليس معه شيء.
الفائدة الأولى: قوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يدل على عِظَم أمر الإحسان والإنفاق في سبيل الله تعالى، ويدل -أيضًا من جهة الحَجّ- على أنه يجب الإعداد للقيام بالحج على أكمل وجه وأحسن عمل؛ ولهذا أتبعها بقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ).
من الآية [196 – 203]
ثمّ جاء بدأ الحديث هنا عن آيات الحج.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: أخذ العلماء من قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) حكم فقهي، وهو: وجوب إتمام الحج والعمرة لمن دخل فيهما، حتى لو كان نفلًا.
الفائدة الثانية: قال تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يقل: (حُصُرتُم) لأن الحصر خاصّ بالعدو، أما الإحصار فهو الذي يمنعكم من الحج، فيدخل فيه العدوّ، ويدخل فيه المرض، ويدخل فيه أيّ حابس يحبس الإنسان.
الفائدة الثالثة: ذكر الله عز وجل حكم حلق الرأس في حال الإحرام، فقال: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ثمّ قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أي فعليه هدي جُبران، وهي: صيام ثلاثة أيام أو صدقة أو ذبح شاة.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) يعني: إذا وصلتم البيت، فمن كان حجه تمتعًا (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يعني: فعليه هدي شُكران؛ شكرًا لله على أن يسر له أداء النسكين بسفرة واحدة.
الفائدة الخامسة: الفرق بين هدي الشكران والجبران:
الشُكران: وهو هدي التمتّع، ويُشرع فيه الأكمل والأغلى والأسمن.
والجُبران: يكفي فيه ما تيسّر ولو شاة صغيرة أو ضعيفة.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي: هدي التمتّع (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) فقسّمها الله تخفيفًا للأمّة، ثم أكدّها لئلا ينسَوها؛ لأنّ الإنسان إذا ذهب إلى أهله انشغل بدنياه وأهله وربّما نسيّ ما وجب عليه، فقال: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) أي لا تتساهلوا في الباقي بعد أن صُمتم ثلاثة أيام.
الفائدة السادسة: ختم الله آيات التخفيف بالتشديد، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لأن هذه الآية نزلت في عمرة القضاء، والخطاب فيها راجع إلى أهل مكة الذين صدوا المسلمين وأرهبوهم؛ ففي هذه الجملة تبشير من الله ووعد للمسلمين بأنّ الله سيُعذّب الكافرين الذين كانوا في البيت، وسيمكنكم من البيت الحرام.
الفائدة السابعة: أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
الفائدة الثامنة: قال الله تعالى: (الحج أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) لأنّها معلومةٌ من أصل دين إبراهيم؛ لكن المشركون جاؤوا وأحدثوا وغيّروا وقدَّمُوا وأخروا حسب أهوائهم، فأقرّ الله هنا وقت الحج كما كان عليه وقت إبراهيم.
الفائدة التاسعة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) يعني: فمن دخل في الإحرام للحج (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وهذه هي محظورات الإحرام:
- الرفث ويدخل فيه الجماع -ابتداءً- والكلام القبيح والفاحش.
- الفسوق؛ مثل قتل الصيد، وحلق الرأس، ولبس الثياب والطيب، وتدخل فيه المعاصي كلها.
- الجدال، ويدخل فيه المِراء المؤدّي إلى النزاع والفرقة.
الفائدة العاشرة: في قوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) بيان ما يُنافي حقيقة الحجّ وصحته وأدائه؛ كالجماع، وبيان ما ينافي كمال الحج وإتمامه؛ كالفحش واللغو في الكلام.
الفائدة الحادية عشرة: خصص الله الجدال في المحظورات، فقال: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) لأنّ الحجّ مظنّة الجِدال والشقاق بسبب اختلاف الأوضاع.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى محفزًا النفوس المؤمنة إلى المسابقة لفعل الخير: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) فاغتنموا الحج في فعل الطاعات.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عز وجل: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) أي: تزودوا من الخير والطّاعة؛ لأن الحجّ يحتاج إلى تقوى باجتناب المحظورات وفعل المأمورات (واتقون يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) إن كنتم تريدون الكمال.
الفائدة الرابعة عشرة: قال الله تعالى في إباحة التجارة في الحج: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) ولم يقل: (وابتغوا من فضل الله في الحجّ): لأنّ المسلمين تحرّجوا من أن يُخالطوا الكفار في أسواقهم وهم آتون إلى الحجّ يُريدون وجه الله، فأباح لهم البيع والشراء؛ لئلا يكونوا في ضعف من أمرهم ومالهم وتزودهم، فيكون للكافرين عليهم منّة وفضل.
الفائدة الخامسة عشرة: في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) دليل على مشروعية التجارة في الإسلام لتكون للمسلمين قوّة واقتصاد.
الفائدة السادسة عشرة: أخذ بعض العلماء من قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) جواز أنّ يذهب الإنسان للحجّ للمتاجرة، وجواز أن يعقد الإنسان الحج عن غيره ويأخذ على ذلك دراهم، بشرط ألا يكون قصده بالحجّ ذاته المال.
الفائدة السابعة عشرة: بيّن الله أن الدفع يكون من عرفات، فقال: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) لأنّ المشركين لم يكونوا يفيضون من عرفات، بل يفيضون من مزدلفة، ويقولون نحن لا نخرج من الحرم؛ نحن أهل الحرم نبقى في أدنى الحرم في مزدلفة، أمّا غيرنا فيخرج، فلمّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- خالفهم وصار على ما كان عليه إبراهيم عليه السلام.
الفائدة الثامنة عشرة: قال الله (عرفات) ولم يقل: (عرفة) للدلالة على المكان لا على اليوم، وإنّما سُمّي عرفات لأمرين:
- لأنّ جبريل عرّف فيها إبراهيم بمواضع الحجّ، ولماّ أتى عرفة قال: عرفت الآن؟ فقال: عرفت.
- لأنّ آدم عرف حواء في عرفة.
والأول أصحّ وأظهر؛ لعلاقته بإبراهيم.
الفائدة التاسعة عشرة: في قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) دليل على أن الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة تكون بعد غروب الشمس.
الفائدة العشرون: هدى الله المسلمين لأصل الحجّ الذي كان عليه إبراهيم، وأبطل ما أحدثه هؤلاء المشركون؛ لهذا قال: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).
الفائدة الحادية والعشرون: قال الله عز وجل: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) والمقصود بالإفاضة هنا إفاضتان:
- الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة.
- والإفاضة من مزدلفة إلى منى.
والمقصود بالنَّاس هنا: الأمم السابقة، ومنهم إبراهيم عليه السلام، كأنّه قال: أفيضوا كما أفاض إبراهيم واتركوا مـا أحدثه المشركون.
الفائدة الثانية والعشرون: قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) إشارة إلى الخطأ الذي أحدثه المشركون في الحجّ، وإشعارٌ لهم إلى أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه ممّا أحدثوه، ويكونوا على ما كان عليه إبراهيم.
الفائدة الثالثة والعشرون: في قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) دليل على مشروعية الاستغفار بعد العبادة، لمظنّة النقص فيها، ولطرد العجب من النفس.
الفائدة الرابعة والعشرون: قال الله عز وجل: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) يعني: إذا انتهيتم من جميع مناسك الحجّ، ومناسبة قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) أن المشركين كانوا بعد الحجّ يُقيمون الأسواق فيذكرون آباءهم بالأشعار، والثناء، والتفاخر وغير ذلك، فكأنّ الله تعالى يقول: ينبغي أن تذكروا الله عز وجل هنا ولا تذكروا آباءكم.
الفائدة الخامسة والعشرون: في قوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) دليل على مشروعية الدوام على ذكر الله، وأنّ الإنسان لا ينقطع عمله حتى بعد أداء الفريضة والنُسك.
الفائدة السادسة والعشرون: ذكر الله تعالى حال الناس بعد الحجّ، فقال عن حال الكافرين: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أي: يقولون يا ربّنا ارزقنا كذا كذا من أمور الدنيا، والآخرة ليست همّهم وليست هي مطلبهم.
وقال عن حال المؤمنين: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي: يقولون: يا ربنا ارزقنا كل أمر حسن في الدنيا، وارزقنا كذلك كل أمر حسن في الآخرة، فجمعوا في هذا الدعاء بين خيَر الدنيا والآخرة.
ثم قال الله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعني: المشركون لهم نصيب في الدنيا، والمؤمنون لهم نصيبهم في الدنيا وفي الآخرة.
الفائدة السابعة والعشرون: نأخذ من الدعاء في قوله: (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) مشروعية ختم الإنسان دعاءه بهذا الدعاء؛ لأنّ الله خَتَم به أعمال الحجّ.
الفائدة الثامنة والعشرون: ختم الله آيات الحج بقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) للإشارة إلى أيام التشريق، ولأنها أيام قليلة، وليس فيها عمل كثير شرع للمسلمين أن يتفرّغوا لذكر الله؛ من دعاء، وصلاة وتسبيح وتكبير.
الفائدة التاسعة والعشرون: في قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) إشارة إلى التكبير المطلق، وفي قوله سابقًا: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَاذْكُرُوا اللَّهَ) إشارة إلى التكبير المقيّد الذي يبتدئ بعد صلاة الفجر من يوم عرفة.
الفائدة الثلاثون: قال الله عز وجل: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فلا إثم عليه وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) وفي قوله: (فَلَا إِثْمَ عَلَيْه) الأولى يعني أنّ حجّه تامّ ولا تثريب عليه، وفي الثانية معناه: فمن تأخّر لليوم الثالث عشر؛ لأنه يُريد التجارة، أو يُريد التزوّد من الدنيا، فلا تثريب عليه أيضًا.
الفائدة الحادية والثلاثون: نظم الآية يفيد أفضلية التأخّر، وأنّ التَّعجُل الأصل فيه التأخّر؛ لكن الله تعالى قال في التأخر كما قال في التعجل: (ومن تأخر فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ولم يقل: (ومن تأخرّ فله أجر):
وذلك لأن قوله: (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) يُفيد معنىً ثانيًا، وهو: أنّه ربّما بقي الإنسان لحاجة من حوائج دنياه لا لأداء النُسك ورمي الجمار، فربمّا يَشعر هذا الإنسان أنّه انشغل بالتجارة، ويقع في نفسه حرج، هل نقص حجّه بهذا الانشغال أم لا؟! فقال الله تخفيفًا على من تأخر من هذه الأمّة لسبب دنيوي: (فلا إثم عليه).
الفائدة الثانية والثلاثون: ربط الله تعالى آيات الحجّ بالحشر، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ): لأنّ الحجّ فيه حشرٌ للنّاس، وفيه تجرّد من المَخيط، وفيه انصراف يُشبه انصراف أهل الموقف بعد الحشر، فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير، لهذا ذكّر الله تعالى الناس بيوم القيامة.
الفائدة الثالثة والثلاثون: ورد ذكر الذكر والتقّوى في الحج متكررًا ظاهرًا: لأن الله يريد أن يركز على روح العبادة ومقصدها الأول وهو إقامة ذكر الله، وأنها ليست مظاهر وأعمال تؤدى بالجوارح.
من الآية [204 – 207]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى في بداية المقطع مبينًا صفة المتحدث المنافق: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني أن بعض المتحدثين قد يكون كلامه مستحسن، وقد يُعجب الناس بكلامه؛ لأنهم يرونه حسن المنطق، وحلو اللسان، وقوي البيان؛ لكن هذا الإعجاب يكون في الحياة الدنيا فقط، وأمّا في الآخرة تظهر الحقائق، وتتجلَّى صدق الكلمات.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى مبينًا صفة أخرى للمنافق: (ويشهد الله على ما في قلبه) كأن يقول: أنا أغار على الدين، وأنا أحب الدين والخير، وهكذا، وهو يعلم أن منطوق لسانه غير منطوق قلبه؛ لهذا هو يقسم بالله أنه صادق.
الفائدة الثالثة: ذكر الله أيضًا صفة ثالثة للمنافق، فقال: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) واللَّدد: هي شدة الخصومة والعداوة.
الفائدة الرابعة: ذكر الله أيضًا صفة رابعة للمنافق، فقال: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) لأن أفعالُه تُخالف أقواله.
الفائدة الخامسة: نأخذ من قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) أنه ينبغي للمؤمن ألا يغتر بالظَّواهر، وألا يُصَدق القول إلا إذا تُبِع بالفعل والعمل.
الفائدة السادسة: قيل في معنى قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) معنيان:
- الأول: إذا صارت له السُّلطة في الأرض ظَهر ما يخالف ذاك القول الجميل، والغَيرة، والمنطق الذي أُعجب به الناس.
- الثاني: إذا أدبر عن الناس وأصبح لا يُرى سعى في الأرض من أجل أن يفسد بالمعاصي، فخالف فعلُهُ قوله.
الفائدة السابعة: قال الله عز وجل: (سعى) ولم يقل: (ذهب) لأن السعي يدل على الإسراع في طلب الفساد.
الفائدة الثامنة: سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) أنها نزلت في الأخنس الثقفي لما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأظهر الإسلام، ثم لما خرج من عنده وكان يخفي في قلبه ما لا يظهره، أحرق بعض الزُّروع؛ لهذا قال الله: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) والمراد بالحرث: الزرع، والمراد بالنسل: ما نتج من البهائم.
الفائدة التاسعة: ذكر الله تعالى صفة أخيرة للمنافق، فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) يعني: إذا نُصح وقيل له: سِر على منهج الله، منعته الأنفة والكبر عن الرجوع إلى الحق.
الفائدة العاشرة: قال تعالى مبينًا صفة من صفات المؤمن بعد أن ذكر صفات المنافق: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) بمعنى: يبيع نفسه لله عز وجل ابتغاء مرضات الله.
الفائدة الحادية عشرة: سبب نزول قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) أنها نزلت في صهيب الرومي لمَّا أراد أن يهاجر إلى مكة ولم يكن عنده مال، ثم تاجَر وأصبح عنده مالٌ كثير، فأراد أن يهاجِر، فتبِعه أهل مكة، وكان أيضًا راميًا، فنزل من على دابته ومعه النَّبل، وقال: تعلمون أني رامي ومعي النبل، ثم قال: ألا أدلكم على خير من هذا؟ تأخذون مالي وتدعوني؟ قالوا: نعم.
فتنازل عن المال كله لأجل أن يدعوه ويتركوه يهـاجر، فهاجر، ولما لقيه عمر على أبواب المدينة قـال: ربح البيع، ربح البيع، ربح البيع، ثم قـابل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ربح البيع يا صهيب.
الفائدة الثانية عشرة: قال تعالى في خِتام الآية (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) فالذي باع نفسه لله عز وجل، الله رؤوف به وبأمثاله، وسيجزيه الجزاء الكثير.
من الآية [208 – 210]
ثم قال الله عز وجل بعد أن بيّن صنفين من الناس، الصنف الأردى، والصنف الأحسن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) فأمر الذين آمنوا أن يأخذوا الإسلام كله بكل شرائِعه، ولا يأخذوا بعضًا ويتركوا بعضًا -كما فعل بني إسرائِيل-؛ لأن الذي يترك السِّلم ينحرف، والذي يدخل فيه يفوز.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: نزل قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) في أهل الإسلام، وقيل: في بعض مَن آمن مِن أهل الكتاب؛ كعبد الله بن سلام؛ فعبد الله بن سلام لما آمن بقي في نفسه بقية من تعظيمه ليوم السبت، وكراهيته لِلحم الإبل في إحلاله، فقال الله: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) يعني ادخلوا في كل شرائع الإسلام.
الفائدة الثانية: قيل في معنى (السلم) قولًا ثانيًا -وهو قول ضعيف- وهو: المُوادعة والمسالمة وعدم الحرب؛ لكن ابن جرير الطبري ردَّ هذا القول لأنَّ الإسلام لم يَأمر به ابتداءً، فقد قال تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ).
الفائدة الثالثة: السلم بالكسر معناها الإسلام، وبالفتح معناها الموادعة.
الفائدة الرابعة: قال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) لأن الشيطان يأتي للناس من باب الكُفُر، فإن أسلموا أو آمنوا جاءهم من باب الشِّرك، فإن كانوا من أهل التوحيد، خطا لهم خطوة الكبائر، فإن كانوا من أهل قوة الإيمان والصلاح خطا لهم خطوة من باب الصَّغائر، فإن كانت عندهم صَّلابة تمنعهم من الوقوع في الصغائر، جاءهم من باب الإشغال بالفاضل عن المفضول، والإشغال بالسُّنة عن الواجب.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى في ختام الآيـة مؤكدًا ومبينًا عداوة الشيطان: (إِنَّهُ لَكُمْ) وليس لغيركم (عَدُوٌّ مبين) أي أن العداوة بيِّنة.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) والزلل المقصود هنا ليس الخطأ العادي أو اليسير، والدليل: أن الله ما قال في خاتمة الآية: (فإن الله غفور رحيم) ولا (توَّاب حكيم) بل قال: (فاعلموا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حكيم) لأن الخطأ هنا هو الزلل الفاحش الذي جاء بعد البيِّنات.
الفائدة السابعة: في قول الله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) إثباتٌ لصِفة الإتيان والمجي لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله.
من الآية [211 – 212]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: بنو إسرائيل مع تلكُئهم في الأمر كانوا يطلُبون الآيات، ومع ذلك ما كان منهم إلا الإعراض، لهذا قال الله للنبي أن يسألهم سؤال توبيخ: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ) فالأصل في الإسلام هو استسلام والطاعة لله عز وجل، وليست القضية قضية رؤية آيات ومعجزات، فقد رأى بني إسرائيل من الآيات الكثير ولم يؤمنوا.
الفائدة الثانية: قال الله عز وجل: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب) والنعمة هنا هي: بيان الحق والهدى، والتحذير من الارتداد والانحراف.
الفائدة الثالثة: ذكر الله سبحانه وتعالى أن من أسباب انحراف الكافرين: تزيين الحياة الدنيا، فقال: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وبين الله سبحانه أنه بعد هذا التزيين والكفر انتقلوا إلى السخرية، فسخروا بالذين آمنوا، قال تعالى: (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا) وحسبوا أنَّ الذين آمنوا دونهم؛ لهذا عبر الله سبحانه وتعالى بالفوقية، فقال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
الفائدة الرابعة: الحياة الدنيا بعمومها تُزيَّن للمؤمن والكافر؛ لكن المؤمن لا يستغرق في زينتها، ولا ينخدع بها، ويعلم أنَّ هذا ابتلاء، وأمّا الكافر فإنّه ينساق وراء هذه الزينة؛ لهذا نجح أهل الإيمان، وانحرف أهل الكفر.
من الآية [213 – 214]
ثم قال الله سبحانه في بيان أحوال النَّاس: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) واختُلِف في الناس: فقيل: هم آدم وحواء، وقيل: هم ذرية آدم وحواء، كانوا على التوحيد ولم يحصل منهم انحراف، ثم لما حصل الانحراف والاختلاف بعث الله النبيِّين، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).
ويمكن أن نأخذ من قول الله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أنه ينبغي أنَّ تكون الدعوة تجمع بين التبشير والإنذار، ويبدأ فيها بالتبشير، ثم الإنذار.
ثم قال الله سبحانه وتعالى في قصة تبوك لما جاءت بعض المحن والفتن لأصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلّم-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) والمراد هنا ليس استبعاد، وإنما استبطاء، فكأنهم يقولون: يا رب نصرك القريب، يا رب فرجك.
الآية [215]
بعد هذه المقدمة التي أمر الله فيها بالدخول في السِّلم كافَّة، وحذّر من اتباع خطوات الشيطان وغيرها، جاءت التفريعات والتشريعات لأجل أن ننضبط.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: جاءت الصيغة بالمضارع في قول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ): لتدل على التَّجدُد والاستمرار.
الفائدة الثانية: السؤال في قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) كان عن نوع المنفَق، والجواب كان عن المصرِف، فقال: (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) فجاء الجواب عن الأهم، وقد يكون هذا الجواب عن المنفق؛ لكن مع زيادة.
الفائدة الثالثة: قدم الله اليتيم على المسكين: لأنَّ اليتيم جَمَعَ بين انفراده وضعفه، أما المسكين فهو ضعيف فقط.
الفائدة الرابعة: سُمِّيَ ابن السبيل بهذا الاسم: لأنّ السبيل هو الطَّريق، فكأنه أصبح ابنُ الطريق؛ لأنه انقطع به الطريق.
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإن الله به عليم) ولم يقل: (وما تنفقوا من خير): ليُدخِل كُلَّ فعل، سواء كان في المال، أو في غير المال، وهذا من فضل الله عز وجل، فليس كل الناس لديهم مال ينفقونه.
الفائدة السادسة: الصدقات ليست فقط بالمال، بل ذكر الله عز وجل، والتَّبسم، وإماطة الأذى كلها صدقات.
من الآية [216 – 218]
بعد أن انتهت من مسألة النفقة ذكر الله مسألة الجهاد، وبين النفقة والجهاد ارتباط؛ فجُلُّ آيات الجِهاد بدأت بالجهاد بالمال قبل النفس؛ لأنَّ المال عصب الحياة وعصب الجهاد.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله عز وجل: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) ولم يقل: (فُرِض): لأن (كُتب) أبلغ من معنى (فُرض).
الفائدة الثانية: قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال) ولم يقل: (كتب القتال عليكم) فقَدِّم الجار والمجرور كأنَّه لم يُكتبه إلا عليهم، مع أنّه قد كتب على غيرهم: للزيادة في الحث على الأمر.
الفائدة الثالثة: قال تعالى: (وَهُوَ كُرْهٌ) وهذا يدل على أن القتال صعب وشديد، والمراد بالكره: هو ما يُصيب الإنسان من ثُقُل وخوف، وليس المراد الكُره الجبلي الفطري.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لأن العبد المؤمن إذا علم أن المكروه يأتي بالمحبوب، يحدث انشراح في صدره للمكروه، وإذا علم أنَّ المحبوب قد يأتي بالمكروه، لن يطمئن ولن يتَّكل على هذا المحبوب.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فينبغي على الإنسان أن يسأل الله الخيرية دائمًا ويتبرأ من حـوله ومن قوتـه، ويتجه لحول الله وقوته واختياره، وإذا فوض العبد أموره لله نتج عن ذلك قوة، وراحة.
الفائدة السادسة: قال سبحانه وتعالى بعد أن شرع القتال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) والمقصود شهر رجب، ويدل على ذلك سبب النزول.
الفائدة السابعة: السَّائلين الذين سألوا عن الشهر الحرام هم الكُفَّار؛ لأن سبب نزولها هو: أن سريٍّا من سرايا المسلمين في آخر جماد الآخرة، حسبوا أنه آخر يوم من جماد الآخرة، وكان أول يوم من رجب، لقُوا سَرِّية من الكُفَّار، وكان فيهم ابن الحضرمي فقتلوه، فالكفار هاجُوا وماجُوا وقالوا: كيف تقاتلون في الأشهر الحرم؟
الفائدة الثامنة: الأشهر الحُرُم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب (الشهر الأصم).
الفائدة التاسعة: أجاب الله عز وجل على سؤال الكفار، فقال: (قل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ثم قال: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ أكبر عند الله) (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي: الشرك الذي هم فيه أعظم من القتل.
الفائدة العاشرة: قال سبحانه وتعالى حاثًا المسلمين على الاستمرار في قتال الكفار: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ) حتى لو سالمتموهم وأعطيتموهم مالًا أو أراضي أو غيرها (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) وهذه الغاية صعبة عليهم؛ لهذا قال مستبعدًا: (إن استطاعوا) لأن الصحابة إيمانهم قوي.
الفائدة الحادية عشرة: حكم القتال في الأشهُر الحُرُم منسوخ؛ لأن الأشهر الحُرم كانت حرم لأجل أن يأمن الناس، والآن قد أَمِنَ النّاس.
الفائدة الثانية عشرة: قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) ولم يقل: (ومن يرتد) للدلالة على أن الارتداد حصل باختياره.
الفائدة الثالثة عشرة: قال تعالى: (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فهل يحبط عمل المرتد في الدنيا؟ وقع خلاف قوي بين أهل العلم:
- فبعضهم قال: لا يحبط إلا إذا مات على الكفر ولم يتب.
- وبعضهم قال: أن مجرد الشرك يحبط العمل.
لكن ظاهر الآية يدل أنه لو عاد للإسلام يبقى له ما أسلف من أعمال.
الفائدة الرابعة عشرة: علاقة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) في سبب نُزولها، وسبب نزولها هو: أن بعض الصحابة قالوا: إن كان ليس علينا ذنب، فهل لنا أجر؟ يعني: السرية التي اعتدينا عليها، اعتدينا عليها في الشهر الحرام ولم نكن نعلم، فإن كان ليس علينا وزر، فهل لنا أجر؟ فقال الله عز وجل هذه الآية معظمًا مقام الهجرة والجهاد.
الفائدة الخامسة عشرة: قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ) فدل على أنَّه لا ينفع الإيمان والرجاء بدون عمل، فالذي يرجو حقيقةً لابد أن يعمل.
الفائدة السادسة عشرة: الصحابة مع ما قدموا من أعمال كبيرة، لكنهم يرجون رحمة ولم يتكلوا على أعمالهم.
من الآية [219]
ذكر الله تعالى سؤالًا ثالثًا سأله الصحابة للرسول، فقال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثمهما أكبر من نفعهما) أي: ما حكم الخمر؟
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: هذه الآية من أوائل ما نزل في تحريم الخمر.
الفائدة الثانية: الخمر مشتق من المخامرة، ومعناه: التغطية، أو التخمير، أو الإغلاق.
الفائدة الثالثة: الميسر مشتق إما من اليُسر، أو من اليسار، وإما من التيسير.
الفائدة الرابعة: الشيء إذا كان فيه منفعة ومضرة؛ فالأصل فيه الدرء، لذلك استنبط أهل العلم من هذه الآية قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
الفائدة الخامسة: معنى العفو في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الفاضل، أي: الشيء الزائد.
من الآية [220 -221]
ثم استمرت الأسئلة تتتالى.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: أنزل الله سبحانه وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) بعد آية سورة الأنعام: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لما شق ذلك على الصحابة، حيث عزلوا طعامهم عن طعامهم وشرابهم عن شرابهم، فجاؤوا يسألون كيف نصنع باليتامى؟ هل نخلط أموال اليتامى بأموالنا؟ فأنزل الله الآية هذه.
الفائدة الثانية: أجاب الله عز وجل عن سؤال الصحابة، فقال: (قل إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ولم يقل: (قل إصلاح لأموالهم خير) ليشمل المال والذات وكل ما يكون فيه إصلاح، ثم قال: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم) يعني: إذا كان مقصدكم الإصلاح فلا بأس بالمخالطة
الفائدة الثالثة: لما ذكر الله الرخصة شدد وهدد، فقال: (والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ الْمُصْلِحِ) بالألف واللام للاستغراق.
الفائدة الرابعة: قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي: أثقل عليكم، لكنه رخص لكم بالمخالطة؛ فلا تكن هذه الرخصة سبب في العبث بأموال اليتامى، ثم أكد الله، فقال: (إن الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فانتبهوا.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى في حكم المشركات: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) يعني لا يجوز الزواج بالمشركات، أما الكتابيات فيجوز الزواج بهن على قول الجمهور، ثم قال الله: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ولو أعجبتكم) أي: العبدة التي تباع وتشترى خير من المشركة الحرة العادية.
الفائدة السادسة: في قوله تعالى: (خَيْرٌ) دليل على أن دين الإسلام دين عدل، لا دين مساواة
الفائدة السابعة: قال تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) يعني لا يجوز أن يَتزوج الكتابي مسلمة؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
الفائدة الثامنة: المراد بالنكاح في الآية السابقة: هو مجرد العقد، والدليل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ) فسماه نكاح دون أن يكون مسيس.
الفائدة التاسعة: ذكر الله تعالى لماذا هؤلاء لا يصلحون للزواج؟ فقال: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ).
من الآية [222 – 223]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: بعض الأسئلة التي وردت في السورة كانت بحكم أن أهل الإيمان الذين كانوا في المدينة، اختلطوا باليهود وعرفوا بعض الأحكام الشرعية عندهم، ومنها السؤال الذي في هذه الآية: حيث كان اليهود إذا حاضت المرأة اعتزلوها ولم يقتربوا منها، وأي رجل يمسها وهي حائض يصبح نجسًا ولا تقبل له صلاة، فكان أهل الإسلام ينظرون، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما شأن الحائض؟ فجاء قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) ليوضح حكمها.
الفائدة الثانية: نكّر الله الأذى في قوله: (قل هو أذى): ليدل على أنه أذىً يسير، ثم أمر فقال: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) والمراد بالمحيض: وقت الحيض في مكان الحيض، ثم قال: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ليبين أن الاعتزال ليس -مثل اليهود- بإبعادها، إنما الاعتزال بعدم القربان فقط.
الفائدة الثالثة: قال تعالى: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني بشرط الطهارة والإطهار، أي: فإذا انقطع الدم وتطهرن بالغسل يحلّ لكم قربانهن (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) يعني جامعوهن من المكان الذي مُنعتم منه.
الفائدة الرابعة: قال تعالى في ختام الآية: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) يعني: يُحب من يتوب من الذنوب ويتخلص منها، ويحب من يتطهر بالماء، فجاءت هذه الآية تبين التوبة من الذنوب عمومًا، والتطهر من الأنجاس الحسية خصوصًا.
الفائدة الخامسة: لما جاءت أحكام الحيض ناسب مجيء أحكام النساء، فقال الله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) والحرث: محل الزرع.
الفائدة السادسة: سبب نزول قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أنه كان اليهود يقولون: (إذا جاء الرجل زوجته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول) ولذلك كان أهل المدينة لا يأتون النساء بسبب اليهود إلا على حرف واحد، وأهل مكة ما كانوا مختلطين في اليهود فكانوا يشرحون النساء شرح مقبلات ومدبرات؛ لكن بصمام واحد، فلما جاء رجل من المهاجرين لإحدى المدنيات شق عليها ذلك، وقالت: كيف تصنع هذا الصنيع؟ فنزل الآية.
الفائدة السابعة: يجوز الإيتاء بأي طريقة؛ لكن في مكان واحد -وهو القُبل-، والدليل قوله: (فأتوا حرثكم أَنَّى شئتم).
الفائدة الثامنة: قال تعالى: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) والتقديم يكون بالتسمية، أو بالنية الصالحة في إعفاف النفس وإعفاف من تحت اليد بهذه المعاشرة، أو بنية الولد الصالح.
من الآية [224 – 225]
جاء الحديث هنا عن أحكام اليمين.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) والمراد بالعرضة الشيء الذي يعترض به؛ كالحاجز، فهذا اليمين الذي حلفتموه معترض بينكم وبين فعل الخير من البر والإصلاح والتقوى، فلا تجعلوه حاجزًا ومانعًا لكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا.
فمن حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرًا منها؛ فليكفر عن يمينه وليأتي بالذي هو خير، مثل أن تقول: أنا حلفت ألا أصلح بين فلان وفلان، وألا أتدخل في الموضوع الفلاني بين أسرتي وعائلتي وهكذا، فلا تجعل هذا اليمين حاجزًا ومانعًا للحق والبر والإصلاح.
الفائدة ثانية: يدخل في الآية السابقة: منع كثرة الحلف، وتحريم الحلف كذبًا.
الفائدة الثالثة: سمي اليمين يمينًا؛ لأنه أخذ معاهدة؛ فالإنسان إذا أراد أن يعاهد أحدًا مد يده اليمين.
الفائدة الرابعة: قال تعالى في ختام الآية: (والله سَمِيعٌ) لأن اليمين فيه نطق (عَلِيمٌ) أي: بنياتكم في هذا اليمين، من الصادق ومن المخادع.
الفائدة الخامسة: قال الله سبحانه وتعالى بعد أن شدد في اليمين: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) ولغو اليمين هو:
- قيل: قول: إلا والله، ولا والله.
- وقيل: الحلف على شيء وأنت موقن أنه كان؛ ولكنه لم يكن.
- وقيل: الحلف في وقت الغضب.
والمراد بعدم المؤاخذة: أي: ليس فيه إثم ولا كفارة.
الفائدة السادسة: قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) يفسرها قوله في سورة المائدة: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) فالمراد عقد القلب عليها.
الفائدة السابعة: استُنبط من قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أن مدار الأقوال الملفوظة ما في القلب لا ما في النطق، فالأصل -إذن- أن الإنسان يحاسب على ما نطق به لسانه وانعقد عليه قلبه.
من الآية [226 – 227]
بعد أن جاءت آيتين في اليمين، جاءت هنا يمين خاصة، وهي يمين الإيلاء، قال سبحانه وتعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) وهذه اليمين لها علاقة بالطلاق، لهذا ستأتي أحكام الطلاق في المقطع التالي.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: المراد بالإيلاء شرعًا في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ): أن يحلف الرجل على ألا يطأ زوجته.
الفائدة الثانية: حكم الإيلاء: جائز؛ إذا كان المقصد الإصلاح وكان في مدة أربعة أشهر أو أقل؛ لكن إذا كان المقصد الإضرار بها؛ فلا يجوز.
الفائدة الثالثة: قال سبحانه وتعالى: (من نسائهم) ولم يقل: (عن نسائهم): لأن (من) تدل على التباعد.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): يعني إن وطؤوا زوجاتهم خلال مدة الإيلاء فإن الله غفور رحيم شرع كفارة اليمين.
الفائدة الخامسة: وقع خلاف بين الفقهاء: هل الرجل المولي إذا تجاوز أربعة أشهر ودخل في اليوم الأول من الشهر الخامس تطلق زوجته منه؟
- قال بعض العلماء: نعم تُطلّق زوجته منه؛ لأن المهلة أربعة شهور.
- وقال بعض العلماء لا، لا تُطلق زوجته منه، بل يخير بين أمرين (إما أن يفيء، وإما أن يطلق).
والقول الثاني هو الراجح؛ لأنه الأحب إلى الله، والدليل قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ) ولذلك يعد هذا أقوى الأدلة التي تدل على كراهية الطلاق عمومًا رغم إباحته، أما حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) فهو حديث ضعيف.
الفائدة السادسة: قال تعالى في خاتمة الآية السابقة: (فإن الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ولم يقل: (عليم حكيم) لأنه لما آلا منها -وهو غضبان عليها في الغالب- أراد أن يؤدبها لمصلحة، إما لمصلحة الولد أو لمصلحته هو؛ فهي تؤدب بهذا الأمر، فقال الله: فإن غفرت لها وفئت؛ فالله يغفر لك، وإن عزمت الطلاق فالطلاق فيه نطق؛ لهذا قال الله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
الفائدة السابعة: استُنبط من هذه الآية أنه لا يجوز للرجل أن يترك الجماع أكثر من أربعة أشهر.
من الآية [228 – 230]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله سبحانه وتعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) يعني: أن كل المطلقات يجب أن يتربصن ثلاث قروء؛ لكن هناك استثناءات في بعض المطلقات؛ كالمطلقة الحامل، والآيسة، وغير المدخول بها.
الفائدة الثانية: في قوله تعالى: (يتربصن بِأَنْفُسِهِنَّ) دليل على أن نفس المطلقة تواقة للرجال؛ لهذا قال الله: احجزن هذه النفس حتى تنتهي هذه العدة.
الفائدة الثالثة: وقع خلاف قوي في قول الله تعالى: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) هل القرء بمعنى طهر؟ أو بمعنى الحيض؟ والخلاف فيه تكافئ وتقارب في الأدلة؛ لكن الراجح أنه بمعنى الحيض؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دعي الصلاة أيام أقرائك).
الفائدة الرابعة: قال الله سبحانه وتعالى واعظًا: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) لأن المرأة ربما تدعي أنها حاضت ولم تحض؛ لتعجّل المدة، وربما تدعي أنها لم تحض وهي قد حاضت؛ لتطوّل مدة نفقة الزوج عليها.
الفائدة الخامسة: استُنبط من قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) أن المرأة مستأمنة ومصدق خبرها، وأن جزاءها عظيم وعقابها عظيم.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في الثلاثة قروء، ولم يقل: (وأزواجهن أحق بردهن في ذلك) لأن لفظ البعل أقوى في بقاء الزوجية من لفظ الزوج.
الفائدة السابعة: أضاف الله البعولة للزوجات، فقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ) لأنه قد يخطر في بال المطلقة أن عقد الزوجية ضعُف ولها الحرية ترجع ولا ما ترجع، فبيّن أن الأمر بيد الرجل.
الفائدة الثامنة: قال الله سبحانه بعد أن أعطى الرجل حق الإرجاع ورفعه: (وَلَهُنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف) فبدأ بحقهن؛ ليرفع المرأة كما رفع الرجل، ثم رجع رفع الرجل مرة ثانية، فقال: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ثم رجع رفع المرأة مرة ثانية، فقال: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حكيم) يعني كأن الله يقول للرجل: أعطاك سلاح؛ فلا تستخدمه إلا فيما أبيح لك.
الفائدة التاسعة: قال الله سبحانه وتعالى في الطلاق الرجعي: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) يعني تطليقتان، لأن في الجاهلية كانوا يطلقون المرة والمرتين والثلاث والعشر ثم يرجعون، فنزلت الآية لإزالة الفوضى.
الفائدة العاشرة: ذكر الله تعالى أنه بعد الطلاق الرجعي له خياران: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوف) أي بالمتعارف بين الناس (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) لأن الطلاق كسر وظلم وجرح لها، فيجبر هذا الجرح بالإحسان إليها.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ) ولم يقل: (فإبقاء) ليدل على أنها جوهرة غالية؛ فعليك أن تتمسك بها.
الفائدة الثانية عشرة: قال تعالى للزوج في حكم المهر: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) من للتبعيض، و(شَيْئًا) المنكرة تدل على أنه حتى لو كان قليلًا لا يجوز أخذ شيء منه.
الفائدة الثالثة عشرة: قال تعالى في شأن المرأة الكارهة لزوجها: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) يعني لو شعر القاضي أنها لن تقيم حدود الله فيه بسبب كرهها له فيجوز لها الافتداء بمال مقابل أن يطلقها.
الفائدة الرابعة عشرة: قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) ولم يقل: (فلا تقربوها) لأنها في الخصومات والنزاعات.
الفائدة الخامسة عشرة: قال تعالى في الطلاق البائن: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) والنكاح المقصود به نكاح الرغبة ثم قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) أي: فلا بأس أن يتزوجها (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أي: إن غلب على ظنهما أنهما سيقيمان حدود الله فيما بينهما.
الفائدة السادسة عشرة: ختم الله الآية بقوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فخص الذين يعلمون؛ لأنه في الغالب لن يلتزم بهذه الحدود إلا أهل العلم.
من الآية [231 – 232]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: ذكر الله مرة أخرى مؤكدًا على طريقة تعامل الرجل مع المرأة في حال الإمساك أو في حال التسريح، فقال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
الفائدة الثانية: لا يجوز أن يمسك الرجل زوجته ويرجعها إلى عصمته إذا قاربت انتهاء العدة بقصد الإضرار بها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا)
الفائدة الثالثة: لما كان مقصد الإرجاع من الأمور الخفية التي مرجعها النيات، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وهو يتوقع أنه ظلمها، لكن في الحقيقة فهو ظالم لنفسه.
الفائدة الرابعة: ذكر الله عز وجل حكم الاحتيال على الأحكام الشرعية والاستهزاء بها، فقال: (وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) ومن الاستهزاء أن يقول الإنسان: طلقت هازلًا، وراجعت هازلًا، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ).
الفائدة الخامسة: المراد من قول الله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) أي: اذكروا نعمة الله عليكم -والنعمة هي تنظيم الأمور ووضع القوانين المحكمة بعد أن كنتم فوضى في الجاهلية- وخص الكتاب والسنة مع أنهما من النعمة: لزيادة وإبراز فضلهما.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: اتقوا الله؛ لأنه عليم بنية المراجعة، وبجميع النوايا؛ فلا تعبثوا.
الفائدة السابعة: معنى البلوغ في الآية الأولى مختلف عن الثانية، فالآية الأولى في قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بمعنى: وإذا طلقتم النساء فقاربن انتهاء العدة، أما الآية الثانية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بمعنى: وإذا طلقتم النساء وانتهت عدتهن.
الفائدة الثامنة: قال الله لأولياء المرأة: إذا انتهت عدة المرأة وأصبحت أجنبية عن زوجها (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)
الفائدة التاسعة: سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ): قصة معقل بن يسار، كانت له أختًا، فزوجها ابن عمه، ثم بقي ما شاء الله أن يبقى معها ثم طلقها وانتهت عدتها ولم يراجعها، ثم بقي ما شاء الله أيضًا، فهويها وهويته، ثم جاء يخطبها مرة أخرى، فقال معقل: يا لَوكع زوجتكها ثم طلقتها، والله لا زوجتك بعدها، فنزلت الآية.
الفائدة العاشرة: قيل في معنى الآية السابقة قولًا ثانيًا، وهو: لا يجوز للأزواج أن يمنعوا زوجاتهم من الزواج إذا طلقوهم.
الفائدة الحادية عشرة: عبر الله تعالى بقوله: (أَزْوَاجَهُنَّ) وهن لسن أزواجهن: سماهن باعتبار حالتهن السابقة.
الفائدة الثانية عشرة: جاء قوله تعالى للأولياء: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) ليهدم شعور الغضاضة والإهانة اللذان يشعران بهما الأولياء بسبب المراجعة.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله تعالى: (ذَلِكُمْ أَزْكَى) ولم يقل: (أحسن) ليبين أن رجوعهما بالتراضي فيه رفعة، لا إهانة وخفض.
الفائدة الرابعة عشرة: قال تعالى: (وَأَطْهَرُ) لأن الرجل والمرأة يتعلقون بأول لقاء، والذي يمنع هو ولي المرأة، فالمرأة في هذا المقام قد تنحرف.
الفائدة الخامسة عشرة: قال الله تعالى في الخاتمة: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وأنتم لا تعلمون) يعني: الله يعلم ما في قلبه وقلبها من الحب والشوق، وأنتم يا أيها الأولياء لا تعلمون.
من الآية [233]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: مجيء آية الرضاع بعد وقبل آيات الطلاق: يدل على أن الله أرحم بهذا الرضيع والولد من الأب والأم، لأنه قد يضيع هذا الولد بين صلف الأب وحمق الأم، فمن رحمة أرحم الراحمين أن جاءت الآيات لتقرر في مسألة الرضاع.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ) ولم يقل: (والمطلقات) من باب الاستعطاف.
الفائدة الثالثة: قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ) فجاء به على أنه خبر: لأنه أقوى في الدلالة على الأمر.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (أَوْلَادَهُنَّ) فنسبهم لها: لزيادة للاستعطاف، فلا تتعنت أيها الرجل، فهذه والدة تعبت في الولادة.
الفائدة الخامسة: حدد الله تعالى مدة الرضاعة ومدة الإنفاق، فقال: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رزقهن وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ): يعني: على والد الطفل النفقة على المولود وعلى الوالدة بحسب ما تعارف عليه الناس.
الفائدة السادسة: عبر الله عن الطفل بالمولود له، فقال: (وعلى المولود له زرقهن) لأنه قد يقول قائل: أنا لن أدفع المصاريف، فقال الله: المولود لك باسمك، فعليك أن تنفق عليه.
الفائدة السابعة: قال الله في مسألة المشاحة والمنازعة بين المطلق وطليقته: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) لا يجوز للوالد أن يضر الوالدة بولدها، وفي قراءة: (لا تضارر) فلا يجوز أيضًا للوالدة أن تضر الوالد بولده.
الفائدة الثامنة: بين الله أن الأحكام السابقة تنطبق على الوارث للصبي، فقال: (وَعَلَى الْوَارِثِ مثل ذلك) إذا عدم الأب، ولم يكن للطفل مال.
الفائدة التاسعة: قال الله تعالى في حكم الفطام: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا) أي: إن أراد أحدهما أن يفطم الطفل، فلابد أن يكون عن تراض وتشاور؛ لهذا قال: (عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما).
الفائدة العاشرة: الرضاع من خلال الآية هل هو واجب أو مندوب؟
- بعض الفقهاء قالوا: إذا ما وجد غير الأم: يجب عليها الرضاع.
- وبعض الفقهاء قالوا: يجب الرضاع على جميع الأمهات ما عدا الشريفة لا تلزم بذلك، أي: من هي من عِلية القوم التي تخاف أن الرضاع يؤثر على جسمها.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله تعالى في حكم طلب مرضعة غير الأم: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى في خاتمة الآية: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لأنه قد يحتال أحد الطرفين على أحكام الله؛ فذكّرهم بالتقوى وبعلم الله وبصره، فلا تعبثوا.
من الآية [234 – 237]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال سبحانه وتعالى في عدة المتوفى عنها زوجها: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) فيجب عليها خلال هذه المدة: ترك الزينة، والبقاء في بيت زوجها، وعدم الزواج، ولا الخطبة.
الفائدة الثانية: الحكمة من أن العدة مدتها أربعة أشهر وعشرًا: للاطمئنان على براءة الرحم؛ لكن لو قال قائل: الآن ممكن نحلل ونطمئن من عدم الحمل! نقول له: هذه أمور تعبدية.
الفائدة الثالثة: المطلقة يجوز لها أن تخرج وتدخل، لكن المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها ذلك: لأن المطلق حي، فلو افترت المرأة وقالت: أنا حامل منه، هو يعرف نفسه، يستطيع أن يتكلم ويبين، أما المتوفى عنها زوجها لو افترت عليه وقالت: أنا حامل منه، لن يستطيع أن يدافع عن نفسه؛ لذلك يحجر عليها حتى يتأكد من براءة رحمها.
الفائدة الرابعة: قال سبحانه وتعالى في حكم خطبة المتوفى عنها زوجها في فترة العدة: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ في أنفسكم) فأباح التعريض والتلميح، ونهى عن التصريح أو ما يقوم مقام التصريح.
الفائدة الخامسة: قال تعالى موجهًا الخطاب للخاطبين: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) في أذهانكم من الشوق لهن (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) بالزنا، أو بالزواج (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) وهو التعريض، ثم أكد ذلك بقوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) ثم قال مهددًا ومتوعدًا: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) يعني انتبه لا تلف وتدور (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لما قد فلت منك (حَلِيمٌ) إذ لم يعاجلك بالعقوبة.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى في حكم تطليق المعقود عليها غير المدخول بها التي لم يسم لها المهر: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) يعني لا إثم في تطليقها، ولا عدة عليها؛ لكن يجب عليك أيها الرجل أن تمتعها، قال تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ) لأن متعة الغني تختلف عن متعة المتوسط وعن متعة الفقير، وهذه المتعة جبرًا لخاطر المطلقة المكسور، ولقد قال تعالى: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فهو حق ثابت.
الفائدة السابعة: قال تعالى في حكم تطليق المعقود عليها التي لم يجامعها؛ لكن وعدها بمهر وسماه لها وحدده: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) يعني: يجب عليكم إعطاءها نصف المهر (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي: المرأة أو وليها (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) أو يسمح هو ويعطيها كل المهر، ثم قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
من الآية [238 – 239]
الفائدة الأولى: جاءت آيات أحكام الصلاة هذه بين آيات الطلاق: لأن الإنسان قد يكون مشغولًا بمشاغل الطلاق والمرأة، فجاءت الآيات لتذكيره بالصلاة، وأيضًا لأن أمور الطلاق تجلب الحزن والهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فجاء ذكر الصلاة هنا مناسبًا.
الفائدة الثانية: المراد بالمحافظة في قوله سبحانه وتعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) هو المحافظة على الوقت على الأرجح.
الفائدة الثالثة: الصلاة الوسطى الراجح أنها العصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر).
الفائدة الرابعة: لشدة أهمية الصلاة قال تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فرجالًا أو ركبانًا) يعني: حتى وأنتم خائفين لا تُعفَون عن أداء الصلاة من الوقت.
من الآية [240 – 242]
اختلف في قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً) هل هي محكمة أو منسوخة:
- فذهب بعض أهل العلم إلى أنها منسوخة بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا).
- وذهب بعض أهل العلم إلى أنها محكمة بنصها، يعني هو أوصى زوجته بأن تتمتع وتبقى في البيت سنة كاملة لا تخرج بعد وفاته، لكن لو أرادت أن تخرج بعد مضي أربعة أشهر وعشرًا يجوز لها ذلك.
ثم قال تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي: لكل المطلقات، وهو من باب الندب.
من الآية [243 – 245]
عادت الآيات مرّة أخرى تتحدَّث وتُذَّكِر وتُحذِّر مَمَّا وقع فيه بنو إسرائيل، فقال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حذر الموت) ومعنى ألوف: أي فوق العشرة آلاف، وقيل: المُؤتَلِفِين على أمر معين.
وسبب خروجهم من ديارهم على قولين:
- قيل: خرجوا من ديارهم بسبب انتشار مرض الطاعون فيها.
- وقيل: خرجوا من ديارهم بسبب القتال، وهذا القول الموافق للسياق.
ثم قال الله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) وهذا تحذيرٌ لأَهل الإيمان أن يَسلُكُوا سُلُوك بني إسرائيل في الجهاد.
ثم قال الله سبحانه وتعالى مرغبًا في النَّفقة: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ولذلك كانت أفضل مصارف المال: الجهاد في سبيل الله، والاستفهام في الآية للاستعطاف.
ثم قال: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعني أن الأمر من قبل ومن بعد بيد الله سبحانه وتعالى وإليه تُرجعون.
الآية [246]
ثمّ جاءت قِصَّة الأشراف، والسَّادة من بني إسرائيل، وسُّمُوا بالملأً.
فقالوا لنبي لهم: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهُم اعتادوا على أن يُقاتِلُوا مع المُلُوك.
فقال لهم هذا النبي -وهو يَعرف حال بني إسرائيل من التَّردُد والعِصيان-: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)!
قالوا منكرين ظنه: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؟ فنحن نقُاتل لله ولأجل هذه الدِّيار التِّي أُخرِجنا منها.
ثم قال الله تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
من الآية [247 – 248]
ثم قال لهم نبيهم: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) وقيل: سُمِّيَ طالُوت لطُولِهِ.
لكنهم تعجبوا من هذا المَلِك الذِّي بُعِث وهو ليس من سُلالة المُلُوك، وليس لديه مال؛ فقالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)؟!
فقال لهم نبيهم: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).
ثم رد الله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
ثم قال لهم نبيهم: ومع هذا هناك علامة واضحة حتّى تَطمئنّوا إلى صدق هذا الرَّسُول: (إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
من الآية [249 – 252]
ولمَّا جاءَ لهُم بكُلّ هذه الآيات، وهُو يَشعُر أنَّهُم أَهلُ عِناد، وأَهلُ خصام وتردُّد أراد طالوت أن يَختبر الجنود، فقال: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) فإن تضَّلَعُوا من هذا الماء وارتووا عرف أنّ هؤلاء لن يَصبروا على ما سَيأتي من القِتال، فجعل هذا علامة على نكُوصِهِم (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ).
فلما جاوز طالوت النهر هو والمؤمنون معه، قال بعض الجنود: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ).
وعندئذ قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) و(كم) تدُل على الكثرة.
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا على القوم الكافرين).
فالبَقيِّة الصَّالحة التِّي صَبَرت، نجَحت في ذلك الاختبار حيث أخبر الله وقال: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) وهم قِلّة (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) وداود عليه السّلام هذا هو نبيّ كان يُقاتل مع طالُوت (وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).
ثم قال الله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) يعني لولا التَّدافع بين الحَقّ والبَاطل، وكَون الحقّ يَدفَع بهذا القتال (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ثمّ ختم فقال: (تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).