ملخص لـ (دورة الأترجة)

إنضم
15/10/2017
المشاركات
16
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
العمر
29
الإقامة
السعودية
الدرس الأول: مقدمة في أصول التفسير
مدخل:
أصـــول التفسير: جملة مركبة من كلمتين، كلمة أصول وكلمة التفسير.
والأصل: هو ما يُبنى عليه غيره، وقد يُطلق في اللغة ويُراد به القاعدة.
والتفسير في اللغة: فهو الكشف والبيان.
والتفسير في الاصطلاح: هو بيان معاني القرآن.
أمّا أصـول التفسيـر: فهي القواعد والأسس التي تُعين على بيان القرآن، وغايته: هو الفهم الصحيح لمعاني القرآن.

طرق الوصول إلى التفسير:
الوصول إلى معاني آيات الله لها طريقان:
- الطريق الأول: المنقول، أي: الذي يعلم بالنقل، وهو المسمّى بالتفسير بالمأثور، وهو قسمان:
القسم الأول: ما يكون عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
القسم الثاني: ما يكون عمن سواه.
وهذان القسمان على قسمين:
قسم: يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف.
وقسم: لا يمكن معرفة الصحيح والضعيف منه. وهو في الغالب مما لا فائدة فيه، ولا دليل على صحته؛ كالأخبار والإسرائيليات والمبهمات.
- الطريق الثاني: المعقول، أي: الذي يعلم بالاستدلال، وهو المسمّى بالتفسير بالرأي.
وهذا أكثر ما فيه خطأ، والخطأ فيه على قسمين:
· القسم الأول: تفسير القرآن بمجرد العربية، من غير النظر إلى من نزل إليهم القرآن، ولا أسباب النزول، ولا السياق، ولا المدلولات الشرعية، ولا القرائن التي احتفّت به.
· القسم الثاني: الاستدلال بالقرآن على المعنى المعتقد، من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
وأصحاب القسم الثاني صنفان:
الصنف الأول: يسلبون ما دلّ عليه لفظ القرآن وما أريد به، أي: يستدلون بآيات على مذهبهم، ولا دلالة فيها.
كاستدلالهم بقول الله عزّ وجلّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) بأنه لا يجوز أن نثبت صفة لله عزّ وجلّ تكون للمخلوق مثلها أبدًا!
الصنف الثاني: يحملون لفظ القرآن على ما لم يدل عليه ولم يرد به، أي: يتأولونه ويحرفونه.
مثل: تفسير اليد بالقدرة في قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).
وخطأ هؤلاء الصنفان:
· قد يكون في الدليل والمدلول.
مثل: الخوارج، والروافض، والجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة.
· وقد يكون في الدليل لا في المدلول.
مثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، يفسرون القرآن بمعاني صحيحة؛ لكن القرآن لا يدل عليها.

حكم تفسير القرآن بالرأي:
تفسير القرآن بمجرد الرأي حرام، أي: الذين لا يستندون إلى نصوص الشريعة، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار).
أما من تكلم بما يعلم، لا بمجرد الرأي، فهذا جائز، وواجب عند السؤال في حال العلم، والدليل قوله: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ).

شروط قبول التفسير بالرأي:
- ألا يخالف التفسير بالمأثور مخالفة تضاد.
- أن يتفق مع سياق الآية.
- ألا يتنافى مع دلالة الألفاظ من حيث اللغة؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين.
- ألا يتعارض مع أصول الشرع.
- ألا يؤدي إلى نصرة أهل البدع والأهواء المذمومة.

اختلاف السلف في التفسير:
أغلب الخلافات الثابتة عن السلف هي من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وأن أكثر خلافهم في الأحكام في المسائل الفقهية.
وأقسام اختلاف السلف في التفسير هي:
- اختلاف التنوع: هو أن يصح حمل الآية على كل المعاني التي قيلت فيها.
- اختلاف التضــاد: وهو القولان المتنافيان الذي لا يصح أن تُحمل الآية عليهما معًا، فإذا قيل بأحدهما لزم نفي الآخر.

أقسام اختلاف التنوع[SUP]([1])[/SUP]:
- اختلاف في اللفظ دون المعنى.
- اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية تحتمل المعنيين؛ لعدم التضاد بينهما، فتحمل الآية عليهما وتُفسّر بهما.

صور اختلاف التنوع:
- أن يعبر كل مفسر عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه الآخر، وكل عبارة تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى.
مثل: قوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) المراد بـ (ذكري):
قيل: هو القرآن، وقيل: هو ما أنزل الله من الكتب.
فإذا قيل بالمعنى الأول: كان المعنى كلام الله.
وإذا قيل بالمعنى الثاني: كان المعني ما يُذكر به مثل قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
- أن يذكر كل مفسر من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل[SUP]([2])[/SUP].
وهذا هو التفسير بالمثال، وهو المشهور عند السلف -رحمهم الله- كانوا يفسّرون بالمثال
.
مثل: تفسير قول الله عز وجل: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) المراد بـ (النعيم):
قيل: هو الماء البارد.
وقيل: هو الظل البارد.
وقيل: هو الخبز.
وقيل: هو الخبز مع العسل.
فهم أرادوا فقط ضرب أمثلة على النعيم الذي يُسئل عنه الإنسان، والمعنى العام: كل لذّة من لذّات الدنيا.
- أن يكون اللفظ فيه محتملًا للأمرين: إما لكونه مشتركًا في اللغة، وإما لكونه متواطئ في الأصل، وهذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك.
مثال على المشترك اللفظي الذي يجوز أن يراد به كل المعاني التي قيلت: قوله: (قسورة) يُراد بها الرامي ويُراد به الأسد.
ومثال على المشترك اللفظي الذي لا يجوز أن يراد به كل المعاني التي قيلت (وهذا لا يعد من اختلاف التنوع، بل التضاد): قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) يراد بالقرء: الطهر، ويراد به الحيض. ولا يمكن أن نقول كلاهما صحيح؛ لأن المرأة لا يمكن أن تكون حائضًا وطاهرة في وقت واحد، ولا بد من اختيار.
ومثال على المتواطئ الذي يجوز أن يراد به كل المعاني التي قيلت: قوله: (وَالْفَجْرِ): قيل: أول الصبح، وقيل: فجر مزدلفة، وقيل: فجر النحر.
ومثال آخر في الضمائر على المتواطئ الذي يجوز أن يراد به كل المعاني التي قيلت: قوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) الذي دنا، هو:
قيل: جبريل، وقيل: محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: الله.
السبب في الاختلاف هو التواطؤ؛ لأن عود الضمير يصح أن يعود إلى هذا، ويصح أن يعود إلى هذا.
مثل: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا) قيل: إن المور هو الحركة.
وهذا تقريب لا تحقيق، وحقيقة المور ليست هي الحركة من كل وجه، بل هي نوع معين: حركة خفيفة سريعة.
ومثل: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) قيل: لا شك فيه.
وهذا تقريب، وإلاّ فالريب فيه اضطراب وحركة، ولفظ الشك وإن قيل إنه يستلزم هذا المعنى؛ لكنَّ لفظه لا يدل عليه.
فائدة: في كتب التفسير كثيرًا ما تجد بعض الآيات تُفسر بمثل هذا؛ مثل: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) يقولون: يشرب منها؛ فغير اللفظ القرآني؛ لأن الفعل يشرب عادة يتعدّى بمن، وهو أراد تقريب المعنى.
ولكن القرآن عبر بالباء لنكتة بلاغية، وهي: لتوضيح كمال نعيـم أهل الجنّة.
ملاحظة: يجب جمع عبارات السلف في مثل هذه الاختلاف؛ لأن السلف يفسِّرون بجزء من المعنى، فكل واحد يذكر جزء من المعنى، فإذا جمعت هذه المعاني كلها تبيّنت الصورة الحقيقية التي أرادتها اللفظة القرآنية.
ومع هذا لابد من خلاف محقق بينهم -أي: اختلاف تضاد- لكنه قليل بالنسبة لاختلاف التنوع.

أسباب اختلاف السلف اختلاف تضاد:
أكثر اختلاف السلف كان في الأحكام، وأسباب في هذا الاختلاف:
- خفاء الدليل.
- عدم سماع الدليل.
- الغلط في فهم النص.
- اعتقاد معارض راجح.

أسباب النزول:
سبب النزول: هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه.
أقسام النزول:
- قسم له سبب نزول.
- قسم نزل ابتداء بدون سبب، وهو الأكثر.
طريقة معرفة سبب النزول: عن طريق الصحابة -رضي الله عنهم- الّذين شاهدوا التنزيل.
صيغ أسباب النزول:
الصيغة الأولى: صيغة صريحة؛ كقوله: (سبب نزول الآية كذا).
الصيغة الثانية: صيغة ظاهرة؛ كقوله: حصل كذا (فأنزل الله كذا).
الصيغة الثالثة: صيغة غير صريحة؛ كقوله: (نزلت الآية في كذا) فهي تحتمل أنها نزلت سببًا، وتحتمل أن تكون من باب التفسير بالمثال.
إشكال: تنازع العلماء في قول الصحابي (نزلت هذه الآية في كذا) هل يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله؟ أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟
- البخاري يدخله في المسند.
- وغيره لا يدخله في المسند.
قواعد الترجيح في أسباب النزول إذا تعددت وكان النازل واحدًا:
عند تعارض أسباب النزول ينبغي أن نتبع الخطوات الآتيــة للترجيح:
- ننظر الصحيح فنقدمه.
- إن تساويا في الصحة: فإننا ننظر إلى العبارات: فنقدّم الصريح على غير الصريح.
- إن تساويا في الصحة والصراحة: فهنا اختلف العلماء فيها على قولين:
· أن نحملها على تعدد السبب، بمعنى أن لهذه الآية أكثر من سبب نزول.
· أن نحملها على تعدد النزول.
فائدة معرفة أسباب النزول:
- الترجيح عند التعارض بين الأسباب.
- يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبَب.
والمسبب هو الآية النازلة لتلك السبب، مثل: قوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) لو نظرنا إلى هذه الآية معزولة عن سببها سيكون حكم الطواف أو السعي بين الصفـا والمروة مباحًا؛ ولذلك عروة بن الزبير فهم هذا وسأل عائشة، وعائشة -رضي الله عنها- أجابت بسبب النزول وقالت: لا يا عروة لعمر الله ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة؛ لكن كان الناس في الجاهلية يُهلّون لمناة، فلما أسلموا تحرّج أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُهلّوا لمناة، وكان مناة على الصفا والمروة، وكيف هم الآن يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فتحرّجوا في الطواف استصحابًا لما كانوا يصنعونه في الجاهلية، فأتى القرآن بإزالة الحرج الواقع في نفوسهم، لا لبيان حكم السعي بين الصفا والمروة.
إذا كان اللفظ القرآني عام، والسبب فيه خاص، فما العمل؟
القول الأول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فيأخذون العموم من اللفظ نفسه).
القول الثاني: العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ (فيأخذون العموم بالقياس).

المبهمات:
المبهمات في القرآن تنقسم إلى قسمين أساسيين:
- مبهم بُيّن في القرآن أو في السنّة الصحيحة؛ كاسم صاحب موسى أنه الخضر: فهذا مقبول.
- مبهم لم يُبيّن لا في القرآن ولا في السنة الصحيحة، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب؛ كالمنقول عن كعب، ووهب، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم: فهذا مما لا يجوز تصديقه وتكذيبه إلا بحجة.
والأصل فيه أن يبقى في القرآن على إبهامه، ولا يتوقف فهم الآية عليه.

أقسام الإسرائيليات:
- ما علمنا صحته مما بأيدينا: فهذا صحيح مقبول، فقد قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
- ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه: فهذا لا يجوز ذكره؛ إلّا على سبيل التكذيب.
- ما هو مسكوت عنه، لا هو من هذا القبيل ولا من هذا القبيل: فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته، كما ثبت في الصحيح: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم).
فائدة: كل ما نقله الصحابة من الإسرائيليات هو من القسم الذي أبـاحه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

حكم تفسير السلف:
حكم تفســير الصحابــة:
- إذا كان مما لا مجال للرأي فيه؛ كأسباب النزول والإخبار عن المغيبات: فهذا له حكم الرفع.
مثل: حديث ابن عباس: (أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ثم أُنزل في ثلاث وعشرين سنة) هذا حديث موقوف على ابن عباس؛ لكن لا يمكن لابن عباس أن يقوله من نفسه، لهذا هو له حكم الرفع.
وبعض العلماء اشترطوا أن يكون له حكم الرفع (إذا كان الصحابي غير معروف بالأخذ عن أهل الكتاب).
- إذا كان للرأي فيه مجال، فلا يخلو من حالات:
الأولى: أن يجمعوا عليه: فهو حجة يجب قبوله.
الثاني: أن يقول الصحابي قولًا ولا يخالفه غيره: فهو حجة.
الثالث: أن تختلف أقوال الصحابة: فليس قول أحد حجة على قول أحد وإنما يرجّح قول بعضهم على بعض بأحد مرجحات التفسير.
- إذا كان في باب الإسرائيليات: فإنه يأخذ حكم الإسرائيليات.
حكم تفسير التابعين:
- إذا كان مما لا مجال للرأي فيه؛ كأسباب النزول والإخبار عن المغيبات: فهذا حكمه حكم المرسل[SUP]([3])[/SUP].
- إذا كان للرأي فيه مجال، فلا يخلو من حالات:
الأولى: أن يجمعوا عليه: فهو حجة.
الثاني: أن تختلف أقوال التابعين: فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بعض، ويُرجّح بين أقوالهم بأحد قواعد الترجيح.
- إذا كان في باب الإسرائيليات: فإنه يأخذ حكم الإسرائيليات.

بعض اتجاهات التفسير المنحرفة:
المعتزلة:
- نفوا صفات الله وأثبتوا الأسماء.
- نفوا رؤية الله في الدنيا والآخرة.
- قالوا: إن القرآن مخلوق.
- قالوا: إن الله ليس فوق العالم.
- قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، لا خيرها ولا شرها؛ فكيف يخلق فعل العبد ويعذِّب عليه؟!
- قالوا: إن فاعل الكبيرة ليس كافرًا وليس مؤمنًا في الدنيا، لكن في الآخرة هو خالد مخلّد في النار.
ومن تفاسيرهم:
- تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم.
- تفسير أبي علي الجبائي.
- التفسير القاضي عبد الجبار.
- تفسير أبي الحسن الروماني.
- تفسير الكشاف للزمخشري.
الشيعة:
- يقولون بالإمامية الاثني عشرية.
- ينكرون خلافة أبا بكر وعمر وعثمان، ويقصرونها على علي -رضي الله عنه-.
- قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، لا خيرها ولا شرها.
ومن تفاسيرهم: مجمع البيان للطوسي.
الأشاعرة: أثبتوا الأسماء لله، وأثبتوا سبع صفات لله فقط، وأثبتوها بالعقل لا بالنقل.
من تفاسيرهم: تفسير ابن عطية الأندلسي.

أحسن طرق التفسير:
- تفسير القرآن بالقرآن، طريق الوصول إليه:
· ما جاء صريحـًا وواضحـًا في القرآن نفسه.
مثل: (اللَّهُ الصَّمَدُ) معنى الصمد فُسّر في الآية التي بعده: (الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ).
· ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
مثل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فسر النبي الظلم بالشرك، استدلالًا بقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
· ما ذكر عن الصحابة، وأشهرهم: عبد الله بن عباس.
· ما ذكر عن التابعين، وأشهرهم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
· ما جاء عن المدونين في التفسير الذين اعتمدوا هذا الطريق، وأشهرهم: ابن كثير.
أوجه تفسير القرآن بالقرآن:
· الوجه الأول: بسط المختصر.
مثل: قصة موسى -عليه السلام- في سورة النازعات مختصرة، وبسطت في سورة الأعراف والقصص.
· الوجه الثاني: تخصيص العام.
مثل: قول الله عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) تدل على عدة المتوفى عنها زوجها وهي عامة في الحامل والحائض؛ لكنها خصت بقوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
· الوجه الثالث: بيان المجمل.
مثل: قول الله عزّ وجلّ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) الكلمات هنا مجملة، وفسرت في قوله: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
· الوجه الرابع: تقييد المطلق.
مثل: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) تحريم الدم مطلق، لكنه قيد بالمسفوح في قوله: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا).
· الوجه الخامس: إيضاح الغريب.
مثل: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) سجيل غريبة؛ لكنها وضحت من قوله: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ).
- تفسير القرآن بالسُنّة[SUP]([4])[/SUP].
السُنّة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
· إما أن توافق القرآن.
· وإما أن تبينه.
· وإما أن تزيد عليه.
وهناك فرق بين التفسير النبوي والتفسير بالسنة، وهو:
التفسير النبوي: هو التفسير المنسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أما التفسير بالسُنّة: فهو استعمال المفسر للسنة في تفسير القرآن، وهو أوسع من التفسير النبوي، بحيث يأتي المفسر أو عالم فيستخدم هذا الحديث لتفسير هذه الآية.
أوجه تفسير القرآن بالسنة:
· الوجه الأول: إزالة اللبس.
مثل: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من حُوسب عُذّب) فقالت عائشة: الله عزّ وجلّ يقول: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما ذلك العرض).
· الوجه الثاني: تخصيص العام.
مثل قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) فسره النبي بالشرك.
· الوجه الثالث: تقييد المطلق:
مثل: قول الله: (مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) الوصية هنا مطلقة، قيدت بالثلث في حديث سعد بن أبي وقاص (الثلث والثلث كثير).
· الوجه الرابع: تفصيل المجمل.
مثل: قول الله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (خذوا عني مناسككم).
· الوجه الخامس: بيـان المراد باللفظ.
مثل: قوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إن القوة الرمي).
· الوجه السادس: نسخ القرآن بالسنة.
هل السنة تنسخ القرآن؟
اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: جواز نسخ القرآن بالسنة.
القول الثاني: عدم جواز نسخ القرآن بالسنة.
القول الثالث: التفريق بين السنة المتواترة وبين السنة الآحادية؛ فجوّزوها في المتواترة؛ لأن القرآن متواتر والسنة متواترة، أما غير المتواتر فلا تستطيع السنة أن تنسخ القرآن.
وهذه المسألة على طول ما بحثت في كتب أصول الفقه لا وجود لها مثال صحيح في الواقع.
مثل قول الله عزّ وجلّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) قيل: إنها منسوخة بحديث: (لا وصية لوارث).
ولا يُسلّم ذلك فإن الصواب أن هذه الآية نسخت بآية المواريث في سورة النساء.
- تفسير القرآن بأقوال الصحابة.
فهم أدرى بتفسير القرآن؛ لما شاهدوه من تنزيل القرآن، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح؛ لاسيما علماؤهم وكبراؤهم؛ لكنهم لم يفسروا كل شيء، وإنما ما يشكل وما يحتاج إليه الناس.
- تفسير القرآن بأقوال التابعين.

معنى التأويل:
التأويل عند السلف: هو التفسير، أو عاقبة الشيء وما يؤول إليه.
أما التأويل عند المتأخرين: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح.

أوجه التفسير:
- تفسير تعرفه العرب من كلامها.
- وتفسير لا يُعذر أحد بجهله؛ مثل: قضية الصلوات والزكاة.
- وتفسير يعلمه العلماء؛ مثل: العام والخاص، والمطلق والمقيد، ودقائق الأمور.
- وتفسير لا يعلمه إلا الله، وهي حقائق الأمور؛ مثل: الأمور الغيبية، وحقائق صفات الله.


([1]) اللفظ مع المعنى له خمسة أحوال، وهي:
- أن يتفقا في اللفظ والمعنى، وهو ما يسمّى بـ: (المُتواطـئ).
مثل: زيد إنسان، وعمرو إنسان؛ فلفظ ومعنى الإنسانية واحد.
- أن يختلفا في اللفظ والمعنى، وهو ما يسمّى بـ: (المتبـاين).
مثل: رجل وفرس؛ فاللفظ مختلف، والمعنى مختلف، هذا إنسان وهذا حيوان.
- أن يتفقا في المعنى ويختلفا في اللفظ، وهو ما يسمى بـ: (المتـرادف).
مثل: الحسام والصمصام والسيف والصارم، كلها مسمى لشيء واحد.
- أن يتفقا في اللفظ ويختلفا في المعنى، وهو ما يسمى بـ: (المشتـرك).
مثل: العين؛ تستعمل في العين الجارية، وفي العين الباصرة، وفي الجاسوس، فلفظها واحد؛ لكن المعنى يختلف بحسب السياق.
- أن يتفقا في بعض اللفظ وبعض المعنى، وهو ما يسمّى بـ: (المُشتـق).
مثل: ضارب واضرب.
فائدة: أسماء الله أعلام وأوصاف، فهي أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلّت عليه من المعاني.
فبالاعتبار الأول: مترادفة؛ لدلالتها على مسمى واحد؛ كالقدير، والعليم، والعزيز، والغفور، كلها تدل على ذات واحدة وهي: الله تبارك وتعالى.
وبالاعتبار الثاني: متباينة؛ لدلالة كل واحد من هذه الأسماء على معنى خاص؛ فالحياة تختلف عن القدرة، وتختلف عن العلم، وعن السمع، وعن البصر.
([2]) فائدة: قال ابن تيمية: (وقد يجيء كثير من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا).
يعني: أن كثير من أسباب النزول ليست سببًا بالمعنى الحقيقي وإنما هي داخلة في حكم الآية، وهي من باب التفسير بالمثال.
([3]) المرسل عند المحدثين: هو ما سقط منه؛ بمعنى: أن التابعي يرفعه مباشرة للنبي، فيُسقط الصحابي.
والمرسل من حيث الأصل من أقسام الحديث الضعيف؛ لكن هناك ضوابط تجعله صحيحًا:
- ألّا يكون مصدرها مفردًا؛ بل لابد من تعدد الطرق.
- أن تخلو من المواطأة.
- أن يتلقّاها العلماء بالقبول.
- الاختلاف في التفاصيل لا يؤثر على أصل القصة.
([4]) فائدة: الذي بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- من المعاني: هي المعاني الضرورية التي لا تحتمل التأخير، والتي لا سبيل لمعرفته إلا عن طريقه، وما أشكل على الصحابة -رضوان الله عنهم- أما ما سوى ذلك فلم يفسره.
 
الدرس الثاني: تفسير سورة الفاتحة
مدخل:
فضائل السورة:
- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بِيَدِه مَا أُنْزِلَ في التَّوْرَاةِ وَلاَ في الإِنْجِيلِ وَلاَ في الزَّبُورِ وَلاَ في الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذي أُوتيته) أي أنّها اشتملت على القرآن كله.
- وعن أبي سعيد بن المعلّى قال: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْه -لأنّه كان في الصلاة- فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي , قَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) ثُمَّ قَالَ لِي: (لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِي أَعْظَمُ سُّوَرِة فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ) فلم يُخبره النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلمّا أراد أن يخرج وقف سعيد بن المعلّى فقال يا رسول الله إنك قلت: لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هي أَعْظَمُ سُورَةٍ في الْقُرْآنِ، قَالَ : نعم (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِي السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ).
أسماء السورة: سُميّت بأم القرآن، وأم الكتاب، والأساس، والوافية، والكافية، كل ذلك دليلٌ على أنّها تضمّنت أصول القرآن كله.
مقصد السورة: تحقيق كمال العبودية لله عزّ وجل.
فوائد عامة من السورة:
الفائدة الأولى: في كل صلاة وفي كل ركعة تقرأ هذه السورة فأنت تُجدِد العبودية لله.
قال ابن القيم: اعلم أنّ هذه السورة اشتملت على أُمّهات المطالب العالية أتمّ اشتمال، وتضمّنتها أكمل تضمن.
الفائدة الثانية: قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: (هي السبع المثاني) معناه: أن فيها الشيء ومقابله:
- (لله) و(رب) ترغيب وترهيب.
- (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ترغيب وترهيب.
- (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فهذا حقّ الله وحق العبد.
- (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) بينهما مثاني.


بيان معاني آيات السورة:
(أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَيْطَانِ الرَّجِيمْ):
هذه الجملة يُفتتح بها كتاب الله تعالى كل قارئ، وهي ليست آيةً من كتاب الله عزّ وجل.
الغرض منها: التجرّد من حظّ الشيطان، وقطع السبيل عليه إلى أن ينال من قلبك حين تبتدئ كتاب الله عز وجل.
معنى (أَعُوذُ): أي ألتجئ.
و(أَعُوذُ بِاللهِ): أي اعتراف من العبد الضعيف بالعجز، والتجاء منه وإيمان بربه القادر أن يدفع هذا الشيطان وشرّه ووسوسته.
(من الشيطان الرجيم): هو كل عاتٍ متمّردٍ، وإنمّا سُميّ شيطانًا بمعنى: شَطُن، وهو البعد، فهو شيطان مرجوم مبعد عن رحمة الله عزّ وجل.
فوائد من الآية:
الفائدة الأولى: لا سبيل إلى القرب من الله عز وجل إلاّ بأن يعترف الإنسان بضعفه، وبأن يعترف الإنسان بقدرة الله عز وجل وفضله عليه.
الفائدة الثانية: العلاقة بين الاستعاذة والبسملة: أن في الاستعاذة ابتعاد عن الشيطان، وفي البسملة قرب من الرب الرحمن الرحيم.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ):
البسملة آية من كتاب الله تعالى أُنزلت -على القول الصحيح- للفصل بين السور، وهي آية من سورة النمل.
أما في الفاتحة: قيل: هي آية منها، وقيل: ليست آية منها.
فإذا قلنا بالقول الأول: دل على أن قراءة البسملة في الصلاة ركن، وإذا قلنا بالقول الثاني: دلّ على أنّ قراءة البسملة في الصلاة ليست ركنًا.
الغرض والقصد من هذه البسملة: الافتتاح للتبّرك والتيمّن، فإنّك تقول: أستعين بالله تعالى باسمه الرحمن الرحيم.
قوله: (ِبسْمِ اللّهِ): بمعنى باسم الله أقرأ؛ فمُتعلّق الباء محذوف.
وقوله: (الرحمن والرحيم): فيها معنى الرحمة التي عليها مدار الدارين، مدار القبول والنجاة في الدنيا والآخرة.
وهذه البسملة تضمنّت ثلاثة أسماء، وهي: (الله، الرحمن، الرحيم) وهذه الأسماء هي أصل الأسماء وأعظمها وأجملها، ولفظ الجلالة (اللهِ) هو أعظم الأسماء هذه، وإليه مرجع الأسماء كلها.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ):
هذه الآية غرضها: إثبات الكمال المطلق لله عزّ وجل.
قوله: (الحمد لله): وصف جامع للكمال، ومعناه: الثناء على الله بالكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته.
وقوله: (رب العالمين): الرب هو السيد المربّي.
فوائد من الآية:
الفائدة الأولى: افتتاح الفاتحة بالحمد: يُفيد أنّ الله تعالى محمود قبل أن يحمده الحامدون.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولم يقل: (أحمد ربي) أو (حمدًا لله): لأن (الْحَمْدُ) تُفيد الاستغراق، يعني: جميع معاني الحمد لله رب العالمين.
الفائدة الثالثة: قال تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قبل الرحمن وقبل المالك:
- قبل الرحمن: لأنّ الربّ أعظم المقامات أثرًا وتعلقًا بمصلحة العباد والإحسان إليهم.
- وقبل المالك: لأنّ رحمة الله سبقت غضبه.
الفائدة الرابعة: قال تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ولم يقل: (رب الناس) أو (ربّ الدنيا والآخرة): ليُفيد كمال ربوبية الله عز وجل فإنّه ربٌ للعالمين جميعًا إنسًا وجنًّا وحيوانات.

(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ):
غرض هذه الآية: بيان كمال الثناء على الله عزّ وجل وصفًا وفعلًا.
فوائد من الآية:
جمع الله بين الاسمين (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): لأنّ الرحمن دالّة على الصفة القائمة بالله عزّ وجل، وهي الرحمة، والرحيم صفة دالّة على تعلّقها بالمخلوق، وهي أثر الرحمة على المخلوق.

(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ):
غرض الآية: بيان كمال الله سبحانه وتعالى المطلق؛ مجدًا وسلطانًا وقدرةً وتصرفًا.
فوائد من الآية:
الفائدة الأولى: في الآية بيان أن الملك لله وحده يوم القيامة.
الفائدة الثانية: في الآية تذكير باليوم الآخر، وحثّ على الاستعداد للعمل الصالح، والكفّ عن المعاصي والسيئات.
الفائدة الثالثة: ذكر وصف الملك بعد الرحمة: لأن الرحمة داعية للرجاء والترغيب والتشويق، والملك الداعية إلى الترهيب والخوف؛ ليجتمع في قلب العبد الخوف والرجاء، وهذه كمال العبودية.
الفائدة الرابعة: في الآية قراءتان صحيحتان متواترتان: (مَالِكِ) و(ملك):
- (ملك) تُفيد كمال القوة والسلطة والجلال والعظمة.
- (مالك) تُفيد التصرّف التامّ والنفع التامّ والضرّ التامّ.
والإنسان قد يكون ملك لكن لا يكون مالك، فقولنا: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فهي تُحقق لله تعالى المعنيين: الجلال والعظمة والسلطان، والنفوذ والتصرُف التام.
الفائدة الخامسة: قال: (يَوْمِ الدِّينِ) ولم يقل: (يوم القيامة) أو (يوم الجزاء): للإشارة إلى أنّ ذلك اليوم هو يوم الجزاء على الدين الإسلامي، أمّا غيره من الأديان فليس لها عند الله نصيب.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ):
هذه الآية هي محطّ السورة وقاعدتها وأساسها، وهي أعظم آية في كتاب الله عزّ وجل من حيث معناها؛ لأن في مضمونها قد شملت القرآن كله.
يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: إنّ الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها في الأربعة، وجمع علم الأربعة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في أم القرآن، وجمع علم أم القرآن في هاتين الكلمتين الجامعتين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
فوائد من الآية:
الفائدة الأولى: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه لما ذَكر سبحانه وتعالى اتصّافه بصفات الجلال والكمال الدالّة على استحقاقه واختصاصه بالعبودية، كان ذلك موجبًا للعبد أن يعترف لله عزّ وجل بهذه العبودية.
قال البيضاوي -رحمه الله-: أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة.
الفائدة الثانية: قال: (إياك نعبد) ولم يقل (إياه نعبد) وقبلها قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولم يقل (الحمد لك) فالتفت من الغيبة إلى الخطاب:
- لاستجلاب النفوس، واستمالة القلوب، وإيقاظ الأسماع.
- لأن فيها ترقي من كمال البرهان والدليل، إلى كمال الإقرار والاعتراف، ومن رتبة الإيمان والتصديق إلى رتبة الإحسان.
الفائدة الثالثة: قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) دون (إياك أعبد): لأنه أخبر عن شمول صفاته وإحاطته بالكمال، وأنه رب العالمين جميعًا، فناسب الجمع.
الفائدة الرابعة: جمع بين العبودية والاستعانة مع أن العبادة متضمنة للاستعانة:
- لأنه لا سبيل للعبد إلى تحقيق العبادة إلا بعون الله عز وجل.
- ولأنك عندما تعترف لله عز وجل بالعبودية، يمكن أن يأتيك الشيطان فيبعث في نفسك الفخر وأنك تعبد الله، فيُكسر هذا العُجْب بقولك (وإياك نستعين).
الفائدة الخامسة: قدم العبادة على الاستعانة: لأن العبادة هي المقصودة، والاستعانة وسيلة لها، فالعبادة حق لله من العبد أن يعبده، والاستعانة حق للعبد من لله أن يعينه.

(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ):
هذه الآية غرضها: بيان أعظم مطالب المؤمنين، وهو سؤال تحقيق الهدي الكامل والدين الصحيح الذي يوصلنا إلى مرضاة الله وجنته.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب.
فوائد من الآية:
الفائدة الأولى: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تقدم الثناء على الله عز وجل، ثم الاعتراف له بالعبودية لله وحده، فإنه ناسب هنا أن يعقب بالسؤال والدعاء، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأله حاجته، وربنا يحب الحمد والثناء، وهو أحق بالحمد من غيره فهو صاحب الفضل كله.
الفائدة الثانية: قال: (اهْدِنَا) ولم يقل (اهدني): لأن الجمع أدل وأكمل في طلب الهداية وأرجى للقبول فدخول العبد في جملة دعاء العابدين أرجى للإجابة وأمنع للرد، فحين تقول: (اهْدِنَا) فإنك تدعو لنفسك وتدعو للمسلمين جميعًا.
الفائدة الثالثة: عبر بالصراط دون الطريق: تذكيرًا بصراط الآخرة.
الفائدة الرابعة: عبر بالألف واللام (الصراط) ولم يقل (صراط): للاستغراق، بمعنى أنك تطلب من الله كمال الهداية لهذا الصراط.
الفائدة الخامسة: وصف الله تعالى الصراط بالمستقيم: للدلالة على أنه لا اعوجاج فيه، وأنه واضح وقريب وسهل.
الفائدة الساسة: الآية تفيد أنك تسأل الله أن يوفقك للصراط المستقيم في أمور دنياك، وأن يهديك الصراط المستقيم في عبوديته، فهذا الدعاء يشمل كل خير في الدنيا وفي الآخرة.

(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ):
غرض الآية: التعريف بالصراط المستقيم وأثره، وطلب السلامة من طرفي الانحراف.
فسر الله قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) فهم كُمّل الخلق الكاملون.
فوائد من الآية:
الفائدة الأولى: قال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ولم يقل: (صراط المؤمنين) أو (صراط الأنبياء المرسلين): تشويق للنفس، فالقارئ المتدبر يقول: من هم الذين أنعم الله عليهم؟ أريد أن أكون منهم، أريد أن أتصف بصفاتهم؛ حتى أكون ممن أنعم الله عليهم.
الفائدة الثانية: اشتمل قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) على ثلاث أمور:
- كمال الهداية.
- كمال التفضيل في الدنيا والآخرة.
- كمال الجزاء في الآخرة.
الفائدة الثالثة: قال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ولم يقل (أُنعم عليهم) كما قال: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم) ولم يقل (غضبت عليهم): أسند النعمة إليه سبحانه وتعالى لكمال التشريف لهم، ولم يسندها في المغضوب عليهم كأنه أراد أن يبعدهم عنه.
الفائدة الرابعة: قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم:
- الانحراف بالكبر: وهو فساد القصد والعمل؛ مثل: اليهود.
- الانحراف بالجهل: وهو فساد العلم والاعتقاد؛ مثل: النصارى.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: من عرف الحق ولم يعمل به أشبه اليهود، ومن عبد الله بغير علم بل بالغلو والشرك والبدعة أشبه النصارى؛ فالأول من الغاوين، والثاني من الضالين.
الفائدة الخامسة: أصل الضلالة ومخالفة الهدى: هما الكبر والجهل.

(آمين):
سر تشريع التأمين بعد الفاتحة: أنه لما كان الدعاء وهو خاتمة الفاتحة ناسب أن يختمه بالتأمين.
 
الدرس الثالث: تفسير سورة البقرة (الجزء الأول)
مدخل:
سورة البقرة سورة عظيمة، أنزلها الله على هذه الأمة في عشر سنوات، من أول الهجرة إلى آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فضل السورة:
- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما).
- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تعلموا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) ثم سكت ساعة، ثم قال: (تعلموا سورة البقرة، وآل عمران؛ فإنهما الزهراوان، يظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف).
- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة).
- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: هي آية الكرسي).
مقصد السورة:
إعداد أمة الإسلام لحمل أمانة الدين وتكليفها بالشريعة وتبليغها.
وهذه السورة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: في بيان أصول الإيمان والعلم، وهو من الآية (1) حتى الآية (176).
- افتتحت السورة أولًا بالإشارة بالقرآن وبيان كماله من عدة وجوه.
- ثم تحدثت عن أصناف الناس مع هذا القرآن، فافتتحت الحديث عن: المؤمنين وصفاتهم، ثم بالكافرين وصفاتهم، ثم بالمنافقين وصفاتهم.
- ثم بعد ذلك جاء خطاب يجمع هؤلاء الطوائف كلها بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).
- ثم بعد ذلك ذكر ما آل إليه المعارضون من الكافرين من أهل الكتاب وسعيهم إلى التشكيك في القرآن حين قالوا: كيف يُضرب بهذا القرآن العظيم الذباب والعنكبوت، فكأنهم أرادوا أن يوقعوا الشُبه في هذا القرآن، فبرأه الله تعالى.
- ثم جاءت بعد ذلك قصة آدم، وهي تُمثّل أصل الهداية.
- ثم جاءت قصة بـني إسرائيل الّذين مُنحوا شرف الخلافة، ومُنحوا شرف التشريع والأمانة في الدين؛ لكنهم كذّبوا وعاندوا وعصوا رسولهم وشددوا على أنفسهم.
- ثم بيّن الله عز وجل وجلّى صفات اليهود وطبائعهم ليحذر المؤمنون، وليكونوا على يقظة وحذر من مشابهتهم، فذكر قـصة البقـرة التي بينت حالهم مع أوامر الله، وهي: الاستهزاء والسخرية وعدم الاستجابة والتردد والتعنت والتشدد.
- ثم جاء الحديث عن إبراهيم -عليه السلام- وهو الأصل الثاني الذي ترجع إليه الأمم والذي جعله الله خليفة وإمامًا.
- ثم جاء ذكر القبلة، فكأن الله قال لهذه الأمة: قد منحتكم قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء من بعده، ففيها إشارة إلى أن الله شرّف هذه الأمة بالأمانة.
فهذا القسم كله تمهـيد لهذه الأمة وتهيئـة لأن تتلقى أوامر الله تعالى بتعظيم واهتمام بالغ وحذر.
ثم جاء القسم الثاني: وهو في بناء الأصول، وحفظ الضرورات الخمس، وتكليف هذه الأمة بالشرائع، وابتدأ من آية (177) إلى آخر السورة.
- جاء حفظ الدين في آيات الصيام وآيات الحج، وجاء حفظ النفس في آيات القصاص، وجاء حفظ العقل في آيات الخمر، وجاء حفظ النسل في آيات النكاح والطلاق، وجاء حفظ المال في آيات الإنفاق والربا والمداينات.
- وتضمنت السورة الأحكام التي اتفقت الأديان على أصولها؛ لكنها خالفت الذين شددوا على أنفسهم.
- وركّزت على الأحكام التي فيها إصلاح المجتمع المسلم.
- وركّزت على التقوى؛ لأن التقوى هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر التي تبعث النفس على تعظيم هذه الأوامر والتقيّد بها.
- ثم خُتمت بشهادة الله عز وجل لهذه الأمة بالإيمان؛ لأنهم استجابوا له.
وهذا القسم يُمثّل القاعدة العملية والتفصيلية.
فائدة: نستنبط منهج تربوي من هذا التقسم وهو أنه يجب يؤسس الإنسان لما يريد أن يربي عليه تأسيسًا عظيمًا، ثم ينطلق فيما يريد تحقيقه.

تفسير آيات السورة:
من الآية [1 - 2]
افتتح الله عز وجل هذه السورة بحروف مقطعة، ومجمل أقوال المفسرين في الحروف المقطعة أنها: لبيان إعجاز القرآن.
ثم ذكر الله في الآية التالية: الثناء على القرآن، وهي أعظم آية تضمنت الثناء على القرآن وبيـان كماله.
فوائد من هذه الآيات:
الفائدة الأولى: تضمنت هذه الآية صفات أربع فيها كمال القرآن:
- قال: (ذَلِكَ) وذلك إشارة إلى البعيد، أي: ذلك الكتاب الذي قد بلغ منزلة عالية، فهو كامل في منزلته.
- ثم قال: (الْكِتَابُ) ولم يقل (كتاب) أو (القرآن): لاستغرقه لجميع معاني الكتب، فهو كامل في مضمونه.
- قال: (لَا رَيْبَ فِيهِ) أي: لا نقص ولا ريب ولا خلل فيه، وعبّر بالريب دون الشك؛ لأن الريب يشمل الشك، فهو كامل في سلامته من النقص.
- قال: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) فمقصده هو الهداية، فهذا دليل على أنه كامل في مقصده.
الفائدة الثانية: قال: (لِلْمُتَّقِينَ) ولم يقل: (للمؤمنين): لأنه هنا يشير إلى المنتفعين بالقرآن، والمنتفعون بالقرآن هم الّذين تحلّوا بالتقوى؛ فتخلوا عن الموانع، وتحلوا بالأسباب الباعثة على الانتفاع.
والموانع هي: التكذيب والكفر والإعراض والرياء والغفلة وغيرها.
والأسباب الباعثة للانتفاع هي: التصديق والإقبال وحضور القلب والإيمان والرغبة وغير ذلك.
من الآية [3 - 5]
ثم وصف الله المتقين المهتدين المنتفعين بالقرآن، وأوصافهم هي: أنهم آمنوا بالغيب، وأقاموا الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال: (يُؤْمِنُونَ) ولم يقل: (آمنوا): لأن ذلك أمر متجدد في نفوس المتقين ومستمر فيهم.
الفائدة الثانية: الغيب هو كل ما أخبر عنه الله ورسوله مما لا ندركه في عقولنا، فمن حقق الإيمان بهذا الغيب تحقيقًا صادقًا فإنه قد اهتدى.
الفائدة الثالثة: قال: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة) ولم يقل: (يصلّون): لأن إقامة الصلاة أداء لها على أكمل وجه، بأركانها وواجباتها وشروطها وسننها.
الفائدة الرابعة: قال: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ): لأنهم اعترفوا بأن هذا الرزق من الله فأنفقوا منه.
الفائدة الخامسة: قال: (ينفقون) دون التقييد في شيء معين: ليدخل في هذه الآية جميع أنواع الإنفاق؛ ومن أعظمه إنفاق العلم وبذله.
الفائدة السادسة: خصّ الصلاة والإنفاق: لأنهما أساس الأعمال البدنية والمالية.
الفائدة السابعة: قال: (أُولَئِكَ) إشارة بالبعد: لأنهم في درجة ومنزلة رفيعة بالهدى.
الفائدة الثامنة: قال: (عَلَى) دون غيرها: لأنها تُفيد التمكّن، أي تمكّنوا من الهدى تمكّنًا كاملًا.
الفائدة التاسعة: قال: (هدى مِنْ رَبِّهِمْ) فأضاف الهدى إلى ربهم: تشريفًا وتكريمًا منه سبحانه وتعالى.
الفائدة العاشرة: معنى الفلاح في قوله: (وأولئك هم المفلحون): الفوز التام في الدنيا بالسعادة والتوفيق، وفي الآخرة بالرضوان والجنة.
من الآية [6 -7]
ثم انتقل في هذه الآيات إلى صنف من الناس لا ينتفعون بالقرآن ولا يكونون من أهله وهم: الكافرون.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قد يُشكل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فيقال: إن الكافر سواء أنذرته أو لم تنذره لا يؤمن؛ إذن فما الفائدة من الدعوة إلى الله عز وجل؟
الجواب: إن هذه الآية في الذين أصرّوا على الكفر وعاندوا وأبوا أن يستجيبوا ويستمعوا لكلام الله عز وجل، فلا يمكن أن يؤمنوا أبدًا ولا يمكن أن ينتفعوا بالقرآن؛ لكن إذا أحضروا قلوبهم وأصغوا بسمعهم وأقبلوا على القرآن يهتدون.
أما الكافر الذي يُصر على كفره ويُعاند ويأبى أن يؤمن بهذا القرآن لا يمكن أن يهتدي.
الفائدة الثانية: أن الجزاء من جنس العمل، فقد قال الله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) لأنهم مصرّون على الكفر، فالله تعالى يُزيدهم إصرارًا وضلالًا قال الله تعالى: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
الفائدة الثالثة: خصّ القلوب هنا: لأن القلوب هي التي تعي، وخص الأسماع: لأنها هي التي تسمع كتاب الله.
الفائدة الرابعة: قال: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أي غطاء لا يبصرون الحق، ففيها دليل على أن الحق يبصره الإنسان في بصيرته قبل بصره، وقد قال تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
من الآية [8 - 16]
ثم تحدث الله عن الصنف الثاني من المعرضين، وهم: المنافقون.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله عز وجل: (ومن الناس من يقول) ولم يقل: (والمنافقون يقولون): معاملةً لهم بمثل حالهم، فهم يخفون كفرهم خِداعًا ومخادعة لله ورسوله والمؤمنين.
الفائدة الثانية: عبر بأسلوب عام فقال: (وَمِنَ النَّاسِ): لأنهم من الناس الّذين سبق ذكرهم وهم الكافرون، فكأنه قال: هؤلاء صنف من الكافرين، وإنما خصصناهم لأنهم صنف فيهم خطر على المسلمين، ولأنهم يعيشون معكم أيها المؤمنون؛ فأطال الحديث عنهم، ليميّز لنا صفاتهم.
الفائدة الثالثة: صفاتهم الذميمة المانعة من الانتفاع بالقرآن هي:
- إظهار الإيمان وإبطان الكفر، قال الله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).
- المخادعة في أمور الدين، قال الله عز وجل: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
- الشك والريب والاضطراب والكبرياء، قال الله عز وجل: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).
- الكذب، قال الله: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
- يزعمون الإصلاح وما يشعرون أنهم يفسدون، قال الله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ونحن نرى أن هذه الصفة جلّية ظاهرة فيما نراه اليوم؛ كالدعوة بالاختلاط، والدعوة لمظاهرة الكافرين وموالاتهم وغير ذلك، وكل ذلك باسم الإصلاح.
- استخفافهم بالمؤمنين، قال الله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ) يظنون أن المؤمنين سفهاء لا عقول لهم، لا يفكرون في مصالحهم الدنيوية، لا يعون حقيقة الحياة، يعيشون منغلقين.
- متذبذبين متخلخلين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، قال الله عز وجل: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
الفائدة الرابعة: المنافقون المراؤون لا يخدعون إلا أنفسهم، قال الله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) لأنه سيأتي يوم القيامة وقد حبط عملهم كله بريائهم.
الفائدة الخامسة: اختلاف القراءات يكمّل المعاني، قال الله عز وجل: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) و(بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ) أي: بما كانوا يكذبون في حديثهم، وبما كانوا يُكذّبون في إيمانهم، فاشتملت على حالهم الظاهر والباطن.
الفائدة السادسة: الجزاء من جنس العمل، فلما كان في قلوب المنافقين المرض من الاضطراب والشك والريب (فزادهم الله مرضًا): أي زادهم الله اضطرابًا وشكًّا وريبًا.
الفائدة السابعة: حكم الله على المنافقين الذين قالوا: (إنما نحن مصلحون) (أنؤمن كما آمن السفاء) وقال: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء) وعبر بـ (ألا) (إنهم) (هم) (المفسدون) (السفهاء): لأن أَلَا أداة تنبيه، وإِنَّهُمْ أداة تأكيد، وهُمُ أداة حصر وتخصيص، وال في (الْمُفْسِدُونَ) و(السفهاء) للاستغراق.
الفائدة الثامنة: حكم الله على المنافقين الذين يزعمون أنهم يستهزؤون بالمؤمنين وقال: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ): جزاءً لأفعالهم.
الفائدة التاسعة: قال: (يستهزئ) ولم يقل: (استهزأ): أي هو دائمًا يستهزئ بهم، فيجريهم في أحكام في الدنيا مع المؤمنين، لكنه يتربص بهم في عذاب الآخرة، ولهذا قال: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
الفائدة العاشرة: عبر الله بالشراء، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) أي المنافقون (فما ربحت تجارتهم) وكيف تربح تجارتهم وقد باعوا الهدى واشتروا الضلالة؟ ثم قال: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أي لن يهتدوا بالقرآن ولن ينتفعوا به ما دامت هذه صفاتهم.
من الآية [17 - 20]
ثم انتقل الحديث في هذه الآيات عن بيان مَثل المنافقين، وهو المثل الناري، والمثل المائي.
واختلف المفسرون هنا فيمن هذه الآيات: قيل: هي في الكافرين، وقيل: هي في المنافقين، وقيل: مَثل في الكافرين ومَثل في المنافقين؛ لكن الظاهر والله أعلم أنها كلها في المنافقين.
الآيتان الأولى في المثل الناري: وهي في بيان حال المنافقين مع الإيمان، والمعنى: مثل حال المنافقين مع الإيمان كمثل من أوقد نارًا ليستضيء بها، فلما سطع نورها وظن أنه ينتفع بضوئها خمدت، فذهب ما فيها من إشراق، وبقي ما فيها من إحراق، فبقي أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا، ولا يهتدون سبيلًا.
وجه الشبه: أن المنافقين استوقدوا نورًا من المؤمنين بإيمانهم الظاهر، كونهم قالوا آمنا، لكن هذا النور كان نورًا ظاهرًا ويسيرًا لا دوام له، انتفعوا به انتفاعًا يسيرًا بالأمن على أنفسهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ولم يتمكن في قلوبهم، فإذا ماتوا انقطع هذا النور.
ثم قال الله: ما دام هذا حالهم فهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) عن ضلالهم.
ثم جـاء في الآيتين الأخيرتين بالمثل المائي: وهي في بيان حال المنافقين مع القرآن، والمعنى: مثل حال المنافقين مع نزول القرآن كمثل نزول مطر كثير من سحاب فيه ظلمات متراكمة ورعد وبرق، على قوم فأصابهم ذعر شديد، فجعلوا يسدون آذانهم بأطراف أصابعهم، من شدة صوت الصواعق خوفًا من الموت.
وجه الشبه: أن نزول القرآن على المنافقين كمطر العذاب، لما فيه من الوعد والزجر، وما فيه من النور والحجج الباهرة، وما فيه من التخويف والترويع والفضح، فبسببه يجعلون أصابعهم في آذانهم لا يريدون سماع الحق.
ولذلك قال الله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).
من الآية [21- 22]
هذه الآيات جاءت بعد ذكر الطوائف الثلاث فكأنها دعوة لهم جميعًا، الكفار والمنافقون، والمؤمنون قبل ذلك.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: خصص الله في هذه الآية بعض آياته ونعمه: لأنها محل الاعتبار، وبها يقوم الدليل الظاهر على وجود الله وعلى قدرته.
الفائدة الثانية: من حسن تنظيم القرآن أنه:
- ابتدأ بذكر خلق البشر؛ لأنها أعظم نعمة.
- ثم ثنّى بخلق الأرض التي هي مكان البشر ومستقرّهم التي لابدَّ لهم منها.
- ثم ثلّث بخلق السماء التي هي كالسقف الذي يُظلّهم.
- ثم ذكر إنزال الماء من السماء للأرض والإخراج به.
الفائدة الثالثة: أول أمر في السورة قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وهو أول أمر جاءت به الرسل.
من الآية [23 - 24]
هذه الآيات في إظهار التحدي لإثبات كمال القرآن وسلامته، وإثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى: (مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) ولم يقل (مما أنزلنا على عبدنا): لأن نزّلنا تأتي على التدريج، وأنزلنا تأتي جملة واحدة، فكأنه قال: لكم أن تفكّروا في الأمر طويلًا وأن تبحثوا فيه عن قصور أو ريب أو نقص.
الفائدة الثانية: لم يكتفي بدعوتهم أنفسهم إلى التحدي بل قال: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) يعني: أصنامكم وكبراءكم ورؤساءكم وزعماءهم وخبراءهم وكل من له علم عندكم.
الفائدة الثالثة: حكم الله بعجزهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو أن يجدوا فيه قصورًا أو ريبًا، فقال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا).
الفائدة الرابعة: قال: (فَاتَّقُوا النَّارَ) ولم يقل: (فاتقوا التكذيب) أو (فاتقوا العناد): قال اتقوا النار مباشرة لأنها جزاءهم، ولأن فيها إيجاز.
الفائدة الخامسة: قال: (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فذكر الناس مع الحجارة وقدّمهم على الحجارة: مبالغة في تهديدهم، وأنهم أولى من يكون في النار.
الفائدة السادسة: الحجارة التي لا تحرقها النار في الدنيا هي وقود النار يوم القيامة، وهذا فيه إشارة إلى عِظم هذه النار، وأنها لا تتقد بأشجار وإنما تتقد بالأحجار، وهذا يدل على فرط حرّها.
الآية [25]
ثم انتقل إلى وعد كريم وبشرى عظيمة بعد أن ذكر حال المكذّبين، وهي في بيان حال جزاء الكُمّل الّذين اهتدوا بالقرآن.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: افتتح الله الكلام بقوله: (بَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وهذا فيه مزيد تكريم لعباده المؤمنين.
الفائدة الثانية: هذه الآية ذكرت: المُبشِّر، والمُبشَّر، والمُبشَّر به، والسبب الموصل لهذه البشارة.
فالمُبشِّر: هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمُبشَّر: هم المؤمنون، والمُبشَّر به: هو الجنة، والسبب الموصل لهذه البشارة: هو العمل بالإيمان والعمل الصالح.
فكملت هنا أطراف البشارة كلها، فما أعظم هذه البشارة، وما أعظم من حقق أسبابها وكان من أهلها.
الفائدة الثالثة: قال الله عز وجل: (أَنَّ لَهُمْ): إشعارًا بأن هذا النعيم مستقر متحقق لهم.
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل: (جَنَّاتٍ) فجمع الجنات: ليدل على عظمتها وتعدادها.
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وهذا فيه إشارة إلى كمال صورتها وحسن منظرها، ويظهر ذلك من:
- التعبير بلفظ (تجري) ولا شك أن جريان الماء أفضل من ركوده، فالماء الجاري المتجدد أكمل وأنظر من الماء القار.
- والتعبير بقوله (مِنْ تَحْتِهَا) وهذا فيه زيادة لتحسين وصف الجنات، وذلك أن أنهار الجنة تجري بين الجنان من غير أخاديد.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) أي كلما أوتي لهم بثمرة كانت هذه الثمرة أعظم لذّة وأكمل طعمًا من الفاكهة التي قبلها، مع أنها نفس الفاكهة، وهذا سر من أسرار نعيم الجنة، أنَّ نعيمهم يزداد كل يوم لذّة.
بخلاف أهل الدنيا، فأهل الدنيا حينما يأكلون الثمرة اليوم يتلذّذون بها؛ لكن لو أكلوها من الغد كانت لذّتهم أقل.
الفائدة السابعة: قول الله عز وجل: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) فيه بيان لزيادة لذّتهم وتنوع أرزاقهم.
الفائدة الثامنة: قال تعالى: (وأُتُوا بِهِ) وهذا من نعيم الجنة، حيث يؤتى به لهم وليس هم يطلبونه كما هو حال الدنيا.
الفائدة التاسعة: قال الله عز وجل: (ولَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي مطهرة من كل عيب وأذى حسي ومعنوي، وذلك مزيد إكـرام.
الفائدة العاشرة: عبّر الله بخلود أهل الجنة في الجنة، وقال: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وذلك لئلا يظنوا أن هذا النعيم نعيم مؤقت أو محدود.
من الآية [26 - 27]
مناسبة الآية: أن الكافرين حينما دمغوا، وتحداهم الله عز وجل أن يأتوا بمثل القرآن، ولم يكن لهم سبيل إلى ذلك لجأوا إلى الشبه والتنقص والحيل فقالوا: كيف هذا القرآن يُضرب به الذباب ويضرب به العنكبوت مثلًا -كأنهم أرادوا أن يستنقصوا القرآن- فقال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) ثم قال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لأن هذه الأمثال تزيد المؤمنين إيمانًا (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) والله (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا) من الكافرين (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) من المؤمنين (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) أي الخارجين عن أمر الله وحدّه.
ثم ذكر الله صفات هؤلاء، فقال: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وفي هذا إشارة للمشركين ولأهل الكتاب المعاندين؛ لأنهم هم الّذين نقضوا أمر الله عز وجل.
من الآية [28 - 29]
ثم ردّ الحديث بعد ذلك باستفهام، فقال: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) بعد هذا البيان وهذا التفصيل وهذا الاستدلال والبرهان، فرد الكلام إلى الدعوة الأولى -عندما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)- ثم قال هنا: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) فبهذا يتبيّن سياق هذه الآيات وتتابعها على هذا المعنى.
من الآية [30 - 33]
هذه الآيات فيها قصَّة كرامة بني آدم، وكيف أنّ الله تعالى شرّفهم واختارهم لحمل أمانته.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: غرض هذه الآيات: بيان حكمة الله من خلق آدم، وهو الاستخلاف في الأرض لِعبادة الله عزّ وجل.
الفائدة الثانية: قـال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ولم يقل: (بشرًا) أو (خلقًا): إبرازًا لمهمَّة هذا المخلوق العُظمى ودوره في الأرض وأنّه بهذه الخلافة يُعتبَرُ عامِلًا مُهمًا في نظام الكون كُلَّه.
الفائدة الثالثة: إخبارُ الله لملائكته عن استخلافِه لآدم في الأرض يُشعِر بأنَّ هذا الأمر ذو شأنٍ عظيم عند الله، وهو دال على كرامة بني آدم.
الفائدة الرابعة: قال الله في قول الملائكة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) وهذا القول من الملائكة هو قول تَعَجُب، يعني: كيف يكون لك خليفة ومن ذرِّية هذا الخليفة من يُفسد في الأرض ويسفِك الدِّماء مع أنّنا -أيّ الملائكة- مُقيمون على التّسبيح والسَّلامة من الآثام؟ فخَفيت على الملائكة حكمةُ الله العُظمى في شأن هذا الخَلق وما سيكون فيه من مصالح عظيمة.
الفائدة الخامسة: كيف عَلِمت الملائكة أنّ هذا المخلوق سيكون من شأنِه وشأن ذُرِّيته الإفساد وسفَك الدِّماء؟
- قيل: قيِاسًا على من سَكَن الأرض قبل هذا المخلوق وهُم الجِنّ.
- وقيل: أنّهم حينما اطَّلَعُوا على طبيعة هذا المخلوق عَرَفُوا أنّه بِخلقته ضَعيف لن يستطيع أن يُقاوم.
- وقيل: أنّ الله عزّ وجل أطلعهم على ذلك، فقال لهم: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقالوا: وماذا يكون من شأن هذا الخليفة؟ فقال لهم الله: يكون من شأنه كذا وكذا، وأنَّ من ذُرِّيته من يُفسِد ويسفِك الدِّماء، فـ (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؟ تَعُجُّبًا.
الفائدة السادسة: معنى التسبيح في قول الملائكة (ونحن نسُبِّح بحمدك) أي ننزه الله عزَّ وجل عمّا يقع من الكُفُر والشِّرك وهو الإفساد في الأرض، و(وَنُقَدِّسُ لَك) أيّ نُطَّهِرُ أنفسنا لك من أعظم الآثام، ومن أعظمها سفكُ الدِّماء، فقابلوا الإفساد بالتَّسبيح، وقابلوا القتل بالتَّقديس.
الفائدة السابعة: في قول الله عزّ وجل: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ما يُشعِرُ بأنّه تعالى سيُظهِر من ذريّة هذا الخليفة خِيَار خلقه، وأن وراء هذا الخلق مصالح لا تعلمُها الملائكة.
الفائدة الثامنة: قول الله عز وجل: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كلها) فيه إبراز لاسمِ آدم في مقام العلم، وهذا يدلُّ على شرفه.
الفائدة التاسعة: في الآية السابقة إشارة إلى أنّ الخلافة والإمامة في الدِّين تستلزم العلم والمعرفة.
الفائدة العاشرة: من تشريف الله لآدم أنه علمه الأسماء بنفسه، ولم يوُكِل ذلك لأحد، وهذا شرفٌ عظيم.
الفائدة الحادية عشرة: في قول الله عز وجل: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فقال أَنْبِئُونِي بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) تحدِّي للملائكة وتعجيزٌ من الله لهم؛ لإبراز فضل آدم عليهم.
الفائدة الثانية عشرة: قول الملائكة (سُبْحَانَكَ) يدل على شَرف الملائكة وكمال أدبهم وطمأنينتهم ويقينهم بتفضيل هذا الخليفة عليهم، ويدل على أنّهم استسلموا ولم يجادَلوا.
الفائدة الثالثة عشرة: الاستفتاح بالاعتذار والتَّوبة هي سُنَّةُ المرسلين وهي أدبُ التَّائبين الصَّادقين، وهو أدبٌ ينبغي أن يتمثّله الإنسان في اعتذاره وتوبته لِرَّبه.
الفائدة الرابعة عشرة: في قول الملائكة (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) أدبٌ آخر، وهو أنّهم نَفُوا العلم عن أنفسِهم، وبيّنوا أنّهم لا علم لهم إلاّ من اللّه.
الفائدة الخامسة عشرة: مناسبة وصف الملائكة لله بأنه حكيم في قولهم: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) إشارةً إلى ما ذكره الله تعالى من حكمة خلق آدم.
الفائدة السادسة عشرة: لما طلب الله من الملائكة الإنباء عن الأسماء وعَجِزوا عن ذلك، أراد سبحانه يُظهِرَ فضل آدم عليهم، فقال: (يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) لإظهار كمال علمه سبحانه وتعالى وشمول إحاطته بالخلق وأنّه سبحانه وتعالى له الأمر كُلُّه وله العلم كُلُّه وله الحكمة كُلُّها.
الفائدة السابعة عشرة: في قول الله: (يَا آَدَم) باسمه الصريح: تشريف لآدم عند الملأ الأعلى.
الفائدة الثامنة عشرة: في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) معنىً لطيف وهو أن الغيب هنا عام، ومنه الغيب المُتَّعلق بآدم: ما سيكون من شأنه مع إبليس في الجنة، وما سيكون من بعده من تكليف وغيره.
الفائدة التاسعة عشرة: في قوله: (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) إشارة إلى أنّ الله مُطَّلع على ما في نفوس الخلق، وفيه إشارة أخرى متعلّقة بقصّة آدم وهي: معرفة الله وعلمه بما يكتمه إبليس حين رأى خلق آدم؛ لأنّ إبليس لم يُعلِن الاعتراض إلاّ حين أُمِر بالسُّجود بعد ذلك.
من الآية [34 - 39]
ما زالت الآيات في فضيلة آدم وتكريمه، لكنه هنا كرّم الله آدم بالسُّجود، فأَمَرَ الملائكة بالسُّجود له، وهي كرامةٌ لِبَنيه.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قدم الله تفضيل آدم بالعلم قبل تفضيله بالأمر بالسُّجود له: لأنّه لمّا كان الغرض بيان فضيلة آدم باستخلافه في الأرض، اقتضى الأسلوب الحكيم أن يُوضِّح سبب تعيينه خليفة -والسبب هو العلم- فلمَّا فرغ من ذلك أمرهم بالسُّجود له
الفائدة الثانية: كان إقرار الملائكة بفضيلة آدم إقرار قولي وعملي، فإقرارهم بالقول هو قولهم (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا) وإقرارهم بالعمل هو السُّجود له.
الفائدة الثالثة: عبر الله عزَّ وجل بالفاء في قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا) لتدل على سرعة امتثال الملائكة لأمر الله عز وجل بالسُّجود له، فيوم أن أمرهم ما تلكؤوا، وإنّما سجدوا مباشرة.
الفائدة الرابعة: قال الله عزّ وجل: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) ولم يقل: (إلا إبليس لم يسجد) أو (إلاّ إبليس امتنع): للدَّلالة على سبب امتناعه، وهو التكبُّر والعناد.
الفائدة الخامسة: قال الله عزّ وجل: (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) ولم يقل: (استكبر ثمّ أبى) مع أنه في الأصل أنّه يستكبر ثمّ يأبى: لأنّه هو الذّي يظهر في الظّاهر، فالإباء ظاهر، أمّا الاستكبار فلا يظهر لأنّه في نفس إبليس، فقدَّم ما هو دالٌّ على الأمر بحقيقته وواقِعه، وهو امتناعه ظاهرًا.
الفائدة السادسة: قال الله عزّ وجل: (وَاسْتَكْبَرَ) ولم يقُل: (تكبَّر): ليدلُّ على أنّه استجلب الكِبِر، يعني تطّلب الكبر تطلبًا.
الفائدة السابعة: قال الله عزّ وجل: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) ولم يقل: (وكَفَر): للدَّلالة على بلوغه نهاية الكفر، وهو مُشعِرٌ بنزوله إلى أسفل سافلين بعد أن كان في أعلى عِليِّين.
الفائدة الثامنة: في إظهار صِّفات إبليس؛ كالإباء، والاستكبار، والكُفر: تعريضٌ للمستكبرين الذِّين لم يُؤمنوا بالنّبي -صلى الله عليه وسلّم- ولم يعترفوا به وبدعوته، وتحذيرٌ للمؤمنين من هذه الصِّفات الثَّلاث إذا جاءهم أمرُ الله.
الفائدة التاسعة: فضّل الله آدم بإسكانُه الجنّة، فقال: (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ).
الفائدة العاشرة: قال الله عزّ وجل: (اسْكُنْ) ولم يقل: (ادخل): لأن اسكُن تفيد الدُّخول وزيادة، وهو التمّكُن في دخوله وسَكنِه.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله عزّ وجل: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) الرَّغَد يتضَّمن معنيين: الذّي لا عناء فيه، والواسع الكثير.
الفائدة الثانية عشرة: قول الله عزّ وجل: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) دليلٌ على أنّ سُكنى آدم وأكله في الجنّة لا يدوم، بقرينة النّهي عن القُربان؛ لأنّ المُخَلّد في الشَّيء لا يُناسَب أن يُحظر عنه شيء؛ لأنّه احتمال أن ينال منه، أو يَطعم منه، وهو ما كان من آدم حين أراد الله ذلك.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عزّ وجل: (وَلَا تَقْرَبَا) ولم يقل: (ولا تأكُلا): ليدل على أنّ الإنسان ينبغي أن يحذر من المُحرَّمات في قُربانه منها.
الفائدة الرابعة عشرة: في حظر شجرة واحدة على آدم وتوسيع الحلَال عليه فائدة لَطيفة: وهي أنّ المنهي عنه في التّكليف يَسير مُقارنةً بما أحلَّه الله لنا؛ فما أحلّه الله لنا واسع، وما حرّمه الله علينا محصور.
الفائدة الخامسة عشرة: الحكمة من إسكانه الجنّة دون أن يَكتُب الله له فيها الخُلود: أنّ الله يريد أن يبين لآدم وبنيه أنّ هذا جزاءكم بعد الاستخلاف، وأنّ هذا نعيمكم إن قمتم بالخلافة على أكمل وجه، فكأنّه أراد أن يُطلِعَهم على جزائهم وثمرة عملهم، ممّا يدعوهم إلى العمل والامتثال والقيام بأمر الخِلافة كما أمرهم الله.
الفائدة السادسة عشرة: قول الله عزّ وجل: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) فيه تحذيرٌ ظاهرٌ لآدم وذُريّته من عداوة إبليس وذُريّته؛ بكونه السَّبب في زلّته وإخراجه من الجنّة، واهباطه إلى الأرض.
الفائدة السابعة عشرة: قول الله عزّ وجل: (فَأَزَلَّهُمَا) يفيدُ أن آدم عليه السَّلام لم يتعمّد الوقوع في أكل الشَّجرة، وإنّما أوقعه إبليس بالتَّدريج.
الفائدة الثامنة عشرة: في تعبير بالإزلال ما يُفيد سُرعة إيقاع إبليس لآدم وذُرِّيته في المعصية بطريق الإغراء والتَّزيين والوسوسة.
الفائدة التاسعة عشرة: قول الله عزّ وجل: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) يفيد أنَنّا في هذه الأرض لسنا على دوام وخُلود.
الفائدة العشرون: أظهر الله فضيلة أخرى لآدم وهي: مبادرته للتَّوبة بعد المعصية، فقال: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) وفي هذا إشارة وإرشاد لِبَنيه بأن يَكُونوا مُبادرين بالتَّوبة حِينَ يَقَعُونَ في المعصية.
الفائدة الحادية والعشرون: قال الله عزّ وجل: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) فأخفى هذه الكلمات: ليُشير إلى أنّ كلمة التّوبة ليست كلمة واحدة وإنّمَا هي كلمات، وهذا من توسيع الله على عباده التَّائبين أنّه لم يحصُرُهم في كلمةٍ واحدة يقولونها.
الفائدة الثانية والعشرون: قال الله عزّ وجل هنا: (تَبِعَ هداي) وقال في طه: (اتَّبَع هداي) لأنه كلمة (تبع) تأتي بعد البَيان التَّام بالأدلة الموجبة للاتباع مباشرة، أمّا كلمة (اتبع) تدعو إلى البحث عن الأسباب والأدلِّة والبراهين الدَّاعية إلى الاتباع.
ولمّا بيّن هنا الأدِّلة بالفضائل، والتَّشريفات، والإكرام العظيم قال: (تَبِعَ هُدَايَ).
الفائدة الثالثة والعشرون: وفَّر الله تعالى لمن اتَبع الهُدى: الأمن والسُّرور اللّذين هما عَصَب الحياة، فقال: (فمن تبع هداي فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
الفائدة الرابعة والعشرون: بيّن في النهاية عاقبة الذين كفروا وكذبوا بالآيات، فقال: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) فنسبتهم إلى النار لبيان لاستحقاقهم دخولها وملازمتهم لها بحيث أنّهم لا يفارقونها، وأنهم أهلها، ثم قال: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) مزيد من استيثاق العذاب منهم.
نهاية: تضمّنت هذه الآيات جوانب التكريم والتفضيل لآدم وذريته من وجوه كثيرة، وهي:
- اختياره وذريته خلفاء في الأرض.
- إبراز فضله لملائكته وإخبارهم بذلك.
- تفضيلهم بالعلم.
- مباشرة تعليم الله عز وجل له الأسماء.
- اسجاد الملائكة له.
- اسكانه الجنة.
- قبول توبته.
- إيتاؤه الهدى.
من الآية [40 - 61]
هذه الآيات عن بني إسرائيل، وهم الأمة المستخلفة قبل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أرسل الله لهم من الرسل الكثير ولم يؤمنوا، فأثبت الله أنهم لا يستحقون الخلافة وليسوا أهلًا لها، فسلب الخلافة منهم ومنحها الأمة المحمدية.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: مع كفر بني إسرائيل وعنادهم وتكذيبهم وضلالهم إلا أنّ الله ناداهم نداءً رحيمًا بأشرف الأسماء عندهم، فقال الله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) وإسرائيل: هو يعقوب -عليه السلام-.
الفائدة الثانية: أضاف الله النعمة إليه في قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ليوجب عليهم شكر هذه النعمة وقبولها.
الفائدة الثالثة: العهد الذي أخذه الله منهم في قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) هو الإيمان بما في التوراة، وفي التوراة ما يأمرهم بالإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-.
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) إشارةً إلى ما كان مانعًا لهم من الإيفاء بالعهد، وهو رهبتهم من أحبارهم، فأدمج النهي عن رهبةِ غير الله مع الأمر برهبةِ الله في صيغة واحدة.
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل: (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) ولم يقل: (آمنوا بما عند محمد) لأن هـذا أدعى إلى إرغامهم على الاستجابة.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) لأنهم كانوا أهل علمٍ بشأنه وصفته، فحين يكفرون يكونون أول كافر به.
الفائدة السابعة: حذرهم الله من أن يشتروا بآيات الله حظوظهم الدنيوية؛ لأنها تمنعهم من الإيمان، فقال: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أي لا تقدموا الدنيا وحظوظها وما كان لكم فيها من نصيب على ما آتاكم الله من آيات.
الفائدة الثامنة: الفرق بين قوله: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وبين قوله: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) هو أن الله عز وجل أمرهم بالرهبة أولًا، ثم التقوى ثانيًا، فهو من باب الترقّي إذ أنّ التقوى نتيجة للرهبة، فإذا رهب الإنسان من ربه اتقاه.
الفائدة التاسعة: أن من موانع الإيمان عندهم وهو لبسهم الحق بالباطل، فقد قال الله عز وجل: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) والحق هو ما في التوراة من الإخبار بأمر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأنّه رسول وأنّهم مأمورون باتبّاعه، والباطل هو خلطهم وإخفاءهم ذلك، وقولهم: أنّ هذا النبيّ ليس هو النبي الذي أراده الله.
الفائدة العاشرة: مناسبة قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) أن الآيات ما زالت في دعوتهم وترغيبهم للإيمان، وهذه أصول الأعمال الباعثة على الامتثال وصدق الإيمان.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله عز وجل: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) مع أن الركوع داخل في إقامة الصلاة: لأنّ الركوع شعار الإسلام في الصلاة، وأنّ صلاة اليهود ليس فيها ركوع.
الفائدة الثانية عشرة: الآية السابقة تفيد وجوب صلاة الجماعة.
الفائدة الثالثة عشرة: استنكر الله على عُلماء بني إسرائيل فقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أي: كيف تأمرون الناس بالبرّ الذي تضمّنته كتبكم وتنسون أنفسكم أن تُؤمنوا بما في كتبكم من الأمر بالإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؟
وفي هذا تشنيع عليهم، وتشنيع على العلماء الذين يتخذون العلم وسيلة فقط للوظيفة.
الفائدة الرابعة عشرة: غرض الآية السابقة: ذمّ الجمع بين أمر الناس بالبرّ، وتركه عمدًا وقصدًا؛ لكن لا يدل هذا على نهي العاصي أن يأمر هو بالمعروف وينهى عن المنكر وهو على معصيته مع كُرهه لما هو عليه، ورغبته في الإقلاع.
الفائدة الخامسة عشرة: أمرهم الله بالصبر والصلاة فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) لأن العلماء أُمروا بأن يتنازلوا عن مكانتهم في الدنيا ويؤمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا صعب على النفوس، إلا النفوس الصادقة، فالله أرشدهم إلى ما يُعينهم على ذلك، فقال: استعينوا على ترك ما أنتم عليه بالصبر والصلاة.
الفائدة السادسة عشرة: الصبر يعين على ترك ما لا ينبغي، والصلاة تعين على حصول ما ينبغي.
الفائدة السابعة عشرة: قال الله عز وجل: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) الراجح أن الضمير في (إنها) يعود على الصلاة لا على الصبر؛ لأن الخشوع لا يكون في الصبر، وهذا فيه إشارة إلى أنّ أعظم ما يبعث الإنسان على الاستجابة: الخشوع في الصلاة.
الفائدة الثامنة عشرة: التذكير باليوم الآخر يبعث على امتثال أمر الله، قال الله عز وجل: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
الفائدة التاسعة عشرة: نعم الله على بني إسرائيل كثيرة، منها ما ذكره الله في هذه الآيات، وهي:
- تفضيلهم على العالمين، قال تعالى: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
- إنجائهم من آل فرعون الذين ساموهم سوء العذاب، قال تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب).
- إكرامهم بفرق البحر لهم وإغراق آل فرعون وهم ينظرون، قال تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون).
- إيتاؤهم الكتاب والفرقان الذي يبين لهم الحق، قال تعالى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون).
- بعد أن أنجاهم الله من آل فرعون فرق لهم البحر وذهبوا سالمين ورأوا ناسًا يعبدون الشجر فـ (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ) ثم ذهب موسى عليه السلام لملاقاة ربه ليتم إنزال التوراة؛ لكنهم عبدوا العجل في هذه الفترة، ومع ذلك عفا الله عنهم بعد توبتهم، قال تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون).
- إحياءهم بعد موتهم، وذلك بعد أن عبدوا العجل أمرهم الله أن يقتل بعضهم بعضًا فقال: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) ثم تاب الله عليهم وعفا عنهم.
- إظلالهم بالغمام يوم أن كانوا في التيه، قال تعالى: (وظللنا عليكم الغمام).
- إنزال المنّ والسلوى الذي هو من أعظم الطعام وأزكاه من السماء لهم، قال تعالى: (وأنزلنا عليكم المن والسلوى).
- أمرهم بما يمحوا ذنوبهم، وهو أن يدخلوا الأرض المقدسة راكعين مستغفرين وأن يقولوا حطة تحُطّ عنا ذنوبنا، قال تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدًا وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم).
- تفجير الله لهم الماء من الحجر اثنا عشر عينًا على قدر أسباطهم وهم في أشد الحاجة إليه في التِيه، قال تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم).
الفائدة العشرون: وتضمنّت هذه الآيات ذكر ما قابلوا به بني إسرائيل هذه النعم من الكفر والإعراض والتكذيب، منها:
- اتخاذهم العجل إلهًا في مدة مفارقة موسى لهم لمناجاة ربه مع قصر هذه المدة، قال تعالى: (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل).
- جرأتهم على الله وتعنُتّهم على نبيهم موسى باشتراطهم للإيمان رؤية الله جهرة، فقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً).
- مخالفتهم أمر الله عند دخول القرية قولًا وفعلًا، حيث دخلوا يزحفون على أدبارهم، ويقولون: حنطّه يعني أعطنا حنطّة، قال تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم).
- سوء خطابهم مع الله ومع نبيهم، حيث قالوا له: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ولم يقولوا (ادع ربنا) وقولهم: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ).
- تبرّؤهم من الرزق الذي امتنّ الله به عليهم، فقالوا: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) وهو المنّ والسلوى الذي أنزله الله عليهم فما رضوا، وإنّما قالوا: نريد أن نزرع ونحرث ونأكل الفوم والثوم والعدس والحنطة.
الفائدة الحادية والعشرون: وتضمنت الآيات عقوبة الله لبني إسرائيل المعاندين، منها:
- توبِيخهم والاستِنكار عليهم بقوله: (أَتَسْتَبْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير).
- مجازاتِهم بجنس عملِهم وما اختَارُوه لأنفسهم من الدُنوِّ، قال تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا) وقال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) وفي ذلك إِشعار بقطعِ التكريم والعناية بهم.
الفائدة الثانية والعشرون: وتضمنت هذه الآيات التي هي في بني إسرائيل: دعوتهم وتذكيرهم بالله وتشويقهم، وتعداد النِعم عليهم، وبيان كفرهم بالنعم، وبيان عقوبتهم بسبب كفرهم.
الفائدة الثالثة والعشرون: هذه الصفات التي ذكرها الله لنا، ذكرها ليحذرنا منها، وألا نكون من أهلها، وأنه إذا أكرمنا بنعمة نشكره عليها.
الفائدة الرابعة والعشرون: قال الله هنا: (فانْفَجَرَتْ) وفي الأعراف قال: (فانبجست)، والسبب أن:
في الأعراف: كان في بداية الأمر، وكان الاستسقاء من قوم موسى إلى موسى، فذكر بداية الخروج وهو الانبجاس.
وفي البقرة: كان الاستسقاء من موسى إلى ربّه، وهو في سياق تِعداد النِعم، فجاء التعبير بالانفجار أنسب.
الفائدة الخامسة والعشرون: قال الله تعالى: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) بعد أن قال: (كلوا واشربوا من رزق الله): لأنّ الإنسان إذا مُنحَ الرزق يطغى، قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) وقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) فالله حينما مَنحَهُم هذه النعمة حذرّهم ألا تُؤدّي بهم هذه النعمة وهذا الرزق إلى الفساد في الأرض والطغيان، وهذا تحذيرٌ لنا إلى أن لا تَبطُر بنا النعمة فتأخذنا إلى الإفساد في الأرض أو إلى أيّ نوع من أنواع المعاصي.
الآية [62]
ثمّ انتقل الله في هذه الآية إلى الحديث مرة أخرى عن الترغِيب بعد الترهيب، فالله يريد دعوتهم إلى الإيمان وهو اللّطيف الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه.
من الآية [63 - 66]
ثمّ جاءت الآيات هنا لبيان كُفرانِهم للنِعم:
- فذكر الله تمنُّعِهم من أخذ الكتاب حتى رُفع الطُور فوقهم، قال الله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وهؤلاء القوم أمرهم الله فلم يستجيبوا، دعَاهم فلم يستجيبوا، أغرَاهُم بالنِعم فلم يستجيبوا، فما كان مِنه سبحانه وتعالى إلاّ أن رَفع الجبل فوقهم، فقال: خُذُوا الكتاب بقوة أو يُعاقبكم الله ويُسلّط عليكم هذا الجبل فيَسقُط عليكم.
- وذكر الله نكثهم للعهود ونقضِهم للمواثيق وتلكّؤُهِم ومراوغتهم في الاستجابة والطاعة لأنبيائهم، قال الله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
وقصّة أصحاب السبت هي: أنّ الله نهاهم أن يَصِيدوا السمك يوم السبت، وابتلاهم بألا يظهر السمك إلا يوم السبت، فتحايلوا وجَاؤُوا ليلة السبت فوضعُوا شِباكَهم في البحر وتركُوها، فلمّا كانت ليلةَ الأحد جَاؤوا وقد اصطادت هذه الشِبـاك الأسماك فأخذوها، وقالوا: ما صِدنا في السبت وإنّما وضعنا شِبَاكنا، فعاقبهُم الله بأن جعلهم قردةً خاسئين، وهذا يُبيّن عِظم جُرم الحِيل على أوامر الله.
من الآية [67 - 73]
بعد ذلك جاءت قِصّة البقرة التي سُمِيّت بها السورة.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قصّة البقرة هي:
أنه وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يُعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى إلى موسى أن يأمرهم أن يذبحوا أي بقرة؛ ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة فـ (قالوا ادع لنا ربك يبين لها ما هي) فشدّد عليهم: (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ففاعلوا ما تؤمرون) لكنهم لم يستجيبوا وشددوا على أنفسهم أكثر وسألوا عن لونها فـ (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) فأجابهم: (قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) ثم شددوا أكثر وأكثر فسألوا عن عملها فـ (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) لأنهم عرفوا أنّ ذلك سيُؤدِّي بِهم إلى الشدّة، فأجابهم: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) أي: ليست مذلّلة في العمل (ولا تسقي الحرث) أي: ليست مسخرّة لسقي الحرث (مسلمة) أي: ليس فيها عيوب (لا شية فيها) أي: ليس في لونها اختلاط، ثم (قالوا الآن جئت بالحق) فبحثوا حتى وجدُوها عند يَتِيم فاشتروها (فذبحوها وما كادوا يفعلون).
الفائدة الثانية: أخرّ الله عزّ وجل قوله: (وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) وهم ادّارؤوا قبل أن يأتُوا موسى: لأنّ الغرض هو بيان حالِهم مع أوامر الله، فلهذا قدّم قصة البقرة على ذكر قصة قتل القتيل، مع أنّ حقّها التقديم.
الفائدة الثالثة: قال الله عز وجل: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) أي: أمرهم موسى أن يضربوا القتِيل بجزءٍ مِن البقرة، فأحياها الله، فأخبر عن قاتله.
الفائدة الرابعة: أمرهم الله بذبح البقرة دون غيرها: لأنهم عبدُوا العِجل؛ فالله تعالى أمرَهم أن يَذبحُوا ما قدّسُوه في نفُوسِهم؛ ليُزيل ما في نفوسهم من تعظيمها.
الفائدة الخامسة: هذه القصة اشتملت على عدّة جِنَايَات أعظم عِند الله مِنْ قَتل القتِيل، وهي:
- سُوء أدبِهم مع ربّهم، ومع نبيّهم (قالوا ادع لنا ربك).
- استخفافِهم بالتشريع والأوامر (قالوا أتتخذنا هزوًا).
- تعنُتِّهم وتشدِيدِهم على أنفُسِهم وتبَاطُؤهِم في الاستجابة والامتثال لنبيّهم فيه (فذبحوها وما كادوا يفعلون).
الفائدة السادسة: جعل الله هذه القصّة لنا علامة، وسمّى الله بها السورة، كأنّ الله تعالى يقول: يا أمّةَ محمد احذروا أن تكُونوا مثل هؤلاء في تلقّي أوامر الله، والسورة كلّها -كما ذكر في مقصودها- في تلقّي التشريع وإعداد الأمّة في تلقّي هذه الشريعة وتبلِيغها، وهذا يُبيّن لنا علاقة قصّة البقرة بالسورة كلها وأحكامها.
الآية [74]
ثم قال الله مخاطبًا اليهود المعاصرين للنبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي بعد هذه النِعم كلّها التي ذكرها الله، ما انتفعتم بها وما دعاكم ذلك للإيمان.
الفائدة الثانية: قال الله مُبَيِنًا قسوة قُلوبِهم وأنّها أعظم من الحجارة قَسوة: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) قال بعض العلماء: ما هبط حجرٌ من جبلٍ إلاّ خشية لله عز وجل.
الآية [75]
بعد ذلك انتقل الحديث عن المؤمنين حين يُنزَل عليهم الكتاب، يُصيبهم همّ وغمّ من عدم إيمان اليهود وطُغيانهم وكُفرهم وعِنادهم، فقال الله قطعًا للأمل في هـؤلاء: (أَفَتَطْمَعُونَ) أيّها المؤمنون (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فأراد أن يُؤيّسَهم.
من الآية [76 - 77]
ثم رجع الحديث عن بيان حال اليهود، حيث كان بعض اليهود يُسِرون ما في التوراة عن المؤمنين وعن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- حتى لا يعرفوا أن النبي مذكور في توراتِهم، فتخابروا بذلك وعلِمُوا أنّ بعض اليهود يُخبر المسلمين بما في كُتبِهم من خبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا لليهود الذي يخبرون عما في كتبهم: (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أي: تُحدِثُون المؤمنين (بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) يعني بما أخبرَكم الله به من خَبر هذا النبيّ (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
ثمّ رد الله عليهم وقال: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يعني: حتى وإن أخفَوه.
الآية [78]
ثم انتقل الله هنا إلى الحديث عن عامة اليهود، فقال: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
هذا حال عامتهم، أنّهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ، أي:
- قيل: لا يعلمونه إلا أكاذيب وأمانيّ يختَلِقُها عُلماؤهم فيقُولوها لعامّتهم، مثل قولهم: نحن أبناءُ الله وأحبّاؤه، ولا يدخل الجنّة إلا من كان هودًا أو نصارى، ونحن لا تمسّنا النار إلا أيام معدودة.
- وقيل: لا يعلمونه إلاّ ألفاظ يقرؤُونها فقط، وهذا يؤكدّ لنا ما عليه حال كثير من النّاس اليوم من المسلمين لا يعلمون الكتاب إلا ألفاظ، فيقرُؤُونَه بِلا معنى.
الآية [79]
ثم جاء الحديث هنا عن عُلمائهم، فقال الله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ) لأنهم كانوا يكتبُون التّوراة ويُحرِّفُونَها ثم يبِيعُونَها ويأخذون مُقابِلها دراهِم (ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
من الآية [80 - 82]
ثمّ بين الله نوع من أنواع جناياتِهم، وهو قولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) فزعموا أنّ النّار لن تمسّهم إلاّ أيامًا معدودات.
وقالوا: (لن تمسّنا النّار إلا أياماً معدُودة) ولم يقولوا: (لن ندخل النّار) لأنه يرون أنهم لن يدخولها إلاّ أربعينَ يومًا، وهي مِقدار عبادَتهم للعِجل، ثمّ يخرجون مِنها فيبقى غيرهم فيها!
من الآية [83 - 86]
ذكر الله هنا جنايةً أخرى، وهي أن كل الأوامر في الآيات هذه مكتوبة في كتبهم لكنهم لم يحققوها، قال تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ).
ثم ذكر جنايةً أُخرى، وهي أن الله أخذ عليهم الميثاق ألا يقتل بعضهم بعضًا، وألا يخرج بعضهم بعضًا من الديار، لكنهم لم يلتزموا ذلك فقال الله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) حيث كان اليهُود في المدينة على قسمين: قُريظَة وبَنِي قينقاع، والعرب على قِسمين: الأوْس والخزرج.
فكان لكل طائفة مُنَاصر؛ مثلًا الأوس على بني قُريظة، وبنُو قينقاع على الخزرج، فكان إذا كان بين الأوس والخزرج قِتَـال شاركهم هؤلاء فقَاتلَ بعضُهم بعضًا، فيقاتل اليهُود اليهُود؛ لأنّه عدوه الآن.
ثم قال تعالى: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) يعني حينما يأتي أُسارَى في أيدي الأعداء تسعون في دفع الفدية لتخليصهم من أسرهم، مع أن إخراجهم من ديارهم محرم عليكم، فيُؤمِنُون ببعض الكتاب؛ كوجوب فداء الأسرى، ويكفرون ببعض؛ كوجوب صيانة الدماء وتحريم إخراج بعضهم بعضًا من الديار، فقال الله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
من الآية [ 87 - 88]
هذه الآيات في بني إسرائيل المُعاصرين، حيث ذكر الله نوع آخر من جناياتِهم التي اشتركوا فيها مع أسلافِهم، وهي تكذيبَهم بالكُتب المنزّلة وخاصةً القرآن، فقال الله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) هذا بيان عام لحالِهم مع الرُسل، يقتلُون بعض أنبياء الله ويُكذّبون آخرون.
فاعتذر هؤلاء اليهود عن استكبَارِهم وإعراضهم، وقالوا: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) لا تدرك ولا تعي ولا تفهم (بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ).
من الآية [89 - 90]
ثم قال الله وهو لا يزال يتحدث عن اليهود: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: القرآن (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: وكانوا من قبل يقولون للكافرين: إنّه سيخرج نبيّ سنتّبِعُه وسنقاتِلكم معه (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا) أي: حسدًا وحقدًا وكُرهًا (أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أي: بسبب إنزال النبوة والقرآن على محمد -عليه الصلاة والسلام- وهو من غير نسبِهم ومن غير سُلالتِهم.
من الآية [91 - 93]
قال عز وجل هنا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) أجابوهم وقالوا: بل نؤمن بما أنزل على أنبيائنا (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) أي: يكفرون بما سواه، وهو القرآن، مع أنه هو (الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ).
ثمّ ردّ الله عليهم وقال: لم تؤمنوا بأنبيائكم، والدليل أن موسى جاءكم بالبينات لكنكم (اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ).
فوائد من الآيات:
بين الله حال هؤلاء القوم فقال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) فهؤلاء القوم انتهوا إلى قولهم: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) أمّا أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: (سمعنا وأطعنا).
من الآية [94 - 96]
ثمّ رد الله هنا ادّعاؤُهم بأنّهم يرثِون الجنّة خالصةً لهم، فقال: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: إن كنتم تزعُمون أنّ الجنّة لكم دون غيركم فتمنّوُا الموت؛ لكنهم لم يتمنوا الموت (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ).
من الآية [97 - 98]
ثم ذكر الله هنا حجةً من حُجَجِهم في زعمِهم أنّهم لا يُؤمنون:
جاؤوا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقالوا أخبرنا عمّن يأتيك من الملائكة، فنرى إن كان هو الذي نُريده أو لا، فقال: إنما يأتِيني جِبريل وهو من يأتي أنبياء الله تعالى جميعًا، فقالوا: هذا عدّونا؛ لأنّهم زعموا أنّ جبريل أُمر بالوحي أن يكون على أحدٍ من بني إسرائيل فجعلَه على أحدٍ من العرب، فقال الله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) يُثبت الله هنا أنّ هذا القرآن من الله؛ لئلّا يكون لهم حجّة.
فوائد من الآيات:
خصّ الله جبرِيل ومِيكال في قوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) لأنّهم خصّوهما بالذكر وقالوا: إن كان مِيكائِيل فهو وليُّنا، وإن كان جبريل فهو عدونا، فقال الله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ).
من الآية [99 - 101]
ثمّ قال الله لرسوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) والمراد بهؤلاء الفاسقين: بنُو إسرائِيل الكافرين ومن تبِعَهُم.
ثم رُدّ ادّعاء اليهود الذين قالوا: إن الله لم يأخذ علينا العهد والميثاق أن تؤمن بالنبيّ -صلّى الله عليه وسلم- فقال تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
ثم قال: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) يعني لمّا أنّ الله أرغمَهم وسدّ الطريق في وجُوهِهم، وقال: أنّ كُتبَكم مُصدِّقة لهذا الرسول، نبذوا التوراة ورَاء ظُهُورهم؛ لأنّها تُلزمهم بالإيمان بالنبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وقالوا: ما دام التوراة تُلزمنا فننبُذُها.
من الآية [102 - 103]
بعد أن نبذوا التوراة استبدُلوها بما عند الشَياطِين، قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) أي: استبدلُوها بالسِحر والأكاذيب والأخاليق التي يختلِقُونها لمّا أُرغموا بالإيمان.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: زَعم بنو إسرائيل أنّ هذا السِحر الذي يأخذونه من الشيَاطِين، هو الذي وَرِثَتُه الشَياطِين من مُلكِ سُليمَان، وأنّ سُلَيمان إنمّا مَلَك الدنيا بهذا السِحر، وأنّه جعله في صُندوق ودُفنه في الأرض، فاطّلع عليه هؤلاء فأخذُوه.
والحقيقة: أن سُليمان -عليه السلام- ما كان على سِحر، فقد قال الله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ).
الفائدة الثانية: كيف تكون الملائِكة تعلم النّاس السِحر؟
قـال الله: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي: أنّ الله أنزل من الملائِكة ملَكين وجعلهم فتنةً لأهلِ الأرض يُعلّمُون النّاس السِحر فتنة بعد أن يُخبروهم بأنّها فتنة ويَنهَوهم عن السِحر والعمل به وأنه كفر، فمن لم يقبل نصيحتهما يتعلم السحر.
من الآية [104 - 105]
انتقل الحديث هنا إلى المؤمنين تحذيرًا لهم من أن يتشبهّوا باليهود، فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) لأن اليهود كانوا يأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلّم- يقولون: راعِنا، يقصدون من الرّعُونة، وكان المُؤمنون يقُولُون للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- كذلك، فنهاهم الله تعالى أن يقَعُوا في المحظور الذي وقعُوا فيه اليهود، مع أنّ المؤمنين لا يقولون ذلك إلا من باب أنظِرنا، وراعِنا من المراعاة.
من الآية [106 - 108]
ثم ذكر الله قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) وهو رد على اليهود الذين أرادوا الطعن في القرآن، فقالوا كيف يُنزِل الله آيةً ثم ينسخُها؟ ولو كان من عند الله حقًا ما نُسخ منه شيء، وأرادوا بهذه الشبهة تشكيك المؤمنين في القرآن.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: المراد من قوله (نُنْسِهَا) أي نُؤخرّها أو أي نُنسِيها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الفائدة الثانية: أراد الله بقوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أن يُعزِزّ في نفس النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- والمؤمنين قدرته، وأنّه له الحكمة والأمر كلّه، فإذا شـاء أنزل الآية، وإذا شاء رفعها.
ثم قال الله محذرًا المؤمنين من مشابهة اليهود: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) حيث كان بني إسرائيل يُكثرون الأسئلة لنبيّهم.
من الآية [109 - 110]
ثم قال الله عز وجل في توجِيه المؤمنين وتحذِيرهم من كيدِ اليهود: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) فهؤلاء يودّون أن يزعزعوا إيمانكم ويقذفُوا في نفوسكم الشكوك.
وقال الله في نفس الآية: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) يعني كأنّ الله يقول اتركُوهم لا تُواجِهُوهم أو تُقاتِلوهم حتى يأتي اليوم الذي يُريد الله تعالى فيه أن يُجلّيهم أو يقتلهم بأيديكم.
ثم قال الله بعدها: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) فكأنّه يقول: انشغلوا بعبادة الله، لم يحِنِ الوقت إلى قِتَالهم.
من الآية [111 - 112]
هذه الآيات في كشف زيف المكذّبِين من اليهود وإبطَالِ افتراءاتِهم والطعنِ في اعتقاداتهم.
فدحض الله زعمهم الذي قالوا فيه: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) بقوله: (تلك أمانيهم) وقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي: إنما يدخل الجنة من أخلص لله، أحسن في عبادته.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: عبر الله عن المؤمنين بقوله: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): لأنهم جعلوا كل أمرهم ووجههم لله.
الفائدة الثانية: قال تعالى: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ولم يقل: (وهو عامل): لأن المحسن جمع بين الإخلاص والإحسان في المُتابعة، وهذا هو المؤمن الحقّ.
الآية [113]
ثم قال الله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) وقولهم هذا دليل على تنَاقُض هذه المِلَل واختلافها، فكل ملّة تزعُم أنّها على شيء، وليست الأخرى على شيء، مع أنهم كلهم يَتْلُونَ الْكِتَابَ الذي أنزل عليهم وما فيه من الأمر بالإيمان بكل الأنبياء دون تفريق.
ثمقال الله تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) وهم المشركـون (فالله يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون) يوم القيامة.
من الآية [114 - 115]
ثم قال الله عز وجل في ردّ وإبطَال وتقبِيح ما هُم عليه -أي: اليهود والنصارى والمشركون-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) فكأنّ الله يقُول: لو كنتم على دِينٍ ما منعتم الصلاة والذكر والتلاوة في مساجِد الله، ولما سعيتم في هدمها وتخريبها.
ثم قال الله للمؤمنين: إذا مُنعتم من دخول المساجد وأردتم الصلاة ولم تعرفوا القبلة، فلله: (الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
من الآية [116 - 119]
ثم بيّن الله أيضًا افتراءً لهم آخر فقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) أي: كلّ هؤلاء الطوائف الثلاث قالوا اتخَذَ الله ولدًا، فاليهود قالوا: عزيرٌ ابن الله، والنّصارى قالوا المسيح ابن الله، والمشركُون قالوا: الملائكة بناتُ الله، فرد الله عليهم وقال: (سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
ثم قال الله تعالى عن المشركين أنهم يقولون: (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ) أي: لمَ لا يكلمنا الله دون واسطة أو تأتينا علامة حسية خاصة؟
فقال الله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) وذكر الله هذا؛ ليعيب على اليهود والنصارى في أنّهم شابهوا المشركين.
ثم قال الله عز وجل للنبيّ -صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) سواء آمَنوا أم لم يُؤمِنوا (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) أي: اترك هؤلاء الذين ضلّوا وانحرفُوا.
من الآية [120 - 121]
ثم قال الله عز وجل تحذيرًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين مِن هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين أنّهم لن يرضُوا عنكم إلى يوم القيامة حتى تتبعوا ملتهم، فقال الله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
ثم أمرهم بأن يثبتوا على الحق يعلنوه صراحة (إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) ولن نتبع غير ديـن الله.
ثم قال الله مخاطبًا النبي: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) مع أنه -عليه الصلاة والسلام- يستحيل أن يتبع ملتهم، ولكن لأن الأمر مُهِم وعظيم وخطير على أمّة محمد، وُجّه الخِطاب إليه -صلى الله عليه وسلم- ليكون قدوة وليحذّر أصحابه وأمّته.
ثم أرجَعَ الله الخِطَاب للمؤمنين من بني إسرائيل ثناءً وتشريفًا لهم ودعوةً لغيرهم، فقال: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) أي التوراة (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) -مثل: عبد الله بن سلام- (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
من الآية [122 - 123]
قال الله تعالى في خِتَام الحديث لهم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) فكأنّ الله يقُول: هذا النداء الأخير لكم هل تسمعون؟ هل تُجيبون؟
والمراد بالنعمة هذه: أنه بلّغهم ومدّ في آجالهم وبيّن لهم الحقّ وكشَفَ لهم الأمر وأعطَاهم كل الدلائل والبراهين، أي: اذكروا أنّ الله أنعم عليكم بالبيان فلم يترككم كما أنتُم عليه من ضَلال.
ثم ختم الحديث بتذكيرهم بالآخرة؛ لأنّ التذكير بالآخرة أعظم ما يردع الإنسان، فالإنسان إذا علِم أنّه سيموت وأنّه سيرجع إلى الله لا شكّ أنّ ذلك أدعى إلى الإيمان، فقال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا).
وهم يقولون ويزعمون أنّ أنبياءهم وصالحِيهم سيشفعُونَ لهم يوم القيامة، فقال الله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُون) أي: فليست هناك شفاعة إلا لمـن أذِن الله له.
من الآية [124 - 129]
هذا المقطع يُبيّن لنا الأصل الثَّاني الذِّي ترجع إليه هذه الأمّة المحمدية، وهو إبراهيم -عليه السلام-، وهذه الأُمّة المحمدية هي الأَحقّ بوراثة إبراهيم عليه السَّلام وذلك لأنّها هي الأُمّة التّي اتَّبعت ملَّته وكانت على منهجه في التّوحيد.
فكأنَّ الله عزَّ وجل أراد هنا أن يُبيّن لبني إسرائيل الأُمّة المستخلفة: أنّكم إن كنتم صادقين في ولاية الدِّين وفي وراثة إبراهيم، فكُونُوا على مِلَّته، فإن لم تكونوا كذلك فلستم أهلًا لولاية الدِّين.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: يدل قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) على أنّ الدِّين لابد له من ابتلاء وصَبر ومَشَّقة، فإنَّ الله ابتلى إبراهيم وهُو من صفوة الخَلق.
الفائدة الثانية: قدم الله المفعول به على الفاعل في قوله: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) لأنَّ الحَديث والسِّياق عن إبراهيم، وأيضًا من باب التكريم والتشريف له.
الفائدة الثالثة: ابتلى اللهُ إبراهيم تربيةً وتهيئةً له، لهذا قال: (رَبُّهُ) ولم يَقُل: (اللَّهُ).
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل: (بكلمات) ولم يقل: (بالدِّين أو بالأمانة أو بالحَنيفية أو بالصَّلوات أو بأركان الدِّين أو شعائر الدِّين أو غير ذلك): لِكي تتحفَّز النُّفوس المؤمنة الصّادقة لمعرفة هذه الكلمات، فتبحث عنها وتتحلَّى بها؛ لِتنال شرف الإمامة في الدِّين.
الفائدة الخامسة: اختلف العُلماء في هذه الكلمات على أقوال كثيرة:
- فبعضُهُم قال: هي شرائع الدِّين.
- وبعضهم قال: هي قول إبراهيم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر.
- وبعضهم قال: هي المواضع التّي ابتلى الله بها إبراهيم في التّوحيد؛ كأمره بذبح ابنه، وإلقائه في النّار.
- وبعضهم قال: هي الكواكب التّي حاجّ بها إبراهيم قومه.
- وبعضهم قال: هي خِصَالُ الفطر التِّي أُمِر إبراهيم أَن يتحلّى بها.
وكُلُّ هَذِه الأقوال لا تَعَارُضَ بينها، لكن الأولى أنها: كلمات التّوحيد التّي من حقّقها، وحقّق كمالها، ينالُ الإمامة في الدِّين.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى: (فَأَتَمَّهُنَّ) بالفاء الدالة على التعقيب، ولم يقُل: (وَأَتَمَّهُنَّ): للدَّلالة على أنّ إبراهيم كان حريصًا وعازمًا على مجاهدة نفسه لِتَحقيق التّوحيد لرّبه عزّ وجل؛ لأَنَّه يعلم أنّ هذا التّوحيد هو سببٌ لإمامته، وسببٌ للقُرب من ربّه عزّ وجل.
الفائدة السابعة: لمَّا أخلص إبراهيم دِينه لله أخلصّه الله لنفسه، وجعله إمامًا يُقتدى به، وقال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) فإن الجزاء من جنس العمل.
الفائدة الثامنة: قوله تعالى: (لِلنَّاسِ) يَدُلّ على أنّ إبراهيم هو مَرجع جميع الأنبيـاء بعده.
الفائدة التاسعة: لـمَّا أكرم الله إبراهيم وجعله إمامًا، وهو حريص على أن تبقى هذه الإمامة في ذُرِّيتـه قال: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ولم يقل: (وذُرِّيتي) لأنَّه يعلم أنّه سيكُون من ذُرَّيته من هم كُفّار من ليسوا على الدِّين، فلمّا قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أيّ من الصَّالحين المؤمنين.
الفائدة العاشرة: الحِرص على الذُّريّة وعلى بقاء الصَّلاح فيهم من أهمّ المهمّات لدى المسلم، لأنه لا شك أنّ صلاح الذُريّة صلاح للإنسان.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله مجيبًا إبراهيم: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ولم يقل: (نعم، لكَ ذلك): تعريضًا باليَّهُود والمشركين الذِّين هُم من سُلالة إبراهيم وليسوا أهلًا للإمامة؛ لأنهم تخَلَّوا عن التَّوحيد فَظَلمُوا، فوَّسع الله تعالى دائرة القَبُول وخصَّ دائرة عدم القبول.
الفائدة الثانية عشرة: عبر بقوله: (الظّالمين) وهذا يدل على أنَّ من كان فيه هذا الوصف فليس أهلًا للإمامة، والظُّلم ثلاثةُ أنواع:
- ظُلمُ الإنسان لنفسه بالمعاصي.
- ظُلم الإنسان للعِباد.
- ظُلم الإنسان في عبوديته لله بإشراكه، وريائه.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عزّ وجل: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) أي: مَرجع يرجع إليه.
الفائدة الرابعة عشرة: جعل الله البيت الحرام آمنًا إلى يوم القيامة، والدليل قوله: (وَأَمْنًا).
الفائدة الخامسة عشرة: قال الله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ومقام إبراهيم هو: البيت الحرام الذِّي أسَّسه، أو الحَجَر الذّي قام عليه إبراهيم لبناء البيت.
وكلا القولان صحيحان، ويدل على هذا: أنَّ الآية فِيها قراءتان صحيحتان دالّتان على هَذين المعنيين، القِراءة الأولى: (وَاتَّخَذوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) والقراءة الأخرى مُتَّوجِهَةٌ في الخِطاب للنّبي -صلى الله عليه وسلّم- وأصحابه (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
الفائدة السادسة عشرة: قال الله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) والتَّطهير هو: التَّطهير المعنوي بإقامة الدِّين، ونبذ الشِّرك، والتّطهير الحِسِّي: بتنزيه هذا البيت من النّجاسات، والأصنام وغيرها.
وهذا يدُّلُنا على فضيلة القِيام على المساجد تنظيفًا وصيانةً وتهيئةً.
الفائدة السابعة عشرة: قال الله عز وجل: (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فقدم الطَّائفون لأن الطواف ألصق عبادة بالبيت.
الفائدة الثامنة عشرة: خص الركوع والسجود فقال: (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ولم يقل (والمصلِّين) لأمرين:
- لأنّ المقصود بالصَّلاة التذلل والخضوع وتعظيم الله، فالرُّكوع فيه إشارة إلى تعظيم الله تعالى، والسُّجود فيه إشارة إلى الخضوع والتذّلل لله.
- إشارة إلى أمّة محمد -صلى الله عليه وسلّم- فالرُّكوع دالٌّ على صلاة أُمّة الإسلام، وذلك لأنَّ اليهود ليس في صَلاتهم ركوع.
الفائدة التاسعة عشرة: قال تعالى هنا على لسان إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا) وفي سورة إبراهيم قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا) والفرق بينهما: أنّ الدعاء هنا كان ابتداءً قبل أن يبني البيت، ثم لما بناه قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ).
الفائدة العشرون: إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- من حرصه على أمته دعا ربَّهُ بأمرين: أن يجعل هذا البلد آَمِنًا، وأن يرزق أهله من الثّمرات، وهذان هما عصب الحياة للإنسان وبقائه واستقراره (الأمن ورغد العيش).
الفائدة الحادية والعشرون: قال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) ولم يقل: (ثَمَرة): دليل على أنَّ إبراهيم أراد أن يُوَّسِع على أهل هذا البَلد بالثَّمرات والرِّزق؛ ليُقِيموا الدِّين إقامة كاملة كما أمرهم الله تعالى، ولهـذا قاَل بعدها: (مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ) بالله واليوم الآخر.
الفائدة الثانية والعشرون: طلب العيش لإِقامة الدِّين والاستغناء عن النّاس أمرٌ مشروع.
الفائدة الثالثة والعشرون: قال الله تعريضًا بالمكذّبين من اليَهود والمشركين: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يعني أنَّ الذِّين كفروا بالله سيُهيِّئ لهم العيش، لكنّه يُمتّعهم في الدُّنيا فقط، ثمّ يضَّطرهم يوم القيامة إلى عذاب النَّار وبئس المصير.
الفائدة الرابعة والعشرون: عطف الله إسماعيل على إبراهيم في قوله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) إشارة إلى مشاركة إسماعيل مع إبراهيم في بناء البيت.
الفائدة الخامسة والعشرون: يستفاد من قوله تعالى: (يَرْفَعُ) فضيلة رفع المساجد بأن تكون لهـا سمة الرِّفعة والبُروز عن بيوت النّاس بما أمكن.
الفائدة السادسة والعشرون: قال الله عن إبراهيم وإسماعيل أنهما قالا: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وهذا يدل على صِدقهم وإخلاصهم أن يكون بناء هذا البيت خالصًا لله.
الفائدة السابعة والعشرون: تسمية الإسلام في قوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) دليل على أنّ دين أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- موصولًا بدعوة إبراهيم وأنه هو الحق، كما أخبر الله في سورة الحج: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ).
الفائدة الثامنة والعشرون: المقصود بالذرية في قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم؛ لأنّه ليس هناك ذُريّة من ذُريّة إسماعيل وذُريّة إبراهيم إلا أُمّة محمد -صلى الله عليه وسلّم- أمَّا ما سبق من الأُمم فهي من ذُريّة إسحاق.
الفائدة التاسعة والعشرون: إبراهيم وإسماعيل دعيا الله لأنفسهما ولذُّريتهما بأن يريهم مناسكهم حتى يعبدوا الله على بصيرة ولا يكون هناك مشّقة، فقالا: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) والنُّسك في اللُّغة هو غاية العبادة، فاستجاب الله لدعوتهما وأكمل الله لذُّريّتهما الدِّين وهو دين الإسلام وأراهم مناسكهم وعبادتهم بأتّم صورة وأوضح بيان.
ودعيا أيضًا بأن يتوب عليهم وعلى ذريتهم (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
ودعيا أيضًا أن يبعث رسولًا من ذرية إسماعيل (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) وهو محمّد -صلى الله عليه وسلّم-:
- (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ) وهو القرآن.
- (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي ويُعلّمهم ما في هذا الكتاب، والحكمة وهي السُّنة.
- (وَيُزَكِّيهِمْ) والتّزكية تكون بالإيمان، والعمل الصَّالح، والتّربية الصحيحة الكاملة، فهذه وظائف النّبي -صلى الله عليه وسلّم-.
الفائدة الثلاثون: خَيرَ ما يتزَّكى به الإنسان هو تلاوة القرآن، ثمّ معرفة ما فيه من العلم والحكمة، ثمّ العمل به وامتثاله في واقعه.
من الآية [130 - 134]
ثمّ قال الله تعالى هنا مخاطبًا بني إسرائيل: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) أي إبراهيم (وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ولم يقل: (لربّي): للدّلالة على رُبوبية الله عزّ وجل لجميع الخلق، وأنّهم مربوبون له جميعًا.
الفائدة الثانية: وصى إبراهيم بنيه بكلمة التوحيد، فقد قال الله عزّ وجل: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ) وهي إشارة لبني إسرائيل أنّ هذه وصيّة إبراهيم لكم، والدِّليـل على ذلك أنّه قـال: (وَيَعْقُوبُ) ذكر نبيُّهم يعقوب عليه السَّلام؛ لأنّهم ينتسبون إليه.
الفائدة الثالثة: أعاد الله ذكر الإسلام عند قول إبراهيم ويعقوب لأبنائهم: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) للتّأكيد على أنّ الإسلام هو الدِّين الحقّ.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى وهو يحاج بني إسرائيل ويجادلهم، ويبطل حُججهم: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟ (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا) فذكر لهم أنّ وصية يعقوب لبنيه كانت عبادة الله وحده لا شريك له، فيجب أن تُقرّوا بهذه الوصية.
الفائدة الخامسة: ذكر إسماعيل مع أنّه ليس من أباء يعقوب، فيعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم، وإسماعيل عمّ يعقوب، وأخو إسحاق، وابن إبراهيم، لكن ذكره هنا: من باب أنهم يشتركون في التوحيد ويشتركون في هذه الوصية.
الفائدة السادسة: غرض قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هو أنّ الله تعالى يريد أن يقطع صلة بني إسرائيل بأنبيائهم وأنهم لن يشفعوا لهم ولن ينفعوهم يوم القيامة، فقال: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) والذي كسبوه هو التوحيد، والذي كسبتم هو الكفر، فلا يُمكن أن تلتقون.
من الآية [135 - 138]
ثم بين حجة أخرى ودحضها، فقد كان اليهود والنصارى يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ولذلك قالوا: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) فردّ الله عليهم: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي: قل يا محمد بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا، والحنيف في الدين: هو المائل عن الشرك وعن جميع ما خالف أمر الله.
وقوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريضًا بهم لأنهم أشركوا بعده وخالفوا أمره وملته.
ثم قال الله عز وجل يُلقّن أمة الإسلام ماذا تقول: (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فهذه عقيدة صافية تتوافق وتتواصل مع الأنبياء جميعًا، وفي هذا إشارة إلى أنّ هذه الأمة قد ورثت هذا الدين من الأنبياء جميعًا.
أما أولئك اليهود والنصارى والمشركون فقد خالفوا أنبياءهم وخالفوا رسالة الله إليهم وما أنزل الله عليهم، لهذا قال الله: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى الطريق المستقيم (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي خلاف ومخالفة واختلاف.
ثم قال الله مخاطبًا نبيه محمد: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) ولم يقل: (اتركهم) لأنّ الله سيتولى شأنهم وسيُعذبهم وسيُرهقهم وسيُضعفهم ويُذلّهم.
وفي هذه الآية وعد كريم من الله عز وجل بأنه سيكفي هذه الأمة أولئك الكافرين.
ثم قال تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ) أي فطرة الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً).
والتعبير بالصبغة دليل على أنّ الدين تظهر آثاره على الجوارح، وإن كان الأصل ما وقر في القلب لكن لابدّ أن يُصدِّقه العمل.
ثم قال الله تعالى للمؤمنين: وقولوا: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) أي: مقرّون ثابتون مستقرّون على عبادة الله وحده.
من الآية [139 - 141]
ثم قال الله تعالى: قل يا محمد: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ)؟ لأنهم يزعمون أنهم أحباب الله وحدهم، بل هو (رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) لكن الذي يفرق بيننا هو الأعمال، فلنا (أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) أنتم تعملون كما تزعمون وأنتم مشركون، ونحن نعمل (لَهُ مُخْلِصُونَ) فانظروا لمـن العاقبة ولمن النجاة يوم القيامة.
ثم قال تعالى: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) أي: هل تزعمون أنّ هؤلاء كانوا هودًا أو نصارى؟ (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)؟ أي: قل يا محمد: أأنتم أعلم بحال الأنبياء الذين ماتوا؟ أم الله الذي يعلم ويقول لكم على ماذا كانوا عليه؟
ثم قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) وهذا يدل على أنّ ذكر أنبيائهم وأنهم على التوحيد مكتوبٌ عندهم في كتبهم، ويقرؤونه لكنهم يكتمونه (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يُهددهم ويتوعدّهم بأنهم سترون هـذا الذي هم عليه، وهو كتمانهم للحقّ.
ثم قال الله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وغرض هذه الآية: قطع صلة الأنبياء بهم يوم القيامة، فلن يعترفوا لهم بالنسب لهم يوم القيامة.
 
تابع الدرس الثالث: تفسير سورة البقرة (الجزء الثاني)
من الآية [142 – 145]
هذه الآيات شرّف الله بها هذه الأمة بأعظم شرف، وهو: شرف ولاية قبلة إبراهيم.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر البيت، وذكر تشريف إسماعيل ببنائه، توجس المشركون وأهل الكتاب من أنّ الله عز وجل سيُشرّف وسيُكلف هذه الأمة بقبلة إبراهيم عليه السلام، فنبه الله المؤمنين تهيئة بما سيقع من الكافرين والمنافقين وأهل الكتاب قبل وقوعه، فقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).
الفائدة الثانية: قال الله عز وجل: (سيقول) ولم يقل: (قال) مع أنّ الآية نزلت بعد تحويل القبلة إلى البيت الحرام، لكنّها وضعت في هذا الموضع: تهيئة للمؤمنين ليستقبلوها ويُعدوا أنفسهم لما سيُواجهونه.
الفائدة الثالثة: المقصود من قول الله: (السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ): المنافقون، ومشركو أهل مكة، وأهل الكتاب من اليهود، وعبّر عنهم بالسفهاء: تقليلًا لشأنهم، فكأنّ الله تعالى يقول: اتركوهم، فهؤلاء لا عقول لهم.
الفائدة الرابعة: تساءل السفهاء فقال: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)؟ والمقصود بالقبلة التي كانوا عليها مختلف فيه:
- فقيل: هي الكعبة، قبل أن يوجّه النبي لبيت المقدس.
- وقيل: هي بيت المقدس.
- وقيل: هي بيت الحرام بعد أن وجّه وحُوّل من بيت المقدس.
والآية محتملة لجميع الأقوال.
ثم رد الله على سؤالهم، فقال: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي: ما شأنكم؟ الأمر لمن؟ من الذي يُدبّر الأمر؟
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل إشارة لشرف المؤمنين: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالله هداهم إلى قبلة الأنبياء جميعًا.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وهذه الآية ليس لها ارتباط صريح بالقبلة، وإنما ارتباطها بأنّ الله لمّا ولى أمة محمد القبلة، وأراد لها أن تشّرف، قال: أنتم الخلفاء في الأرض، أنتم الذين تنالون شرف أمانة الدين.
الفائدة السابعة: في قوله تعالى: (أُمَّةً وَسَطًا) دليل على أن الدين الإسلامي دين متوسط بين التشديد والتساهل.
الفائدة الثامنة: نأخذ من قول الله عز وجل: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) مشروعية الشهادة، خصوصًا في أمور الدين لمن كمُل إيمانه وعدالته.
الفائدة التاسعة: نأخذ من قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) أنّنا مأمورون بتبليغ هذا الدين، ونحن شهود عليه.
الفائدة العاشرة: اشتملت القبلة في قول الله عز وجل: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) على أمرين: التشريف والتكليف للأمة:
- تشريف بأنّ الله ولاهم قبلة إبراهيم.
- وتكليف لأنّها ستُلاقي بسبب هذا الابتلاء الاستهزاء والسخرية.
الفائدة الحادية عشرة: قال تعالى مبتليًا المؤمنين: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي: ممن هو صادق في إتباع الرسول فيما ولاه الله عليه.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) يعني أمر تحويل القبلة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) يعني إلا من كان إيمانه مستقرًّا.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عز وجل: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) لأنّه لما حوّل القبلة من البيت المقدس إلى البيت الحرام، وكان من المؤمنين من قد تُوفي قبل تحويل القبلة، قال المنافقون محاولين زعزعة قلوب المؤمنين: ماتوا على غير الإسلام.
فقال المؤمنون من الصحابة: ما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟
فرد الله عليهم وسدّ كل الشبه، فقال: (وما كان الله ليضيع إيمانكم).
الفائدة الرابعة عشرة: عبّر الله عن الصلاة بالإيمان: للدلالة على أنّ الإيمان هو مناط القبول في الصلاة، وأنّ الله تعالى سيتقبّل من أولئك صلاتهم لإيمانهم وصدق توجههم؛ فكأنّ الله يقول: ما دام أنهم ماتوا على الإيمان فإنّي سأتقبّل منهم كل شيء عملوه لي، فشملت الصلاة وغيرها.
الفائدة الخامسة عشرة: صرّح الله عز وجل بالأمر باستقبال البيت الحرام بعد أن مهد بعدة ممهدات، فقال: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) والممهدات هي:
- قوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
- وقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى).
- وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ).
- وقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ).
- وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
كل ذلك تهيئة لهذه الأمة لأن تتلقى أمر الله بالقبول والتسليم والانقياد والطمأنينة التامة في مواجهة ما يلاقونه من استهزاء وسخرية وكيد.
الفائدة السادسة عشرة: جاء الخطاب للنبي مباشرة في قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) والمعنى: قـد نرى أنك تتطلع إلى ربك إلى أن يحولك من بيت المقدس إلى البيت الحرام، ويدل قوله هذا: (قَدْ نَرَى) على:
- عناية الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم-.
- وعلى كريم وعظيم أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يريد ويتطلع إلى أن يحول إلى بيت الله الحرام، لكنه لم يسأل ربه أدبًا منه، ولأنه يخشى أن يكون في ذلك كلفة على نفسه أو على أمته.
الفائدة السابعة عشرة: قال الله عز وجل: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) ولم يقل: (لنصرفنك) أو (لنحولنك): لأن التولية تدل على ولاية وعناية الله.
الفائدة الثامنة عشرة: قال الله عز وجل: (تَرْضَاهَا) ولم يقل: (تهواها) أو (تحبها): لأن الرضا رغبة ومحبة ناشئة عن تعقل.
الفائدة التاسعة عشرة: خص الله عز وجل الأمر ابتداءً إليه -عليه الصلاة والسلام- فقال: (فَوَلِّ وَجْهَكَ): لأنه هو الأصل في التبليغ، وأمته متبعة له.
الفائدة العشرون: نأخذ من الآية السابقة عدة أحكام:
- لزوم تولي الإنسان وجهه إلى القبلة، وعدم جواز الالتفات في الصلاة.
- لزوم استقبال جهة القبلة لمن لم يكن معاينًا لها.
الفائدة الحادية والعشرون: قال الله تعالى: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) ولم يقل: (شطر البيت): لأن الأمر متعلق بالصلاة، فتسميته بالمسجد أنسب.
الفائدة الثانية والعشرون: قال الله عز وجل بعد أن خص النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأمر: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فعممه للأمة ليتعين أمرها، مع أن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- يكفي، والسبب هو: أن الأمر متعلق بالقبلة، والقبلة أمرها عظيم في الإسلام، فهي أصل في الدين، لهذا أكد الله الأمر.
الفائدة الثالثة والعشرون: قال الله عز وجل مخبرًا عن حال أهل الكتاب: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لأن في كتبهم ما يدل على أن هذا النبي ستكون قبلته البيت الحرام، لكنهم كتموا ذلك.
الفائدة الرابعة والعشرون: قال الله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وفي قراءة قال: (عما تعملون): فعما تعملون أنتم يا أمة محمد في اتباع أمر الله لكم، وعما يعملون هم -أي أهل الكتاب- في مخالفتهم وفي كتمانهم.
الفائدة الخامسة والعشرون: أخبر الله عز وجل عن عدم متابعة أهل الكتاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال مفاصلًا: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) فالله تعالى آنس نبيه -عليه الصلاة والسلام- وطمأنه وسلاه بهذه الآية؛ لئلا يضيق صدره وصدر المؤمنين عليهم.
الفائدة السادسة والعشرون: في قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) دليل على ثبوت أمر القبلة إلى قيام الساعة.
الفائدة السابعة والعشرون: قال الله تعالى مؤكدًا على أن أهل الكتاب لن يتبعوا النبي: (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) يعني أن أهل الكتاب لا يمكن أن يتبعوا قبلة بعض، فاليهود لن يتبعوا قبلة النصارى، والنصارى لن يتبعوا قبلة اليهود، فكيف بقبلتك يا محمد!
الفائدة الثامنة والعشرون: قال الله عز وجل مخاطبًا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا خطاب شديد وعظيم فيه توعد، ليعظم الأمر ولتتبعه أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعده، وليس مقصود به ذات النبي، وإنما المقصود به ذات الأمر.
الفائدة التاسعة والعشرون: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقصد مخالفة اليهود بعد هذه الآية؛ لهذا يجب علينا مخالفة اليهود.
من الآية [146 -150]
ثم قال الله عز وجل مبينًا كتمان أهل الكتاب للحق: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وهذا يدل -كما قيل سابقًا- على أنهم كانوا يعرفون محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أتى به، ويدخل في ذلك معرفتهم أمر القبلة.
والمفسرون اختلفوا في الذي يعرفونه: فقيل: هو أمر القبلة، وقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو القرآن.
لكن الظاهر -والله أعلم- أن المقصود به هنا: النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ لأنه ملائم لسياق الآيات.
ثم أكد على أن أهل الكتاب يعرفون النبي حق المعرفة، بل هم أعرف بالنبي من العرب، فقال: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) لكن (فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أي: الذي في كتبهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه الحق.
ثم ذكر الله عز وجل في الآية التي تليها كلمة فيها الفصل، وفيها إثبات الأمر؛ حتى يستقر في نفوس المؤمنين، وحتى لا يتزعزعون في أمر القبلة، وحتى يرسخ في قلوبهم أن هذا هو الحق، وأن هذه القبلة هي القبلة ولا شك فيها، فقال: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وهو خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه متوجه لأمته.
ثم قال: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ولم يقل: (الشاكين): لأن الامتراء أدق من الشك.
ثم قال تعالى في الآية التي تليها: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي: أن كل أمة لها قبلة، فاليهود لهم قبلة، والنصارى لهم قبلة، وأنتم يا أمة الإسلام لكم قبلتكم تولونها.
ثم قال: (فاستبقوا الخيرات) أي: اغتنموا هذه النعمة الربانية -أي: القبلة- التي شرفكم الله بها وصلوا إليها، واتركوا الخوض في الجدال مع أهل الكتاب، فأنتم لستم مسؤولون عنهم.
قال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ولم يقل: (استبقوا توجه القبلة): ليعم ذلك جميع الأعمال الصالحة، والقبلة أصل.
فائدة: جاء الأمر بالتوجه للقبلة ثلاث مرات:
- الأمر الأول: أمر بالتوجه ابتداءً (... فول وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...)
- والأمر الثاني: أمر لإثبات أنه الحق (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
- والأمر الثالث: أمر لإقامة الحجة (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لئلا يكون للناس عليكم حجة) أي: بعد هذا البيان التام.
والمقصود بالناس في قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) هم الظالمون والكافرون واليهود والمنافقون والمشركون.
ثم قال: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي: إلا الذين خرجوا عن أمر الله وجاؤوا بأمر من عندهم سيبقون على عنادهم واحتجاهم بأوهى الحجج (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) وهذا دليل على حفظ الله ومدافعته للمؤمنين إلى يوم القيامة.
ثم قال: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي: نعمة الدين، وهذه الجملة فيها إشارة للتشريعات التي ستنزل بعد تحويل القبلة.
ثم قال: (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فكأنه بهذه الجملة أراد أن يشوق المؤمنين للتشريع؛ لأنهم إذا كانوا متشوقين لأمر، لا شك أنهم سيتلقونه بالقبول.
من الآية [151 – 153]
ثم ذكر الله تعالى هنا منته على المؤمنين، فقال: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ) أي: أتممت عليكم بأن منحتكم خير قبلة كما أرسلنا فيكم خير رسول، فاغتبطوا بهاتين النعمتين.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى هنا: (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ويعلمكم الكتاب والحكمة) وقال في الآيات السابقة في قصة إبراهيم: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) فقدم التزكية هنا، وأخرها هناك:
لأن الحديث هناك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ووظائف الرسول بالترتيب: تلاوة ثم تعليم ثم تزكية.
أما الحديث هنا عن الأمة، وما منّ الله تعالى به عليهم، فقدم التزكية لأنها هي الثمرة المرجوة للأمة.
الفائدة الثانية: أقرب طريق للتزكية هو تلاوة القرآن المتدبرة.
الفائدة الثالثة: وعد الله الأمة بأن يفتح لها العلم والعلوم، فقال: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) فمن أخذ هذا القرآن وتعلمه وتزكى به فإن الله سيفتح له آفاق العلم.
الفائدة الرابعة: مناسبة قول الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) أن الله بعد أن منح هذه الأمة هذه النعم التي لم يمنحها أحـد قبلهم، شرع لهم أن يذكروه ويشكروه حق شكره.
الفائدة الخامسة: قال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي) ولم يقل: (اشكروني) يعني اشكروا لي بالعمل، وبالتمسك بهذا الدين واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الفائدة السادسة: مناسبة قول الله تعالى: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ): أن الله بعد أن حول المسلمين إلى القبلة، ورسخ في قلوبهم أنها الحق، كان ذلك دافعًا للكافرين والمنافقين واليهود إلى أن يشنوا هجومهم -بقدر استطاعتهم- على المسلمين بعد أن أكرمهم الله بهذه القبلة؛ حسدًا وبغيًا، فأمر الله المؤمنين أن يستمسكوا بهذا الحق وألا يفرطوا فيه، ونبههم على إنهم سيواجهون حربًا بعد اليوم، فيجب أن يستعينوا بالصبر والصلاة.
الفائدة السابعة: يدل قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) على أن الله مع هذه الأمة ما دامت مستمسكة بدين الله سبحانه.
الفائدة الثامنة: خص الصبر والصلاة هنا؛ لأن الصبر يكون على حصول ما لا ينبغي، والصلاة تكون لحصول ما ينبغي.
من الآية [154 – 157]
ثم ذكر الله هذه الآيات التي نزلت في قتلى بدر من المسلمين التي هي مناسبة مع الأمر بالصبر في الآية السابقة.
وسبب النزول: أن الناس كانوا يقولون للرجل الذي يُقتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) ولم يقل: (ماتوا) لأن معنى أموات: أي مات ذكرهم وحظهم من الدنيا، وأما معنى ماتوا: هم من ماتوا بأشخاصهم، فدل قوله (أموات) على المعنيين جميعًا، أي: موتهم وموت ذكرهم ونعيمهم.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (بَلْ أَحْيَاءٌ) فخصص الذين قتلوا في سبيل الله بالحياة، مع أن كل من مات هو حي في قبره، لكن الذين قتلوا في سبيل الله لهم حياة خاصة ورزق خاص في الجنة، لهذا خصهم الله تعالى بالحياة هنا، وفي هذا دليل على فضل الشهداء إذا ماتوا في سبيل الله.
الفائدة الثالثة: مناسبة قول الله عز وجل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أن الله تعالى يوم أن أكرم أمة الإسلام بكثير من النعم قال: لا تحسبون الحياة كلها رفاهية وراحة، لا، بل لابد من المشقة ولابد من الصعوبة ولابد أن يواجهكم أعداء الله، وستجدون في ذلك فقرًا وجوعًا ونقصًا؛ لأنهم سيحملون هذا الدين، فربما يشغلهم عن أمر دنياهم.
الفائدة الرابعة: كلمة (شيء) تفيد أن هذا الذي سيصيبكم ليس بشيء، أو هو شيء يسير في مقابل ما هم فيه من نعم.
الفائدة الخامسة: خص الخوف والجوع ونقص الأموال والأولاد والثمرات في الآية السابقة؛ لأنها أمور متعلقة بالجهاد، فالذي يذهب للجهاد يكون في قلبه خوف طبيعي بشري، ويكون خروجه هذا دون أمواله فيكون معرضًا للفقر المسبب للجوع، ويكون خروجه سببًا في قلة العناية بمزارعه وثماره فيضعف إنتاجه، ويكون معرضًا للقتل، فيقول الله لهم: اصبروا واحتسبوا.
الفائدة السادسة: وقعت هذه الأمور الخمسة للصحابة:
فالخوف الشديد: حصل في وقعة الأحزاب، وأما الجوع: فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة لقلة أموالهم، أما النقص في الأموال والأنفس: فقد حصل عند محاربة العدو؛ لأنهم ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد، ولأنهم وقد يقتلون، أما نقص الثمرات: فقد كان بالجدب وبترك العمارة؛ وذلك بسبب انشغالهم بجهاد الأعداء عن مزارعهم وثمارهم.
الفائدة السابعة: قال الله عز وجل في خاتمة الآية السابقة: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ثم ذكر صفات الصابرين الخُلّص (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
الفائدة الثامنة: قال الله تعالى لهم: قولوا (إِنَّا لِلَّهِ) لأنها تتضمن إقرارهم بالعبودية، وتفويض الأمور إليه سبحانه، والرضا بقضائه وقدره فيما يبتليهم به، أي: نحن لله عز وجل فما يكتب لنا، فهو خير لنا؛ لأن الله عز وجل لا يريد بنا إلا الخير.
وقال لهم أيضًا: وقولوا (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) لأنها تتضمن كمال اليقين، يعني: نحن راجعون إليه فسوف يجازينا على هذه المصائب وهذا الابتلاءات.
الفائدة التاسعة: قوله تعالى: (قَالُوا) يفيد أن الاعتقاد يقوى بالتصريح والقول، ويدل على ذلك أن الإنسان إذا أعلن شيئًا ما، فهذا يدل على أنه مستقر في قلبه، وإذا أخفاه دل على أن عنده شك فيه.
الفائدة العاشرة: قال الله عز وجل في جزاء الصابرين: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) وقوله: (أُولَئِكَ) يدل على بُعد منزلتهم في الكمال، وقوله تعالى: (صلوات) بالجمع، يدل على عدة معاني:
- يدل على الثناء عليهم، والمغفرة لهم.
- ويدل على كثرة وتكرار الصلاة والثناء منه سبحانه وتعالى لهم.
- ويدل على المبالغة في كمال الرضا منه سبحانه وتعالى؛ لأنهم كَمُل رضاهم بربهم، فكان الجزاء من جنس العمل.
الآية [158]
ثم قال الله عز وجل هذه الآية التي هي متعلقة بآيات القبلة وليست متعلقة بآيات الصبر؛ فبعد أن ثبّت الله تعالى أمر القبلة ورسخها في قلوب المؤمنين ونفوسهم، توجّه إلى شأن ما يتعلق بالقبلة، وهو الصفا والمروة، الشعائر التي ورد فيها خلاف وإشكال.
فالصفا والمروة كانتا من مشاعر الجاهلية، وكان فيهما صنمان لقريش، فكان الأنصار يتحرجون ولا يسعون بينهم؛ لأنهم كانوا لا يريدون أن يتابعوا قريش على ذلك، فلما جاء الإسلام سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فأنزل الله الآية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي: ليست من شعائر الجاهلية، بل من شعائر الله، فأراد الله تعالى أن يبين حكمها وحكم السعي بينها.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله عز وجل: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ولم يقل: (فمن حج البيت أو اعتمر فليسعى بينهما): لأنه لما كان هناك حرج واختلاف وخلاف وإشكال أراد الله أن يرفع الحرج فقال: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
الفائدة الثانية: لا يشرع السعي بين الصفا والمروة إلا في النسك، بخلاف الطواف حول الكعبة فيشرع في غير النسك؛ لأن الله تعالى قال: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) ولم يقل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فاطوفوا بهما).
الفائدة الثالثة: قال الله تعالى كلمة (خَيْرًا) نكرة في قوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) لأنها تدل على كل خير، وخاصة ما تعلق بالحج والعمرة؛ لأن السياق فيهما، ولذلك في الحج والعمرة تشرع كثرة الأعمال الصالحة، والذكر، وغيرها، وهذا من كمال الحج والعمرة.
من الآية [159 -162]
ثم قال الله عز وجل بعد أن بيّن حال القبلة، وحال الصفا والمروة وما تعلق بهما: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) فتوجّه الخطاب مرة أخرى إلى أهل الكتاب تهديدًا وتوعدًا وإيقافًا لسيل هجومهم على المسلمين.
ثم قال الله تعالى للفصل معهم: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) فطردهم من رحمته، بعد أن منح هذه الأمة الرحمة الكاملة.
ثم قال: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) لأنهم أخفوا الحق عن الناس فكان حقهم اللعنة من الناس.
ثم قال في الآية التي تليها: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) فرغبهم في التوبة.
ثم قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) يعني إن استمروا على هذا، فسيجدون عند الله في الآخرة -بعد لعنهم في الدنيا- لعنة الآخرة، لعنات متتالية متتابعة على من كفر وكذب بعد هذا البيان التام (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ).
من الآية [163 – 164]
بعد أن انتهى الله مع الكافرين وأهل الكتاب وقطع الأمر معهم، انتقل إلى الحديث عن المؤمنين وبيّن أصل تشريعهم.
وأصل التشريع هو: التوحيد، فكل عبادة لله عز وجل مرتبطة بالتوحيد، وكل عبادة خرجت عن التوحيد فهي غير مقبولة.
فأراد الله هنا أن يجعل هذه قاعدة للتشريع الذي سيبدأ في تشريعه وفي بيانه وتفصيله، فقال في تقرير أصل التشريع: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) والآية هذه جمعت بين الترغيب والترهيب.
ثم قال الله تعالى لترسيخ التوحيد في قلوبهم مرة أخرى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهذا يدل على العناية الربانية لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه أراد أن يرسخ ويرسخ ويرسخ هذه القاعدة حتى لا يكون هناك مجال لزعزعتها.
وخص الله الأمور المذكورة في الآية بالذكر: لأنها جامعة بين كونها دلائل وبراهين تدل على الإله الحق، وبين كونها نِعَمًا على المكلفين على أوفر حظ ونصيب.
من الآية [165 – 167]
بعد أن ذكر الله التوحيد، ذكر هنا الطائفة المخالفة لهذا التوحيد تحذيرًا للمؤمنين من أن يتشبهوا بهم أو يتأثروا بهم؛ لأنهم كانوا مخالطين لهم فقال الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا).
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: الأنداد هم:
- قيل: هم الآلهة.
- وقيل: هم أربابهم ورؤسائهم وزعمائهم الذين يأمرونهم وينهونهم.
وكلا القولان صحيحان؛ لأن الآلهة يعبدونها من دون الله، والرؤساء يطيعونهم من دون الله، فهم مشركون بالله في التوحيد، وفي العبادة.
الفائدة الثانية: قال تعالى: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) فأثبت لهم محبتهم له، مع شركهم بمحبة غيره.
الفائدة الثالثة: قال الله عز وجل ترغيبًا وتشويقًا وثناءً: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي: قد خلصت محبتهم لله سبحانه وتعالى.
الفائدة الرابعة: قد يرد إشكال، وهو: هل المؤمنون يحبون غير الله، لكن محبة الله هي أشد؟
لا، وإنما المقصود أن هؤلاء الكافرون يحبون الله محبة مشتركة، أما المؤمنون يحبون الله محبة خالصة، ولو قال (أكثر) لربما دل على ذلك، لكنه قال: (أشد) مما يدل على قوة محبتهم لله.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى في بيان شناعة حال المشركين في الآخرة بعد بيان شناعة حالهم في الدنيا: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) وهذا تهديد وتخويف لهم.
الفائدة السادسة: قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) أي: الرؤساء (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي: التابعين (وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) أي: أسباب النجاة.
فكأن الله يقول: هؤلاء الذين يشركون بالله سيرون أن هؤلاء الآلهة والأصنام والرؤساء هم الذين يتبرؤون منهم يوم القيامة، وهذا يدل على خسرانهم الشديد.
من الآية [168 – 169]
قال الله عز وجل هذه الآيات في بيان أن أصل التشريع هو الحلّ، وأن التشريع قائم على أصلين عظيمين: وهو الحلال الذي أمر الله به، والطيب.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: بدأ الله بذكر المطاعم والمكاسب قبل غيرها في هذه الآية، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) لأن باب المآكل والمشارب والمطاعم هو أول باب فتح في الجاهلية في التحليل والتحريم، فقد حرموا ما أحل الله من المطاعم ومن المكاسب، فابتدأ الله بما قد أُخل ليصحح التوحيد.
فقد أخل اليهود بالمكاسب، فأحلوا الربا، وأكلوا أموال الناس، وأدلوا للحكام بأموالهم.
وقد أخل المشركون بالمطاعم، فحرموا ما لم يحرمه الله من بهيمة الأنعام.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فالشيطان يأمر بكل خبيث:
- بالسوء، وهي الصغائر.
- وبالفحشاء، وهي الكبائر.
- وبالقول على الله بغير علم.
الفائدة الثالثة: التشريع مبني على التوحيد ومتفرع عنه، وأن التوحيد مستلزم لاتباع التشريع.
الفائدة الرابعة: مصدر الحلال ومنشؤه هو الشريعة وما تأمر به، ومصدر الحرام ومنشؤه هو الشيطان وما يأمر به.
الفائدة الخامسة: أصل الشريعة الحل ما لم يأت دليل على التحريم؛ فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) فالمحرمات معدودة والمباحات موسعة.
الفائدة السادسة: شرع الله مبني على موافقة الطبائع البشرية والفطر السليمة؛ لهذا قال: (طَيِّبًا) بخلاف ما يأمر به الشيطان.
الفائدة السابعة: كل ما أمر الله به وشرعه فهو حلال طيب وكل ما أمر به الشيطان فهو حرام خبيث، فكل ما أمر الله به طيب، وكل ما أمر به الشيطان خبيث.
من الآية [170 - 171]
ثم ذكر الله تعالى آية في بيان موقف المكذبين من التشريع، فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا) فكأنهم قالوا: لن نتبع هذه الشريعة، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من المعتقدات والتقاليد، فأعلنوا كفرهم وإشراكهم.
فرد الله عليهم: (أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون) أي: أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئًا من الهدى والنور، ولا يهتدون إلى الحق الذي يرضى الله عنه؟!
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى أن هؤلاء الكافرين الذين يتبعون أربابهم ورؤساءهم مثل الأنعام تناديها فتأتي، تسوقها فتذهب، فقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) فشبه المتبِعون الذين يسوقونهم أربابهم حيث يشاؤون بالبهائم؛ لأنهم يحلون ويحرمون لهم ما يريدون وما يشاؤون، فحكم الله عليهم أنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
من الآية [172 – 173]
هذه الآيات تأكيد وتوسيع للطيّب الذي في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) وبيان أن الحل الطيب واسع، وأنه يستحق الشكر والعبادة والامتثال.
ومناسبة الآية: أن الله لما بين أن بعض الناس لم يستجيبوا له، وقالوا: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا) وجانبوا الحق واتباعه، قال الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي: كونوا أنتم على الحق واشكروا الله عز وجل على هذه الهداية والتوفيق.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ): ليزيل ما قد يُظن من: أن هذا الدين يَمنع التوسع ويَأمر بالتضييق والتشديد.
وحقيقة هذا الدين عكس ذلك، فالدين: يوسع الطيبات ويحلها، ويحرم الخبائث وما هو ضار.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (مَا رَزَقْنَاكُمْ) ليبين أن هذه الطيبات مِنة منه أحلّها لكم.
الفائدة الثالثة: المراد بالشكر في قوله: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) يشمل القلب واللسان والجوارح.
الفائدة الرابعة: قرَنَ الله تعالى بين الشكر والعبادة في قوله: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ليبين أن شكر الله يتحقق بعبادته حق العبادة، فدل على أن الشكر لله يكون باللسان والعمل معًا.
الفائدة الخامسة: حصر الله عز وجل المحرمات في قوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مع أنها ليست هي هذه المحرمات فقط في الشرع!
الجواب على ذلك: أن الله هنا بيّن أصول المحرمات التي استباحها المشركون من الطيبات، وهي المتعلقة بجناب التوحيد، فهي ليست جامعة للمحرمات كلها، وإنما ذكر المحصور ردًا على المشركين وتعريضًا بهم.
الفائدة السادسة: المراد بالمحرمات المذكورة في هذه الآية:
- الميتة: هي كل ما مات دون ذكاة مما له دم، واستثني منه ميتتان، هما: الحوت والجراد.
- الدم: المقصود به الدم المسفوح -كما ذكر سورة الأنعام-.
- لحم الخنزير: وهو الحيوان المعروف.
- ما أهل لغير الله: وهو ما ذبح لغير الله عز وجل.
الفائدة السابعة: قال الله تيسيرًا للمضطر إلى أكلها: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه.
من الآية [174 – 176]
ثم قال الله عز وجل مهددًا أهل الكتاب مرة أخرى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ثم قال مبينًا جزاءهم في الآخرة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).
ثم ذكر الله خاتمة الجزء الأول من السورة، فقال: (ذَلِكَ) أي: ذلك هو الجزاء على كتمان العلم والهدى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) أي: بعد البيان الواضح في هذه السورة (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) وسيلقى جزاءه عند الله عز وجل.
الآية [177]
هذه الآية التي افتتح الله تعالى بها القسم الثاني من السورة، وتسمى آية البر.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: جاءت هذه الآية كحلقة وصل بين القسم الأول (بناء العقيدة) وبين القسم الثاني (بناء الشريعة) حيث جمعت ما سبقها من أصول الإيمان، وجمعت ما سيأتي بعدها من أصول الأعمال والأخلاق، إذن هذه الآية جمعت ثلاثة أصول:
- أصول الإيمان.
- أصول الأعمال.
- أصول الأخلاق.
الفائدة الثانية: ابتدأت الآية بتقرير حقيقة الدين، فقال الله عز وجل: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) والحقيقة هي: أن الدين ليس مجرد مظاهر ورسوم، وإنما هو الإيمان، وما يظهر من آثاره في النفس؛ من الأعمال والأخلاق.
الفائدة الثالثة: عبر الله تعالى بالبر عن الأصول كلها؛ لأن البر اسم جامع للخير كله.
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل مبينًا أصول الإيمان: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ثم قال مبينًا أصول الأعمال: (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ) ثم قال مبينًا أصول الأخلاق: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ).
الفائدة الخامسة: ذكر الله تعالى بعد أصول الإيمان أصول الأعمال التي هي ثمرته، ثم ذكر أصول الأخلاق التي هي ثمرة الأعمال، فثمرة الإيمان -إذن- الأعمال، وثمرة الأعمال الأخلاق.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (وآتى المال عَلَى حُبِّهِ) للدلالة على أن الإنسان يجب يؤتي المال بطواعية ورغبة.
الفائدة السابعة: قدم الله عز وجل إيتاء المال على الصلاة والصيام: لأن أهم أنواع البر المتعلقة بالخَلق بعد الدين البر بالمحتاجين، وأيضًا قدمها تحفيزًا لنفوس المسلمين في بدء نشأة الدولة المسلمة وتقوية أواصرهم وتكاتفهم وقيام هذه الدولة.
الفائدة السابعة: قدم الله عز وجل: (ذَوِي الْقُرْبَى) المحتاجين على باقي الأصناف؛ لأن الصدقة على الأقرباء صدقة وصلة.
الفائدة الثامنة: ذكر الله الأصناف الأحوج للنفقة؛ لضعفهم وعجزهم وانقطاع أمرهم.
الفائدة التاسعة: المقصود من الأمر بإيتاء المال هو: قضاء حاجة المحتاجين، وتقوية رابطة المجتمع المسلم.
الفائدة العاشرة: علاقة إقامة الصلاة بإيتاء المال: أن الصلاة هي الركن الروحي، وإيتاء الأموال هي الركن المادي، فبعد أن ذكر الركن المادي ذكر الركن الروحي الذي يعزز الركن المادي، فاجتمع في ذلك بناء مادي جسدي، وبناء روحي قلبي؛ وذلك ليكتمل بناء المجتمع المسلم.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله عز وجل: (وأقام الصلاة) يعني أدّوها على أكمل وجه، كما أمر الله تعالى ورسوله.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى: (وَآَتَى الزَّكَاةَ) مع أنه قال في بداية الآية: (وَآَتَى الْمَالَ): المقصود هنا: تأكيد فريضة وركن الزكاة وأنها من الدين أصلًا، أما ما سبق: فهو في الحديث عن النفقة عمومًا، والزكاة داخلة فيها، فكأن الأول ممهد للثاني.
الفائدة الثالثة عشرة: جمع الله تعالى بين صفة الوفاء بالعهد، والصبر، فقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ) فدل على أنهما أهم صفتين في الأخلاق.
الفائدة الرابعة عشرة: قال الله تعالى: (وَالصَّابِرِينَ) ولم يقل: (والصابرون) مع أنها معطوف على (والموفون): إشعارًا بأهمية الصبر وأنه ذو منزلة عظيمة جامعة، فالإيمان لا يكون إلا بالصبر، والأعمال الصالحة لا تكون إلا بالصبر، والأخلاق الفاضلة لا تكون إلا بالصبر، وأيضًا للدلالة على ما يجب التحلي به عند فرض التشريعات التي ستأتي.
الفائدة الخامسة عشرة: ذكر الله عز وجل أنواع الصبر، فقال: (الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ):
- فالبأساء: هي شدة المال؛ مثل الصبر على الفقر.
- والضراء: هي شدة الحال؛ مثل الصبر على مرض.
- وحِينَ الْبَأْسِ: مثل الصبر على الحرب والقتال.
الفائدة السادسة عشرة: ختم الله تعالى بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) إشارة إلى علو منزلة الصادقين والمتقين.
الفائدة السابعة عشرة: جمع الله تعالى بين الصدق والتقوى؛ لأن الصدق امتثال، والتقوى اجتناب.
الفائدة الثامنة عشرة: أعاد الله عز وجل اسم الإشارة (أُولَئِكَ): للدلالة على كمال أمـر هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات.
من الآية [178 – 179]
ثم ابتدأ الله الحديث هنا عن الأحكام مباشرة، وافتتح بأحكام القصاص أولًا دون أحكام الصيام، والحج، والأسرة وغيرها، والسر في ذلك: أن السورة جاءت في بناء المجتمع المسلم لإقامة الدين، ولا يقوم الدين إلا حين يلتئم الأمن وتستقر الحياة، فأراد الله عز وجل أن يحفظ حياة الناس أولًا قبل أن يشرع لهم التشريعات؛ لأن إقامة الأمن سبب في إقامة الدين، فهذه الآية دليل صريح ظاهر على العناية الإلهية.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) يعني فرض وأوجب عناية بكم وبحياتكم وبأمنكم، والكتابة هنا ليست هي الفرض بمعنى المتعين على كل شخص أن يقيمه، وإنما إذا وقعت واقعة من قتل أو نحوه تحتاج إلى إقامة هذه الشعيرة وهذا الحد.
الفائدة الثانية: المقصود بالقصاص: المماثلة والمساواة في الِقوَد.
الفائدة الثالثة: عبر الله عن قتل المعتدي بالقصاص: لتضمنه معنى المساواة، والتعبير به فيه إظهار لحكمة الإسلام في التشريع، وهو إقامة العدل والمساواة بين الناس في حفظ حقوقهم.
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل: (الحر بالحر وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) ولم يقل: (الذكر بالذكر):
- ليدل على عناية الله بالمرأة.
- ولأن حكم القصاص للرجل في الجاهلية معروف، فإذا قَتل رجلٌ رجلًا، قُتل الرجل وزيادة؛ لكن إذا قُتلت امرأة لا يقيمون حقها، فأقام الله حقها صريحًا هنا وذكرها بالخصوص.
الفائدة الخامسة: شرع الله العفو في القصاص ولم يكن ذلك في أي شريعة من قبل، فقال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أما القتل عند اليهود جزاؤه القصاص حتمًا لا عفو فيه، والقتل عند النصارى يجب فيه العفو، فجاءت الشريعة معتدلةً ومتوسطةً في ذلك.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى: (مِنْ أَخِيهِ) ولم يقل: (من وارث المقتول): للترغيب في العفو، يعني كأنه يقول هذا أخوك المسلم فاعفو عنه؛ ليحفزه ويدعوه لاستشعار هذه الأخوة، فيعفو.
الفائدة السابعة: قال الله تعالى: (شَيْء) فدل على أن أي عفو من أي فرد من أفراد المقتول يَسقُط به القصاص، وهذا يدل على رحمة الله وعنايته وحرصه على العفو.
الفائدة الثامنة: قال الله عز وجل موصيًا أهل الحق: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) فأوصاهم بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير تعنيف وتشديد وإلحاح، ثم قال موصيًا المعفو عنه: (وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) فحثه على أن يؤدي الدية التي عليه من غير مماطلة ومن غير بخس ونقص وتأخير، ففي ذلك ضبط لباب العفو، حتى لا يكون هناك مجال لأحد الطرفين في المراوغة أو المماطلة.
الفائدة التاسعة: قال الله عز وجل: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ليؤكد أن شريعة الله قد اشتملت على الرحمة والتخفيف.
الفائدة العاشرة: قال الله تعالى: (من ربكم) ولم يقل: (من الله): ليدل على عناية ورعاية الله بعباده، فاشكروه وأقيموا دينه كما أمركم.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي: من أولياء المقتول الورثة، بأن يقتل أحدهم أحدًا من ورثة القاتل بعد أن عفي عنه، أو بعد أن اعتُدي على أهل القاتل (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
الفائدة الثانية عشرة: مناسبة قول الله تعالى: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) هو قطع لباب الاعتداء الذي كان في أمر الجاهلية حيث كانوا يقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله تعالى تثبيتًا لحكم القصاص في نفوس المؤمنين وإشعارًا بأن هذه هي المصلحة، حتى لو رأيتم أن هذا فيه إزهاق لتلك النفس: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لأن قتل المعتدي -كما قيل- قطع لسبيل الاعتداء على الناس جميعًا، فهو إحياء للناس جميعًا.
الفائدة الرابعة عشرة: لما كانت حِكمة القصاص وغايته تحتاج إلى نظر وتدبر لمعرفة المصلحة الباقية قال الله تعالى: (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
الفائدة الخامسة عشرة: الشريعة تحث على النظر إلى المصلحة المستقبلية، لا إلى المصلحة الحالية؛ لأن الإنسان إذا نظر للمصلحة الحالية، من غير نظر للعواقب فقد يتسبب في خطأ في تصرفه وعمله.
من الآية [180 – 182]
ثم ذكر الله عز وجل آيات الوصية بعد آيات القصاص، ومناسبة ذلك: أن القصاص داعي إلى الموت، فحث الله المعتدي بأن يوصي قبل أن يقتص منه، وهذا من عناية ورحمة الله بأهل وقرابة المعتدي.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: آية الوصية هي أصل في حفظ الحقوق المالية، وأصل في آيات المواريث؛ لأنها نازلة قبل آية المواريث.
الفائدة الثانية: اختلف المفسرون في نسخ هذه الآية، هل هي منسوخة بآيات المواريث أم لا؟ والصحيح والله أعلم أنها ليست منسوخة، وإنما هي باقية في الأمر بالوصية لغير الورثة، أما حق الوالدين مذكور في آية المواريث.
الفائدة الثالثة: كان أهل الجاهلية لا يورثون إلا الأبناء الذكور، وإذا لم يوجد الأبناء فهي لأول رجل ذكر له حق العصمة، فذكر الله هنا حق الوالدين والأقربين، ولم يذكر حق الأبناء؛ لأنه باقي على حكمه لا يحتاج إلى ذكر، فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بالمعروف حقًا على المتقين).
الفائدة الرابعة: ختم الله آيات الوصية بتوثيق حق الميت في وصيته، فقال: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) يعني: أن من غير في الوصية فعليه إثم عظيم عند الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: سميع لما يقال عليم بما يفعل.
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) يعني من علِم من صاحب الوصية ميلًا أو اعتداءً، في حياته أو بعد موته، فأصلح ما أفسد بنصحه في حياته، أو إبطال الوصية بعد مماته (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
من الآية [183 – 186]
ثم بعد ذلك جاءت أحكام الصيام، والسياق ما يزال في التأسيس، فذكر الأمن، ثم ذكر ما يعين على تحمل الشريعة -وهو الصبر- ثم ذكر أعظم ما يتمثل فيه الصبر -وهو الصيام-، فالصيام يربي في الإنسان الصبر، واحتمال مشاق الطريق وتكاليف الدين.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى تهيئة قبل فرض صيام رمضان بالإلزام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعنى لا تحسبوه فريضة عليكم فقط، بل هو قد فرض على من كان قبلكم، وقال ذلك لأن الصيام لم تعتده العرب من قبل، وهو شاق عليهم؛ فشرع الصيام في بداية الأمر بالتخيير: فمن شاء صام، ومن شاء فدى.
الفائدة الثانية: الصيام سبب لتقوى الله، قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
الفائدة الثالثة: قال الله عز وجل مخففًا على المسلمين أمر الصيام: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) يعني هي ليست بشيء مقابل عدد أيام السنة، ثم قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
الفائدة الرابعة: قال الله عز وجل: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه) وفي قراءةٍ (يُطَوقونَهُ) يعني وعلى الذين يصومون وعليهم مشقة ولو يسيرة، فعليهم (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) والطوق في اللغة: هو القدرة على الشيء مع كلفة.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى مرغبًا في الصيام: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نستنتج أن: الصيام هو الخير وهو الأكمل والأفضل؛ مثل: الصيام في السفر لمن لا مشقة فيه، والصيام للمريض إذا لم يكن عليه ضرر بالصيام.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى -أيضًا- تهيئة وتمهيدًا لفرض الصيام بالإلزام: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ) يعني أنتم مأمورون بصيام شهر فاضل يستحق الصيام؛ أنزل فيه القرآن.
الفائدة السابعة: الصيام والقرآن كلاهما يحققان التقوى والكمال والإيمان.
الفائدة الثامنة: قال الله تعالى: (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فأعاد ذكر الهدى مرتين: للإشارة إلى أن الصيام يورث القدرة على بيان القرآن وفهمه والوصول إلى هدايته، فالصائم بصفاء ذهنه وقلبه وجسمه يصفو عقله وقلبه لتأمل القرآن والتبصر فيه والاهتداء.
الفائدة التاسعة: أمر الله عز وجل صراحة بعد أن استقر الأمر: بالصيام في رمضان بالإلزام لمن قدر عليه، وعفى عن المريض والمسافر، ونسخ الأمر بالتخيير، فقال: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
الفائدة العاشرة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ) ولم يقل: (فمن رأى): لأن الشهادة تكون بأمرين: بالعلم أو الحضور للرؤية، فيدخل في ذلك علمه ورؤيته وحضوره.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله عز وجل: (الشَّهْرَ) بالألف واللام: لتدل على لزوم صوم الشهر كاملًا.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله عز وجل مخففًا مرة أخرى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فأعاد هذه الآية مع أنها ذكرت في الآية السابقة: خشية أن يظن أنها نسخت مع نسخ التخيير، ثم قال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عز وجل: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ولم يقل (ولتكملوا الشهر): لأن الآية دالة على القضاء، أي: عدة الأيام التي أفطرتم بها في رخصتكم.
الفائدة الرابعة عشرة: أُخذ من قوله عز وجل: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مشروعية التكبير ليلة العيد، ومشروعية الشكر والحمد لله بعد إتمام كل عبادة.
الفائدة الخامسة عشرة: قال الله عز وجل في آخر آيات الصيام: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان) فكأن الله تعالى يقول هذه جائزتكم إن أقمتم أمر الله وأتممتم هذه الشريعة، ولذلك ختم بقوله: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
الفائدة السادسة عشرة: آداب الدعاء وشروطه من هذه الآية الأخيرة:
- ورود الآية في سياق آيات الصيام يدل على فضل دعاءِ الصَّائم، وأنّه مرجوُ الإجابة.
- ورود الآية في سياق آيات الصيام يدلُّ على أنَّ من أحرى أحوال الإجابة: حال رقّة القلب وصفائه وخضوعه وخشوعه وانكساره وتعلّقه، وهذا مُتحقق في الصِّيام، وخصوصًا في وقت الإفطار.
- ورود الآية بعد قوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يدُلّ على أنّ الدُّعاء مشروعٌ بعد إتمام العمل الصالح؛ ولهذا شُرِعَ الدعاء بعد الطَّهارة، وبعد الأذان، ودُبِر كل صّلاة، وفي ختام أعمال الحجّ.
- ورود الآية بعد الأمر بالتكبير والشّكر في قوله: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يدل على مشروعية تقديم الثناء على الدُّعاء.
- قوله تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) يدلُّ على عدم مشروعية رفع الصُّوت بالدُّعاء، وهو الأصل.
- تقييد الإجابة بقوله: (إِذَا دَعَانِ) يدُلُّ على لزوم صِدق التّوجه إلى الله وحده في الدُّعاء.
- قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يدل على أن الاستجابة لأوامر الله بِصدقٍ وإخلاص سببٌ من أسباب الإجابة.
- قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يدل على مشروعية تقديم الأعمال الصَّالحة قبل الدُّعاء.
- قوله تعالى: (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) يدل على أنه يجب أن يكون الإنسان موقنًا بإجابة الله عزّ وجل.
الآية [187]
انتقل الحديث هنا إلى آيات الليل المشتملة على بعض أحكام الصيام ومحظوراته، فهذه الآية تعتبر مُكمّلة لأحكام الصِّيام.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: اشتملت هذه الآية على عدّة محظورات، وهي: الأكل، والشُرب، والجماع بعد تبيُّن الفجر، ومباشرة النّساء حال الاعتكاف.
الفائدة الثانية: قدَّم الله أمر المباشرة عامّة على باقي المحظورات؛ لأنه ألصق باللَّيل وأكثر وقوعًا.
الفائدة الثالثة: قول الله عزّ وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) يدلُّ على أنّ الجماع والأكل والشرب كان محرّمًا في اللَّيل أوّل ما فرض الصيام؛ لأنَّه ينافي حكمة الصِّيام، وهي رفع هذا القلب للتعلّق بالله، ثم بعد ذلك أُبيح في الليل بهذه الآية؛ تخفيفًا لهذه الأمّة.
الفائدة الرابعة: عبر الله عن الجماع بقوله: (الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُمْ): لأنه أمرٌ مُستكره في مثل هذه الأيام التي ينبغي أن تتعلّق فيها القلوب بالله.
الفائدة الرابعة: عبّر الله بقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) لشِدَّة الملاصقة والمُخالطة بين الرجل وامرأته، فلا يستطيعون أن يحافظوا على هذا الأمر، فعفا الله تعالى عنهم.
الفائدة الخامسة: قوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) يدل على سُنّة شرعية، وهي: حاجة الرّجل إلى المرأة، وحاجّة المرأة إلى الرّجل؛ ولكن حاجة الرّجل إلى المرأة أشد وأهم من حاجة المرأة إلى الرجل.
الفائدة السادسة: سبب نزول قول الله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ): أنه لما نزلت آية صوم رمضان، كان الصحابة لا يقربون النساء رمضان كله، وكان بعض الرجال تغلبهم أنفسهم فلا يستطيعون ترك ذلك فأنزل الله الآية.
الفائدة السابعة: المقصود بقوله: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) معنيان:
- جامعوهن وابتغوا قيام ليلة القدر؛ لأنَّ أعظم ما كتبه الله تعالى في هذه اللّيالي هُو ليلة القدر.
- جامعوهن وابتغوا الولد الصَّالح.
الفائدة الثامنة: قال الله عزّ وجل قاعدة من قواعد النِّكاح: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) فربط مقصد النّكاح بالمقاصد الشّرعية؛ من إعفاف كل واحدٍ لصاحبه وإحصانه، وقصد تكثير نسل أمّة محمد -صلى الله عليه وسلّم- لا لِمحض الشَّهوة الجنسية.
الفائدة التاسعة: سبب نزول قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) هو: أن قيسًا بن صَرِمة الأنصاري كان صائمًا، فلمَّا حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أَعِندكِ طعام؟ قالت: لا، لكن أنطلق فأطلبُ لك.
وكان يومه يعمل فغلبته عينه، فجاءته امرأته فلمَّا رأته قالت: خيبةً لك -يعني ستبيت جائعًا حتى يوم الغد-.
فلمّا انتصف النّهار غُشِيَ عليه من التَّعب، ولم يستطع أن يُقاوم، فذَكَر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية.
الفائدة العاشرة: قال الله عزّ وجل في تحريم المباشرة على المُعتكف ليالي رمضان: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) أيّ: لا تقربوهنّ ما دمتم عاكفين في المساجد.
الفائدة الحادية عشرة: الاعتكاف والصَّوم متحدان في الغرض، وهو: حبس النّفس عن الشّهوات؛ لتحقيق التّقوى وتقوية الصلّة بالله عزّ وجل، فلهذا شُرع الاعتكاف وشُرع فيه عدم المباشرة لينقطع الإنسان لربِّه، فلا يكون هُناك تعلّق بالدُّنيا.
الفائدة الثانية عشرة: كُلّ ما يقطع الإنسان عن علاقته بالله فهو محذور للمعتكف.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) ولم يقل (فلا تعتدوها) لأنَّها من الأحكام المرتبطة بالتَّشريع في العبادات، ولو كان الأمر متعلّقًا بحقوق العباد والمعاملات لقال: (لا تَعْتَدُوهَا).
الآية [188]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: علاقة الآية بآيات الصوم: أنَّ الحُكم هُنا داخل في المحظورات، فلَمَّا ارتقت النُّفوس بالتَّقوى، نهى الله عن أكل الأموال بغير حق.
الفائدة الثانية: عبّر الله عن أخذ الأموال بالأكل: لأنّ أعظم وأكثر منفعة في المال هو حصول الأكل منه.
الفائدة الثالثة: هذه الآية تشتمل على أصل من أصول الدّين وهو حفظ الأموال والحقوق، والمنع من الظّلم والتعدّي.
الفائدة الرابعة: يدخل في هذه الآية كل أكل للمال بالباطل؛ كالقمار والربا والخداع والغصب وغيرها.
الفائدة الخامسة: المقصود بقوله تعالى: (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) الحِيلة، فهذه الآية أصلٌ في تَحريم الحِيل.
الآية [189]
بعد انتهاء الصيام يأتي هلال شوال الذِّي به نهاية رمضان وبداية أشهر الحج، فقال الله عزّ وجل هذه الآية تهيئة وتمهيدًا لما سيأتي من أحكام للحجّ.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: السائل في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ): قيل: الصَّحابة -رضوان الله عليهم-، وقيل: المشركون.
الفائدة الثانية: سؤال السائلين هو: لماذا تبدو الأهلة صغيرة ثمّ تكبُر؟
فأجاب الله عزّ وجل عن حكمة ومقصود الأهلة، ولم يُجب عن سؤالهم؛ لأنه يريد أن يصَرَفهم إلى ما هو أَهم، فقال: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) والإجابة هذه تدل على أنّ الشريعة تعتني بالحِكَم، لا بالمظاهر والأمور النَّظرية الذّي لا طائلَ وراءها.
الفائدة الثالثة: في قول الله عزّ وجل: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أصلٌ من أُصول الدِّين، وهو: إقامة أحكام الشَّريعة على المواقيت، وبِنائِها عَلى الأهلّة.
الفائدة الرابعة: ربط الله تعالى الأهلة والمواقيت بالتشريع: للدَّلالة على وَحدانية مُوجِدِها ومُشَّرعها، وأنّ مُسيِّر الكون هو مسيِّر الشَّرع.
الفائدة الخامسة: جاءت آياتُ الأهلة بعد الصيام مباشرة: للدَّلالة على أنّ أشهر الحج تدخُل بهلال شوال، وهذا وجه تخصيص ذكر الحجّ في الآية.
الفائدة السابعة: سبب نزول قول الله عزّ وجل: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) كان الأنصار إذا أحرموا للحج لا يدخلون البيوت من الأبواب ولكن من الظهور؛ لئلا يُغطِّيهم السَّقف، اعتقادًا منهم أنّ الإنسان ما دام محرِمًا لا يجوز أن يُغطّيه حاجب ولا جدار، فجاء رجل من الأنصار فدخل من الباب، فعُير بذلك فنزلت الآية.
الفائدة الثامنة: قول الله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) يدل على أن البر لمن أطاع الله وآمن وصَدَّق وامتثل بما أمر.
الفائدة التاسعة: قول الله عز وجل: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) يدل على قاعدة من قواعد الدّين، وهي: أنه يجب على الإنسان يأتي الأمور على وجهها المعروف، ولا يتحايل.
الفائدة العاشرة: تدُلّ هذه الآية على أصلٌ من أصول الدِّيـن ومقصد من مقاصد الإسلام، وهو: ترك الغُلوّ، والتشّدد والابتداع في الدِّين.
من الآية [190 – 194]
ثمّ ذكر الله تعالى آيات القتال هذه النازلة في عُمرة قضاء الحديبية، والقصة هي: أنه لمّا مُنِعَ النَّبي -صلى الله عليه وسلّم- من البيت الحرام في سنة ستة، جاء في السنّة التي بعدها ليقضي عُمرته؛ لأنه كان في العهد الذي بينه وبين قريش أنه سيقضي عمرته في السنّة القادمة، فأَتى هو وأصحابه وكانوا مُتهيئِين للقتال بالسِّلاح؛ لأنهم لا يَدرُون ما سيفاجؤنهم به قريش، ربّما يخونونهم، أو يبغتونهم.
فلمَّا كانت نفوسهم متهيئة للقتال أنزل الله تعالى هذه الآيات، وليست هي تشريعٌ للقتال على وجه العموم، وإنّما إحكام القتال في أشهر الحج.
قال الله عزّ وجل: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي: فقط قاتلوا الذِّينَ يبدؤون قتالكم؛ ابتغاء رفع كلمة الله.
ثم قال: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعني: إذا ابتدؤوكم بالقتال اقتلوهم حيث وجدتموهم، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه -وهو مكة- (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يعني: والفتنة الحاصلة -وهي الصَّد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، ومنع المسلمين من العمرة- أعظم من القتل، ثم قال: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) يعني: ولا تبدؤوهم بقتال إذا دخلتم المسجد الحرام (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) يعني: حتى يبدؤوكم بالقتال فيه (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ...).
ثم قال: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) يعني الشَّهر الحرام هذا الذِّي تمكنتم فيه من دخول الحرم والعمرة، هو مثل الشّهر الحرام الذّي جِئتم فيه ومُنعتم فيه من دخول الحرم، يعني كأنه يقول: يومًا بيوم، ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) يعني: يجب أن يكون الاعتداء لمن اُعتديَ عليه فقط بالمماثلة (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
الآية [195]
ثم قال عز وجل آية الإنفاق هذه.
وعلاقتها بآيات القِتال قبلها، وبآيات الحجّ بعدها: هو أن القتال يحتاج إلى نفقة، والحجّ يحتاج إلى نفقة، فقال الله عزّ وجل هذه الآية إعدادًا للقتال، وتهيُّئًا للحج.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: المقصود من هذه الآية: لا تذهبوا للقتال من غير عُدَّة؛ لأن هذا إلقاءٌ للنّفس في التهلكة.
الفائدة الثانية: دلت هذه الآية على لزوم أخذ العدّة للقتال حال الخروج، ولا يكفي في ذلك التّوَكل على الله؛ لأن التّوكل لا ينافي الأسباب بل يُوافقها ويُكمّلها.
الفائدة الثالثة: دلت الآية على أنه لا يجوز أن يأتي الإنسان للحجّ وهو ليس معه شيء.
الفائدة الأولى: قوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يدل على عِظَم أمر الإحسان والإنفاق في سبيل الله تعالى، ويدل -أيضًا من جهة الحَجّ- على أنه يجب الإعداد للقيام بالحج على أكمل وجه وأحسن عمل؛ ولهذا أتبعها بقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ).
من الآية [196 – 203]
ثمّ جاء بدأ الحديث هنا عن آيات الحج.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: أخذ العلماء من قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) حكم فقهي، وهو: وجوب إتمام الحج والعمرة لمن دخل فيهما، حتى لو كان نفلًا.
الفائدة الثانية: قال تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يقل: (حُصُرتُم) لأن الحصر خاصّ بالعدو، أما الإحصار فهو الذي يمنعكم من الحج، فيدخل فيه العدوّ، ويدخل فيه المرض، ويدخل فيه أيّ حابس يحبس الإنسان.
الفائدة الثالثة: ذكر الله عز وجل حكم حلق الرأس في حال الإحرام، فقال: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ثمّ قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أي فعليه هدي جُبران، وهي: صيام ثلاثة أيام أو صدقة أو ذبح شاة.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) يعني: إذا وصلتم البيت، فمن كان حجه تمتعًا (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يعني: فعليه هدي شُكران؛ شكرًا لله على أن يسر له أداء النسكين بسفرة واحدة.
الفائدة الخامسة: الفرق بين هدي الشكران والجبران:
الشُكران: وهو هدي التمتّع، ويُشرع فيه الأكمل والأغلى والأسمن.
والجُبران: يكفي فيه ما تيسّر ولو شاة صغيرة أو ضعيفة.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي: هدي التمتّع (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) فقسّمها الله تخفيفًا للأمّة، ثم أكدّها لئلا ينسَوها؛ لأنّ الإنسان إذا ذهب إلى أهله انشغل بدنياه وأهله وربّما نسيّ ما وجب عليه، فقال: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) أي لا تتساهلوا في الباقي بعد أن صُمتم ثلاثة أيام.
الفائدة السادسة: ختم الله آيات التخفيف بالتشديد، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لأن هذه الآية نزلت في عمرة القضاء، والخطاب فيها راجع إلى أهل مكة الذين صدوا المسلمين وأرهبوهم؛ ففي هذه الجملة تبشير من الله ووعد للمسلمين بأنّ الله سيُعذّب الكافرين الذين كانوا في البيت، وسيمكنكم من البيت الحرام.
الفائدة السابعة: أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
الفائدة الثامنة: قال الله تعالى: (الحج أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) لأنّها معلومةٌ من أصل دين إبراهيم؛ لكن المشركون جاؤوا وأحدثوا وغيّروا وقدَّمُوا وأخروا حسب أهوائهم، فأقرّ الله هنا وقت الحج كما كان عليه وقت إبراهيم.
الفائدة التاسعة: قال الله عز وجل: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) يعني: فمن دخل في الإحرام للحج (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وهذه هي محظورات الإحرام:
- الرفث ويدخل فيه الجماع -ابتداءً- والكلام القبيح والفاحش.
- الفسوق؛ مثل قتل الصيد، وحلق الرأس، ولبس الثياب والطيب، وتدخل فيه المعاصي كلها.
- الجدال، ويدخل فيه المِراء المؤدّي إلى النزاع والفرقة.
الفائدة العاشرة: في قوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) بيان ما يُنافي حقيقة الحجّ وصحته وأدائه؛ كالجماع، وبيان ما ينافي كمال الحج وإتمامه؛ كالفحش واللغو في الكلام.
الفائدة الحادية عشرة: خصص الله الجدال في المحظورات، فقال: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) لأنّ الحجّ مظنّة الجِدال والشقاق بسبب اختلاف الأوضاع.
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى محفزًا النفوس المؤمنة إلى المسابقة لفعل الخير: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) فاغتنموا الحج في فعل الطاعات.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله عز وجل: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) أي: تزودوا من الخير والطّاعة؛ لأن الحجّ يحتاج إلى تقوى باجتناب المحظورات وفعل المأمورات (واتقون يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) إن كنتم تريدون الكمال.
الفائدة الرابعة عشرة: قال الله تعالى في إباحة التجارة في الحج: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) ولم يقل: (وابتغوا من فضل الله في الحجّ): لأنّ المسلمين تحرّجوا من أن يُخالطوا الكفار في أسواقهم وهم آتون إلى الحجّ يُريدون وجه الله، فأباح لهم البيع والشراء؛ لئلا يكونوا في ضعف من أمرهم ومالهم وتزودهم، فيكون للكافرين عليهم منّة وفضل.
الفائدة الخامسة عشرة: في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) دليل على مشروعية التجارة في الإسلام لتكون للمسلمين قوّة واقتصاد.
الفائدة السادسة عشرة: أخذ بعض العلماء من قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) جواز أنّ يذهب الإنسان للحجّ للمتاجرة، وجواز أن يعقد الإنسان الحج عن غيره ويأخذ على ذلك دراهم، بشرط ألا يكون قصده بالحجّ ذاته المال.
الفائدة السابعة عشرة: بيّن الله أن الدفع يكون من عرفات، فقال: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) لأنّ المشركين لم يكونوا يفيضون من عرفات، بل يفيضون من مزدلفة، ويقولون نحن لا نخرج من الحرم؛ نحن أهل الحرم نبقى في أدنى الحرم في مزدلفة، أمّا غيرنا فيخرج، فلمّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- خالفهم وصار على ما كان عليه إبراهيم عليه السلام.
الفائدة الثامنة عشرة: قال الله (عرفات) ولم يقل: (عرفة) للدلالة على المكان لا على اليوم، وإنّما سُمّي عرفات لأمرين:
- لأنّ جبريل عرّف فيها إبراهيم بمواضع الحجّ، ولماّ أتى عرفة قال: عرفت الآن؟ فقال: عرفت.
- لأنّ آدم عرف حواء في عرفة.
والأول أصحّ وأظهر؛ لعلاقته بإبراهيم.
الفائدة التاسعة عشرة: في قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) دليل على أن الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة تكون بعد غروب الشمس.
الفائدة العشرون: هدى الله المسلمين لأصل الحجّ الذي كان عليه إبراهيم، وأبطل ما أحدثه هؤلاء المشركون؛ لهذا قال: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).
الفائدة الحادية والعشرون: قال الله عز وجل: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) والمقصود بالإفاضة هنا إفاضتان:
- الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة.
- والإفاضة من مزدلفة إلى منى.
والمقصود بالنَّاس هنا: الأمم السابقة، ومنهم إبراهيم عليه السلام، كأنّه قال: أفيضوا كما أفاض إبراهيم واتركوا مـا أحدثه المشركون.
الفائدة الثانية والعشرون: قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) إشارة إلى الخطأ الذي أحدثه المشركون في الحجّ، وإشعارٌ لهم إلى أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه ممّا أحدثوه، ويكونوا على ما كان عليه إبراهيم.
الفائدة الثالثة والعشرون: في قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) دليل على مشروعية الاستغفار بعد العبادة، لمظنّة النقص فيها، ولطرد العجب من النفس.
الفائدة الرابعة والعشرون: قال الله عز وجل: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) يعني: إذا انتهيتم من جميع مناسك الحجّ، ومناسبة قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) أن المشركين كانوا بعد الحجّ يُقيمون الأسواق فيذكرون آباءهم بالأشعار، والثناء، والتفاخر وغير ذلك، فكأنّ الله تعالى يقول: ينبغي أن تذكروا الله عز وجل هنا ولا تذكروا آباءكم.
الفائدة الخامسة والعشرون: في قوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) دليل على مشروعية الدوام على ذكر الله، وأنّ الإنسان لا ينقطع عمله حتى بعد أداء الفريضة والنُسك.
الفائدة السادسة والعشرون: ذكر الله تعالى حال الناس بعد الحجّ، فقال عن حال الكافرين: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أي: يقولون يا ربّنا ارزقنا كذا كذا من أمور الدنيا، والآخرة ليست همّهم وليست هي مطلبهم.
وقال عن حال المؤمنين: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي: يقولون: يا ربنا ارزقنا كل أمر حسن في الدنيا، وارزقنا كذلك كل أمر حسن في الآخرة، فجمعوا في هذا الدعاء بين خيَر الدنيا والآخرة.
ثم قال الله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعني: المشركون لهم نصيب في الدنيا، والمؤمنون لهم نصيبهم في الدنيا وفي الآخرة.
الفائدة السابعة والعشرون: نأخذ من الدعاء في قوله: (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) مشروعية ختم الإنسان دعاءه بهذا الدعاء؛ لأنّ الله خَتَم به أعمال الحجّ.
الفائدة الثامنة والعشرون: ختم الله آيات الحج بقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) للإشارة إلى أيام التشريق، ولأنها أيام قليلة، وليس فيها عمل كثير شرع للمسلمين أن يتفرّغوا لذكر الله؛ من دعاء، وصلاة وتسبيح وتكبير.
الفائدة التاسعة والعشرون: في قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) إشارة إلى التكبير المطلق، وفي قوله سابقًا: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَاذْكُرُوا اللَّهَ) إشارة إلى التكبير المقيّد الذي يبتدئ بعد صلاة الفجر من يوم عرفة.
الفائدة الثلاثون: قال الله عز وجل: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فلا إثم عليه وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) وفي قوله: (فَلَا إِثْمَ عَلَيْه) الأولى يعني أنّ حجّه تامّ ولا تثريب عليه، وفي الثانية معناه: فمن تأخّر لليوم الثالث عشر؛ لأنه يُريد التجارة، أو يُريد التزوّد من الدنيا، فلا تثريب عليه أيضًا.
الفائدة الحادية والثلاثون: نظم الآية يفيد أفضلية التأخّر، وأنّ التَّعجُل الأصل فيه التأخّر؛ لكن الله تعالى قال في التأخر كما قال في التعجل: (ومن تأخر فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ولم يقل: (ومن تأخرّ فله أجر):
وذلك لأن قوله: (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) يُفيد معنىً ثانيًا، وهو: أنّه ربّما بقي الإنسان لحاجة من حوائج دنياه لا لأداء النُسك ورمي الجمار، فربمّا يَشعر هذا الإنسان أنّه انشغل بالتجارة، ويقع في نفسه حرج، هل نقص حجّه بهذا الانشغال أم لا؟! فقال الله تخفيفًا على من تأخر من هذه الأمّة لسبب دنيوي: (فلا إثم عليه).
الفائدة الثانية والثلاثون: ربط الله تعالى آيات الحجّ بالحشر، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ): لأنّ الحجّ فيه حشرٌ للنّاس، وفيه تجرّد من المَخيط، وفيه انصراف يُشبه انصراف أهل الموقف بعد الحشر، فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير، لهذا ذكّر الله تعالى الناس بيوم القيامة.
الفائدة الثالثة والثلاثون: ورد ذكر الذكر والتقّوى في الحج متكررًا ظاهرًا: لأن الله يريد أن يركز على روح العبادة ومقصدها الأول وهو إقامة ذكر الله، وأنها ليست مظاهر وأعمال تؤدى بالجوارح.
من الآية [204 – 207]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تعالى في بداية المقطع مبينًا صفة المتحدث المنافق: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني أن بعض المتحدثين قد يكون كلامه مستحسن، وقد يُعجب الناس بكلامه؛ لأنهم يرونه حسن المنطق، وحلو اللسان، وقوي البيان؛ لكن هذا الإعجاب يكون في الحياة الدنيا فقط، وأمّا في الآخرة تظهر الحقائق، وتتجلَّى صدق الكلمات.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى مبينًا صفة أخرى للمنافق: (ويشهد الله على ما في قلبه) كأن يقول: أنا أغار على الدين، وأنا أحب الدين والخير، وهكذا، وهو يعلم أن منطوق لسانه غير منطوق قلبه؛ لهذا هو يقسم بالله أنه صادق.
الفائدة الثالثة: ذكر الله أيضًا صفة ثالثة للمنافق، فقال: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) واللَّدد: هي شدة الخصومة والعداوة.
الفائدة الرابعة: ذكر الله أيضًا صفة رابعة للمنافق، فقال: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) لأن أفعالُه تُخالف أقواله.
الفائدة الخامسة: نأخذ من قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) أنه ينبغي للمؤمن ألا يغتر بالظَّواهر، وألا يُصَدق القول إلا إذا تُبِع بالفعل والعمل.
الفائدة السادسة: قيل في معنى قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) معنيان:
- الأول: إذا صارت له السُّلطة في الأرض ظَهر ما يخالف ذاك القول الجميل، والغَيرة، والمنطق الذي أُعجب به الناس.
- الثاني: إذا أدبر عن الناس وأصبح لا يُرى سعى في الأرض من أجل أن يفسد بالمعاصي، فخالف فعلُهُ قوله.
الفائدة السابعة: قال الله عز وجل: (سعى) ولم يقل: (ذهب) لأن السعي يدل على الإسراع في طلب الفساد.
الفائدة الثامنة: سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ ليفسد فيها) أنها نزلت في الأخنس الثقفي لما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأظهر الإسلام، ثم لما خرج من عنده وكان يخفي في قلبه ما لا يظهره، أحرق بعض الزُّروع؛ لهذا قال الله: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) والمراد بالحرث: الزرع، والمراد بالنسل: ما نتج من البهائم.
الفائدة التاسعة: ذكر الله تعالى صفة أخيرة للمنافق، فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) يعني: إذا نُصح وقيل له: سِر على منهج الله، منعته الأنفة والكبر عن الرجوع إلى الحق.
الفائدة العاشرة: قال تعالى مبينًا صفة من صفات المؤمن بعد أن ذكر صفات المنافق: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) بمعنى: يبيع نفسه لله عز وجل ابتغاء مرضات الله.
الفائدة الحادية عشرة: سبب نزول قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) أنها نزلت في صهيب الرومي لمَّا أراد أن يهاجر إلى مكة ولم يكن عنده مال، ثم تاجَر وأصبح عنده مالٌ كثير، فأراد أن يهاجِر، فتبِعه أهل مكة، وكان أيضًا راميًا، فنزل من على دابته ومعه النَّبل، وقال: تعلمون أني رامي ومعي النبل، ثم قال: ألا أدلكم على خير من هذا؟ تأخذون مالي وتدعوني؟ قالوا: نعم.
فتنازل عن المال كله لأجل أن يدعوه ويتركوه يهـاجر، فهاجر، ولما لقيه عمر على أبواب المدينة قـال: ربح البيع، ربح البيع، ربح البيع، ثم قـابل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ربح البيع يا صهيب.
الفائدة الثانية عشرة: قال تعالى في خِتام الآية (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) فالذي باع نفسه لله عز وجل، الله رؤوف به وبأمثاله، وسيجزيه الجزاء الكثير.
من الآية [208 – 210]
ثم قال الله عز وجل بعد أن بيّن صنفين من الناس، الصنف الأردى، والصنف الأحسن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) فأمر الذين آمنوا أن يأخذوا الإسلام كله بكل شرائِعه، ولا يأخذوا بعضًا ويتركوا بعضًا -كما فعل بني إسرائِيل-؛ لأن الذي يترك السِّلم ينحرف، والذي يدخل فيه يفوز.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: نزل قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) في أهل الإسلام، وقيل: في بعض مَن آمن مِن أهل الكتاب؛ كعبد الله بن سلام؛ فعبد الله بن سلام لما آمن بقي في نفسه بقية من تعظيمه ليوم السبت، وكراهيته لِلحم الإبل في إحلاله، فقال الله: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) يعني ادخلوا في كل شرائع الإسلام.
الفائدة الثانية: قيل في معنى (السلم) قولًا ثانيًا -وهو قول ضعيف- وهو: المُوادعة والمسالمة وعدم الحرب؛ لكن ابن جرير الطبري ردَّ هذا القول لأنَّ الإسلام لم يَأمر به ابتداءً، فقد قال تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ).
الفائدة الثالثة: السلم بالكسر معناها الإسلام، وبالفتح معناها الموادعة.
الفائدة الرابعة: قال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) لأن الشيطان يأتي للناس من باب الكُفُر، فإن أسلموا أو آمنوا جاءهم من باب الشِّرك، فإن كانوا من أهل التوحيد، خطا لهم خطوة الكبائر، فإن كانوا من أهل قوة الإيمان والصلاح خطا لهم خطوة من باب الصَّغائر، فإن كانت عندهم صَّلابة تمنعهم من الوقوع في الصغائر، جاءهم من باب الإشغال بالفاضل عن المفضول، والإشغال بالسُّنة عن الواجب.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى في ختام الآيـة مؤكدًا ومبينًا عداوة الشيطان: (إِنَّهُ لَكُمْ) وليس لغيركم (عَدُوٌّ مبين) أي أن العداوة بيِّنة.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) والزلل المقصود هنا ليس الخطأ العادي أو اليسير، والدليل: أن الله ما قال في خاتمة الآية: (فإن الله غفور رحيم) ولا (توَّاب حكيم) بل قال: (فاعلموا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حكيم) لأن الخطأ هنا هو الزلل الفاحش الذي جاء بعد البيِّنات.
الفائدة السابعة: في قول الله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) إثباتٌ لصِفة الإتيان والمجي لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله.
من الآية [211 – 212]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: بنو إسرائيل مع تلكُئهم في الأمر كانوا يطلُبون الآيات، ومع ذلك ما كان منهم إلا الإعراض، لهذا قال الله للنبي أن يسألهم سؤال توبيخ: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ) فالأصل في الإسلام هو استسلام والطاعة لله عز وجل، وليست القضية قضية رؤية آيات ومعجزات، فقد رأى بني إسرائيل من الآيات الكثير ولم يؤمنوا.
الفائدة الثانية: قال الله عز وجل: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب) والنعمة هنا هي: بيان الحق والهدى، والتحذير من الارتداد والانحراف.
الفائدة الثالثة: ذكر الله سبحانه وتعالى أن من أسباب انحراف الكافرين: تزيين الحياة الدنيا، فقال: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وبين الله سبحانه أنه بعد هذا التزيين والكفر انتقلوا إلى السخرية، فسخروا بالذين آمنوا، قال تعالى: (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا) وحسبوا أنَّ الذين آمنوا دونهم؛ لهذا عبر الله سبحانه وتعالى بالفوقية، فقال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
الفائدة الرابعة: الحياة الدنيا بعمومها تُزيَّن للمؤمن والكافر؛ لكن المؤمن لا يستغرق في زينتها، ولا ينخدع بها، ويعلم أنَّ هذا ابتلاء، وأمّا الكافر فإنّه ينساق وراء هذه الزينة؛ لهذا نجح أهل الإيمان، وانحرف أهل الكفر.
من الآية [213 – 214]
ثم قال الله سبحانه في بيان أحوال النَّاس: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) واختُلِف في الناس: فقيل: هم آدم وحواء، وقيل: هم ذرية آدم وحواء، كانوا على التوحيد ولم يحصل منهم انحراف، ثم لما حصل الانحراف والاختلاف بعث الله النبيِّين، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).
ويمكن أن نأخذ من قول الله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أنه ينبغي أنَّ تكون الدعوة تجمع بين التبشير والإنذار، ويبدأ فيها بالتبشير، ثم الإنذار.
ثم قال الله سبحانه وتعالى في قصة تبوك لما جاءت بعض المحن والفتن لأصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلّم-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) والمراد هنا ليس استبعاد، وإنما استبطاء، فكأنهم يقولون: يا رب نصرك القريب، يا رب فرجك.
الآية [215]
بعد هذه المقدمة التي أمر الله فيها بالدخول في السِّلم كافَّة، وحذّر من اتباع خطوات الشيطان وغيرها، جاءت التفريعات والتشريعات لأجل أن ننضبط.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: جاءت الصيغة بالمضارع في قول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ): لتدل على التَّجدُد والاستمرار.
الفائدة الثانية: السؤال في قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) كان عن نوع المنفَق، والجواب كان عن المصرِف، فقال: (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) فجاء الجواب عن الأهم، وقد يكون هذا الجواب عن المنفق؛ لكن مع زيادة.
الفائدة الثالثة: قدم الله اليتيم على المسكين: لأنَّ اليتيم جَمَعَ بين انفراده وضعفه، أما المسكين فهو ضعيف فقط.
الفائدة الرابعة: سُمِّيَ ابن السبيل بهذا الاسم: لأنّ السبيل هو الطَّريق، فكأنه أصبح ابنُ الطريق؛ لأنه انقطع به الطريق.
الفائدة الخامسة: قال الله عز وجل: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإن الله به عليم) ولم يقل: (وما تنفقوا من خير): ليُدخِل كُلَّ فعل، سواء كان في المال، أو في غير المال، وهذا من فضل الله عز وجل، فليس كل الناس لديهم مال ينفقونه.
الفائدة السادسة: الصدقات ليست فقط بالمال، بل ذكر الله عز وجل، والتَّبسم، وإماطة الأذى كلها صدقات.
من الآية [216 – 218]
بعد أن انتهت من مسألة النفقة ذكر الله مسألة الجهاد، وبين النفقة والجهاد ارتباط؛ فجُلُّ آيات الجِهاد بدأت بالجهاد بالمال قبل النفس؛ لأنَّ المال عصب الحياة وعصب الجهاد.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله عز وجل: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) ولم يقل: (فُرِض): لأن (كُتب) أبلغ من معنى (فُرض).
الفائدة الثانية: قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال) ولم يقل: (كتب القتال عليكم) فقَدِّم الجار والمجرور كأنَّه لم يُكتبه إلا عليهم، مع أنّه قد كتب على غيرهم: للزيادة في الحث على الأمر.
الفائدة الثالثة: قال تعالى: (وَهُوَ كُرْهٌ) وهذا يدل على أن القتال صعب وشديد، والمراد بالكره: هو ما يُصيب الإنسان من ثُقُل وخوف، وليس المراد الكُره الجبلي الفطري.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لأن العبد المؤمن إذا علم أن المكروه يأتي بالمحبوب، يحدث انشراح في صدره للمكروه، وإذا علم أنَّ المحبوب قد يأتي بالمكروه، لن يطمئن ولن يتَّكل على هذا المحبوب.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فينبغي على الإنسان أن يسأل الله الخيرية دائمًا ويتبرأ من حـوله ومن قوتـه، ويتجه لحول الله وقوته واختياره، وإذا فوض العبد أموره لله نتج عن ذلك قوة، وراحة.
الفائدة السادسة: قال سبحانه وتعالى بعد أن شرع القتال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) والمقصود شهر رجب، ويدل على ذلك سبب النزول.
الفائدة السابعة: السَّائلين الذين سألوا عن الشهر الحرام هم الكُفَّار؛ لأن سبب نزولها هو: أن سريٍّا من سرايا المسلمين في آخر جماد الآخرة، حسبوا أنه آخر يوم من جماد الآخرة، وكان أول يوم من رجب، لقُوا سَرِّية من الكُفَّار، وكان فيهم ابن الحضرمي فقتلوه، فالكفار هاجُوا وماجُوا وقالوا: كيف تقاتلون في الأشهر الحرم؟
الفائدة الثامنة: الأشهر الحُرُم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب (الشهر الأصم).
الفائدة التاسعة: أجاب الله عز وجل على سؤال الكفار، فقال: (قل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ثم قال: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ أكبر عند الله) (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي: الشرك الذي هم فيه أعظم من القتل.
الفائدة العاشرة: قال سبحانه وتعالى حاثًا المسلمين على الاستمرار في قتال الكفار: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ) حتى لو سالمتموهم وأعطيتموهم مالًا أو أراضي أو غيرها (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) وهذه الغاية صعبة عليهم؛ لهذا قال مستبعدًا: (إن استطاعوا) لأن الصحابة إيمانهم قوي.
الفائدة الحادية عشرة: حكم القتال في الأشهُر الحُرُم منسوخ؛ لأن الأشهر الحُرم كانت حرم لأجل أن يأمن الناس، والآن قد أَمِنَ النّاس.
الفائدة الثانية عشرة: قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) ولم يقل: (ومن يرتد) للدلالة على أن الارتداد حصل باختياره.
الفائدة الثالثة عشرة: قال تعالى: (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فهل يحبط عمل المرتد في الدنيا؟ وقع خلاف قوي بين أهل العلم:
- فبعضهم قال: لا يحبط إلا إذا مات على الكفر ولم يتب.
- وبعضهم قال: أن مجرد الشرك يحبط العمل.
لكن ظاهر الآية يدل أنه لو عاد للإسلام يبقى له ما أسلف من أعمال.
الفائدة الرابعة عشرة: علاقة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) في سبب نُزولها، وسبب نزولها هو: أن بعض الصحابة قالوا: إن كان ليس علينا ذنب، فهل لنا أجر؟ يعني: السرية التي اعتدينا عليها، اعتدينا عليها في الشهر الحرام ولم نكن نعلم، فإن كان ليس علينا وزر، فهل لنا أجر؟ فقال الله عز وجل هذه الآية معظمًا مقام الهجرة والجهاد.
الفائدة الخامسة عشرة: قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ) فدل على أنَّه لا ينفع الإيمان والرجاء بدون عمل، فالذي يرجو حقيقةً لابد أن يعمل.
الفائدة السادسة عشرة: الصحابة مع ما قدموا من أعمال كبيرة، لكنهم يرجون رحمة ولم يتكلوا على أعمالهم.
من الآية [219]
ذكر الله تعالى سؤالًا ثالثًا سأله الصحابة للرسول، فقال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثمهما أكبر من نفعهما) أي: ما حكم الخمر؟
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: هذه الآية من أوائل ما نزل في تحريم الخمر.
الفائدة الثانية: الخمر مشتق من المخامرة، ومعناه: التغطية، أو التخمير، أو الإغلاق.
الفائدة الثالثة: الميسر مشتق إما من اليُسر، أو من اليسار، وإما من التيسير.
الفائدة الرابعة: الشيء إذا كان فيه منفعة ومضرة؛ فالأصل فيه الدرء، لذلك استنبط أهل العلم من هذه الآية قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
الفائدة الخامسة: معنى العفو في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الفاضل، أي: الشيء الزائد.
من الآية [220 -221]
ثم استمرت الأسئلة تتتالى.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: أنزل الله سبحانه وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) بعد آية سورة الأنعام: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لما شق ذلك على الصحابة، حيث عزلوا طعامهم عن طعامهم وشرابهم عن شرابهم، فجاؤوا يسألون كيف نصنع باليتامى؟ هل نخلط أموال اليتامى بأموالنا؟ فأنزل الله الآية هذه.
الفائدة الثانية: أجاب الله عز وجل عن سؤال الصحابة، فقال: (قل إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ولم يقل: (قل إصلاح لأموالهم خير) ليشمل المال والذات وكل ما يكون فيه إصلاح، ثم قال: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم) يعني: إذا كان مقصدكم الإصلاح فلا بأس بالمخالطة
الفائدة الثالثة: لما ذكر الله الرخصة شدد وهدد، فقال: (والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ الْمُصْلِحِ) بالألف واللام للاستغراق.
الفائدة الرابعة: قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي: أثقل عليكم، لكنه رخص لكم بالمخالطة؛ فلا تكن هذه الرخصة سبب في العبث بأموال اليتامى، ثم أكد الله، فقال: (إن الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فانتبهوا.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى في حكم المشركات: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) يعني لا يجوز الزواج بالمشركات، أما الكتابيات فيجوز الزواج بهن على قول الجمهور، ثم قال الله: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ولو أعجبتكم) أي: العبدة التي تباع وتشترى خير من المشركة الحرة العادية.
الفائدة السادسة: في قوله تعالى: (خَيْرٌ) دليل على أن دين الإسلام دين عدل، لا دين مساواة
الفائدة السابعة: قال تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) يعني لا يجوز أن يَتزوج الكتابي مسلمة؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
الفائدة الثامنة: المراد بالنكاح في الآية السابقة: هو مجرد العقد، والدليل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ) فسماه نكاح دون أن يكون مسيس.
الفائدة التاسعة: ذكر الله تعالى لماذا هؤلاء لا يصلحون للزواج؟ فقال: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ).
من الآية [222 – 223]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: بعض الأسئلة التي وردت في السورة كانت بحكم أن أهل الإيمان الذين كانوا في المدينة، اختلطوا باليهود وعرفوا بعض الأحكام الشرعية عندهم، ومنها السؤال الذي في هذه الآية: حيث كان اليهود إذا حاضت المرأة اعتزلوها ولم يقتربوا منها، وأي رجل يمسها وهي حائض يصبح نجسًا ولا تقبل له صلاة، فكان أهل الإسلام ينظرون، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما شأن الحائض؟ فجاء قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) ليوضح حكمها.
الفائدة الثانية: نكّر الله الأذى في قوله: (قل هو أذى): ليدل على أنه أذىً يسير، ثم أمر فقال: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) والمراد بالمحيض: وقت الحيض في مكان الحيض، ثم قال: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ليبين أن الاعتزال ليس -مثل اليهود- بإبعادها، إنما الاعتزال بعدم القربان فقط.
الفائدة الثالثة: قال تعالى: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني بشرط الطهارة والإطهار، أي: فإذا انقطع الدم وتطهرن بالغسل يحلّ لكم قربانهن (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) يعني جامعوهن من المكان الذي مُنعتم منه.
الفائدة الرابعة: قال تعالى في ختام الآية: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) يعني: يُحب من يتوب من الذنوب ويتخلص منها، ويحب من يتطهر بالماء، فجاءت هذه الآية تبين التوبة من الذنوب عمومًا، والتطهر من الأنجاس الحسية خصوصًا.
الفائدة الخامسة: لما جاءت أحكام الحيض ناسب مجيء أحكام النساء، فقال الله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) والحرث: محل الزرع.
الفائدة السادسة: سبب نزول قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أنه كان اليهود يقولون: (إذا جاء الرجل زوجته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول) ولذلك كان أهل المدينة لا يأتون النساء بسبب اليهود إلا على حرف واحد، وأهل مكة ما كانوا مختلطين في اليهود فكانوا يشرحون النساء شرح مقبلات ومدبرات؛ لكن بصمام واحد، فلما جاء رجل من المهاجرين لإحدى المدنيات شق عليها ذلك، وقالت: كيف تصنع هذا الصنيع؟ فنزل الآية.
الفائدة السابعة: يجوز الإيتاء بأي طريقة؛ لكن في مكان واحد -وهو القُبل-، والدليل قوله: (فأتوا حرثكم أَنَّى شئتم).
الفائدة الثامنة: قال تعالى: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) والتقديم يكون بالتسمية، أو بالنية الصالحة في إعفاف النفس وإعفاف من تحت اليد بهذه المعاشرة، أو بنية الولد الصالح.
من الآية [224 – 225]
جاء الحديث هنا عن أحكام اليمين.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) والمراد بالعرضة الشيء الذي يعترض به؛ كالحاجز، فهذا اليمين الذي حلفتموه معترض بينكم وبين فعل الخير من البر والإصلاح والتقوى، فلا تجعلوه حاجزًا ومانعًا لكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا.
فمن حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرًا منها؛ فليكفر عن يمينه وليأتي بالذي هو خير، مثل أن تقول: أنا حلفت ألا أصلح بين فلان وفلان، وألا أتدخل في الموضوع الفلاني بين أسرتي وعائلتي وهكذا، فلا تجعل هذا اليمين حاجزًا ومانعًا للحق والبر والإصلاح.
الفائدة ثانية: يدخل في الآية السابقة: منع كثرة الحلف، وتحريم الحلف كذبًا.
الفائدة الثالثة: سمي اليمين يمينًا؛ لأنه أخذ معاهدة؛ فالإنسان إذا أراد أن يعاهد أحدًا مد يده اليمين.
الفائدة الرابعة: قال تعالى في ختام الآية: (والله سَمِيعٌ) لأن اليمين فيه نطق (عَلِيمٌ) أي: بنياتكم في هذا اليمين، من الصادق ومن المخادع.
الفائدة الخامسة: قال الله سبحانه وتعالى بعد أن شدد في اليمين: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) ولغو اليمين هو:
- قيل: قول: إلا والله، ولا والله.
- وقيل: الحلف على شيء وأنت موقن أنه كان؛ ولكنه لم يكن.
- وقيل: الحلف في وقت الغضب.
والمراد بعدم المؤاخذة: أي: ليس فيه إثم ولا كفارة.
الفائدة السادسة: قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) يفسرها قوله في سورة المائدة: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) فالمراد عقد القلب عليها.
الفائدة السابعة: استُنبط من قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أن مدار الأقوال الملفوظة ما في القلب لا ما في النطق، فالأصل -إذن- أن الإنسان يحاسب على ما نطق به لسانه وانعقد عليه قلبه.
من الآية [226 – 227]
بعد أن جاءت آيتين في اليمين، جاءت هنا يمين خاصة، وهي يمين الإيلاء، قال سبحانه وتعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) وهذه اليمين لها علاقة بالطلاق، لهذا ستأتي أحكام الطلاق في المقطع التالي.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: المراد بالإيلاء شرعًا في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ): أن يحلف الرجل على ألا يطأ زوجته.
الفائدة الثانية: حكم الإيلاء: جائز؛ إذا كان المقصد الإصلاح وكان في مدة أربعة أشهر أو أقل؛ لكن إذا كان المقصد الإضرار بها؛ فلا يجوز.
الفائدة الثالثة: قال سبحانه وتعالى: (من نسائهم) ولم يقل: (عن نسائهم): لأن (من) تدل على التباعد.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): يعني إن وطؤوا زوجاتهم خلال مدة الإيلاء فإن الله غفور رحيم شرع كفارة اليمين.
الفائدة الخامسة: وقع خلاف بين الفقهاء: هل الرجل المولي إذا تجاوز أربعة أشهر ودخل في اليوم الأول من الشهر الخامس تطلق زوجته منه؟
- قال بعض العلماء: نعم تُطلّق زوجته منه؛ لأن المهلة أربعة شهور.
- وقال بعض العلماء لا، لا تُطلق زوجته منه، بل يخير بين أمرين (إما أن يفيء، وإما أن يطلق).
والقول الثاني هو الراجح؛ لأنه الأحب إلى الله، والدليل قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ) ولذلك يعد هذا أقوى الأدلة التي تدل على كراهية الطلاق عمومًا رغم إباحته، أما حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) فهو حديث ضعيف.
الفائدة السادسة: قال تعالى في خاتمة الآية السابقة: (فإن الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ولم يقل: (عليم حكيم) لأنه لما آلا منها -وهو غضبان عليها في الغالب- أراد أن يؤدبها لمصلحة، إما لمصلحة الولد أو لمصلحته هو؛ فهي تؤدب بهذا الأمر، فقال الله: فإن غفرت لها وفئت؛ فالله يغفر لك، وإن عزمت الطلاق فالطلاق فيه نطق؛ لهذا قال الله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
الفائدة السابعة: استُنبط من هذه الآية أنه لا يجوز للرجل أن يترك الجماع أكثر من أربعة أشهر.
من الآية [228 – 230]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله سبحانه وتعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) يعني: أن كل المطلقات يجب أن يتربصن ثلاث قروء؛ لكن هناك استثناءات في بعض المطلقات؛ كالمطلقة الحامل، والآيسة، وغير المدخول بها.
الفائدة الثانية: في قوله تعالى: (يتربصن بِأَنْفُسِهِنَّ) دليل على أن نفس المطلقة تواقة للرجال؛ لهذا قال الله: احجزن هذه النفس حتى تنتهي هذه العدة.
الفائدة الثالثة: وقع خلاف قوي في قول الله تعالى: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) هل القرء بمعنى طهر؟ أو بمعنى الحيض؟ والخلاف فيه تكافئ وتقارب في الأدلة؛ لكن الراجح أنه بمعنى الحيض؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دعي الصلاة أيام أقرائك).
الفائدة الرابعة: قال الله سبحانه وتعالى واعظًا: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) لأن المرأة ربما تدعي أنها حاضت ولم تحض؛ لتعجّل المدة، وربما تدعي أنها لم تحض وهي قد حاضت؛ لتطوّل مدة نفقة الزوج عليها.
الفائدة الخامسة: استُنبط من قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) أن المرأة مستأمنة ومصدق خبرها، وأن جزاءها عظيم وعقابها عظيم.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في الثلاثة قروء، ولم يقل: (وأزواجهن أحق بردهن في ذلك) لأن لفظ البعل أقوى في بقاء الزوجية من لفظ الزوج.
الفائدة السابعة: أضاف الله البعولة للزوجات، فقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ) لأنه قد يخطر في بال المطلقة أن عقد الزوجية ضعُف ولها الحرية ترجع ولا ما ترجع، فبيّن أن الأمر بيد الرجل.
الفائدة الثامنة: قال الله سبحانه بعد أن أعطى الرجل حق الإرجاع ورفعه: (وَلَهُنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف) فبدأ بحقهن؛ ليرفع المرأة كما رفع الرجل، ثم رجع رفع الرجل مرة ثانية، فقال: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ثم رجع رفع المرأة مرة ثانية، فقال: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حكيم) يعني كأن الله يقول للرجل: أعطاك سلاح؛ فلا تستخدمه إلا فيما أبيح لك.
الفائدة التاسعة: قال الله سبحانه وتعالى في الطلاق الرجعي: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) يعني تطليقتان، لأن في الجاهلية كانوا يطلقون المرة والمرتين والثلاث والعشر ثم يرجعون، فنزلت الآية لإزالة الفوضى.
الفائدة العاشرة: ذكر الله تعالى أنه بعد الطلاق الرجعي له خياران: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوف) أي بالمتعارف بين الناس (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) لأن الطلاق كسر وظلم وجرح لها، فيجبر هذا الجرح بالإحسان إليها.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ) ولم يقل: (فإبقاء) ليدل على أنها جوهرة غالية؛ فعليك أن تتمسك بها.
الفائدة الثانية عشرة: قال تعالى للزوج في حكم المهر: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) من للتبعيض، و(شَيْئًا) المنكرة تدل على أنه حتى لو كان قليلًا لا يجوز أخذ شيء منه.
الفائدة الثالثة عشرة: قال تعالى في شأن المرأة الكارهة لزوجها: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) يعني لو شعر القاضي أنها لن تقيم حدود الله فيه بسبب كرهها له فيجوز لها الافتداء بمال مقابل أن يطلقها.
الفائدة الرابعة عشرة: قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) ولم يقل: (فلا تقربوها) لأنها في الخصومات والنزاعات.
الفائدة الخامسة عشرة: قال تعالى في الطلاق البائن: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) والنكاح المقصود به نكاح الرغبة ثم قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) أي: فلا بأس أن يتزوجها (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أي: إن غلب على ظنهما أنهما سيقيمان حدود الله فيما بينهما.
الفائدة السادسة عشرة: ختم الله الآية بقوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فخص الذين يعلمون؛ لأنه في الغالب لن يلتزم بهذه الحدود إلا أهل العلم.
من الآية [231 – 232]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: ذكر الله مرة أخرى مؤكدًا على طريقة تعامل الرجل مع المرأة في حال الإمساك أو في حال التسريح، فقال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
الفائدة الثانية: لا يجوز أن يمسك الرجل زوجته ويرجعها إلى عصمته إذا قاربت انتهاء العدة بقصد الإضرار بها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا)
الفائدة الثالثة: لما كان مقصد الإرجاع من الأمور الخفية التي مرجعها النيات، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وهو يتوقع أنه ظلمها، لكن في الحقيقة فهو ظالم لنفسه.
الفائدة الرابعة: ذكر الله عز وجل حكم الاحتيال على الأحكام الشرعية والاستهزاء بها، فقال: (وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) ومن الاستهزاء أن يقول الإنسان: طلقت هازلًا، وراجعت هازلًا، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ).
الفائدة الخامسة: المراد من قول الله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) أي: اذكروا نعمة الله عليكم -والنعمة هي تنظيم الأمور ووضع القوانين المحكمة بعد أن كنتم فوضى في الجاهلية- وخص الكتاب والسنة مع أنهما من النعمة: لزيادة وإبراز فضلهما.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: اتقوا الله؛ لأنه عليم بنية المراجعة، وبجميع النوايا؛ فلا تعبثوا.
الفائدة السابعة: معنى البلوغ في الآية الأولى مختلف عن الثانية، فالآية الأولى في قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بمعنى: وإذا طلقتم النساء فقاربن انتهاء العدة، أما الآية الثانية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بمعنى: وإذا طلقتم النساء وانتهت عدتهن.
الفائدة الثامنة: قال الله لأولياء المرأة: إذا انتهت عدة المرأة وأصبحت أجنبية عن زوجها (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)
الفائدة التاسعة: سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ): قصة معقل بن يسار، كانت له أختًا، فزوجها ابن عمه، ثم بقي ما شاء الله أن يبقى معها ثم طلقها وانتهت عدتها ولم يراجعها، ثم بقي ما شاء الله أيضًا، فهويها وهويته، ثم جاء يخطبها مرة أخرى، فقال معقل: يا لَوكع زوجتكها ثم طلقتها، والله لا زوجتك بعدها، فنزلت الآية.
الفائدة العاشرة: قيل في معنى الآية السابقة قولًا ثانيًا، وهو: لا يجوز للأزواج أن يمنعوا زوجاتهم من الزواج إذا طلقوهم.
الفائدة الحادية عشرة: عبر الله تعالى بقوله: (أَزْوَاجَهُنَّ) وهن لسن أزواجهن: سماهن باعتبار حالتهن السابقة.
الفائدة الثانية عشرة: جاء قوله تعالى للأولياء: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) ليهدم شعور الغضاضة والإهانة اللذان يشعران بهما الأولياء بسبب المراجعة.
الفائدة الثالثة عشرة: قال الله تعالى: (ذَلِكُمْ أَزْكَى) ولم يقل: (أحسن) ليبين أن رجوعهما بالتراضي فيه رفعة، لا إهانة وخفض.
الفائدة الرابعة عشرة: قال تعالى: (وَأَطْهَرُ) لأن الرجل والمرأة يتعلقون بأول لقاء، والذي يمنع هو ولي المرأة، فالمرأة في هذا المقام قد تنحرف.
الفائدة الخامسة عشرة: قال الله تعالى في الخاتمة: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وأنتم لا تعلمون) يعني: الله يعلم ما في قلبه وقلبها من الحب والشوق، وأنتم يا أيها الأولياء لا تعلمون.
من الآية [233]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: مجيء آية الرضاع بعد وقبل آيات الطلاق: يدل على أن الله أرحم بهذا الرضيع والولد من الأب والأم، لأنه قد يضيع هذا الولد بين صلف الأب وحمق الأم، فمن رحمة أرحم الراحمين أن جاءت الآيات لتقرر في مسألة الرضاع.
الفائدة الثانية: قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ) ولم يقل: (والمطلقات) من باب الاستعطاف.
الفائدة الثالثة: قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ) فجاء به على أنه خبر: لأنه أقوى في الدلالة على الأمر.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (أَوْلَادَهُنَّ) فنسبهم لها: لزيادة للاستعطاف، فلا تتعنت أيها الرجل، فهذه والدة تعبت في الولادة.
الفائدة الخامسة: حدد الله تعالى مدة الرضاعة ومدة الإنفاق، فقال: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رزقهن وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ): يعني: على والد الطفل النفقة على المولود وعلى الوالدة بحسب ما تعارف عليه الناس.
الفائدة السادسة: عبر الله عن الطفل بالمولود له، فقال: (وعلى المولود له زرقهن) لأنه قد يقول قائل: أنا لن أدفع المصاريف، فقال الله: المولود لك باسمك، فعليك أن تنفق عليه.
الفائدة السابعة: قال الله في مسألة المشاحة والمنازعة بين المطلق وطليقته: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) لا يجوز للوالد أن يضر الوالدة بولدها، وفي قراءة: (لا تضارر) فلا يجوز أيضًا للوالدة أن تضر الوالد بولده.
الفائدة الثامنة: بين الله أن الأحكام السابقة تنطبق على الوارث للصبي، فقال: (وَعَلَى الْوَارِثِ مثل ذلك) إذا عدم الأب، ولم يكن للطفل مال.
الفائدة التاسعة: قال الله تعالى في حكم الفطام: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا) أي: إن أراد أحدهما أن يفطم الطفل، فلابد أن يكون عن تراض وتشاور؛ لهذا قال: (عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما).
الفائدة العاشرة: الرضاع من خلال الآية هل هو واجب أو مندوب؟
- بعض الفقهاء قالوا: إذا ما وجد غير الأم: يجب عليها الرضاع.
- وبعض الفقهاء قالوا: يجب الرضاع على جميع الأمهات ما عدا الشريفة لا تلزم بذلك، أي: من هي من عِلية القوم التي تخاف أن الرضاع يؤثر على جسمها.
الفائدة الحادية عشرة: قال الله تعالى في حكم طلب مرضعة غير الأم: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).
الفائدة الثانية عشرة: قال الله تعالى في خاتمة الآية: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لأنه قد يحتال أحد الطرفين على أحكام الله؛ فذكّرهم بالتقوى وبعلم الله وبصره، فلا تعبثوا.
من الآية [234 – 237]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال سبحانه وتعالى في عدة المتوفى عنها زوجها: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) فيجب عليها خلال هذه المدة: ترك الزينة، والبقاء في بيت زوجها، وعدم الزواج، ولا الخطبة.
الفائدة الثانية: الحكمة من أن العدة مدتها أربعة أشهر وعشرًا: للاطمئنان على براءة الرحم؛ لكن لو قال قائل: الآن ممكن نحلل ونطمئن من عدم الحمل! نقول له: هذه أمور تعبدية.
الفائدة الثالثة: المطلقة يجوز لها أن تخرج وتدخل، لكن المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها ذلك: لأن المطلق حي، فلو افترت المرأة وقالت: أنا حامل منه، هو يعرف نفسه، يستطيع أن يتكلم ويبين، أما المتوفى عنها زوجها لو افترت عليه وقالت: أنا حامل منه، لن يستطيع أن يدافع عن نفسه؛ لذلك يحجر عليها حتى يتأكد من براءة رحمها.
الفائدة الرابعة: قال سبحانه وتعالى في حكم خطبة المتوفى عنها زوجها في فترة العدة: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ في أنفسكم) فأباح التعريض والتلميح، ونهى عن التصريح أو ما يقوم مقام التصريح.
الفائدة الخامسة: قال تعالى موجهًا الخطاب للخاطبين: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) في أذهانكم من الشوق لهن (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) بالزنا، أو بالزواج (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) وهو التعريض، ثم أكد ذلك بقوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) ثم قال مهددًا ومتوعدًا: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) يعني انتبه لا تلف وتدور (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لما قد فلت منك (حَلِيمٌ) إذ لم يعاجلك بالعقوبة.
الفائدة السادسة: قال الله تعالى في حكم تطليق المعقود عليها غير المدخول بها التي لم يسم لها المهر: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) يعني لا إثم في تطليقها، ولا عدة عليها؛ لكن يجب عليك أيها الرجل أن تمتعها، قال تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ) لأن متعة الغني تختلف عن متعة المتوسط وعن متعة الفقير، وهذه المتعة جبرًا لخاطر المطلقة المكسور، ولقد قال تعالى: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فهو حق ثابت.
الفائدة السابعة: قال تعالى في حكم تطليق المعقود عليها التي لم يجامعها؛ لكن وعدها بمهر وسماه لها وحدده: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) يعني: يجب عليكم إعطاءها نصف المهر (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي: المرأة أو وليها (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) أو يسمح هو ويعطيها كل المهر، ثم قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
من الآية [238 – 239]
الفائدة الأولى: جاءت آيات أحكام الصلاة هذه بين آيات الطلاق: لأن الإنسان قد يكون مشغولًا بمشاغل الطلاق والمرأة، فجاءت الآيات لتذكيره بالصلاة، وأيضًا لأن أمور الطلاق تجلب الحزن والهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فجاء ذكر الصلاة هنا مناسبًا.
الفائدة الثانية: المراد بالمحافظة في قوله سبحانه وتعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) هو المحافظة على الوقت على الأرجح.
الفائدة الثالثة: الصلاة الوسطى الراجح أنها العصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر).
الفائدة الرابعة: لشدة أهمية الصلاة قال تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فرجالًا أو ركبانًا) يعني: حتى وأنتم خائفين لا تُعفَون عن أداء الصلاة من الوقت.
من الآية [240 – 242]
اختلف في قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً) هل هي محكمة أو منسوخة:
- فذهب بعض أهل العلم إلى أنها منسوخة بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا).
- وذهب بعض أهل العلم إلى أنها محكمة بنصها، يعني هو أوصى زوجته بأن تتمتع وتبقى في البيت سنة كاملة لا تخرج بعد وفاته، لكن لو أرادت أن تخرج بعد مضي أربعة أشهر وعشرًا يجوز لها ذلك.
ثم قال تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي: لكل المطلقات، وهو من باب الندب.
من الآية [243 – 245]
عادت الآيات مرّة أخرى تتحدَّث وتُذَّكِر وتُحذِّر مَمَّا وقع فيه بنو إسرائيل، فقال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حذر الموت) ومعنى ألوف: أي فوق العشرة آلاف، وقيل: المُؤتَلِفِين على أمر معين.
وسبب خروجهم من ديارهم على قولين:
- قيل: خرجوا من ديارهم بسبب انتشار مرض الطاعون فيها.
- وقيل: خرجوا من ديارهم بسبب القتال، وهذا القول الموافق للسياق.
ثم قال الله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) وهذا تحذيرٌ لأَهل الإيمان أن يَسلُكُوا سُلُوك بني إسرائيل في الجهاد.
ثم قال الله سبحانه وتعالى مرغبًا في النَّفقة: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ولذلك كانت أفضل مصارف المال: الجهاد في سبيل الله، والاستفهام في الآية للاستعطاف.
ثم قال: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعني أن الأمر من قبل ومن بعد بيد الله سبحانه وتعالى وإليه تُرجعون.
الآية [246]
ثمّ جاءت قِصَّة الأشراف، والسَّادة من بني إسرائيل، وسُّمُوا بالملأً.
فقالوا لنبي لهم: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهُم اعتادوا على أن يُقاتِلُوا مع المُلُوك.
فقال لهم هذا النبي -وهو يَعرف حال بني إسرائيل من التَّردُد والعِصيان-: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)!
قالوا منكرين ظنه: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؟ فنحن نقُاتل لله ولأجل هذه الدِّيار التِّي أُخرِجنا منها.
ثم قال الله تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
من الآية [247 – 248]
ثم قال لهم نبيهم: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) وقيل: سُمِّيَ طالُوت لطُولِهِ.
لكنهم تعجبوا من هذا المَلِك الذِّي بُعِث وهو ليس من سُلالة المُلُوك، وليس لديه مال؛ فقالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)؟!
فقال لهم نبيهم: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).
ثم رد الله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
ثم قال لهم نبيهم: ومع هذا هناك علامة واضحة حتّى تَطمئنّوا إلى صدق هذا الرَّسُول: (إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
من الآية [249 – 252]
ولمَّا جاءَ لهُم بكُلّ هذه الآيات، وهُو يَشعُر أنَّهُم أَهلُ عِناد، وأَهلُ خصام وتردُّد أراد طالوت أن يَختبر الجنود، فقال: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) فإن تضَّلَعُوا من هذا الماء وارتووا عرف أنّ هؤلاء لن يَصبروا على ما سَيأتي من القِتال، فجعل هذا علامة على نكُوصِهِم (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ).
فلما جاوز طالوت النهر هو والمؤمنون معه، قال بعض الجنود: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ).
وعندئذ قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) و(كم) تدُل على الكثرة.
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا على القوم الكافرين).
فالبَقيِّة الصَّالحة التِّي صَبَرت، نجَحت في ذلك الاختبار حيث أخبر الله وقال: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) وهم قِلّة (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) وداود عليه السّلام هذا هو نبيّ كان يُقاتل مع طالُوت (وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).
ثم قال الله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) يعني لولا التَّدافع بين الحَقّ والبَاطل، وكَون الحقّ يَدفَع بهذا القتال (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ثمّ ختم فقال: (تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).
 
تابع
الدرس الثالث: تفسير سورة البقرة (الجزء الثالث)
من الآية [253 - 234]
بعد أن ذَكَرَ الله عز وجل جُملة مِن القَصَص قال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) أي: موسى عليه السلام (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) وهو محمد صلى الله عليه وسلم (وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو عيسى عليه السلام.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: منهجية التفضيل بين الأنبياء هي: أن يكون التفضيل بينهم في المَزِّيات التِّي مُيَّزَ بها كُلُّ نبيّ، وليسَ في الرِّسالة، ولا يجوز التفضيل بالتعيين: فلا نقول مثلًا: محمّد -صلى الله عليه وسلّم- أفضل من موسى -عليه السَّلام- وأفضل من عيسى -عليه السلام- ولكن يجوز أن نقول: محمد أفضل الأنبياء، وسيّد ولد آدم.
الفائدة الثانية: البيِّنات الواردة في قوله: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) ليست سَببًا في الاقتتال، إنَّما السَّبب هو فساد النيات في الأخذ بهذه البيِّنات، والدليل ما جاء في سورة آل عمران: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: تفرَّقُوا واختلفوا لأنَّهم تعلَّمُوا العلم لأجل البَغِي والطُّغيُان، ولذلك كان أهل الحَقّ أهل اتّفاق، وأهل البَغي أهل فُرقَةٍ وشِقاق.
الفائدة الثالثة: جاء ذكر النَّفقة من قبل، ثُمَّ جَاء قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا) ليأمر بالإِنفاق، والبَذل.
الفائدة الرابعة: قول الله تعالى: (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) يدل على أن الرَازق هو الله، وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) يعني: ليُنفِق العبد من ماله قبل أن يأتِيَ يوم القيامة -وهو يوم لا بيع فيه ولا خُلَّة ولا شفاعة- لينفَعه ذلك المال.
آية [255]
ثمّ جاءت أعظَم آية في القرآن وهي آية الكُرسي.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: هل معنى أن آية الكرسي أفضل آية في القرآن أنَّه في كتاب الله فاضِل ومفضُول وهو كُله كلام الله؟
الجواب: كلام الله كُلُّه فاضل، ولكن التفاضل يكون في المُخبَر عنه، فلا تستوي -مثلًا- سورة الإخلاص مع آية (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) لأنها أخبرت عن أبي لهب، وسورة الإخلاص أخبرت عن صفات الله.
الفائدة الثانية: فضل آية الكرسي كبير، ومن فضائلها ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة) قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالًا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود) فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالًا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذه ثالث مة تزعم ألا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي؟) قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي؛ فلن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟) قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
الفائدة الثالثة: في قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) دليل على الاستعانة بالله عزّ وجل، وفي قوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) دليل على أنه حَيّ كاملُ الحياة، وكامل القيُّومية.
الفائدة الرابعة: قال الله تعالى: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) والسِّنة: هي النُّعاس، ثم قال: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) واللام لام المُلكية، فله المُلكية سبحانه وتعالى، ثم قال: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) والشَّفاعة ليست إلا بإذنه سبحانه، ثم قال: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) والمُـراد بالكُرسيّ هنا: موضع القدمين لرَبِّ العزّة جلّ جلاله، فَوَسِع كُرسيه السماوات والأرض، ثم قال: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) يعني ولا يُكرِثُهُ، ولا يُعجزهُ سبحانه وتعالى أن يحفظك.
فالآية -إذن- كلُّها في تعظيم لله عزَّ وجل.
آية [256]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قول الله عزَّ وجل: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) يبيّن أن الدين الحق واضح بيّن لا يحتاج إلى إكراه.
الفائدة الثانية: سبب نُزولها: أنَّ بعض أَبناء الأنصار قد تهَّوَدُوا، بل قَد سَعى بهم آباءُهُم فهَّوَدُوهُم، ثمّ لمَّا جاء الإسلام بَقُوا هؤلاء على دين اليَّهودية، فأراد المسلمون أن يُكرهُوهم على الإسلام، فنزلت هذه الآية.
الفائدة الثالثة: حكم من كَفَر ولم يؤمن: إمَّا أَن يُعطِي الجزية، وإمَّا أن يُقَاتَل.
الفائدة الرابعة: في قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) رد على من يزعُم على أنَّ في دين الله إكراه.
الفائدة الخامسة: قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) والطّاغوت: من الطُّغيان، وهو كُل ما تجاوز الحدَّ من مَتبوعٍ، أو معبودٍ، أو مُطَاع، وكُل من عُبِدَ وهو راضٍ فهُو طاغوت، ومن الطّواغيت: السَّاحر.
آية [257]
قال الله عز وجل لمن كفر بالطاغوت واستمسك بالعروة الوثقى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا) وهَذه الولاية بسبب كفرهم بالطَّاغوت، واستمساكهم بالعُروةِ الوُثقى.
ثم قال سبحانه وتعالى عنهم: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي: يُخرِجُهُم من ظُلُمَات الشَّك والحَيرة وغيرها -والظلمات كثيرة- إلى النُّور -والنور واحد- ثم قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) أي: يَخرُجون من نور الفطرة إلى ظُلمات الشّك والحيرة و(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). آية [258]
ثمّ جَاءت آيات المُحاجَّة، والمُحاجة تختلف عن المجادلة؛ لأن المحاجة في الغالب تدعو إلى الغَلَبة فقط بغير حق، ولا تُريد للآخر أن ينتفع.
قال الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) آتى الله رجلًا المُلك، فطغى وتجبر، فقال له إبراهيم -بعد أن سأله هذا الطَّاغية: من ربُّك؟-: (ربِّيَ الذِّي يُحيي ويُميت).
فجاء هذا الطاغية برجل قد حُكِم عليه بالموت؛ فعَفا عنه، وجاء بالآخر وقتله، فقال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).
فَتَرك إبراهيم هذه الحُجّة، وجاء له بِحجّةٍ أخرى فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ).
(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) والبَهت يدُلّ على المُفاجأة، ويدل على أنّه لم يستطع أن يُحاجَّ الحُجَّة الحقيقية.
ثمّ أخبر الله عزّ وجل بأنّه لا يهدي القوم الظّالمين، فقال: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
آية [259]
ثم ذكر الله قصة الذي مر على القرية المهدمة الموحشة وهو منكر لله، فقال: كيف (يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)؟ (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) بعد أن جَعلَ له من طَعامه وشرابه ومن حماره دليلًا على طول مكثه، فـ (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ) ميتًا؟ (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فـ (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
آية [260]
سأل إبراهيم -عليه السّلام- ربه أيضًا عن كيفية الإحياء؛ لكنه لم يكُن شاكًّا، بل كان يُريد أن يرى الكيفية، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) (قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) يعني: خذ أربعة من الطير فاجمعهُنَّ إليك وقطعهُنَّ واخلطهن وفرقهُنَّ على أماكن مُرتفعة، اجعل في كُل جبل منهُنّ جزءًا (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا) حتى ترى -أنت وغيرك- كيف أن الله قادر على جمع أجزاء هذا الطِّير وإعادة الحياة له مرة أخرى (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
من الآية [261 - 264]
جاءت آياتُ النّفقة سابقًا مُفرَّقة، في قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) ثمّ جاءت آيات النفقة هنا مُفصَّلة.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: ضرب الله عز وجل مثلًا فيه ترغيب في النّفقة، فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) والمَثل عندما يُضرَب يُراد به استحضار الصُّورة.
الفائدة الثانية: المراد من قوله: (في سبيل الله) قيل: الجهاد؛ ولكن بعض المعاصرين مالُوا إلى أنه: الجهاد وكُلُّ ما أعان على سبيل الله؛ لأنّ (في سبيل الله) أمر واسع.
الفائدة الثالثة: أثنى الله تعالى على الذِّين يُنفقون أموالهم في سبيل الله، فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى) ولم يقل: (ولَا يُتْبِعُونَ): لأن (ثُمَّ) تدُل على أنّهم لا في العاجل ولا في الآجل لا يُتبعون هذا المُنفق منًّا ولا أذى.
الفائدة الرابعة: معنى المن والأذى:
- قيل: المنّ: ما كان بالقلب، والأذى: ما كان باللسان.
- وقيل: المن: هو أنك تمن على الفقير أمامه، والأذى: هو أن تؤذيه في ظهره.
الفائدة الخامسة: قال الله -عز وجل-: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) بدون فاء: للاختصاص؛ لأنه لما وصفهم بأنهم لا يتبعون النفقة لا بمِنّة قبلية ولا بمنّة بعدية ولا بأذى قَبلي ولا بأذى بعدي، بيّن أنهم مستحقون لهذا الأجر.
الفائدة السادسة: ذكر الله تعالى آداب الإنفاق، فقال: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) والمعروف: الكلام السَّمح، والمغفرة: العفو عمن أساء، يعني: إذا تعارض العَطَاء المادي، والعَطاء الأخلاقي: فالعطاء الأخلاقي والكلام السمح أفضل.
الفائدة السابعة: بعض الأعمال الحسنة تُبطل ببعض الأعمال السيئة، والدليل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ).
الفائدة الثامنة: ضرب الله مثلاً فيه تنفير للذِّين يُنفقون أموالهم ثم يتبعونها بالمن والأذى؛ فلا تنفعهم هذه النَّفقة، فقال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ) والصفوان هو الحجر الأملس (فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) يعني: فأصاب الحجر مطر غزير فأزاح التراب عن الحجر.
من الآية [265 - 266]
بعد أن مثل الله المثل العام، عاد يُمثِّل للمؤمنين المُنفقين، فقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني الذين يُخلِصُون لله عز وجل في النفقة ونفُوسُهُم طَيِّبة مطمئنة مُصدِّقة بموعود الله (كمَثَل كجنَّة بربوة) كجنَّة هواءَها نَقيّ والشَّمس تأتيها من جميع الجهات ومرتفعة وباردة (أَصَابَهَا وَابِلٌ) يعني مطر كثير (فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) يعني فإن لم ينزل عليها مطر كثير فسينزل مطر خفيف (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
ثم ضرب الله مثلًا مُخيفًا له صلة بالنفقة، فقال: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ... إلخ) وهو مثل ضربه الله عزَّ وجل لِرجل عمل بالصَّالحات لكن خُتم له بالخاتمة السيئة.
وخص الله النخيل والأعناب من بين الثمار، فقال: (تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ من نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) لأنّهما هُما أبرز الثِّمار التّي كانت موجودة في الجزيرة.
من الآية [267 - 269]
بعد أن بيّن الله الأمثلة وبيّن أنُواع المنفَقين، قال مُتحِدِّثًا عن المُنفَق منه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فكأنَّ الآية تحدثَّت عن الزَّرع وعن التِّجارة، دون المَاشية: والسبب في ذلك أن الغالب أن الأنصار كانوا زُرَّاع، وأهل مكة المهاجرين كانوا تجار، أما أهل الماشية فكانوا قليلين.
ثم قال الله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) والتيَّمم معناه القَصد، يعني ولا تقصدوا إلى الرديء منه فتنفقوه؛ لأنكم أنتم لن تأخذوه لو أعطي لكم (وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يعني: لو أنّك مكان هذا الفقير لن تأخذه إلا إذا كنت مضّطرًا فقد تأخذه لكن على إغماض فيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد).
ثم قال الله عز وجل: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) والفَحشاء هنا: البُخل (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) فذاك وعدُ الشَّيطان، وهذا وعدُ الرَّحمن؛ ولذلك إذا جَاءَك الشَّيطان يُخوِّفك تذَّكَر وعد الله مُقابلُ هذا الوعد.
ثم قال الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) والحكمة لغة وضع الأشياء في مواضعها، ولكن العبرة بعموم السياق لا بخصوص السِّياق، فنقول: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ سواءً في تأمُّل هذه الأمثال والنَّظر فيها، أَو في وضع المَال في موضعه.
من الآية [270 - 271]
فائدة: هناك صدقات تحتاج إلى العَلَن؛ لهذا قال الله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) لكنه قال بعدها: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فهو خير لكم) فخص الفقراء؛ لأنّه لمَّا كان المقام مقامًا يُخشَى عليه من إذلال هذا الفقير، فالأَوْلى أن يكون الإعطاء له في السِرّ.
من الآية [272 - 274]
قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) يعني: في أمر النفقة، وفي جميع الأمور (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
ثم بيّن أنَّ هَذا المُنفَق من مالك إنَّما هو خير لك أنت، والمِنّة لله عز وجل (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ثم قال: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) يعني: يُضاعفه لكم (وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
ثم لما ذكر الله المنفق منه، بين أصناف المنفَق عليهم، فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ) يعني: منعهم الجهاد في سبيل الله من السفر طلبًا للرزق؛ فمدح الله هذا نوع من الفقراء؛ وقال: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) هذه علامتُهم: لا يتردَدون ولا يكثرون السؤال، ويتعفَّفُون في لباسهم، ولا يبالغون في هيئتهم.
ثم قال في مسألة النفقة: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) يعني: أيّ خير قليله وكثيره.
ثم ذكر في ختامه لهذه الآيات أوقات النفقة، فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) واللَّيل يُوافق السِّر، والنَّهار يُوافق العَلانية، فبينهما تقابل، والمعنى: أنهم ينفقون في كل الأوقات، وعلى هيئات مختلفة (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
من الآية [275 - 276]
آيات الربا هذه أتت بعد آيات الصَّدقات وقبل آية الدَّين، والعلاقة بينهم هي: أن الله سبحانه ذكر المُحسن وهو المُتصدِق، ثم عقّبه بالظالم وهو المُرابي، ثم ذكر العادل وهو الذي يأخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادةٍ ولا نقصان.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تبارك وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) والربا ينقسم إلى قسمين: ربا نسيئة؛ وهو التأخير، وربا فضل؛ وهو الزيادة.
وربا النسيئة هو ربا الجاهلية؛ لذلك حُرّم بالإجماع، أما ربا الفضل فقد حصل خلافٌ يسيرٌ فيه، والصّحيح أنّ الربا كله مُحرّم.
الفائدة الثانية: خص الله تعالى الأكل في الربا، مع أنه محرم بجميع أنواعه: لأن الأكل أعمّ وجوه الانتفاع.
الفائدة الثالثة: معنى القيام في قول الله عز وجل: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) على قولين:
- هو يوم القيامة، وعلى هذا أكثر المفسّرين، أيّ: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه.
- هو في الدنيا؛ لأنه لم يذكر للقيامة ذكر، وهذا لشّدة شغفهم بالرِّبا، فكأنَّما يتصرفون تصّرف المُتخبّط الذّي لا يَشعر لأنَّهم سُكارى بحُبِّهم للرِّبا.
والأقرب والأولى أنَّ الصحيح هو القول الأول؛ للآثار الواردة عن ابن عباس، ولا مانع أن نقول هناك إشارة لتخبّط أكلة الربا في الدنيا.
الفائدة الرابعة: أخبر الله تعالى أنهم قالوا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) والمفترض أن يقولوا: إنّما الربا مثل البيع؛ لكنهم عكسوها؛ لأنّهم في الأصل لا يريدون القياس، وإنّما يريدون مجرّد الاعتراض.
الفائدة الخامسة: الواو في قوله تبارك وتعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) يُحتمل أنّ تكون عاطفة، يعني: هذا من تمام كلامهم، ويُحتمل أن تكون استئنافية من كلام الله تبارك وتعالى.
الفائدة السادسة: من عدل الله تعالى أنه قال: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) أيّ من بلَغَه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشَّرع إليه فله ما أكل من الربا قبل التحريم، ثم قال الله متوعدًا: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أيّ من عاد إلى الربا بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحُجّة.
الفائدة السابعة: العلماء وضعوا قاعدة عامة في الربا، وهي: الجهل بالمُماثلة كحقيقة المُفاضلة.
الفائدة الثامنة: آخر ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آيات الربا هذه إلى آية الدين، ومعنى ذلك أنّ الربا كان موجودًا في عهد النبي؛ ومُهِّدَ لتحريمه قبل هذه الآية:
فالمرحلة الأولى: قول الله في آية الروم: (وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) وهي إشارة إلى التفريق بين الزكاة والربا، فالزكاة هي النَّماء الحقيقي وهي المضاعفة الحقيقية بخلاف الربا لا ينمو.
المرحلة الثانية: الإشارة إلى اليهود في سورة النساء: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) فإذا حُرِّم على اليهود، ألا يُمكن أن يُحرَّم على خير أمّة أُخرجت للناس؟ بل هو من باب أولى.
المرحلة الثالثة: قال تعالى في سورة آل عمران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) يعني: لا تأكلوا أكثر من الضِعف، فسقطت جملة كبيرة من الربا وضيّقت مادة الربا.
المرحلة الرابعة والأخيرة: هذه الآيات الحاسمة؛ حرم الله فيها الرِّبا قليله وكثيره.
الفائدة التاسعة: في قوله تعالى: (يتخبطه الشيطان من المس) إثبات للمَسّ؛ لأن الله تعالى لا يضرب أمثالًا بما لا يعلمه النّاس.
الفائدة العاشرة: معنى المحق في قول الله تبارك وتعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) قولان:
- بمعنى زواله بالكلية من يد صاحبه.
- بمعنى زوال بركته، فلا ينتفع به صاحبه.
الفائدة الحادية عشرة: قرئت: (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (ويُربّي) أيّ يُكثّر، ويُنمِّي، ويُضاعِف، ويزيد.
الفائدة الثانية عشرة: الربا ظاهره الزيادة وهو في الحقيقة محق، والصَّدقة ظاهرها النقص وهي في الحقيقة زيادة.
الفائدة الثالثة عشرة: الله عز وجل لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) والكفّار مبالغةٌ من الكفر وهو الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم المتمادي في ارتكاب الإثم المُصرّ عليه.
من الآية [277 - 281]
قال الله عز وجل مادحًا المؤمنين المطيعين لأمره، المُؤدِّين شكره بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومُخبرًا عمّا أعدّ لهم من الكرامة، وأنّهم يوم القيامة آمنون من التبِعات: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
ثم قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) أي خافوا الله عز وجل وراقبوه فيما تفعلون (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار، ثم ختم الله الآية بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا يدل على أنه لن يترك أحدٌ الربا إلا لإيمانه وخوفه من عقاب الله؛ لأنّه لو كان هناك شيء غير الإيمان لدعا الله عز وجل به عباده.
ثم قال الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) المراد برأس المال:
- قيل: أي ما كان قبل الربا، وهذا قول الجمهور.
- وقيل: أي ما كان قبل التوبة، وهذا قول ابن تيمية.
الراجح والله أعلم: القول الثاني؛ لأن من تدبّر أُصُول الشرع عَلِمَ أنَّ الله يَتلطّف بالناس في التوبة بكل طريق.
ثم قال الله عز وجل: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) والعُسرة هي ضيق الحال من جهة عدم المال، أما النظرة هي التأخير، ثم قال: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
إذن هذه الآية اشتملت على أمرين:
- إنظار المُعسِر، وهو الواجب.
- الوضع عن المعسر، وهو سنّة.
ثم قال الله عزّ وجل واعظًا عباده مُذكرًا بزوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيره وإتيان الآخرة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
من الآية [282 - 283]
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: الدَّين: هو كل ما ثبت في الذمّة من ثمن بيعٍ أو أجرةٍ أو صداق أو غير ذلك.
الفائدة الثانية: نادى الله تبارك وتعالى النَّاس بالإيمان -كما ناداهم في الربا- فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) يعني إذا تداينتم بشيء مستقبلًا فاكتبوه؛ ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها، وللتوثيق.
الفائدة الثالثة: الأمر بالكتابة في الآية: قيل: هو أمر إرشاد، وقيل: هو أمر إيجاب، والصَّحيح أنّه أمرَ إرشاد لا أمر إيجاب، إلاّ إذا لم يوجد غير هذا الكاتب فهنا تتعيّن عليه الكتابة، ويجوز له -في نفس الوقت- أخذ الأجرة على ذلك لأنَّ الكتابة صَنعَة.
الفائدة الرابعة: قال تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أيّ بالقِسط والحق (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) هذا إرشاد، لأنَّ الكِتابة في وقت نزول الوحي كانت قليلة، وكان الكُتَّاب قِلَّة، فذكّرهم الله أنه هو الذّي علّمهم الكتابة، وأن من زكاة هذا العلم أن تُؤدِّيه.
ثُمَّ قَال الله عزّ وجل: (فَلْيَكْتُبْ) فأعاد الأمر بالكتابة: قيل: للتأكيد، وقيل: لتأسيس لمعنى جديد وهو الراجح، فالكتابة الأولى: أمر بالكتابة مطلقًا، أما الكتابة الثانية: دَعوة للمبادرة إلى الكِتابة.
ثم قال الله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وليتَّق الله في ذلك) أي: ليُملِل المدين على الكاتب ما في ذِمَّته من الدَّين.
ولَمَّا جَعَل الله عزّ وجل للمدين الإِملال، قال بعدها: (وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أي لا يَنقُص في كمِيَّته، ولا في كيفيته، ولا في نوعه، ولا في وقته، ثم قال: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا) يعني مَحجورًا عليه ونحوه (أَوْ ضَعِيفًا) والضَّعف يشمل ضَعفَ الجِسم، وضَعف العَقل (أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) والضمير في وليه: قيل: لوليَّ صاحب الحقّ ، وقيل: لولي الذّي عليه الحقّ، وهو الصحيح، ثمّ قال الله عزّ وجل: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) فأمرٌ بالإِشهَاد مَع الكِتابة (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) وإنّما أقيمت المرأتان مقام الرَّجل لنقصان عقلها.
ثمّ قال الله عزّ وجل: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) فلم يشترط شروطًا للشاهد بل جعَلها للعُرف، وهذا من رحمة الله بالعِباد؛ فلو اشترط علينا شروطًا لصَعُبَ علينا هذا الأمر، ثم قال تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) يعني: أن تنسى إحدى المرأتين فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى: أي تُخبرها وتقول لها لقد شَهِدنا.
الفائدة الخامسة: المراد في قوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ) معنيان:
- الأوّل: دعوة الشهادة، يعني: إذا دُعُوا للتَّحمُّل فعليهم الإجابة.
- الثَّاني: دعوة الأداء -وهو مَذهب الجُمهور- يعني: إذا شهدت وانتهيت، ثم احتاج صاحبُ الدَّين أن تُدلِي بشَهَادَتِك لابد تَأبى.
والآية تحتمل هذا وتحتمل هذا، وليس بينهما تعارُض.
الفائدة السادسة: قال تعالى متممًا إرشاده: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) يعني: لا تَمُلُّوا (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) أيّ أعدل عند الله، وأثبَت للشَّاهد؛ لأنه إذا وَضَع خَطّه ثمّ رآه، تذَكَّرَ به الشّهادة.
الفائدة السابعة: استثنى الله نوعًا من أنواع البيع، فقال: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) إذن إذا كان البيع حاضرًا يدًا بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور، ثمّ قال مرة أخرى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وقد قال سابقًا: (واستشهدوا شهيدين) والفرق بينهما أن الشّهادة الأولى كانت: للدِّين المؤجّل، أما الشَّهادة الثَّانية -هذه-: للبيع الحاضر، وهو أمر إرشاد للاحتياط فقط.
الفائدة الثامنة: المراد من قوله تعالى: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) معنيان:
- الأوّل: ولا يَضُرّ الكَاتب والشَّهيد صَاحب الحَقّ (فاعل الضرر: الكاتب والشّاهد).
- الثَّاني: ولا يَضُرّ صاحب الحقّ الكاتب والشَّاهد (فاعل الضرر: صاحب الحق).
وكِلا المعنيان صحيحان؛ لأنَّ (يُضَارَّ) يَصِح أن تكون بالفتح مِن (يُضارَر) الكاتب والشَّهيد، أو بالكسر من (يُضَارِر) الكَاتب والشَّهِيد.
الفائدة التاسعة: قال تعالى متوعدًا: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أيّ إِن خَالفتُم ما أُمرتُم بِهِ، وفَعلتُم ما نُهيتم عنه فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أيّ خَافوه ورَاقِبُوه، واتّبَعُوا أمره، واتركُوا زجره.
الفائدة العاشرة: قال الله تعالى بعد أن أمر بالتقوى: (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ): لأن تَقوى الله عزّ وجل من أَعظم أسباب العلم.
الفائدة الحادية عشرة: الله عالِمٌ بحقائق الأمور، ومصالحها، وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل عِلمُه محيطٌ بجميع الكائنات؛ لهذا قال في خاتمة آية الدين: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
الفائدة الثانية عشرة: الرَّهن في غالب الأحوال يكون في السفر؛ لأنه لا تتوفَّر فيه أدوات الكتابة؛ لهذا قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) إلاّ أنَّ الرهن في الحضر جائز أيضًا؛ فقد مات النَّبي -صلى الله عليه وسلّم- ودرعه مرهُونة عند يَهُوديّ؛ فصحّ على أنّ الرّهن يجوز في الحَضَر والسَّفر.
الفائدة الثالثة عشرة: المراد من قول الله عزّ وجل: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي: فَليَكُن بَدل الكِتابة رهانٌ مقبوضة في يد صاحب الحقّ.
الفائدة الرابعة عشرة: قال تعالى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) فهل يلزم الرهن بالقبض؟ الصَّحيح أنّه لا يلزم، بل يلزم بمجرَّد كِتابة هذا الرّهن.
الفائدة الخامسة عشرة: لم يُبيِّن الله عز وجل كيفية القبض في قوله: (فرهان مقبوضة) لذلك يرجع في ذلك إلى العُرف.
الفائدة السادسة عشرة: لا يلزم الرَّهن إذا حصلت الأمانة، وإنّما الرَّهن لِزيادة توثقة؛ لهذا قال الله عز وجل: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) ثم قال: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) يعني: ليتق المؤتَمن ربه؛ كما جَاء في الحديث عن سمُرَة عن النَّبي -صلى الله عليه وسلّم-: (على اليَدِ ما أخذت حتّى تُؤَّدِيَه).
الفائدة الثانية عشرة: لا يجوز إخفاء الشهادة -وهي من أكبر الكبائر-؛ لهذا قال الله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) ثم قال: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ) أيّ فاجرٌ قلبُه.
من الآية [284 - 286]
ثم أخبر الله سبحانه وتعالى أن له: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وأنه المطَّلِع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السَّرائر (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) وأنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم؛ لهذا قال: (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ).
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: قال الله تبارك وتعالى في خاتمة الآية الأولى من هذا المقطع: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فخُتمها بالقدرة ولم يختمها بالمغفرة والرحمة، أو بالعقوبة التي أُشير إليها في هذه الآية:
- لأن المحاسبة إنّما تكون بعد الموت والبعث، والبعث يدلّ على القدرة.
- ولأنه لو أنّ الآية خُتمت بالرحمة وفيها التعذيب لم يكن هناك تناسب، ولو خُتمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك تناسب؛ لكن القدرة تناسب كِلا الأمرين، فالمغفرة والتعذيب لا يكون إلا عن قدرة.
الفائدة الثانية: لما نزل قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ثم أتوه، وجثوا على ركبهم، وقالوا: يا رسول الله! كُلِّفْنَا من الأعمال ما نُطِيق؛ كالصلاة، والصيام، والجهاد، والصّدقة؛ وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قَبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فقالوا كما أمرهم النّبي -صلى الله عليه وسلّم - فلما أقَرَّ بها القَوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) فَامتنّ الله عزّ وجل على هذه الأُمّة أنّهم أطاعوه ولم يَقُولوا: سمعنا وعصينا؛ كاليهود، بالإضافة إلى أنه خفّفَ عليهم.
الفائدة الثالثة: بالجمع بين الثلاث آيات من هذا المقطع نقول: لا يَلزم من المُحاسبة المعاقبة.
الفائدة الرابعة: ورد في آخر آيتين من سورة البقرة جملة من الفضائل، منها:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ بالآيتين من آخر سُورة البقرة في ليلةٍ كفتاه) ولم يذكر النبيّ المَكفِيّ؛ فدلّ على العموم.
- أُعطي النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفِرَ لأمته المُقحمات.
الفائدة الخامسة: قال الله تعالى إخبارًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ثم عطف عليه قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ) ثم أخبر عن الجميع بقوله: (كُلٌّ) أيّ الرسول وأتباعه (آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فالمُؤمنون يؤمنون بأنّ الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا ربَّ سواه، ويصدّقون بجميع الأنبياء والرسل، والكتب المُنزّلة من السَّماء على عباد الله المرسلين، لا يُفرّقون بين أحدٍ منهم، فلا يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم، بل يؤمنون بالكل.
الفائدة السادسة: قال الله عز وجل: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رسله) ولم يقل: (منهم) فأظهر في موضع الإضمار: لفائدة الانتباه، أيّ أنَّ التفريق بينهم يُنافي مقتضى الإيمان بهم.
الفائدة السابعة: قال الله تعالى مخبرًا عن قول كل من آمن به: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أيّ سمعنا قولك يا ربّنا وفهمناه وقُمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي: نسألك المغفرة والرحمة، ونؤمن أن مرجعنا إليك.
الفائدة الثامنة: المراد بالوسع في قول الله عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) يعني: الطاقة، أي لا يكلّف الله أحدًا فوق طاقته، وهذا من لُطف الله تعالى بخلقه، ورأفته بهم وإحسانه إليهم.
الفائدة التاسعة: قال الله عز وجل: (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من خير (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) من شر، ثم أرشد عباده إلى قول: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) أي إن تركنا فرضًا على جهة النسيان (أَوْ أَخْطَأْنَا) ففعلنا حرامًا جهلاً مِنّا بوجهه الشرعي.
الفائدة العاشرة: الفرق بين النسيان والخطأ:
- أنّ النسيان ذهول القلب عمّا أُمر به؛ فيتركه نسيانًا.
- والخطأ أن يقصد شيئًا يجوز له قصده؛ ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله.
الفائدة الحادية عشرة: يكمل الله إرشاده لعباده قائلًا لهم قولوا: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) والإصر هو الشيء الثقيل الشاقّ، أيّ لا تكلّفنا من الأعمال الشاقّة (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) من التَّكليف والمصائب والبلاء (وَاعْفُ عَنَّا) أي فيما بيننا وبينك ممّا تعلمه من تقصيرنا وزللنا (وَاغْفِرْ لَنَا) فيما بيننا وبين عبادك فلا تُظهر مساوئنا وأعمالنا القبيحة (وَارْحَمْنَا) أي فيما يُستقبَل، فلا توقعنا في ذنب آخر (أَنْتَ مَوْلَانَا) أي وليّنا وناصرنا وعليك نتوكل وأنت المستعان ولا حول ولا قوة لنا إلا بك (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين) أيّ الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك وعبدوا غيرك.
الفائدة الثانية عشرة: المذنب يحتاج إلى ثلاثة أشياء:
- أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه.
- أن يستره عن عباده فلا يفضحه بينهم.
- أن يَعصِمَه فلا يُوقعه في ذنب آخر.
ومن رحمة الله بهذه الأمة أنه قال في الحديث القدسي: قد فعلت.
الفائدة الثالثة عشرة: العفو والمغفرة: يحصل بهما دفع المَكاره والشُّرور، والرحمة: يحصُل بها صَلاح الأمور، فإذا دعا الإنسان بهذا الشَّيء فإنه قد دعا بجوامع الكلم.
 
الدرس الرابع: تفسير سورة آل عمران (الجزء الأول)
مدخل:
هذه السورة مدنية.
وقد وردت عدة روايات تُشير في مجملها إلى أنّ صدر هذه السورة نزلت في مُحاجَّة النصارى للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- في أمر عيسى، وهناك تناسب بين هذه السورة وبين سورة البقرة؛ فسورة البقرة ذكرت محاجّة اليهود، أما آل عمران ذكرت محاجة النصارى.
من الآية [1 - 7]
افتتح الله عز وجل هذه السورة بالحروف المقطّعة، فقال: (الم) وهذه الحروف المقطّعة ليس لها معنى، لكن لها مغزى وهو التحدّي، فتحدّى الله قريش الذين اشتهروا بالفصاحة والبلاغة بأن يأتوا بسورة مثله.
ثم قال الله عز وجل: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وقد تقدم تفسير هذه الآية في آية الكرسي، ونُشير إليها هنا إجمالًا:
معنى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) إخبار بأنّه المُتفرد بالألوهية لجميع الخلق (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الحيُّ في نفسه الذي لا يموت أبدًا، المُقيم لغيره سبحانه وتعالى.
ثم قال الله تبارك وتعالى: (نَزَّلَ) ولم يقل: (خلق) وهذا ردٌّ على المعتزلة، وردّ على كل من يقول أنَّ القرآن مخلوق.
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أي نزّل عليك القرآن يا مُحمد بالحق أي لا شكّ فيه ولا ريب (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) والذي بين يديه الكتب السماوية المنزّلة قبله من السَّماء على عباد الله الأنبياء، فهي تُصدّقه بما أخبرت به، وهو يُصدِّقها (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ) على موسى ابن عمران (وَالْإِنْجِيلَ) على عيسى؛ وهذه توطئة للرَدّ على النصارى؛ كما سيأتي.
ثم قال تعالى: (مِنْ قَبْلُ) أيّ: من قبل هذا القرآن أنزل التوراة وأنزل الإنجيل (هُدًى لِلنَّاسِ) أي في زمانهما (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) والفرقان هو: القرآن، وقيل: هو مصدر مُطلق يشمل القرآن وكُل ما كان فُرقانًا بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغيّ والرشاد، فيدخل فيه القرآن والتوراة والإنجيل، وهذا هو القول الراجح؛ لأنّ القرآن قد ذُكر قبل فلا يُعاد ويُكررّ.
والمراد بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ) أي جحدوا بها وأنكروها وردّوها بالباطل (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) أي يوم القيامة (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) أي منيع الجَناب عظيم السلطان (ذُو انْتِقَامٍ) ممّن كذّب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبيائه العِظام.
ثم قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) لا تخفى عليه خافية، يعلم دبيب النَّملة السوداء على صَفاةٍ سوداء في ظُلمة الليل.
ثم قال الله سبحانه: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى، وحسنٍ وقبيح، وشقيٍّ وسعيد (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو المستحق للألوهية وحده لا شريك له؛ فهذه الآية فيها تمهيد وتصريح بأنّ عيسى عِبدٌ مخلوقٌ مصورٌ في الأرحام؛ كسائر البشر.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) أي: القرآن (مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أيّ: أصل آيات القرآن الإحكام (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
ثم قسَّم الله الناس اتجّاه المحكم والمتشابه إلى قسمين:
- (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي: مرض وضلال وخروج عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) أي: يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يُحرِّفوه إلى مقاصدهم الفَاسدة.
- وأمّا الفريق الآخر (يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) أي يقولون: المتشابه والمحكم كلاهما من عند ربنا، فنؤمن بالمتشابه ونحمله على المحكم، ولا نحمل المحكم على المتشابه.
ومناسبة ذكر الحكم والمتشابه هنا: أنّ النصارى احتجّوا بقول الله تعالى: (رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) بأنّ عيسى هو الله، وتركوا الاحتجاج بالمحكم كقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) وغيرها من الآيات.
وفي قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلف العلماء في الوقف، وانبى عليه اختلاف في التفسير:
- قيل: الوقف على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) أي: وما يعلم حقيقة الأشياء، وما تؤول إليه إلا الله؛ فالواو هنا استئنافية.
- وقيل: الوقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي: وما يعلم تفسيره إلا الله والراسخون في العلم؛ فالواو هنا عاطفة.
وكلا المعنيين صحيحان؛ لأن التأويل عند السلف يُطلَق ويُراد به: التفسير، أو ما يؤول إليه الأمر.
(يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ) أي: بالمتشابه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) أي: المحكم والمتشابه، وكل واحد منهم يُصدِّق الآخر ويشهد له؛ لأنَّ الجميع من عند الله (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) أي أولوا العقول السليمة والفهوم المستقيمة.
من الآية [8 - 9]
ثم قال الله عز وجل مرشدًا عباده في مثل هذه المواضع أن يقولوا: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) أي: لا تُمِلها عن الهدى بعد إذ هديتها، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ -الذين يتبّعون ما تشابه من القرآن- (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ) أيّ: من عندك (رَحْمَةً) تُثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
ثم قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ وفائدة هذا الالتفات: التنبيه.
من الآية [10 - 13]
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن الكفار أنّهم وقود النار أي حطبها الذي تُسجّر به وتوقد به: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا وأولئك هو وقود النار).
ثم قال سبحانه: (كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ والذين من قبلهم) أي: كصنيع / كحال / كشأن / كأمر / كعادة / كسنة / كفعل آل فرعون ومن قبلهم، وكُلَّها صحيحة وهي تفسير بالمقاربة، وآل هنا معناها: الأتباع؛ فإنّ الآل في القرآن: تطلق بمعنى الأتباع، وتطلق بمعنى الذريّة.
(كذبوا بآياتنا وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: شديد الأخذ أليم العذاب.
ثم قال الله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) يعني: قل يا محمد لليهود الكفار ستُغلبون في الدنيا (وَتُحْشَرُونَ) يوم القيامة (إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
وسبب نزول هذه الآية: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمّا أصاب من قريش في بدرٍ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يُصيبكم الله بما أصاب قريشًا -فاليهود كانوا جيران النبي صلى الله عليه وسلم على أطراف المدينة- فقالوا يا محمد: لا يغرنّك من نفسك أنَّك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنَّك والله لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن النّاس، وأنّك لم تلقَ مثلنا.
وبعد سنوات أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمصداق هذه الآية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ).
ثم قال الله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ) أي: عبرة (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا) في بدر (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ).
س: لماذا لم يقل الله: (فئة تُقاتل في سبيل الله وأخرى تُقاتل في سبيل الطاغوت) أو (فئة مؤمنة وأخرى كافرة)؟
الجواب: هذا من بلاغة القرآن، وذلك بأنّه يكتفي بذكر أحد الوصفين عن الآخر، ثم يفهم منه الوصف المقابل.
في قوله تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) اختلف العلماء في هذه الجملة من الآية:
- منهم من قال: إنّ الرائي هم المُسلمون، يرون قريش في بدر الضِّعف.
- ومنهم من قال: إنّ الرائي هم قريش، يرون المسلمين في بدر الضعف.
ويُشكل على القول الأول: أن عدد المسلمين في بدر ثلاثمائة رجل، والكفار يزيدون على التسعمائة قليلًا:
الجواب: لا إشكال في ذلك؛ لأن المقصود بـ (مِثْلَيْهِمْ) مثلهم مرتين، فإذا كان عددهم 300 فضعفها مرتان 900.
ثم قال تعالى: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ) وقد أيدّ نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم ختم بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) أي: لمن له بصيرة.
من الآية [14 - 17]
قال الله سبحانه وتعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) والمزيِّن هو:
- قيل: هو الله عز وجل، ومعنى تزيين الله سبحانه وتعالى: إيجاد وتهيئة هذه الشهوات للانتفاع بها وإنشاء الجبّلة على الميل إليها اختبارًا وابتلاءً.
- وقيل: هو الشيطان، ومعنى تزيين الشيطان: الوسوسة، وتحسين أخذ هذه الشهوات من غير وجهها.
وكلا القولين محتملان.
س: لماذا عدّ الله بعض المباحات شهوات؟ لأنّ حُبَّ الأشياء التي عددها الله في الآية منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم؛ فإذا أحبّ الإنسان هذه الأشياء حبّ شهوة مجرّدة عن النيّة الصادقة أثم، لكن إذا نوى نية صَّالحة فيها لا يأثم، بل يُؤجر.
وغالب شهوات الدنيا تدور في فلك هذه الشَّهوات السبع المذكورة في الآية: النساء، والبنين، وقناطير الذَّهب، وقناطير الفضّة، والخيل المُسوّمة، والأنعام، والحرث.
س: لماذا بدأ الله بذكر النساء؟ لأنّ الفتنة بهنّ أشدّ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء).
ومعنى (الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي: الخيل الرّاعية، وقيل: الخيل الجميلة، ولا مانع من كلا الأمرين.
وأصحاب الخيل -كما جاء في الحديث- على ثلاثة أقسام:
- من يربطُها لسبيل الله؛ يغزون بها متى احتاجوا إليها: فهؤلاء يُثابون.
- من يربطها للفخر والخيلاء: فهؤلاء عليهم إثم.
- من يُربُّونها للتَّعفف والاقتناء: فهؤلاء إذا ما نَسوا حق الله عز وجل فيجوز لهم ذلك.
ومعنى (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: هذه الأشياء متاع الحياة الدنيا وزهرتها الفانية، ثم قال: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) أي المرجع.
ثم قال تعالى بعدها: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) ومُناسبة ذلك: أنّه سبحانه لمّا ذكر الشهوات ذكر بعدها ما هو خيرٌ منها -وهو: ما عند الله، وما عند الله خيرٌ من هذه الشهوات التي تتنافسُون عليها-.
ومعنى (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) أي: قل يا مُحمد للناس: أَأُخبركم بخيرٍ مِمّا زُيّن للنَّاس في هذه الحياة الدنيا؟ (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) أي: ماكثين فيها أَبَد الآباد، لا يبغون عنها حولًا، ولهم فيها (وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الدَّنس والأذى والحيض والنُّفاس وكل ما يعتري نساء الدنيا، وعليهم (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ) فلا يَسخط عليهم أبدًا (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).
ثم قال الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر صفة أهله: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) فذكر صفات من يستحقّ هذا الثواب، وهم المؤمنون بالله وبكتابه، والصَّابِرِونَ في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرّمات، وَالصَّادِقِونَ فيما أخبروا به من إيمانهم، والمداومون على الطاعة، وَالْمُنْفِقِونَ من أموالهم في جميع ما أُمروا به من الطاعة وصلة الأرحام والقرابات، وَالْمُسْتَغْفِرِونَ بِالْأَسْحَارِ.
ومعنى المستغفرين في قوله: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ): قيل: المصلين، وقيل الذاكرين الله؛ والصحيح أنّه يشمل هذا وهذا، لأن الصلاة تشتمل على ذكر الاستغفار، ففي الجلسة بين السجدتين يقول: (ربّ اغفر لي).
من الآية [18 - 20]
قال الله عزّ وجل: (شَهِدَ اللَّهُ) بمعنى: حكم وقضى، وقيل بمعنى: بيّن، وقيل بمعنى: أعلَم وأخبر، وكلها حقّ؛ لأنّ الشهادة متضمنّة لهذه المعاني كلّها ولهذا جاء التعبير بها هنا.
معنى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت ملائكته وشهد كذلك أولوا العلم بذلك، وشهدوا أنه قائم بالقسط.
س: لماذا كررّ الله قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) مرتين في الآية؟ لأن الأولى وصفٌ وتوحيد، والثانية رسمٌ وتعليم، أيّ قولوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله بعد ما أيقنتم بها.
ثم قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) إخبارٌ منه سبحانه وتعالى بأنّه لا دين عنده مقبول سوى الإسلام، وهو اتَّباع الرسول فيما بعثه الله به في كلّ حين (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أيّ: إن سبب اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الحقّ: تحاسدهم، وتباغضهم، وتدابرهم.
ثم قال الله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ) أيّ: ومن جحد ما أنزل الله في كتابه (فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أيّ: سيُجازيه مهما طالت الدنيا.
ثم قال تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي: اليهود والنصارى والمشركون عمومًا إن جادلوك في التوحيد (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ومن اتبعن) (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ)؟ استفهام معناه الأمر، أيّ: أسلموا (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) أيّ: الله سبحانه وتعالى هو الذي سيُحاسبهم وإليه مرجعهم (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أيّ: يعلم من يستحقّ الهداية، ومن يستحقّ الضلالة.
وبعض العلماء يقولون هذه الآية نسختها آية السيف، والصحيح: أنّه ليس هناك نسخ وأنّ القضية هنا ليست قضيّة حرب، وإنّما قضية محاجّة، وهي بيان الَمحجّة، وبيان الحقّ.
من الآية [21 - 22]
قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي: النبي وأتباعه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) والبشارة الأصل فيها أنّها للخير؛ لكن السِّياق يُفيد أنّها تهُكّمية.
ثم قال الله عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أي: سيُعذّبهم الله وسيجازيهم.
من الآية [23 - 25]
يقول الله سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) أي: ألم تعلم أن الَّذِينَ أُعطوا حظًا من العلم (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ) أي: يدعون إلى الرجوع إلى كتاب الله، والمقصود بكتاب الله: التوراة والإنجيل، وقيل المقصود: القرآن (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) (ثم يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
ثم قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أي: يقول اليهود والنصارى: نحن لن تمسّنا النّار إلا سبعة أيام فقط، عن كل ألف سنة في الدُّنيا يوم، ثم تأتُون أنتم أيّها الأميّون العرب وتخلفوننا فيها، وتُخلّدون في النّار ونحن نذهب إلى الجنّة! فرد الله عليهم: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أيّ: ثبَّتهم على دينهم الباطل الذي خَدَعُوا به أنفسهم.
ثم قال الله عز وجل: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) أي: كيف يكون حالهم يوم القيامة وقد افتروا على الله، وكذَّبوا رسله، وقتلوا أنبيائه وقتلوا أتباع أنبيائه (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أيّ: وكيف يكون حالهم إذا أُعطيت كُلُّ نفسٍ ما كسبت من خير أو شَرّ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
من الآية [26 - 27]
حوَّل الله عز وجل النُّبوة من بني إسرائيل إلى النبيّ القُرشي العربيّ المَكّي الأمّي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال له: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ونلاحظ أن خاتمة الآية مُناسبة تمام التناسب لمحتوى الآية: وهو إن إعطاء المُلك ونزعُهُ والإعزاز والإذلال كُلُّه بقدرة الله، ولذلك ختم الآية بقوله: (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ثم قال الله سبحانه وتعالى: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) يعني: تأخذ من طول هذا فتزيده في قِصَرِ هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا فصول سنة (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي: تُخرِجُ من الحبّة نباتًا أخضر مُزدهرًا، وتخرج من النبات الأخضر حبوبًا، وتخرج النَّخلة من النَّواة، وتخرج النَّواة من النَّخلة، وتخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن، وتخرج الدَّجاجة من البيضة، وتخرج البيضة من الدَّجاجة (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: تُعطي من شئت من المال ما لا يَعدُّهُ ولا يقدر على إحصائه، وتُقتِّر على آخرين لِمَا لك من الحكمة والإرادة؛ لأنَّ من الناس من لا يصلح له إلا الفقر، ولو كان غنيًّا لبَطَر، ومن الناس من لا يصلح له إلا الغِنَى وهكذا.
من الآية [28 - 30]
قال الله عز وجل: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وهذا النَّهي عن الاتِّخاذ إنَّما هو فيما يُظهره المرء، أمّا أن يتخذّ بقلبه ونيّته فلا يفعل ذلك مؤمن أصلًا (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أي: أنّ الله بريء منه (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي: إلا أن تتقّوهم بكلام فتُظهرون خلاف ما تُبطنون اتّقاء شرَّهم، ثم قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي: يُحذِّركُم نقمته -يخاطب: من والى أعداءه وعادى أولياءه- (وإلى الله المصير).
ثم قال الله سبحانه وتعالى يُخبر عباده أنَّه يعلم السَّرائر والضَّمائر والظَّواهر، وأنَّه لا تخفى عليه خافية: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وهذا دليل على أنه سبحانه على كل شيء قدير؛ لهذا ختم بقوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ثم قال الله سبحانه وتعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) يفسره قوله: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) فمن رأى من أعماله حسنًا سَرَّه، ومن رأى من قبيح ساءَهُ وأَغاظه ثم قال: (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) أي: في الآخرة يتمنى العاصي ألا يلقى ذنبه لأنّه سيُحاسَب عليه؛ لكن أين المفرّ؟! (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أيّ: يُخوِّفُكُم عقابـه (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).
س: لماذا ختم الله بقوله (رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ولم يقل: (شديد العقاب)؟ من باب الجمع بين الترغيب والترهيب، يعني أُحذّرك وتحذيري إيَّاك لأنِّي رَؤُوف بك؛ فأنا أُحذّرك الآن وأنت بيدك الخيار.
من الآية [31 - 32]
ذكر الله هنا آية المحنة؛ فقال لمحمد: قل للقوم الذين ادّعوا محبة الله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) أي: إن كنتم تُحبّون الله فاتبَّعوا محمدًا؛ لأنّ الله هو الذِّي أَرسله وهو الذِّي قال: أطيعوه، وهذا ردٌّ على اليهود والنصارى الذين قالوا (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).
ومعنى: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: باتباعكم للرسول -صلى الله عليه وسلم- يحصل لكم هذا.
ثم قال الله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: خالفوا أمر الله عز وجل والرسول (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ).
س: لماذا قال الله (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) ولم يقل: (فإن تولوا فإنّ الله لا يُحبّهم) أي: لماذا أظهر في موضع إضمار؟
- لأن النَّص على عِلَّة السَّبب؛ فنَصّ على أن سبب عدم الحُبّ: هو الكفر.
- وليفيد أنّ الله لا يُحب كل كافر؛ ولو قال: (فإنّ الله لا يُحبهم) لاقتصر المعنى على المُتَولِّين هؤلاء فقط.
من الآية [33 - 37]
في هذه الآيات بدأ الله عز وجل يُمّهد ويُقررّ بما سيُثبته من أنَّ عيسى عبدٌ لله، وأنه ليس بإله وليس بابن لله؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى) أي: اختار للنبوة (آَدَمَ) أبو البشر، واختار (وَنُوحًا) أول رسول إلى أهل الأرض لمَّا عبدَ الناس الأوثان، واختار من (وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ) -أي: اختار من ذرية إبراهيم- سيدُ البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-، واختار من (وَآَلَ عِمْرَانَ) عيسى عليه السلام، وعمران هذا هو والد مريم بنت عمران -أم عيسى عليه السلام-.
س: لماذا خَصَّ الله هؤلاء الأنبياء (آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران)؟ لأنَّ الأنبياء كُلُّهم من نَسلهم.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) أيّ: في الإيمان والطَّاعة، وفي النبوة؛ فهم مُتَشَابِهون في الدِّين والحَال (والله سميع عليم).
ثم قال الله عز وجل: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) واسمها على ما قيل حَنَّة -وهي أمّ مريم- وعمران هذا ابن مَاتان.
قصة أم عمران: هذه امرأة لا تَحمل؛ فاشتهت الولد فَدَعت أن يَهبَهَا الله عز وجل ولدًا فاستجاب الله دعاءها؛ فلما تحقَّقت الحَمل، نذَرَت أن يكون محرّرًا (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) أي: محرّرًا من خدمتي إلى خدمة بيت المقدس، ومُفرّغًا للعبادة (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي: السميع لدُعَائي العليم بنيّتي.
وكان لا يخدم إلا الأولاد الذُّكُور، وهي نذرت أن تجعله محرّرًا (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) اكتشفت أنها أنثى، فـ (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) فرد الله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) وكلمة وضعت لها قراءتان: (وَضَعَتْ) فيكون من كلام الله، و(وَضَعْتُ) فيكون من كلام امرأة عمران -أم مريم- ثم قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) وهذه الجملة من كلام والدة مريم، أي: أنا أعلم أنّ الذَّكر ليس في خدمته كخدمة الأنثى، أي: في القوة والجلد والعبادة وخدمة المسجد الأقصى، ثم قالت: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فتقبَّل الله دعاءها؛ ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من مولود يُولَد إلاّ مسّه الشيطان حين يُولد فيستَهِلُّ صارخًا من مسّه إيّاه إلا مريم وابنها) أي: عيسى؛ بسبب دعوتها.
وهذا فيه حثّ للآباء والأمّهات أن يُكثِروا من الدُّعاء لأولادهم بالصلاح والاستقامة فربّما تُوافق ساعة استجابة.
واستدلّ بعضُ العُلماء من هذه الآية على: جواز تسميّة المولود يوم وَضعِهِ.
ثم قال الله عز وجل: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي: تقبل مريم (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أي جعل شكلها مليحًا، ويسَّر لها أسباب القَبُول، وقرنها بالصَّالحين من عباده، بل جعل لها من الولد ما رَفَعَ الله بِه ذِكرها وذِكره (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) أي: كفل زكريا مريم.
ثم أخبر الله عز وجل أنه بعدما كفلها زكريا (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) أي: كلما دخل على مريم في محلّ العبادة (وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) يجد عندها فاكهة الصَّيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فـ (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)؟ (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
من الآية [38 - 41]
قال تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) لمّا قالت مريم لزكريا: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فتذّكر أنه يشتهي أن يُولَد له ولد؛ لكنه رجلٌ كبير، وامرأته عاقر فـ (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) فدَعَا زكريا ربَّه -مادام أنَّه يرزُق من يشاء بغير حساب- أن يهب له ولدًا.
ثم قال الله تعالى لمَّـا دعاه زكريا عليه السَّلام: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) أي: خاطبته الملائكة شِفَاهًا وهو قائمٌ يُصلي في محراب عبادته (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) فاستجاب الله له وأعطاه يحيى عليه السَّلام.
س: لماذا قال الله: (يحيى) ولم يقُل: (ولد)؟ لأنّ الله أراد أن يبشره بأنه ذكر، وأنه رجل صالح يحيا بالإيمان.
ثم بدأ الله يذكر أوصاف يحيى: (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) أي: أنَّ يَحيى مُصَدِّقًا بعيسى، وعيسى سمي بـ (كلمة الله)؛ لأن الله قال له كن فكان، ثم قال تعالى: (وَسَيِّدًا) والسيد هو: الحكيم، وقيل: العالِم والعابد، وقيل: المتّقي، وقيل: الكريمٌ، وكلّها صحيحة، ثم قال: (وَحَصُورًا) والحصور: من توفرت له أسباب الشهوة؛ لكنه تركها لله تبارك وتعالى؛ كما كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: سأُعطيه النُّبوة.
فلمّا تحقَّقت هذه البشارة، وهي: أن وهب الله له الولد وهو كبير وزوجته عاقر؛ فقال: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)؟
قال ذلك زكريا مع أنه ألح على الله في دعائه بأن يرزق ولد، ويعلم أنّ الله على كل شيء قدير، فأجاب العلماء بعدة أجوبة، منها:
- أنّه سأل ناسيًا دعاءه الذي دعا به؛ لطُول المُدَّة بين دعائه والبشارة.
- أنّه سأل عن الكيفية، أي: كيف يُرزق الولد وامرأته عاقر.
- أنّه سأل متعجبًا من قدرة الله -على سبيل الاستعظام-.
فأجابته الملائكة: (قال كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) أيّ: أنَّ الله لا يُعجزه شيء.
ولمَّا تيقن زكريا من هذا، واستقرّت نفسه وحملت امرأته: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً) لأنها نعمة تستوجب الشكر (قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) أي: لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليهن، إلا بالرمز (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) والعشيّ: هو بعد صلاة الظهر، والإبكار: من بعد صلاة الفجر، يعني سبّح آناء الليل وأطراف النهار.
من الآية [42 - 44]
بدأ الله سبحانه وتعالى يتكلم عن مريم -دخل الآن فيما يُريده النَّصارى-: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) فهذا إخبارٌ من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم (أنَّ الله اصطفاها) أي: اختارها لكثرة عبادتها، وزهَادَتها، وشرَّفها (وطهرها) أي: من الأكدار والوَسَاوس.
والفرق بين الاصطفاء الأول والثاني:
- الاصطفاء الأول (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ) يرجِع إلى الصِّفات الحميدة، والأفعال السديدة.
- والاصطفاء الثَّاني (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) يرجع إلى تفضيلها على نِساء العالمين، إمَّا عالمي زمانها أو مطلقًا.
-وإن شَاركَهَا أفرادٌ من النِّساء كعائشة، وخديجة، وفاطمة فلا يتنافى مع اصطفائها-.
وبعد أن أكرم الله مريم بالنعم قال: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي: أكثري من العبادة (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).
ومناسبة أمرها بالطاعة بعد أن بُيّن فضلها:
- قيل: أنَّ هذا مقام شُكُر؛ فأُمِرَت به.
- وقيل: أنَّ مريم عليها السلام سيُقبِل عليها أهوال عظيمة، ولا بدّ لها من كثرة العبادة؛ لتقوى لها.
س: لماذا قدم الله السجود على الركوع في قوله: (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) مع أن الركوع يسبق السجود في الأداء؟
- قيل: الواو هنا لا تقتضي الترتيب.
- وقيل: السُّجُود في زَمَانهم كان قبل الركوع.
لكن هذا ضعيف؛ لأن هذه الآية اشتملت على مُطلق العبادة؛ فذكرت الأعمّ وهو القُنوت، ثم الأخَصّ منه وهو السُّجُود، ثم الركوع الذي هو أخصّ ولا يُشرع إلاَّ في الصلاة؛ فهو ترتيب من الأَعمّ إلى الأَخصّ إلى ما هو أخصّ منه.
ثم قال الله عز وجل: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أيّ: يا محمد هذا من أنباء الغيب (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يعني: ما كنت معهم يوم أن تخاصموا واختلفوا فيمن يكفل مريم عليها السلام -قبل أن يكفلها زكريا- فألقوا أقلامهم في البحر فذهبت أقلامهم وقام قلم زكريا فكَفَلها. فمن أين جاء العلم للنبي وهو رجل أمّي؟
فهذا فيه إثبات لنُّبَوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه إشارة وتعريض بالنَّصارى الذين يدَّعون أنّ محمدًا ليس بنبيّ.
ويستفاد من قوله تعالى: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ) جواز استعمال القُرعة؛ بل هي سُنَّة قررها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
من الآية [45 - 51]
أتت الملائكة هنا بالبشارة لمريم، فقال تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) بَشَّرها بأنّه سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير، ووجوده بكلمةٍ من الله (اسمه الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فسُمِيَّ قبل أن يُحمَل به، وسُمّي بابن مريم دلالة على أنّه لا أب له، وسُمي المسيح: لكثرة سياحته أي: عبادته، وقيل: لأنّه كان مسيح القدمين أي: لا أخمص لهما، وقيل: لأنّه كان إذا مسح ذوي العاهات بِرئ بإذن الله تعالى، ثم قال تعالى أيضًا مبشرًا: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) أي: له وجاهة ومكانة (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إلى ربِّه عز وجل.
ثم قال الله عز وجل يكمل البشارة: (ويُكلّم الناس في المهد وكهلًا) يعني: في المهد وفي الكبر (ومن الصَّالحين).
ثم لما حملت بالولد (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)؟ وكانت معروفة بالعبادة، فلا يُتصّور منها أن تقول هذا ولدي! وهي غير متزوجة؛ لكن هذا امتحان العظيم لمريم عليها السلام؛ فقالت الملائكة ترد عليها: (قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
س: لماذا قال تعالى في زكريا: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) وهنا قال: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)؟ للردّ على النصارى، وبيان أنَّ عيسى مخلوق وليس بإله.
ثم قال الله مُخبرًا عن تمـام بشارة الملائكة لمريم: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) أي: الكتابـة (وَالْحِكْمَةَ) وهي الفَهم في الدين (وَالتَّوْرَاةَ) وهو الكِتاب الذي أنزله الله عز وجل على موسى (وَالْإِنْجِيلَ) أي: سيُعطيه كتابًا خاصًّا به اسمه الإنجيل.
أيضًا بشروها بأنه سيكون رسول: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) فيا مريم هذه قضية كبيرة، وهذا الولد عظيم، فاصبري، فسيكون رسولًا إلى بني إسرائيل، وسيقول لهم: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: بعلامة على أنّي رسول من عند ربكم، وهي: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: أُصوّر الطين على شكل طير فأنفخ فيه فيكون طيرًا -بإذن الله- (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي: وأشفي -بإذن الله- الذي يولد أعمى، فأجعله مُبصرًا، (وَالْأَبْرَصَ) أشفي أيضًا -بإذن الله- (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) يعني: أخبركم ماذا أكلتم الآن وما الذِّي ادخرتموه ليوم غد في بيوتكم (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).
ثم قال تعالى: (ومصدقًا لما بين يدي من التوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وقوله تعالى هذا مختلف فيه:
- فقال بعض العلماء: فيه دلالة على أنّ عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة موسى عليه السلام.
- وقال آخرون: عيسى لم ينسخ شيئًا من شريعة موسى، وإنّما أحلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطأوا.
والظاهر -والله أعلم- أنّه لا مانع من كلا القولين؛ لأن هذه الآية: دليلُ على النسخ، وآية الزخرف: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) دليل على الذي اختلفوا فيه.
ثم قال في خاتمة الآية: (وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ).
ثم قال في الآية التي تليها: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي: غير معوج.
من الآية [52 - 53]
قال الله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي: استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؟ أي: من يتبعني إلى الله؟ (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) وهم الذين كانوا قصّارين يُقصّرون الثياب ويصبغونه بالبياض، والمقصودين في السياق: الناصرين، قالوا: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) أي: نحن الذين سننصُرك (آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون).
ثم أكمل الله قول الحواريين: (رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أيّ: اكتبنا مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
من الآية [55 - 58]
قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي: مكر الكفار من بني إسرائيل؛ حيث أَتَوا في ظلمة الليل إلى عيسى عليه السلام، وأحاطوا بمنزله قاصدين قتله، فأوقع الله شَبَهه على كبيرهم الذي أتى معهم.
والمكر من صفات الله تبارك وتعالى الفعلية؛ لكن لا يُسمّى الله بها؛ فلا يقال: الماكر؛ لأنه لا يُؤخذ من الصفات الأسماء.
والمكر في موضعه حسن بخلاف الخيانة فإنها صفة ذمّ في جميع أحوالها.
ثم قال الله عز وجل: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) واختلف العلماء في معنى هذه الآية:
- فقال بعضهم: إنَّ هذا من المُقَدَّم والمُؤَخَّر، يعني: إنِّي الآن رافعك، ومتوفيك في آخر الزمان.
- وقال آخرون: أني مُمِيتُك حقيقة. وهذا قولٌ ضعيف؛ يردّه قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).
- وقال غيرهم: أماته الله قليلًا، ثم أحياه ورفعه.
- والصَّحيح والذِّي عليه أكثر المفسّرين: أنَّ المراد بالوفاة هنا النَّوم، يعني: إني مُنيِمُكَ ثم رافِعُكَ.
ثم قال في نفس الآية: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فاختلف العلماء في معناها أيضًا:
- قيل: أي: منزهك من اليهود، وجاعل النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة.
- وقال جمهور المفسرين: منزهك من اليهود والنصارى، وجاعل الذين اتبعوك -يا عيسى- فوق اليهود والنصارى.
ثم ختم الآية بقوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
ثم قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
ثم ختم الله تعالى المقطع بقوله: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي: هذا الذِّي قَصَصناه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره هو مّما قال الله تعالى وأوحاه إليك وأنزل عليك من اللوح المحفوظ فلا مرية فيه ولا شكّ.
من الآية [59 - 61]
يقول الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله مبينًا قدرته على الخلق: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) أيّ: إن مثل خلق عيسى عند الله كمثل خلق آدم؛ فالذي خَلَق آدم من غَيرِ أمٍّ ولا أب وإنما قال له كن فكان، قادر على خلق عيسى من غـير أب.
ولذلك إن جازَ ادَّعاء البُنوَّةَ في عيسى أنّه ابن الله بِكَونه مخلوقًا من غير أب، فجَوَازُ ذَلك في آدم بالطَّريق الأَولى والأَحرى، وهذا دليل عقلي، وإلا هو معلومٌ بالاتِّفاق أنَّ ذلك باطل.
إذًا إذا كانت البنوة باطلة في أَمر آدم؛ فبُطلانُه في أَمر عِيسى أشدّ؛ لأنَّ آدم أعظم في المُعجزة.
ثمّ قال الله عز وجل: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أيّ: هَذا القول السابق هو الحَقّ في عيسى الذِّي لا محيدَ عنه ولا صحيح سواه (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
ثم قال الله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي: فمن جادلك يا محمد في عيسى -عليه السّلام-، أو: في الحقّ (من بعد ما جاءك من العلم) (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا) أي: الحسن والحسين رضي الله عنهما (وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا) أي: فاطمة رضي الله عنها (وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا) أي: رسولُ الله وعليّ بن أبي طالب (وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ) والابتهال هو الملاعنة (فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).
سبب نزول هذه الآية: أن وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة جعلوا يُجادلون في نبي الله عيسى عليه السلام، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والألوهية، وقد تصلبوا على باطلهم، بعدما أقام عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- البراهين بأنه عبد الله ورسوله؛ فأمره الله تعالى أن يباهلهم.
فدعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المباهلة، بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم، ثم يدعون الله تعالى أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين.
فأحضر النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وقال: هؤلاء أهلي.
فتشاور وفد نجران فيما بينهم: هل يجيبونه إلى ذلك؟ فاتفق رأيهم ألا يجيبوه؛ لأنهم عرفوا أنهم إن باهلوه هلكوا، هم وأولادهم وأهلوهم، فصالحوه وبذلوا له الجزية، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة، فأجابهم صلى الله عليه وسلم لذلك.
من الآية [62 - 68]
قال تبارك وتعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي: هذا الذّي قَصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحقّ، ولا مَعدل عنه ولا محيد (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ثم قال الله سبحانه وتعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بالمفسدين) ولم يقل: (عليم بهم) فأظهر في موضع إضمار؛ لبيان أنّ سبب توَّلِيهم هو الفساد، وأنّ كل من تولّى عن دين الله عزّ وجل فهُو مفسد.
ثم قال سبحانه مخاطبًا اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) ومعنى (الكلمة) فسرها الله تعالى في الجملة التالية فقال: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) أي: نفرد الله وحده بالعبادة (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) أيّ: لا يُطيع بعضُنا بعضًا في معصية الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي: إِن تَوَّلوا؛ فَأَشهِدُوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذِّي شَرَعَه الله لكم.
ثمّ أنكر الله عزّ وجل على اليَّهُود والنّصارى مُحاجّتهم في إبراهيم الخليل ودعـوى كُلِّ طائفةٍ منهم أنّه كـان منهم! فاليَّهُود يقولون إنَّ إبراهيم يهُودي، والنَّصارى يقولون إنَّ إبراهيم نصراني، فقال الله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي: إن اليهُودِّية والنّصرانية لم تُوجَد بعد في عهد إبراهيم، فإبراهيم مات قبل اليهودية والنصرانية؛ فكيف تدعون ذلك؟ (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)؟ لأنهم ادعوا شيئًا من السَّهل ردُّه.
ثمّ قال الله عزّ وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي: ها أنتم يا أهل الكتاب جادلتهم النبي فيما لكُم به علمٌ من جِهَة كُتُبِكم وأنبائكم ممّا أيقنتموه وثبت عندكم صِحَّته؛ لكن (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)؟ (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ثمّ قال الله عزّ وجل مُقرِّرًا: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) والحنيف هو المائل عن الشّرك (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذه الخاتمة تدل على أن اليهود والنصارى أشركوا بالله.
ثم قال الله تبارك وتعالى للذيت يدَّعُون أنَّهم أتباع إبراهيم: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) (وَهَذَا النَّبِيُّ) أي: محمد هُو الذِّي اتبّع إبراهيم (وَالَّذِينَ آَمَنُوا) كذلك اتبعوه على الإسلام (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أيّ: وليُّ جميع المؤمنين برُسُلِه.
من الآية [69 - 74]
قال الله عزَّ وجل مخبرًا أنَّ هؤلاء الحساد لا يَنتهُون وأنّهم منذُ أن بزَغ صدرُ الإسلام وهم يَكيدون لهذا الدّين وسيستَمِرُّون: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) ثم أخبر أنّ وَبالَ ذلك إنّما يعود على أنفسهم؛ فقال: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) أي: هُم لا يشعرون أنّه ممكور بهم.
ثم قال الله تعالى مُنكرًا عليهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنّها صدق وتعلمون أنّها حـقّ؟
ثم قال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)؟ والحقّ هو ما أنزل في كتبهم، والباطل هو الذي من عند أنفسهم (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أيّ: تكتُمُون ما في كُتُبِكُم من صِفة محمد -صلى الله عليه وسلّم- (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) صِدقَه؟
ثمّ أخبر الرَّب جلّ وعلا عن حيلة اليهود؛ فقال: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ) ومعنى وجه النّهار: أي أوّل النّهار، والمعنى أي: أسلموا بعد صلاتكم أول النهار وقُولُوا للنَّاس نحن قد اتبّعنا مُحمّدًا، وبعد العَصر قولوا لا قد تراجعنا عمّا قُلناه أوّل النّهار؛ لأننا لم نجده موجودًا في الكتب عندنا، ثم قالوا: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني: لعلهم يشكّون في دينهم بسبب كفركم به بعد إيمانكم؛ لأننا أعلم بكتب الله منهم، فإذا رجعنا عن دين محمد فسيتبعونا.
ثمّ قالوا -يُوصِي بعضهم بعضًا-: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أيّ لا تَطمَئنُوا وتُظهِروا سِرَّكم إلا لمن تبع دينكم، أيّ: لا تخبِرُون المسلمين الخُطّة حتى لا يُؤمنوا به، فقال الله عزّ وجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) أيّ: أنَّ الله عزّ وجل هُو الهَادي ولو مَكرتُم وأخفيتم، ثمّ قالوا: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أيّ: لا تُظهِرُوا ما عندكم من العلم فيتعلَّموه منكم ويُساوُونكم فيه، أبقوهم على الجهل جَهِّلوهم، فالجهل هو الوسيلة الوحيدة لإخفَاض هذه الأُمّة المحمدّية الجديدة، فقال الله للنبي: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) يعني: يا أيُّها اليَّهُود امكُروا، افعلوا ما شِئتُم، وخَطِّطوا؛ فإن كل الأمور بيد الله وتحت تصريفه وهُو المعطي والمانع، يمنُّ على إنسانٍ بإيمان ولو كانَ من الجاهلين، ويمنع الإنسان من التُّقى والهُدى ولو كان من أهل علمٍ وكتاب (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
ثم قال الله تعالى: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) أيّ: اختَصَّ الله برحمته من يشاء من خلقه، وتفضل عليهم بالهداية والنبوة وغيرها (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
من الآية [75 - 77]
مُنَاسبة قول الله عزّ وجل: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) لما قبلها: أنّ الله عزّ وجل لمّا ذكر خيانتهم في الدِّين ومكرهم وكتمهم الحقّ، ذكر حالهم في الأموال وأنَّ منهم الخائن ومنهم الأمين.
ومقصدُ الآية: ذمُّ الخَونة من أهل الكتاب، وبيان كذبهم على الله في استحلالهم أموال العرب.
قال الله عزّ وجل: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ) وهو المال الكثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) وهذا مثال على الأمين (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) وهذا مثال على الخائن، أيّ: لا يرجع حقك إلا بعد إلحاح ومطالبة وتقاضي، وذلك من أجل أنهم (قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي: ظنوا وقالوا: إنّ أموال العرب هي لنا، وأيّ شيء نأخذه من العرب حلال علينا! (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).
ثم قال الله عزّ وجل: (بَلَى) أي: ليس الأمر كما زعموا بل عليهم إثم وحرج، و(مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ) والعهد يشمل العهد الذّي بينه وبين ربِّه، وبين العبد وبين سائر العباد (وَاتَّقَى) (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ولم يقل: (فإنّ الله يُحبُّهم) فأظهر في موضع إضمار: لبيان أنّ الإيفاء بالعهد من أفعال المتقين، وأنّ الله يُحب كل متّقي.
ثمّ قال الله عزّ وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي: إنَّ الذِّين يستبدلون بأيمانهم الكاذبة الفاجرة عوضًا قليلًا من متاع الدنيا (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ) أيّ: لا نصيب لهم فيها، والجزاء من جنس العمل (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) أيّ: كلام لُطف -لأنَّه ثبت في آيات أخرى أنّه يُكلّمهم- (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ولا ينظر إليهم بعين الرّحمة (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) من الذُّنوب والأَدناس، بل يأمُر بهم إلى النّار (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
سبب نزول هذه الآية: قَال الأَشعث: فِيّ والله نزلت، فِيّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجُلٍ من اليَهُود أرض فجَحدني فقدَّمته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-؛ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أَلكَ بيِّنة؟ قلتُ: لا. فقال اليَهُوديّ: اِحلف. فقلتُ: يا رسول الله إذًا يحلف فيذهب مالي! -لأن اليهود لا يتوَّرَعُون في اليمين- فأنزل الله عزّ وجل الآية.
من الآية [78 - 80]
يُخبر تعالى عن اليهود ويقول: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا) أي: جَماعة من النّاس (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ) أيّ: يُحرِّفُون التوراة بتبدِيلِ معانيها وألفاظها؛ (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) أي: ليُوهِمُوا الجهلة أنّه من كتاب الله (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) كذبهم.
ثم قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) أي: لا يصلح لبشر أن يؤتيه الله كتابًا وعلمًا وفهمًا ونبوة (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ)! (وَلَكِنْ) يقول لهم: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) والرَّباني منسوب إلى الرَّبَّان، وهو مُعلِّمُ النَّاس الخير (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب) أي: بما كنتم تُفهِّمُون الكتاب أو: تَفْهَمُون الكتاب على قراءة (تَعْلَمُون) ثم قال: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أيّ تحفظون ألفاظه.
وسبب نزول هذه الآية: أنه حِين اجتمعت الأحبار من اليَّهُود والنَّصارى من أهل نجران عند رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ودعاهم إلى الإسلام، قالوا: أتريدُ يا محمد أن نعبُدك كما تعبد النَّصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني -يُقال له الرئيس-: أوَ ذاكَ تُريدُ منّا يا محمّد وإليه تدعُونا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: معاذَ الله، أن نعبدَ غير الله أو أن نأمُرَ بعبادة غيره، ما بذلك بَعَثني ولا بذلك أَمَرني؛ فأنزل الله الآية.
ثمّ قال الله: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) أي: ولا يصلح له -كذلك- أن يأمُركم بعبادة أحدٍ غير الله (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟ أيّ: لا يفعل ذلك.
من الآية [81 - 83]
قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) أخبر الله تعالى أنّه أخذ العهد المؤكد على كُلَّ نبي بعثه من آدم -عليه السّلام- إلى عيسى أنّه إذا جاء رسول من بعده مصدقًا لما معهم من الكتاب والحكم؛ ليُؤمنَّنَّ به ولينصُّرنّه.
وهذا فيه إشارة إلى أتباع عيسى وأتباع موسى -اليهود والنّصارى- أنه إذا كان الله قد أخذ العهد على أنبيائكم أن يتَّبِعُوا من جاء بعدهم، والذِّي جاء بعدهم محمد -صلى الله عليه وسلّم-، إذًا إذا أُخِذَ العهد على النّبي؛ فالعهد عليه وعلى أتباعه، فكأنّه قد أُخِذَ عليكم العهد أن تتَّبِعُوا النّبي -صلى الله عليه وسلّم-.
ثم قال سبحانه لأنبيائه: (أأقررتم وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)؟ والإصر هو العهد الشديد، فـ (قَالُوا أَقْرَرْنَا) ثم قال الله: (فَاشْهَدُوا) أي: اشهدوا على أنفسكم وعلى أُمَمِكُم المؤمنين بكم بالتزام هذا العَهد، وبيّنوا الأمر لأممكم (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) بإعطاءُ المعجزات وإقرار النُّبُوَّات.
ثم قال الله تعالى: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ) أيّ: فمن أعرض بعد هذا العهد والميثاق (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
ثم قال الله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ)؟ أي: أيريدون دين غير دين الله عز وجل؟ (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) أي: استسلم له كل من فيهما؛ فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كُرهًا.
من الآية [84 - 85]
يقول الله تبارك وتعالى للنبي: (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) أي: القرآن (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) وهم بُطون بني إسرائيل المتشعبّة من أولاد إسرائيل (وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم) ثم قال: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) يعني: نُؤمن بهم جميعًا.
س: لماذا قدّم الله عز وجل إسماعيل على إسحاق؟ قدّمه لسنّهِ ولفضلهِ فإنه هو الذبيح؛ ولأنه من ولده محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) والإسلام هنا هو دين النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.
من الآية [86 - 91]
قال الله عز وجل: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: جاءتهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ أي: كيف يستحقّ هؤلاء الهداية بعد هذا العناد والعمى والضلال؟ ثم قال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأن عنادهم عين الظلم.
وسبب نزول هذه الآية: أنه كان رجل من الأنصار -واسمه الحارث بن سُويد- أسلم، ثم ارتدّ ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سَلُوا لي رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية إلى قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأرسل إلى قومه فأسلم.
وقيل: نزلت في اليهود والنصارى شهدوا بنعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به، فلمّا جاء من العرب حسدوه وكفروا به.
ثم بيّن الله تعالى جزاء هؤلاء، فقال: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
ثم قال: (خَالِدِينَ فِيهَا) أي: في اللعنة، وقيل: أي في النار (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) بل هم في عذاب دائم (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي: ولا يُؤخرون.
ثم قال الله بعد ذلك: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من لطفه وبرّه ورحمته أنّه من تاب، تاب الله عليه.
ثم قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) أي: استمرّوا عليه حتى الموت (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) -لكن من تاب قبل أن تُغرغر روحه، أو قبل أن تطلع الشمس من مغربها قُبلت توبته- ثم قال: (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي: الخارجون عن المنهج الحَقّ إلى طريق الغيّ.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ) أي: أنّ من مات على كفره فلن ينفعه عمل صالح، والواو هنا عاطفة؛ والمعنى: فلن يقبل من أحدهم لو أنفق ملء الأرض ذهبًا في الدنيا ما دام أنه مات على كفره، وحتى لو افتدى به في الآخرة لن يقبل منه، ثم ختم الله الآية بقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أي: هؤلاء الكفار لَهُمْ عَذَابٌ مُوجع وَمَا لَهُمْ منقذ يُنقذهم من عذاب النار.
 
الدرس الرابع: تفسير سورة آل عمران (الجزء الثاني)
من الآية [92 – 94]
قال الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ) يعني: لن تَبلُغُوا منازلَ ودرجات أهل البِر، ولا ثوابهم (حتى تنفقوا مما تحبونَ) لأن درجة أهل البر عالية رفيعة؛ فشَرَط الله لَهَا أن يُنفِقَ المَرء أحبَّ ماله؛ لأنَّ إنفاق الإنسان لأحب ماله دليلٌ على صدقه، ودليل على ثقته بموعود الله عز وجل، ودليل على أنَّه جعل الآخرة نَصبَ عينيه، ثم ختم الآية بقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
ثم قال الله عز وجل: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) وهذا رد على اليهود الذين زَعَمُوا أنَّ يعقوب حرّم على نفسه أشياء، ثم نزلت التوراة بتحريمها؛ فأكذبهم الله وأخبر أن ما حرمه على نفسه إنما حَرَّمه لسبب خاص به دونَ أن يَنزل عليه من الله.
وأشهر ما ورد عن السَّلف في السَّبب الذِّي من أَجلِهِ حَرَّم يعقوب بعضَ الأطعمة على نفسه: أنَّه نذر نذرًا لله أنَّه إن شفاه من مرضه أن يُحرِّم بعض الأطعمة الطَّيبة عليه -وهذا التَّحريم ليسَ تشريعًا، وإنما هو من باب النَّذر- فَجَرى أبناءُهُ من بَعده على هذا التَّحريم.
وَرَدَّ الله عَلى زعمهم هذا برد آخر عقلي تاريخي، فقال: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ) لأنَّ التوراة أُنزِلَت على موسى عليه السَّلام، ويعقوب عليه السلام كان قبلَ مَجيءُ موسى؛ ولذلك قال عزَّ وجل: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيما تزعُمُون.
ثم قال عز وجل: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) يعني: من بعد بيان الحَقّ (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يعني: المُجَاوِزون للحَدّ.
من الآية [95 – 97]
قال الله عز وجل: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) يعني: قل أَيُّها النَّبي: صَدَقَ الله فيما أخبر به وحَكَى وقَضَى (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي: اتبعوا دين إبراهيم عليه السلام يا أهلَ الكتاب، ثم قال: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تأكيدًا لِمفهوم الحنيفية التي كان عليها إبراهيم عليه السَّلام.
وقد نَاسَبَ ذكر اتِّباع ملة إبراهيم بعد ذِكر التَّحريم الذِّي حرَّمه بني إسرائيل على أنفسهم؛ ليَرُدَّهم إلى الملَّة الحَنيفية.
ولَمَّا جَرَى ذكر إبراهيم عليه السَّلام قال الله عز وجل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للناس للذي ببكة) وفي الأولية هذه أقوال:
- قيل: هي أوَّلية مُطلقة، والمعنى: أنَّ الكعبة هي أوَّلُ بيت بُنيَ وأُسِّسَ في الأَرض لعبادة الله وحده.
ثم أورد على هذا القول إشكال، وهو: وجود بيوت سابقة يُعبد فيها الله قبل إبراهيم عليه السلام، فكيف يقال: أن الكعبة أول بيت بُني للعبادة؟
الجواب: أن البناء الحقيقي كان في عهد آدم، والذِّي فعله إبراهيم هو تجديد بناءَ الكعبة، ولذلك قال عزَّ وجل: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) فلا يرفع إلا شيئًا قد كان قبل ذلك.
- وقيل: هي أوَّليةٌ نسبية، ثم اختلفوا في تحديد النسبة:
· فمنهم من قال: أوَّلية باعتبار الفَضل، يعني: أنه أفضل بيت وُضِعَ للنَّاس.
· وبعضُهُم قال: أولية باعتبار الأسبقية في البناء، هل هو أم بيت المقدس -كما زعم اليهود-؟
وعلى كل حال: َإن صَحَّ أنَّ آدم هو أوَّلُ من بنى الكَعبة: فإنَّ الآية على ظاهرها في أوَّلية زمانية مُطلقة، وإن لم تَصِح فإنَّ الأولية هُنا تُحمَل على أوَّلية الفضل -والله أعلم-.
والفرق بين (بَكَّة) و(مكة):
- قيل: بَكَّة ومَكَّة بمعنىً واحد، وهذا من باب قلب الحروف.
- وقيل: بكَّة المقصود بها ذاتُ البِناء، أما مَكَّة هو ما بَقيَ من الحَرم.
- وقيل: بَكَّة إشارة إلى الازدحام، وأصلها من البَكّ وهو شِدَّة الازدحام.
ومعنى قوله: (مُبَارَكًا) أي: كثيرُ البَركـات والخـير (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) أي: لجميعهم.
ثم قال عزَّ وجل: (فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي: في هذا البيت عَلامات واضحات لِكُلِّ أحد، منها:
- (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) وهو المَوضع الذِّي قَامَ عليه لما بنَّى البيت ووضَعَ الحَجر.
- (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا) أي: من دخل هذا البيت أَمِن على كل شيء.
وبمناسبة الحديث عن البَيت قال عزّ وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) والاستطاعة تكون بتوفر: الزَّاد، والرَّاحلة، ثم قال: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) والمعنى فيه أقوال:
- قيل: يعني من كفر بالله عز وجل فإنَّ الله غنيُّ عن العالمين.
- وقيل: من كَفَر بوجوب الحَجّ فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين.
- وقيل: من كفر بنعم الله التِّي ذكرها في الآيات فإنَّ الله غني عن العالمين.
من الآية [98 – 101]
قال الله تعالى لنبِّيه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) من اليهود والنَّصارى (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ) أي: لم تَجحَدُون بالحُجَج الظَّاهرة البَيِّنة (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ)؟ إذ كيف تَكفُرون بآيات الله ويوجد أَمران يمنعانكم من هذا الكُفر:
- ظهورُ آيات الله ظُهورًا بيِّنًا لا لَبسَ فيه ولا غُمُوض.
- أنَّ الله رقيبٌ عليكم ومُطَّلعٌ، لا يخفى عليه من أعمالكم شيئًا.
ثم قَال تعالى يأمر نبِيَّه أن يَسألهم سؤال استفهام مُضمِّنٍ معنى الإنكار: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ من آمن) بالله؟ فقد كانوا من أعظم الصَّادِين عن سبيل الله، حيث صَدُّوا العرب بكفرهم وتكذيبهم، لأن العرب تعظِّمهم وترى أنهم أهل علم، فيصدقون كل ما يقولون، ويقلدونهم -والعرب كانوا أميين-.
ولذلك قال الله عز وجل بعدها: (تَبْغُونَهَا عِوَجًا)؟ يعني: تبغون لدين الله ميلًا عن الحق، (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ)؟ يعني تعلمون علمًا يقينيًا أن هذا الدِّين الذي جاء به محمد -عليه الصَّلاة والسلام- هو الحق.
ثم ختم الله عزَّ وجل الآية بقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعني عَمَلُكُم هذا الله مُطَّلِعٌ عليه وعَالِمٌ به وسيجازيكم عليه.
ثم لما ذكر الله صَدَّهم للناس، ناسب بعد ذلك أن يُنَّبِه المُؤمنين على خطورة متابعة أهل الكتاب والانقياد لهم والسَّير في أهوائهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) والفريق هم الجماعة (يَرُدُّوكُمْ) أي يرجِعُوكم (بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) بالله.
وهذه الآيات نزلت في شأن ما وقع من اليهود، وخصوصًا شاسُ بن قيس، فإنَّه كان من كِبارِ اليهود، دخل إلى مَجلسِ الأنصار من الأوس والخزرج فجلس بينهم يُحدِّثهم أخبارهم قبل الإسلام ويَذكر ما لهؤلاء وما لهؤلاء، فاستجَاشَ النُّفوس، وأثارَ فيهم حَميِّةَ الجاهلية، فبدأت هذه الحَمِيَّة بأن يذكر كل منهم مآثر قومه، ثم زاد الأمر واتَّسَع حتى تداعُوا إلى حَمِيَّة الجاهلية، وتنادوا بها فهذا يقول يا لِثَارات الخزرج، وذلك يقول يا لِثَارات الأَوس، وتنادَوا إلى السِّلاح، فَجَاءَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فما زال بهم يُهَدِّئُهم ويَعِظُهم، حتى أَلقَوا سلِاحَهُم، بل وبَكَوا، وكل منهم أخذ بأخيه يلتزمه ويُعانِقُه.
فانظروا كيف وصل بهم الأمر إلى هذا المستوى من الخِلاف، مع معرفتهم بالفَضل والنِّعمة العظيمة التي تحصَّلت لهم بسبب الهِداية إلى هذا الدِّين، ولذلك نزلت هذه الآيات التي تتضمّن عتابًا للمؤمنين، وتتضمن أيضًا إرشادًا لهم وذكرًا لفضل الله عليهم ومنته سبحانه وبحمده.
لماذا قال الله عزَّ وجل: (فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ولم يقل: (كُلّ الَّذِينَ أُوتُوا الكتاب)؟ لأنه عادل ومنصف حتى مع المُخالف.
ثم قال عزَّ وجل متعجبًا ومنكرًا: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ)؟ يعني: كيف يَجُوز للمُؤمنين أن يرجعوا كفارًا وهم يمتلكون أعظم سَببين للهداية والعِصمة من الضَّلال؟ (يُتلى عليهم القرآن، وفيه الهُدى والبَيان والرَّشاد) أي: عندكم الكِتابُ والسُّنة، ومن تَمسَّكَ بهما لن يَضِلَّ أبدًا.
ومع وجودَ الكتابِ والسُّنَة لابد من اعتصام بالله والتجاءٍ إليه، ولذلك لَمَّا بيَّن الله أعظمَ أسبابَ الهِداية أَشَارَ إلى الاعتصام به، فقال: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
من الآية [102 – 109]
قال الله تعالى يأمُرُ المؤمنين بأن يَتَّقُوهُ التقوى التامة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وحقَّ التَّقوى هذه منزلة عالية لا يَبلُغُها كُلُّ المؤمنين؛ ولذلك قال بعضهم إنَّ الآية مَنسوخة بقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
والحَقيقة أنَّ التقوى في الآية مُفَسَّرةٌ بالاستطاعة، فقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) يُبَيِّن حقيقةَ التَّقوى، يعني: أن تتقي الله حق تقاته على قَدرِ استطاعتك.
ثم قال يَنهى عباده عن أن يَمُوتُوا على غير الإسلام: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) والنهي هنا نهيٌ عن الأسباب المُؤدِّية إلى الموت على غير الإسلام، فمن كان يعيش حياته بعيدًا عن أمر الله مُتعدِّيًا لحدوده، فإنه قد أتى بالأسباب التي قد تؤدي به إلى الموت على غير الإسلام.
ثم قال عزَّ وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) يعني: تمسكوا بكتابُ الله وسُنَّةُ رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا تتفرقوا، فشبَّه الله كتابه وَسُنة رسوله بالحَبل الذِّي يَتَمَسّكُ به الإنسان للنَّجاة، وهذا من التَّشبيه البليغ.
ثم قال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) يُذَّكِر الأوس والخزرج بسابِق نعمته عليه، بعد أن كانوا أعداءً وثَارت بينهم الحُروب واستمرت فترة طويلة، ثم هَداهُم الله بهذا الدِّين وجَعلهم كما قال الله عز وجل: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) مُتَّحابِين (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) يعني: على طَرَفُ جهنَّم (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) بهذا النَّبي الكَريم -عليه الصَّلاة والسَّلام- وبما أنزل إليه من القرآن، ثم ختم بقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى طريق الرَّشَاد وتَسلُكون سبيل الاستقامة.
وهذه الآية فيها دَلالة على أنَّ الاستِمسَاك بِالكِتابِ والسُّنة من أَعظَمِ أَسبابِ العِصمَةِ من الفُرقَة.
وبعد أن بيَّن الله فضله عليهم بأن جَمَعَهُم بعد فُرقة وآلفَ بين قُلوبهم بعد نِزاع، أمر المُؤمنين أن يُؤَدُّوا شُكرَ النعمة بأن يَكونوا دُعاةً إلى الخير، فقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
اختلف المفسرون في (من):
- منهم من قال: من تبعيضية، أي: لتكن جماعة من المؤمنين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
- ومنهم من قال: من بيانية، أي: لتكونوا آمرينَ بالمعروف، نَاهِين عن المُنكر.
ثُمَّ نهاهم الله عزَّ وجل أن يشابهوا أهل الكتاب، فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) الواضحة (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) بسبب اختلافهم وتَفُرُّقُهُم بعد أن عَلِمُوا الهُدى وبانَ لهُمُ الحقّ.
ثم قال عزَّ وجل متوعدًا: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) يعني: يوم تبيض وجوه المؤمنين يوم القيامة بسبب ما يَرونه من فَضل، وتسود وجوه الكافرين بسبب الكفر الذِّي هُم عليه -والبياض والسواد هذا حقيقي لا مجازي- (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) يقال لهم: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)؟ (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
وهذه الآية وقع فيها خلافٌ بينَ المُفَسِّرين:
- فقال بعضهم: إن هذه الآية خاصَّة بِكَفَرَةِ أَهلِ الكِتاب الذِّين عَلِمُوا الحقّ وكفروا بعده؛ لأنَّ الله قال: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
- وقال كثير منهم: إن الآية عامة في النَّاس جميعًا؛ لأن الآية قَسَمَت النَّاسَ إلى فريقين: فريقٌ ابيَّضَت وجوههم، وفريق اسوَّدت وجوههم، ولا يوجد فريق ثالث، فلو قصرناها على أهل الكتاب، فمن عَدَاهُم من الكُفَّار من أهل النار أين يكون تقسيمهم؟
فالراجح -والله أعلم- القول الثاني، والجواب على أصحاب القول الأول: أن المقصود بالإيمان في الآية هو: عهد الفطرة الذي أخذه الله على بني آدم في أوَّلِ خلقه لآدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، والله عز وجل مع ذلك لا يُعذِّبُ أحدًا حتى تقوم عليه الحُجَّة عليه؛ فإذا أرسل الرسل، أكَّدُوا الميثاق الذِّي أخذه عليهم؛ فإذا كفروا، فقد كفروا بعد إيمانهم؛ فَصَح أن الآية في كُلِّ الكُفَّارِ.
ثم قال الله عز وجل: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعني: في رحمةٍ عظيمة؛ لأن الرحمة أضيفت لله.
ثم قال عزَّ وجل: (تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) يعني: هذه الآيات يتلوها الله عزَّ وجل على نبيِّهِ والحق يلابسها (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ).
ثم قال عزَّ وجل بعد ذلك: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) خلقًا وتدبيرًا (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لأنَّه هُو المَالك المُدَّبِر.
من الآية [110 – 115]
قال عَزَّ وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ):
- قيل: هذه الآية تأكيدٌ لِمَا سَبَق من قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ).
- وقيل: هذه الآية خبر يتضمنها أمر.
- وقيل: المعنى: كُنتم في علم الله خير أُمَّةٍ أُخرجت للنَّاس.
س: لماذا قدم الله الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر؟ لأنه هو الأصل؛ ولذلك الداعية إلى الله يبدأ بحث الناس على الخير قبل نهيهم عن الشر.
ثم قال عزَّ وجل: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) يعني: لو آمنوا بهذه الشَّريعة التي نزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم- لكان خيراً لهم؛ لأنَّهم بذلك يَنالون فضلَ اتباع شريعة موسى، وفضلَ اتَّباع شريعة النبي، ولهذا مؤمنة أهل الكتاب يُؤتَونَ أَجرهم مَرَّتين، أجر اتَّباعهم لموسى -عليه السلام- وأجر اتَّباعهم للنَّبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وَلكن الذِّين آمنوا منهم قليل؛ لهذا قال الله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
ثم قال عزَّ وجل: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) يعني: إنَّ أهل الكتاب مَهما تكن عداوتهم لكم أيُّهَا المُؤمنون فإنَّهم لا يضُرُّونكم إلا أذى، والأَذَى المقصود به هنا مثل: طَعنهم في الدِّين، وسَبِّهم، واستهزائهم، هذا الأَذَى الذي يَنالُ المؤمنين منهم، لا يتجاوزونه إلى أكبر ولا إلى أكثر منه، ثم قال تعالى: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ) يعني: وإن يَحصُل بينكم وبينهم قتال (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ) يعني: يكون دأبهم أن يوَّلُون الأدبار (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) يعني: ثم لا يأتيهم النَّصر أبدًا، فدل على أن هذا التولي والإدبار تَولِّي الهَرَب والهزيمة.
ثم قال عزَّ وجل بعد ذلك عن اليهود: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) يعني: جُعِلَت عليهم الذِّلة، فأصبحت أمرًا ظاهرًا باقيًا في اليَّهود على مَرَّ التَّاريخ.
ثم قال: (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) وأصل الثَّقف الأَخذ، يعني: أينما يؤخذون فإنَّهم أذِّلاء، ثم أورد استثناء فقال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يعني إلا في حالتين تعصمهم من الذُّل، وهي: العهد والميثاق من الله، أو الإعانة من النَّاس.
ثم قال عزَّ وجل بالإضافة إلى الذل المصاحب لهم: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) يعني: السُّكُون، وسَبَب السكون هذا: المَذَلَّة، وهذا العذاب الذي نَزَل عليهم وهذه الأمور التي حَلَّت بهم كلها لأنَّهم (كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ) ولا ينتهون عن كُفرِهم (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) يعني: يتجرأون على أبشع جريمة وهي قتل الأنبياء، ثم قال عز وجل: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) يعني: هَذَا الذِّي حَصَل لَهُم بسبب عصيانهم لله.
س: لماذا عبَّر الله بصيغة المضارع في قوله: (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ)؟ لاستحضار الصُّورة.
فائدة: الرَّاضيَ بالمُنكر كَفَاعله، ولذلك وَصَف الله اليهود بقتلة الأنبياء، وَوصَفهم بالكُفُر، وَوصَفهم بالإعراض، وغيرها، مع أن هذه الأوصاف كانت في آبائهم؛ لكنهم لما رضوا بها، واستمروا عليها وصفهم بها.
ثم قال عزَّ وجل بعد أن ذكر بعض أخلاق أهل الكتاب: (لَيْسُوا سَوَاءً) يعني: ليسوا مُتسَاوِين، وليسوا على درجة واحدة، فـ (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) يعني: يوجد في بعض أهل الكتاب جَماعة قَائِمَةٌ تَقُوم بما وجب عليها على الوجه التَّام، و(يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ) فيحيون ليلهم بقراءة الكتاب المنزل عليهم (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يعني: يتَّهجُدون لله ويعبدونه.
ثم ذكر الله صِّفة أخرى لهذه الطائفة، فقال: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذه هي صفات المؤمن الحق.
ثم قال عز وجل: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) يعني: وأيَّ خير يفعلونه (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) يعني: لن يضيع عليهم ثوابه (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ). وهذا من كمال فضله عزَّ وجل وعدله أنه لا يبخس عمل عمال مهما كان عمله قليل؛ بل إنَّه يتقبَّله، ويزيده، ويُضاعفه لعامله.
من الآية [116 – 117]
انتقل عزَّ وجل -بعد أن ذَكَرَ حال أَهل الكتاب وبين بعضًا من أحوالهم- إلى بيان بعض أحوال كفرة المشركين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) فأخبر أن أقوى أسباب فخر الإنسان لن ترد عنهم شيئًا من عذاب الله (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعني: هؤلاء مَاكثون مُقيمون في النار إقامة لازِمَةً.
ثم قال عز وجل: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) يعني: مَثَلُ ما يُنفق هؤلاء الكُفَّار في الحياة الدُّنيا في وجوه البِرّ والخَير، كمثل زرع عند قوم أصابته ريح فيها برد شديد، أو فيها نار محرقة فقتلت الزرع، ولم تُبقي منه شيئًا؛ ولذلك هذه النَّفقة التي أنفقوها ويرجُون ذُخرها يوم القيامة لا يَبقى منها شيئًا، مثل الرِّيح التي تأتي على الزَّرع فتُهلِكُه ولا تُبقى منه شيئًا، ثم قال عز وجل: (َمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يعني: ذهابُ ثَوابهم ليس ظُلمًا من الله، بل لأنَّهم ظلموا أنفسهم بِشركهم وكُفرهم؛ لذلك الأعمال التي ظاهرها الصلاح لا تنفع إذا ما صَاحبها الأصل الصحيح الذي تُقبل به -وهو الإيمان بالله عزَّ وجل- .
من الآية [118 – 120]
قال عزَّ وجل مُخاطبًا المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ) يعني: لا تتخذوا قرابة خاصة من غير المؤمنين تستأمنوهم وتفضون إليهم بِأسراركم وخَواصّ أحوالكم ؛ لأنهم (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) يعني: لا يُقَصِّرون فيما يُوقِعكم في الفساد؛ ولأنهم يتمنون حصول ما يوقعكم في المشقة؛ ولهذا قال: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) ثم قال تعالى: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) يعني: قد ظهر بغضاؤهم من لَحن ألسنتهم التي تَصدر بين الفَينة والأخرى، ثم قال تعالى: (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) يعني: هذا الذِّي يَظهر من لَحن أقوالهم يَنُمَّ على أنَّ ما في الصُّدُور أعظم وأَشَد، ثم قال تعالى: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) لأنَّ هَذه الأوصاف لا يَستبِينها الإنسان مُباشرة بل يحتاج إلى فِكر، وتأمُّل، ونظر.
ثم بين عزَّ وجل خطورة اتخاذ أهل الكتاب خاصة لهم يُفضون إليهم بأسرارهم؛ فقال: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) يعني: تَرجُون لهم الخير، ولا يَودُّون هم لكم الخير (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) يعني: تؤمنون أنتم بِكُلّ الكتب الإلهية، وهم لا يؤمنون بالكتاب المنزل على محمد (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا) يعني: قالوا صدَّقنا بأفواههم فقط -خِداعًا لكم- (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) يعني: وإذا خلا بعضهم إلى بعض عضوا أطراف أصابعهم غيظًا منكم؛ لأن الله هداكم للإيمان وأعزَّكُم به وجمع فُرقَتُكُم ووَّحد صفَّكم؛ ثم قال الله: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) يعني: ابقوا على ما أنتم عليه من هذا الغَيظ والكَمد حتى يأتيكم المَوت.
س: نبه الله على عدم اتخاذ أهل الكتاب خصوصًا مع أنَّ المشركين من باب أولى؟ لأنَّ بيننا وبين أهل الكتاب أمور مشتركة، مثل: الإيمان بالله، فقَد يَتساهل النَّاس في شُؤونهم، لكن مع الكفار الغالب أن أهل الإسلام يكونون حذرين منهم، ولذلك ناسب التأكيد على خصوص أهل الكتاب.
ثم قال الله عزّ وجل: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) يعني: أي حسنة تَمَسُّ المؤمنين، تسؤهم، وأي سيئة تمس المؤمنين، يستبشروا ويُسَرُّوا بها، ويقولون هذا دلالة على أنهم على الدِّين الباطل، ويُضلٍّون الناس بهذا، ثم قال الله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا) أيها المؤمنون على ما يأتيكم منهم (وَتَتَّقُوا) الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه (لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) لا يخفى عليه شيء منها.
من الآية [121 – 129]
من هذا المَقطع من السُّورة الكريمة بدأَ الحديثُ عن غزوة أُحد وعمَا حصل فيها من أحداث، وعما وقع من بعض الصَّحابة من مُخالفةِ أمر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وما تَرتَبَ على ذَلك من هَزيمة للمؤمنين وأذىً أصابهم من عَدِّوهم، فبدأت الآيات الكريمة تُذكِّر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- والصَّحابة مِن بعده بذلك الحَدَث، فقال عزَّ وجل: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) يعني: اُذكر أيُّها النَّبي حِين خرجت أوَّلُ النَّهار (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) يعني: تبين للمُؤمنين مواقعهم في القِتال، وتؤكد عليهم ألا يُغادروا جبل أحد مَهما حَصَل، حتى لو رأوا الطِّير تتخطَّفهُم.
ثم قال عزَّ وجل: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا) يعني: اُذكر أيها النبي ما وَقَعَ لطائفتين من المُؤمنين -وهما بنو سَلمَة وبَنو حَارثة- حين ضعفوا وأحسوا بالفشل وهموا بالرجوع بعد رجوع المُنافقين في أَشَدِّ أوقاتهم حَاجَة لهم، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، ثم قال الله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) يعني: هو النَاصر لهؤلاء وهو مُثَبتَّهُم على مُواجهة المُشركين؛ ولهذا قال: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأنَّ الإنسان مهما كان عنده من العَدَد والقُوَّة والاستعداد فإنَّ أَهَمّ مَا عليه أن يكون ثباتُهُ وشجاعتُهُ فِي قَلبه؛ لأنَّ الجُندي والمُقاتل أوَّل ما يُهزَم يُهزَم فِي نفسه، فإذا هُزِمَ في نفسه هُزِم في سَاحَة المعركة.
ثم قـال عزَّ وجل يُذَّكِر النَّبي -عليه الصلاة والسلام- والصَّحابة فضله عليهم ونصره لهم في معركة بدر مع قِلَّتهم: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) يعني: وكانت قُوَّتُكُم وعددكم قليلٌ، ثم ختم بقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ليُشير إلى أن التقوى سببٌ في تحصيل شكر الله عز وجل، وسبب لِنصر الله عزَّ وجل لعباده المؤمنين.
ثم قال عز وجل: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ) يعني: اذكر أيُّها النَّبي وقت أن قلتَ للمُؤمنين في معركة بدر تسألُهُم: ألا يَكفيَكُم أن يُنزل الله عَليكم مَدَدًا من السَّماء من الملائكة يبلُغ عددهم ثلاثةُ آلاف يَنزِلُونَ خُصُوصًا لنَصركم؟
ثم أخبر عزَّ وجل عن تَمام كلام النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (بَلَى) يعني: قد كَفَاكُم ذلك، ثم قال لهم: ولكم بشارة بعون آخر من الله (إِنْ تَصْبِرُوا) على قتال عدِّوكم (وَتَتَّقُوا) الله بفعل أمره واجتنابِ نَهيه.
والبشارة هي -كما قال الله-: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا) يعني: سيأتون الملائكة إليكم مسرعين وناصرين لكم -كما نصروكم في معركة بدر- وسيعينكم ربكم بأن (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) لهم علامات ظاهرة.
ثم قال عز وجل: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يعني: إنَّ هذا العَون الذِّي نَزَلَ عَليكُم ما جعله الله إلا بشرى فقط، تستبشر به القُلوب وتهـدأ به النفوس وتطمئن، وإلاَّ فالنَّصر حقيقةً بيد الله الذي لا يغالبه أحد، والذي يَضَعُ الأُمور مَواضعها. وهذا ربطٌ للقُلوب بِخَالقها، بحيث لا يتعلق المؤمن بالأسباب المادية.
ثم قال عزَّ وجل مبينًا أنَّ النَّصر في بدر المقصود منه تحقيق أغراض وحِكم، منها: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: قتل جزء من الذين كفروا، وأيضًا من الأغراض كما قال: (أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) يعني: يُذِلَّهم ويغيظهم بهزيمة المؤمنين لهم فيرجعوا إلى قومهم وإلى أهلهم بالفشل الذَّريع.
ثُمَّ قال عزَّ وجل بعد أن ذكر هذا السِّياق المُتَّعلق بمعركة بدر وهو في أثناء الكلام عن معركة أحد: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) يعني: اصبر أيها النبي فليس لك من أمر هؤلاء المشركين، أو من أمر التوبة عليهم أو من أمر عذابهم شيء، إنَّما أنت مبلغ عن الله، والأمر كله لله، فإن شاء تاب عليهم، وإن شاء عذَّبهم، وهذا ما حصل؛ فإن الله قد تاب على بعض المشركين فأسلموا وحَسُن إسلامهم، وعذَّب بعضهم فقتل في هذه المعركة أو بعدها.
وسبب نزول هذه الآية: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا ناله ما ناله في معركة أحد وأصابه ما أصابه هو وأصحابه، دعا على رؤساء المشركين بالهَلاك؛ فأنزل الله عليه هذه الآيات.
ثم قال عزَّ وجل مبينًا أن المغفرة والعذاب بيده: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
من الآية [130 – 132]
ثم قال عز وجل موجهًا الخِطاب إلى المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ هذه الآية من أوَّل الآيات التِّي نزلت في تحريم الرِّبا المُضاعف دون الرِّبا البسيط، وذهب بعضهم إلى أنَّ الآية ليست واردة في تحريم نوع من الربا وإنَّما في تحرم جميع المعاملات الربوية، ولكنه عبّر بالمضاعفة؛ لأنه يحكي الحال التِّي كان عليها المشركون -أنهم يأكلون الربا مضاعفة- ثم قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لأنَّ أكل الربا يقوم على جَشَع النَّفس؛ فالذِّي يَعصِم الإنسان من ذلك هو تقوى الله.
ومناسبة ذكر هذه الآية في ثنايا الكلام عن معركة أُحد: أنه لا زالت هناك معاملات ربوية باقية في ذلك الوقت -وقت المعركة- وقبل نزول التَّحريم؛ فذكر هنا تحريم الربا ليُشير إلى أن المعاملات المُحرَّمة -سواء كانت ربوية أو غيرها- هي سبب من الأسباب التي تُوقع في الفشل وتقود إلى الخذلان.
ثم قال عزَّ وجل بعدها: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ليَدُلّ على أنَّ هذه المعامـلات المُحرمة قد تنتهي بالإنسان إلى دخول النَّـار والعيـاذ بالله.
ثم قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ليدل على أن تحقيقُ طاعةُ الله وطاعة الرسول بامتثال أوامرهم واجتناب نواهيهم سبب في حصول الرحمة، وأعظم الرحمة هي دخول الجنة.
من الآية [133 – 136]
قال عزَّ وجل: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) والمغفرة هي الستر والتغطية؛ حيث يستر الله ذنوب عبده ولا يحاسبه عليها، وهذا هو كَمال المغفرة، ثم قال: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ) يعني: إذا غفر الله لك ذنوبك فإنك بعد ذلك تكون من أهل الجنة، وهذه الجنة عرضها مثل عرض السماء والأرض، فما بالك بِطُولها؟! ثم قال: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي: هُيِّئت هذه الجنة للذين اتقوا الله عز وجل.
ثم قال عز وجل مبينًا صفات هؤلاء المتقين: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) يعني: ينفقون في وقت السَّعة والخِصب، ويُنفقون أيضًا في وقت الشِّدة والكرب وقِلَّة المال وقلة ذات اليد، فهم في كل أحوالهم يُنفقون ليس في حال دون حال ولا في وقت دون وقت، ثم قال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) يعني: الذين يحبِسُون الغضب في قلوبهم، وبعد حبسهم له لا يُخرجونَه، بل يَعفونَ عن النَّاس؛ لهذا قال تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ثم قال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنه من اتَّصف بهذه الصِّفات بَلَغَ منزلة الإحسان، والله عزَّ وجل يُحب المحسنين.
ثم قال تعالى يكمل بيان صفات هؤلاء المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) يعني: لو جاوزوا الحَدّ قولًا أو فعلًا بارتكاب كبيرة من الكبائر (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب المعاصي الصَّغائر دون الكبائر، ثم (ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) يعني: ذكروا الله بقلوبهم وبألسنتهم، وطلبوا من الله أن يغفر ذنوبهم؛ لأن الله وحده الذي يغفر الذنوب (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعني: ولم يستمروا على ذنوبهم؛ لأنهم يعلمون أن الله مطلع عليهم.
ثم قال تعالى: (أُولَئِكَ) يعني: المَوصوفون بهذه الصِّفَات (جَزَاؤُهُمْ) يعني: ثوابهم (مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) يعني: من تَحت قُصُورِهم (خالدين فيها ونعم أجر العاملين).
س: لماذا قال الله: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) ولم يقل: (ولم يَعصوا الله)؟ لأن الوقوع في الذنب من طبيعة البشر؛ لكن الشَّأن في المُؤمن أنَّه لا يُصِرّ ويَتذكَّر فَيرجع ويتوب.
من الآية [137 – 144]
عاد الكلام هنا إلى الحديث عن معركة أُحد -بعد الاستطراد في بيان صفة المؤمنين الذين يستحقون مغفرة الله عز وجل ودخول جنَّاته- فقال الله عزَّ وجل معزيًا المؤمنين لمَّا ابتلاهم بما وقَع في معركة أحد من الأذى والقَرح والألم والشِّدة: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) يعني: هذه سُنّة الله عز وجل أن يبتلي أولياءه بالهزيمة والفشل تارة، لكنه سينصرهم ويجعل العاقبة لهم بعد الابتلاء (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) يعني: فسيروا سَير مُتَبصِّر مُتَفَكِر مُتَذَكِر للأَحداث التِّي وقعت في هذه الأرض، وانظروا كيف كان مصير المكذبين؟
ثُمَّ قال عزَّ وجل مبينًا صفة القرآن: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) يعني: هو بيان للحقّ والباطل، وهو هادي إلى الطريق الموصل إلى الله عزَّ وجل، وفيه الموعظة للمتقين.
ثم قال الله عزَّ وجل مسليًا المؤمنين: (وَلَا تَهِنُوا) يعني: لا يُصيبُكم الضَّعف والعَجز والجُبن (ولا تَحزنُوا) عَلى مَا أصابكم يوم أحد من قتل وجِراح وألم وهزيمة؛ لأنكم (الْأَعْلَوْنَ) بإيمانكم بالله عز وجل، وبعون الله لكم؛ فإذا (كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقيقةً فلن يصيبكم الوَهن ولن يصيبكم الحُزن.
ثم قال تعالى مستمرًا في تعزيتهم: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) يعني: إن أصابكم جِراح أو قتل في معركة أحد، فقد أصاب الكفار جراح وقتل مثلما أصابكم، فلستم أنتم فقط الذي أصابكم الأذى والجراح، بل حتى عدوكم.
ثم ذكر الله الحكمة مما أصاب المؤمنين:
- فقال: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) يعني: لأن الأيام تُصرَف لك مرة؛ وتكون لك الغَلبة، وتُصرف عليك مرة؛ فتكون الغلبة لغيرك.
- وقال: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا) يعني: وليميز الله الذِّين آمنوا من الذين نافقوا.
- وقال: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) يعني: ولِيختار الله منكم شهداء في سبيله.
ثم قال: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعني: المتجاوِزين حُدوده، التَّاركين للجهاد والتاركين قتال العدو.
ثم أيضًا ذكر الله حكمةٌ أخرى، فقال: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) يعني: وليطهر صفوف الذين آمنوا، ويُهلك الكافرين.
فائدة: المؤمن مهما أصابه أذى في الجهاد فهو رابح؛ لأنه إما أن يُنصر، وإما أن يُستشهد فيُؤجر عند الله، أمَّا الكافر فلا يرجو إلا النَّصر.
ثم قال عز وجل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) وأم هذه مُنقطعة للإضراب الانتقالي، وتُفيد الاستفهام؛ فالمعنى: هل ظننتم أن تَدخُلُوا الجنَّة أيُها المُؤمنون دون أن يظهر (اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) في سبيل الله حقيقة من المنافقين، ودون أن يبين (الصَّابِرِينَ) على البلاء؟
ثم قال عز وجل مذكرًا المؤمنين أنهم هم السبب في خروج النبي من المدينة في معركة أحد، فقد كانوا يتمنون مواجهة الأعداء، ويتمنون الشهادة في سبيل الله، ويتمنون أن يدركوا الفضل الذي أدركه إخوانهم في بدر؛ فذكّرهم الله فقال: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) يعني: فكيف يصيبكم الحزن وأنتم كنتم تتمنون لقاء عدوكم؟
ثم لما شاع بين المؤمنين من أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قد قتل؛ قعد بعض المؤمنين عن القتال، باعتبار أنَّ النبي قد قتل فما عاد من حاجة للقتال، فقال الله عز وجل لهم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) يعني: إذا كان الأنبياء ماتوا قبله؛ فمحمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- مثلهم يموت كما يموتون ويُقتل كما يُقتلون، فلماذا تقعدون عن الجهاد في سبيل الله بسبب موت النَّبي أو قتله؟!
ثم قال معاتبًا: (أَفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ) يعني: إذا مات موتة طبيعية أو قُتِل في الجهاد (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)؟ يعني: رجعتم عن دينكم؟
ثم قال: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) يعني: فمن يرجع ويَدع الجِهاد في سبيله فإنه لا يضر الله شيء بل يضر نفسه؛ لذلك قال عزَّ وجل: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
س: هل أحدٌ من الصحابة يَشُكّ أن الأنبياء السابقين قد قضَوا وماتوا؟ لا؛ ولكن أتى التَّذكير بهذا الأمر لأنهم فعلوا فِعل من يَشُك.
من الآية [145 – 148]
أخبر عزَّ وجل في هذه الآيات أنَّ لكل نفسٍ أجلها المحدود المُؤقت، لا يزيد عنه ولا ينقص، فقال عزَّ وجل: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا) ثم قال: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) يعني: وسيجزي الله الشاكرين لِنعمه وفضله جزاءً عظيمًا.
ثم قال الله عز وجل: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) يعني: كم من نبي قاتل معه ربيون كثير، وعلى قراءة أخرى: (وكأين من نبي قُتل معه ربيون) فيكون المعنى: كم من نبي قُتِلَ ومعه ورِبيُّونَ كثير، أو: كم من نَّبي قُتل معه ربيون كثير دفاعًا عن الحق، ولا يَلزم أن يكون هو الذي قُتِل وإنَّما هم قُتلوا معه؛ كأن نقول: قتل مع القائد الفلاني مائة وأنت لا تريد أن القائد هو الذي قُتِل، ومعنى: (رِبِّيُّونَ):
- قيل: يعني رَبانيُّون، من الرَّباني وهم أتباع الأنبياء وخاصتهم، وهم الأصفياء من المؤمنين؛ مثل الحواريين.
- وقيل: يعني كثيرون، أي: الجماعات الكثيرة.
ثم قال تعالى: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ في سبيل الله) يعني: فما جبنوا لما أصابهم في الجهاد من القَتل أو الجراح (وَمَا ضَعُفُوا) يعني: وما قعدوا عن القتال (وَمَا اسْتَكَانُوا) يعني: وما خَضَعُوا وخَشَعوا لأعدائهم مع هذا العذاب العظيم الذِّي أصابهم بل صبروا؛ لهذا قال الله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
ثم قال تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) يعني: لم يكن منهم شكاية أبدًا بعد القتل والجرح، ما كان منهم إلا قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا؛ لأنَّهم علموا أنَّ هذا الذي أصابهم ما أصابهم إلا من عند أنفسهم، وقالوا أيضًا: ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ بعد أن تغفر لنا ذنوبنا.
ثم قال الله: (فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ) ثواب الدنيا بالنَّصر على العَدُوّ والتَّمكين والغَنيمة، وحُسن ثواب الآخرة بإنزالهم أعلى المنازل، وهي منازل الجنة (والله يحب المحسنين).
من الآية [149 – 151]
قال الله عزَّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) يعني: يرجعونكم بعد إيمانكم إلى الكفـر.
ثم قال تعالى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) يعني: بل استعصموا واستمسكوا بالله عزَّ وجل الذِّي هو نَاصركم حقيقة وهو خير النَّاصرين، فلا تسمعوا ولا تُطيعوا إلى هؤلاء الكفار، فإنَّهم لا يُريدون بكم الخير ولا النَّصر ولا النُّصح.
ثم قال الله عزَّ وجل: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) والرُّعب هو أشد الفزع، بحيث ترتعد فرائِصَ الإنسان وأطرافه ويُصيبها اضطراب، ثم ذكر الله سبب إلقاء الرعب؛ فقال: (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) يعني: بِسبب شِركهم بالله ما لم ينزل به حجة وبرهانًا، ثم قال عن مصيرهم: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) يعني: فهؤلاء يرجعون في يوم الآخرة إلى النَّار (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي: وبئس ذلك المستقر والمرجع والمأوى.
من الآية [152 – 155]
الكلام لا يزال عن معركة أحد والأحداث التّي وقعت فيها وصاحبَتها؛ حيث قال عزَّ وجل: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بإذنه) يعني: ولقد أنجزكم الله وعده في الوقت الذي كنتم تقاتلون فيه المشركين قتالًا ذريعًا -ووعده هو: أنه وعد المؤمنين بالنصر إذا اتَّقُوه وعملوا بما أمر به-.
وهذا هو الذي حصل في أول معركة أحد وقبل مخالفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقبل أن يضعفوا ويجبنوا؛ لذلك قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) يعني: إلى أن ضعفتم عن الثبات على المواقع التي أمركم بها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- (وَتَنَازَعْتُمْ في الأمر) هل نَبقى في المواقع أو نتركها؟ فطائفة تقول: نتركها ونجمع الغنائم، وطائفة تقول: لا بل نثبت؛ فإنَّ النَّبي نَهانا، ثم قال تعالى: (وَعَصَيْتُمْ) أي: ثم عصيتم أمر الرسول بترك الأماكن (مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) وهو قتل العدو والانتصار عليه ورؤية المغانم.
ثم قال تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) يعني: من الصحابة من كان يريد المَغنم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ) وهو امتثال أمر النَّبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال عزَّ وجل: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) يعني: عن النَّصر عليهم، والانتصار عن قتالهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) فيعلم الصَّابر مِن الجَازع، ويعلم المؤمن من المنافق.
ومع ذلك الله عز وجل رحيم في عباده، فحتى مع هذه المخالفة منهم للنَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنّه قد عفا عنهم (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فتفضل عليهم بالعفو، وبمضاعفة حسناتهم وثوابهم.
ثم قال عزَّ وجل مذكرًا المؤمنين بما حصَلَ منهم بعد مُخالفتهم لأمرِ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) يعني: اذكروا حين كُنتُم تبتَعِدُون في الأرض مُوَّلِين هاربين، ولا يلتفت أحد منكم على أحد، ولا يسأل عن أحد، وهذا النُّوع من الفِرار يكونُ بسبب ما يقع في القلب من الفَشَل، فيُورِث في الإنسان درجة من الخوف والاضطراب لا يستطيع التّفكير في شيءٍ غير النَّجاة والفِرار، ثم قال: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) يعني: والرَّسول يناديكم إليه وهو في آخرتكم، ويقول: إليَّ عباد الله؛ لأنهم لمَّا ولَّوُا هاربين صار النّبي -صلى الله عليه وسلّم- في آخرتهم من جهة العدو، فأصبح هو بينهم وبين العدّو بسبب فِرارهم.
ثم قال تعالى: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) يعني: جَازاكُم على هَذا الفِرار وعلى ما وقع منكم من النِّزاع ألمًا وضيقًا يتبعُه ألمٌ وضيق.
- أمّا الغم الأوّل: هو ما فاتَهم من النَّصر على العدّو، وفوات الغنيمة.
- أما الغمّ الثاني: هو ما نزل بهم من البَلاء والقَتل والجِراح.
- أما الغَمّ الثالث: هو ما شاع بينهم من أنَّ النّبي صلى الله عليه وسلّم قد قُتِل.
والغم الثالث هو أشد غم أصابهم، لكن لمَّا عَلِمُوا أنّ النّبي حيّ وسليم ومُعَافى، زالَ عنهم الألم كُلَّه: ألم الهزيمة، وألم الجِراح التّي أصابتهم، وألم فوات الغنيمة، وهذا هو معنى قوله: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) أي: من الغَنيمة (وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) من الجِراح، ثم قال: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، وسيُجازيكم على أعمالكم.
ثمّ قال الله عزّ وجل: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) يعني: بعد هذا الغَمّ الذّي أصابكم، أنزل الله عليكم طمأنينة في القُلُوب، وهذه الطمأنينة الذّي أنزلها الله في قلوبهم، جعلتهم يشعرون بأمان، لِدرجة أنّ النُّعاس يُصيبُهم، بعكس الخَائف لا يُصيبه النّعاس، والنعاس هذا يغشى جماعة من المؤمنين الذّين صَدَقَ إيمانهم، وثبت صبرهم، أما المنافقون فلا يصيبهم هذا النُّعاس ولا تنزل عليهم هذه الأَمَنَة، ثم ذكر الله صفة من صفات المنافقين هؤلاء فقال: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يعني: لا يُفَكِّرون إلا في أنفسهم ونجاتِهم ممّا حَصَل (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة) يعني: يظُنُّون بالله عزّ وجل ظنًّا قائمًا على الشَّكِ في قُدرته عزَّ وجل وفي نُصرهِ لنبيّه؛ كظن أهل الجاهلية و(يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) يعني: يقولون ليس لنا في أمر الخروج إلى القتال شيء، ثم قال الله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) يعني: قل يا محمد الأمر كله لله، والمنافقون هؤلاء (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ).
ثمّ قال عزّ وجل: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) يعني: يقولون لو كان أمر الخروج، وأمر القِتال عندنا لم يحصُل هذا القَتل الذِّي حصل، ثم جاء الرد من الله عز وجل: (قُلْ) أي: قُل يا محمد لهم (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) لأنَّه إذا كَتَب الله على أحد الموت فإنّه يخرُج من بيته ولَو كان بيته حِصنًا مَشِيدًا عاليًا حتى يُلاقي حتفه.
ثمّ قال الله عزّ وجل: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يعني: هذا البَلاء الذّي حصل هو امتحان للصُّدُور، وتمحيص للقُلوب. ثم ختمت الآية بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: لا يخفى عليه شيء ممّا يُكِنُّه الإنسان في نفسه.
ثمّ قال الله عزّ وجل إشارة إلى ما حصل من بعض الصّحابة من الرُّماة الذِّين كانوا على جبل أُحد: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) يعني: إن الذين فرُّوا يوم التقى الجمعان يوم أُحد، هؤلاء إنَّما زلَّ بهم الشَّيطان وأزَّلهم عن قَدَم الثَّبات ببعض ذنوبهم التّي اكتسبوها، ثم قال: (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) وهذا من رحمة الله يُبيِّن لهم أنّ هذا الذّي حصل هو بسبب ذُنُوبهم، لكن الله قد عفا عنهم فلم يُؤاخذهم بهم فضلًا ورحمة لـ (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) للتَّائبين من العباد، ولأنه (حليم) بهم.
وهذه الآية تُشيرُ إلى مسألة مُهمّة، وَهي شُؤم المعاصي وخُطورته، فهذا الفَشَل الذِّي أَصَاب المؤمنين في غزوة أحد وأَنتج قتلى وجِرحى وهزيمةً، كان سببهُ أنَّ الشَّيطان اِستطاع أن يَستَّزِل بعض المُؤمنين ببعض ذُنُوبهم التِّي كَسَبوهم.
من الآية [156 – 158]
قال عزّ وجل يَنهى المؤمنين أن يَكُونوا مُشابهين لأخلاق الكافرين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى) والمقصود بالكافرين: قيل: المشركون، وقيل: كفرة أهل الكتاب، وقيل: المنافقون، وقيل: الآية تشملهم جميعًا؛ لكن إذا تأمّلنا سياق الآيات سنجد أنَّ المقصود بالكُفّار هُنا هُمُ المنافقون، والمقصود بالأخوة: أُخوّة النَّسب والقرابة، لا أُخُوَّة الدِّين.
يعني: لا تكونوا كالمنافقين الذين يقولون لإخوانهم تبكيتًا وتنديمًا إذا سافروا طلبًا للرزق أو خرجوا للقتال: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).
ثم قال تعالى: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) وَهَذا من تَعذيب الله لهؤلاء المنافقين الذِّين لا يَرضَون بقضاء الله وقَدره، ويقولون إن فاتهم شيء: ليتنا ذهبنا، وإن ذهبوا وحصل عليهم مكروه قالوا: ليتنا لم نذهب؛ فالمعنى: ليجعل الله هذا الاعتقاد حسرةً في قلوبهم وندَمًا.
ثم قال الله مسألة الحياة والموت هي مني (والله يُحيي ويُميت) ثمّ قال: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: مُطَّلِعٌ على أعمالكم لا يخفى منها شيء.
ثم قال الله عزَّ وجل بعد أَن بيَّن أنّ أمر الحياة والموت إليه: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يعني: هَب أنّه حصل استشهاد في حرب أو حصل موت، فالمؤمن حقيقة لا يبأس من هذا ولا يحزن؛ لأنه يعتقد يقينًا أنّ ما عند الله خيرٌ من هذه الدُّنيا وأبقى، وأنّه سيلقى الله عزّ وجل ويلقى الكرامة عنده.
ثم أَكَّدَ مرَّةً أخرى فقال: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) يعني: الإنسان سيمُوت، إمّا أن يموت موتة طبيعيّة كسائر النّاس، أو يُقتَل؛ ولكنّ الأمر الأهم من هذا كُلّه ما بعد الموت والقتل، إلى أين يكون الحَشر والمصير؟ فهذا الذّي يجب على الإنسان أن يعتني به؛ لهذا قال: (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) يعني: إليه تُرجَعُونَ وتُسَاقُونَ.
وهذه الآيات من أعظم ما يحمل الإنسان على الجهاد في سبيل الله، والصَّبر عند لقاء العدُّو، فإنه يعلم ما من أحدٍ إلا ميّت، وما من أحد إلا ومرجعه إلى الله، وأنّ ما عند الله خيرٌ له وأبقى.
س: في الآية الأولى قال: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ) وفي الآية الثانية قال: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) فما سِرّ التَّقديم والتَّأخير؟
الجواب: أنّه في الآية الأولى لمّا كان الكلام إجابة عن دعوى المنافقين وعن استهزائهم، وكان الذّي حصل قتل، نَاسب أن يبدأ به؛ ردًّا عليهم، فلما عُلم هذا الأمر، عاد مرّة أخرى للمسألة التّي تُعتبر تأسيسًا وتقعيدًا عامًا لهذه المسألة، فقدّم الموت؛ لأنّه هو الغالب وهو الأصل.
من الآية [159 – 160]
قال تعالى مخاطبًا النَّبي -صلى الله عليه وسلّم- ومبينًا له نعمته: (فَبِمَا رَحْمَةٍ من الله لنت لهم) يعني: بسبب رحمة كان خُلُقُك أيُّها النَّبي سَهلًا؛ لتستطيع أن تتعايش مع النّاس، ويستطيع الناس الأخذ منك، وسؤالك، والتّعلّم منك.
ثم قال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) يعني: ولو كُنتَ شديدًا قاسيًا في القول والفعل (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) والانفضاض هو: الانصراف.
ثم قال: (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أيّ: اعفُ عن تقصيرهم في حقِّك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ذنوبهم، وادعُ الله لهم (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أيّ: شَاور أصحابك في كل أمورك -دون أمور الوحي-؛ فمبدأ الشُّورى مبدأٌ واجب؛ لكن هل هذه الشُّورى مُلزِمةٌ أم مُعلِمَة؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم.
ثم قال: (فَإِذَا عَزَمْتَ) يعني: بعد أن تستشير ويَظهر لك الأمر، فإذا عزمت على أمرٍ ما (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
ثم قال عز وجل: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يعني: إن يُؤَيِّدكُم الله بإعانته ونصره، فلن يغلبِكُم أحد حتى لو اجتمع أهل الأرض كلهم، وإن خَذَلكُم الله فلن يُعِنكُم أي مُعين حتّى لو اجتمع أهلُ الأرض كُلّهم.
من الآية [161 – 163]
بعد أن ذكر الله الجِهاد والشُّورى والتّوكل وكانت سببًا في النَّصر، وكانت من النَّصر تُجنَى الغنائم، نَاسبَ أن يأتِيَ بعدها قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) يعني: لا يجوز على النّبي أن يَغُلّ، وأصل الغَلُّ: الخِيانة، والمقصود بها: أخذُ شيء من الغنيمة خيانةً قبل أن تُقسَم؛ لأنَّها قبل أن تُقسم هي حقّ لِكُلّ المقاتلين، فلا يجوز لك أن تأخذ شيئًا منها، حتّى لو كُنتَ أنتَ ممن حارب، ثم قال عزّ وجل: (وَمَنْ يَغْلُلْ) يعني: ومن يغلل من النّاس (يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) على رؤوس الأشهاد يفضحُه الله، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) يعني: ثم تُوفّى كل نفس أجرها على قدر عملها غير منقوص (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
ثمّ قال الله عزّ وجل: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) على تقدير: أَفَيَستوي من اتَّبَع ما يَنالُ به رضوان الله من الإيمان والعمل الصّالح، بالذي كفر بالله وعمل السيئات وخالف أوامره؟
ثمّ أخبر الله بمصير الكافر؛ ليبين أنهم لا يستوون؛ فقال: (وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
بعد أن بين الله أنَّ المؤمنين المتَّبعين لأمره، والكَافرين المُخالفين لأمره لا يستوون، قال عزّ وجل: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) يعني: هم في الآخرة متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم في الجنة، ودركاتهم في النار.
من الآية [164 – 165]
قال اللهُ عز وجل: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يعني: أنعم الله على المؤمنين نعمةً بيّنة ظاهرة، وهي: (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني: من جِنسِكُم فتستطيعون الاقتداء به والاهتداء بِسُنّته واتَّباعه، ومهمته هي: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ) يعني: يقرأها تلاوة لفظٍ وتلاوة معنى (وَيُزَكِّيهِمْ) يعني: يطهرهم من الشرك (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي السنة.
س: لماذا قدّم التزكية قبل تلقّي العلم؟
الجواب: القاعدة تقول: التخلية قبل التحلية، فلا بدّ أن تزكُو نفس طالب العلم حتى يستطيع أن يتلَقّى العلم.
ثم قال تعالى: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ) هذا الرسول وهذا المبعث (لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) في بُعد وعَمَاية وجَهالة في غايـة البيـان.
لا زال الحديث عن غزوة أُحد وما أصاب المؤمنين فيها من الجراح والأذى، وعن وموقف المنافقين المُتمثّل في الشَّماتة بالمؤمنين؛ فقال الله تعالى مخاطبًا المؤمنين: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) تتمّثل في القتل الذي نالكم في أُحد والجراح والأذى والهزيمة والألم (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) في بدر، يعني: قتلتم منهم وجرحتم وآذيتم ضِعف ما فَعلوا بكم في معركة أُحد، فـ (فُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)؟ يعني: قال الصحابة: كيف يُصيبنا هذا ونحن مؤمنون وفينا النبي؟ فأتى الجواب من الله سريعًا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) يعني: جاءكم هذا الخلل بسبب مُخالفتِكم لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا فـ (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) حتى على نصركم.
من الآية [166 – 168]
قال عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: صحيح أنَّ هذا الذي أصابكم بسبب تنازعكم واختلافكم على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وعِصيانكم لأمره؛ لكن هو مع هذا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، أي: بعلمه ومشيئته وقضائه وإرادته (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني: وليَظهر المؤمنين حقيقة.
ثم قال تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) يعني: وليظهر المنافقون الذين ادَّعوا الإيمان وتلبّسوا به، والذين إذا قيل لهم: (تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) يعني: تعالَوا قاتلوا مع رسول الله أو دافعوا عن أنفسكم حمّيةً عن بني قومكم (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) يعني: لو نعلم أنَّ هذا الذِّي تَخرجُون إليه قتال حقيقي يُقاتِل على مثله الناس لَاتَّبَعْنَاكُمْ؛ لكنّكم أنتم لم تذهبوا إلى قتال، أنتم ذهبتم أشبه ما يكون إلى الانتحار والتهلُكة؛ ولأجل ذلك ننسحب.
ثم قال تعالى: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) يعني: هم في حال قولهم هذه المَقُولة، وفِعلهم هذا الفعل أقرب للكفر من الإيمان؛ لأنهم (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) يعني: والله أعلم بالذي أسرُّوه وكتمُوه في صدورهم، وسيُعاقبهم الله عليه.
س: لماذا نصّ الله على الأفواه مع أنّ القول لا يكون إلا من الفمّ؟ لأنّه لم تنطوي عليه قلوبهم حقيقة.
ثم قال عز وجل مخبرًا عن هؤلاء المنافقين: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) يعني: هم الذين تخلّفوا عن القتال وقعدوا عنه، وقالوا لإخوانهم على سبيل التندّم والندم والحسرة على ما أصابهم: لو أطاعتونا بعدم الخروج والقتال، لما أصابهم القتل؛ فجاء الردّ عليهم سريعًا من الله فقال: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يعني: إذا كنتم ترون أنّ القعود يمنع من القتل ومن الموت فادرؤوه عن أنفسكم.
من الآية [169 – 175]
قال عز وجل مخاطبًا نبيه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ) يعني: لا تَظُنَنَّ أيُّها النَّبيّ أنَّ الذين قُتلوا في الجِهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته أموات كسائر الناس؛ بل الحقيقة أنّهم أحياء حياةً خاصّة بالمُجاهدين وهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
ثم ذكر الله بعض مظاهر حياة هؤلاء الشهداء، فقال: (فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني: هم فَرحين بالفَضل الذي أعطاهم الله (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) يعني: يستبشرون بإِخوانهم الذِّين لم يُقتلوا من المُجاهدين، أنّهم إن قُتلوا في سبيل الله سَيَلقون من الأجر والفضل والكرامة مثل ما لقوا هُم عند الله (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني: لا خوف عليهم فيما يستقبلون من أمرهم، ولا يَحزنون على ما تركوا من دنياهم؛ لأنّ الله سيَحفظ لهم ما تركوا.
والحديث عن الموت في سبيل الله هنا مُناسب لما حصل في معركة أُحد؛ حيث حصل فيه الكثير من القتل؛ فناسَب ذِكر الشهادة في سبيل الله وفضلها وأجر أهلها.
ثم قال عز وجل: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني: أيضًا يفرحون مع هذا بثَّواب كبير من الله، وهو الزِّيـادة على أُجور أعمالهم، وأعظم الزِّيادة هو النظر إلى وجهه الكريم، وهم وَاثِقُون أنَّ الله سَيَحفظ لهُم ثواب أعمالهم وأَجر جِهادهم؛ لأنّه (لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
ثم قال عز وجل يشير إلى الشيء الذي وقع بعد معركة أُحد: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) يعني: الآلام والجراح (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) في عملهم (وَاتَّقَوْا) في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، لهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) من الله؛ فأثنى الله على المؤمنين ثناءً عظيمًا.
والقصة هي: أن المُشركين بعد ما كَرُّوا على المُؤمنين وقتلوا منهم من قتلوا، وتفرَّق الصَّفَان، وابتعد المُشركون قليلًا قالوا: كيف بعد أن انتصرنا؟ فرحوا بهذا النَّصر لأنّهم ما كانوا يتوَّقَعُون أن يُنصَروا بعد الهزيمة الذَّريعة في بداية الأمر، وقالوا: كيف وقد تَسلَّطنا عَليهم دون أن نستأصلهم ونقتلهم؟ فهَمُّوا بالرجوع مرةً أُخرى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والكرّ عليهم في المدينة.
والصحابة لمّا سمِعوا بأنَّ المُشركين قد همُّوا بالرُّجُوع، تواعَدُوا في حمراء الأسد، وقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يتبَعُنِي إلا رجلٌ شهِد أُحدًا فقط، والسبب في ذلك:
- مزيد تمحيص للمؤمنين.
- فتح المجال لهم لأن يتشَفُّوا من عدوهم ويأخذوا بثأرهم؛ فالنفوس كانت مليئة غيظًا عليهم وهذا أدعى إلى قتالهم والحميّة عليهم.
ثم قال الله عز وجل: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) والقائل هو نعيم بن مسعود، قال: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) يعني: إنّ أبا سفيان قـد جمع لكم النَّـاس ليأتيكم وليستأصل شأفتكم، فاحذروهم؛ لكن المؤمنون ازدادوا (إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) هو كافينا وناصِرنا.
ثم خذّل الله عز وجل المشركين عن قتال النبي وأصحابه، حتى جاء في بعض السِيَر أنّ معبَد ابن أبي معبَد الخُزاعي لقيَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: والله يا رسول الله لقد ساءني ما أصابك وأصحابك، وودِدنا أنّا شهدنا المَعركة معك، ثم ذهب فلقيَه أبو سفيان فقال: ما تقول يا معبد؟ قال: والله لقد رأيت محمدًا قد أجمع لحربك وجمع النَّاس لك، قال: فما الرأي؟ قال: أرى أن تَنجُوا.
فاختلف المشركون في ذلك وتنازعوا، ثم أجمعوا أمرهم آخر الأمر على الرُّجوع إلى مكة فَرِحِين بهذا النَّصر الجُزئي الذي حصلوا عليه.
ثم قال عز وجل: (فَانْقَلَبُوا) يعني: فرجع المؤمنون إلى أهلهم (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) وهذا أجر صبرهم وجهادهم (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ) أي: واتبّعوا ما يُرضي الله عنهم والتزموا به (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
ثم قال الله عز وجل: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) يعني: إنّما المُخوِّف لكم الشيطان، وهو يُخوّفكم بأنصاره وأعوانه وجُنده (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأنَّ الذي يخاف من الله هو المؤمن وهو الذي يُعظّم الله عز وجل ولا يُعظّم أحداً سواه.
من الآية [176 – 180]
قال الله عز وجل: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يعني: لا يَحزُنك أيُّها النبي الذِّين يُسارعون في الكفر مُرتدين على أعقابهم من أهل النِّفاق، خاصة بعد أُحد، حيث سارع الكثير من المنافقين وظنُّوا أنّ الإسلام قد انقطع أَمره وزالت قُوته؛ فَسَارعوا في الكفر، وهذا ممّا يُوقع في النَّفس الحزن؛ ولذلك قال: (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) وإنما يضرون أنفسهم، ثم قال: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ) يعني: لا يجعل لهم حتى نصيبًا في الآخرة من ثوابه وجزائه ونعيمه (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ينتظرهم في الآخرة على كفرهم.
ثم قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني: إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان لن يَضُرُّوا الله شيئًا.
ثم قال الله عز وجل: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) يعني: لا يَظنُنَّ الذِّين كفروا أنَّ الله حينما أمهلهم وأَطال أَعمارهم على ما هُم فيه من الفُجور والكفر والعِناد والصَدّ عن سبيل الله، أنّ هذه الإطالة والإمهال خيرٌ لهم، بل هذا مِن الإمداد والإمهال ليزدَادُوا إثمًا.
ثم قال عز وجل: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) يعني: ما كان من حكمة الله أن يذركُم أيها المؤمنون على ما أنتم عليه من اختلاط بالمنافقين وعدم التميّز بينكم؛ لكنه ميّز بين المؤمن وغير المؤمن بالابتلاءات، ثم قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) يعني: ما كان من حكمة الله وقضائه أن يُطلعَكم على غيبه؛ فإنّ الغيب لا يعلمه إلا الله؛ ولكنه اختصّ بعض عباده بأن يُطلعهم على شيء من الغَيب ولذلك قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ).
ثم قال: (فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) يعني: فحقِّقوا الإيمان بالله، واثبتوا عليه (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يعني: وإن تؤمنوا بالله حقًا وتتقوه في فعل أوامره وترك نواهيه فلكم على ذلك أجرٌ عظيم.
ثم قال الله عز وجل: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني: ولا يظننّ الذين يمنعون عطَاء ما آتاهم الله من فَضلِه (هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) لأنَّ ما بَخِلوا به ستكون نتيجته يوم القيامة كما قال الله: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فهذا الذي بَخِلوا به سيكون طوقًا من نارٍ يوم القيامة عليهم يُطوقُّون به، ثم قال: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعني: لله مُلك ما في السَّماوات وما في الأرض كلّه.
من الآية [181 – 184]
قال الله عز وجل: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا) يعني: إن الله سمع مقالة اليهود الذين قالوا استهزاءً بعد أن سَمِعُوا الآيات التّي فيها دعوةٌ للمؤمنين إلى الإِنفاق في سبيل الله، وإلى إقراض الله القَرض الحسن: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) لأنه يطلُب منّا القرض، ونحن أغنياء بما عندنا من الأموال!!
فقال الله: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) أيّ: سنكتُب هذا القول الذِّي قَالوه في صحائف أعمالهم التّي سيُلاقونها ويُجَازونَ عليها يوم القيامة، (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) يعني: وسنكتُب أيضًا عليهم رِضَاهم بقتل الأنبياء أو بقتل أسلافهم بغير حقّ، (ونقول ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) يعني: عذاب النار المحرق.
س: قال تعالى: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فهل هناك قتلٌ للأنبياء بحق؟
هذه تُسمّى الأوصاف الكاشفة، ولا يُرادُ بها القَيد، فليس معنى الآية: أن هناك قتل لأنبياء بحق! بل هذا الوصف يكشف حقيقةَ قتلهم وأنّه بغير حق؛ مثل قوله عزّ وجل: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فليس معناه: أن هُناك من يدعُ مع الله إلهًا آخر له على دعوته بُرهان، وإنّما هي أوصافٌ كاشفة؛ فكُل من يدعو مع الله إلهًا آخر فإنّه لا برهان له به، وكُلُّ من قتل الأنبياء فإنّهم قد قتلوهم بغير حق.
ثم قال الله عزّ وجل: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يعني: هذا الذِّي نزل بهم من العذاب بسبب ما قدَّمت أيديهم، وأنّ الله ليس بظلاّمٍ لَعبيده، بل هو العَدل الحَكَم الذِّي لا يظلم أحدًا، وهو القائل في الحديث القُدسي: (يا عبادي إنّي حرّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينكم محرّمًا فلا تظالموا).
ثم ذكر الله عزّ وجل صفةً أخرى من صِفات اليّهود؛ فقال: (الَّذِينَ قَالُوا) كَذِبًا وافتراءً على الله: (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) يدَّعي أنّه رسول (حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) وقد كان قديمًا إذا قرّب الإنسان قُربانًا؛ فعلامة قَبُول هذا القُربان أن تنزِل نارًا من السّماء فتُحرِق هذا القُربان، وعندئذٍ يكون قد تُقُبِّلَ منه، فَقالوا: لا نُصَّدِق أي رسولٍ حتى يُقدِّم قربانًا فتُحرِقُهُ النّار ونحن نراه؛ فحينئذٍ نُؤمن بصدقه.
ثم قال الله عز وجل آمِرًا نبيّه بأنّ يَرُدَّ عليهم: (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ) يعني: بالأدّلة الظّاهرة البيّنة الدّالة على صِدقِك (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) يعني: ومن الأنبياء من جاء بنفس الآيات التّي طلبُوها، والصِّفة التّي ذَكُروها (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين) في زَعمِكُم؟ فليست المسألة أنّهم لم يقبلوا منهم ولم يتَّبِعُوهم، لا بل قتلُوهم!!
ثُمّ قال تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) يعني: إن كذَّبُوك أيُّها النَّبي فيما تقول؛ فاعلم أنّ هذا هو ديدنهم وهِي سجِّيَتهم وطبيعتهم، فلستَ أوَّلَ الرُّسل الذِّين كذَّبُوك، بل قد كُذِّبت رُسُلٌ من قبلك (جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) يعني: بالأدَّلة الواضحة على صِدقهم، وبالكتُب المشتملة على المواعظ والرَّقائق، وهِي الزُّبُر، وبالكِتاب المنير: هو الكتاب الهادي بما فيه من الأحكام والشَّرائع.
من الآية [185 – 186]
قال الله عزّ وجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) سواء كانت صغيرةً أو كبيرة، شريفةً أو وضيعة، قوِّيةً أو ضعيفة! فلا يغتَّر الإنسان في هذه الدُّنيا ولا بما فيها من النَّعيم؛ لأنَّ يوم القيامة هِيَ المَحكّ الذِّي يكون عليه الإنسان؛ ولذلك قال: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني: تُوَفَّونها تامّة غير ناقصة إن حَسنًا فحَسَن، وإن سَيئاً فَسَيِّء؛ ولذلك جاء في الحديث القُدسي: (إنّما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثمّ أُوَّفيكم إيّاها فمن وَجَد خيرًا فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومنَّ إلا نفسه).
ثمَّ قال: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) يعني: فمن أُبِعد عن النار، وأُدخِلَ الجنّة فقد فاز، وهذا هو الفوز الحقيقي الذّي لا فوز قبله ولا فوز بعده، ثمّ قال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) لأنَّ الحياة الدُّنيا تزول وتذهب، وهي متاع المخدوع الذّي يُخدع بهذه الدُّنيا ويُغتَّر بها.
ثمّ قال الله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) يعني: لتُختَّبُرُنَّ أيُّها المؤمنون في أموالكم، وفي أنفسكم -وهذه نوعان من أنواع الاختبارات والابتلاءات التّي يُبتلى بها المؤمن وإلا فالابتلاءات متنوعة- (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) بالاستهزاء بكم وبدينكم، وهذا ممّا يُؤذي المؤمنين بالله؛ لهذا قال: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يعني: إن تصبروا على هذا الأذى، وعلى الابتلاء الذِّي ينالكم، وتتّقوا الله في هذا الصَّبر بطاعته واجتناب نهيه، فإنّ هذا الفعل من الأمور التّي يُعزم عليها ويَجتهد الإنسان في تحصيلها.
من الآية [187 – 189]
قال الله تعالى إشارة إلى بعض أخلاق أهل الكتاب، وخُصُوصًا عُلماؤهم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني: اذكر أيُّها النّبي حين أخذ الله عهدًا مُؤكدًا على عُلماء أهل الكِتاب من اليَّهُود والنَّصارى (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) يعني: عهد إليهم أن يُوَّضِحُوا التوراة والإنجيل وأن يُبيِّنوها للناس وألاَّ يكتموها (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) لم يكتَفُوا فقط بالإعراض عنه، بل نبذُوه وراء ظُهُورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، يعني: استبدلُوا بآيات الله ثمنًا حقيرًا، والثمن هو: الرئاسة، والمال، مقابل كِتمان الحقّ وعدم بيانه والإعراض عنه، وبئس هذا الثمن؛ ولذلك قال: (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) يعني: بئس ما يستبدلون.
ثم قال الله عزّ وجل: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) يعني: يقول عز وجل لنبيِّه: لا تَظُنَّنَّ أنّ الذّين يفرحُون بما فعلوا من القبائح (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) يعني: أن يُثنُي الناس عليهم بخير لم يفعلوه (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) والمفازة هي النّجاة، بل لهم العذاب المقيم؛ ولذلك قال الله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ثمّ قال الله عزّ وجل: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعني: لله وحده دون سواه مُلكُ ما في السّماوات وما في الأرض، مُلكُهُمَا خلقًا وإيجادًا وتدبيرًا وإحكامًا، ولا يملك السّموات والأرض إلاّ من هو على كُلِّ شيءٍ قدير.
من الآية [190 – 195]
هذه الآيات فيها دعوةٌ للتَّفكُر والنَّظر في ملكوت الله عز وجل، في بديع صُنعه وجليل خلقه وتقديره سبحانه وبحمده، فاستفتحت الآيات بقوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) يعني: في هذه السَّماوات التي خَلَقها وهذه الأرض التي أوجدها، وفي اختلاف اللَّيل عن النهار الذي ينتج عن حركة هذه النجوم والأفلاك، في هذه كلّها ومضمونها آيات بيّنة ظاهرة لأصحاب العُقول.
ثم ذكر الله صفات أصحاب العقول؛ فقال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) يعني: الذين يُداومون على ذكر الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم وعلى جوارحهم وعلى كلّ أحيانهم وأحوالهم (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني: يُعملُون فِكرهم ونظرهم في خلق السَّماوات والأرض؛ ولأن ذِكـر الله والتفكّر في خلقه يُورث الإيمان به والتسليم له قالوا: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) يعني: مُحَال أن يكون هذا الخلق العظيم خُلق عبثًا لغير غاية (سُبْحَانَكَ) يعني: تنزّهت عن أن تخلق هذه المخلوقات العظيمة دُون حكمة ودُون غاية.
ثمّ سألوا الله عز وجل أن يقيهم عذاب النّار فقالوا: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) بمعنى: جنبّنا عذاب النار.
ثم قالوا يُخاطبون ربهم مُتذلّلين إليه خاشعين له: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) يعني: أن من دخل النار فقد خَزِي (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) يعني: الظالمون المُعتدون ليس لهم أنصار ينصرونهم من الله ولا أنصار يمنعونهم من دخول النار.
ثمّ قالوا وهم في غاية التذلّل والخضوع لله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) يعني: سمعنا داعيًا يدعو إلى الإيمان ويقول: (أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ) (فَآَمَنَّا) يعني: فاتبّعناه وصدّقناه وأقررنا بما دعا إليه وانقدنا إليه (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) يعني: فيا ربنا اغفر ذنوبنا واسترها وتجاوز عنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) بتوفيقنا للعمل الصالح (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) وهذا كمال الخضوع لله عز وجل، حيث فزِعوا إلى الله عز وجل أن يتوفاهم مع الأبرار، أي: أن يُثبتِّهم على الإيمان حتى يموتوا كما يموت الأبرار.
ثمّ قالوا: (رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) يعني: سألوا الله عز وجل أن يُعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله، وقد وعد الله عباده المؤمنين على ألسنة رسله بأمور:
- وعدهم بهدايتِهم إلى الحقّ وسبيل الرشاد والطريق المُوصل إليه.
- وعدهم بالنصر على عدوّهم والتمكين لهم في الأرض.
- وعدهم بدخول الجنّة والسلامة من النار.
ودعوا أيضًا فقالوا: (وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني: لا تفضحنا يوم القيامة بذنوبنا التي ارتكبناها في الدنيا، ولا تفضحنا بعذابك لنا يوم القيامة، ولا تفضحنا بدخول النار يوم القيامة (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَاد) لأنّك القادر والمالِك فلا يمنعك شيء من الوفاء بما وعدت.
فجاءت الإجابة من الله مُبتدئةً بحرف الفاء: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) وذكر لفظ الربوبية؛ لأن لفظ الربوبية مرتبطٌ بالإنعام والإحسان؛ ولذلك ناسب أن يُذكر، أي: استجاب دعاءهم قائلًا لهم: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) يعني: لا أُضيع ثواب عاملٍ عمل منكم، سواء عَمِل قليلًا أو كثيرًا، سواء كان العامِل ذكرًا أو أُنثى (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض) يعني: أنتم مِثل بعض في أصل خلقكم، وأنتم كلكم أبناء آدم من ذكرٍ وأنثى، مُتساوون في التكليف وفي أصل الخلق.
ثم قال: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) يعني: هاجروا من بلادهم في سبيل الله، لم يُهاجروا تجارةً ولا مغنمًا ولا مكسبًا (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِم) يعني: أَخرجهم الكفار من دِيارهم (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) يعني: آذاهم الناس، ولقِيَهم الأذى في أنفسهم وأموالهم وأبدانهم وأهليهم (وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) يعني: وقاتَلوا أعداءهم وقُتلوا في ذلك (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فهؤلاء الذين على هذه الصفة وعدهم الله بأعظم الثواب فقال: لأُغطّي سيئاتهم وأتجاوز عنها ولا أُحاسبهم ولا أؤاخذهم عليها، ثم أُدخلهم الجنّة يستقرّون فيها (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني: هذا الذي أعطاهم الله جـزاءً على أعمالهم (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
من الآية [196 – 198]
قال الله عز وجل يُخاطب نبيّه: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) يعني: يقول عز وجل: يا أيّها النبيّ لا يغررُك ويخدعك تنقل الذين كفروا في البلاد، وتمكنّهم منها، وتسلطّهم في الأرض، فلا تشعر بالهم والغم من حالهم؛ فإنّ هذا كله (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) مهما كان، وفي مُقابل ذلك يكون مصيرهم النار؛ حيث قال الله: (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) أي: أنّ جهنّم مَقرُّه (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) والمِهَاد هو: الفِراش، أي: بِئس فراشهم الذي يفترشونه النار.
في مُقابل هؤلاء قال الله عز وجل: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) يعني: الذين اتّقوه فآمنوا به، وعمِلوا بما أمرهم به واجتنبوا ما نهى عنه هؤلاء (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) يعني: هي ليست جنّة واحدة، وإنّما جنّات كثيرة تجري من تحت قصورها الأنهار (خَالِدِينَ فِيهَا) يعني: مُقيمين ماكِثين فيها (نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) أي: خيرٌ للمتقّين المُحسنين أعمالهم.
من الآية [199 – 200]
قال الله عز وجل: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ) يعني: إنّ أهل الكتاب ليسُوا سواءً في كل أحوالهم؛ فإنّ من أهل الكتاب من آمن بالله وصدِّق بالذي أُنزل على محمد، وصدق بالذي أنزل على أنبيائهم في الكتب السابقة.
س: قدّم الله إيمانهم بما أُنزل على النبيّ على ما أنزل على أنبيائهم السابقين؟ لأنّ من آمن من أهل الكتاب بما أُنزل إلى النبيّ، فقد آمن قطعًا بما أُنزل إليهم في كتبهم السابقة.
ثم ذكر لله لهم وصفًا ثالثًا فقال: (لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) يعني: لا يستبدلون بآيات الله ثمنًا، مهما كان هذا الثمن؛ فهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: ثواب، وهذا الثواب يأتيهم سريعًا؛ لأنّ الله (سَرِيعُ الْحِسَابِ).
ثم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا) هذه الآية تلخِيص لمضمون هذه السورة؛ فالمُؤمن مطلوبٌ منه:
- أن يصبر على تكاليف الشريعة وعلى أقدارِ الله التي تُصيبه.
- وأن يُصابر -أيّ: أن يُغالب الكفار في الصبر- فلا يكون صبر الكفار أعظم من صبر المؤمنين.
- وأن يقيموا على الدين وعلى الجهاد في سبيل وعلى ما أمر به الله به.
ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني: واتقّوا الله بامتثال أوامِره واجتناب نواهِيه لعلّكم تنالُون مطلوبكم بدخول الجنّة والسلامة من النّار.
 
الدرس الخامس: تفسير سورة النساء

الدرس الخامس: تفسير سورة النساء

سأرفق الملف الذي يحتوي على الدرس دون كتابه نصًا هنا، من هذا الدرس -إن شاء الله-؛ وذلك للاختصار.
 
عودة
أعلى