سورة الفاتحة
ترديد بدء السورة بين البسملة والحمدلة -بناء على تنوع الرواية بين أن البسملة جزء من الفاتحة أو ليست جزءا منها- عجيب في الإعجاز، لأن البسملة لافتتاح الأعمال وائتنافها، والحمدلة لاختتام الأعمال وحصول النعم، فقد جمعت الروايتان بينهما. هذا مع أن الحمدلة تصلح للافتتاح أيضًا.
ثم لخصت السورة رحلة الوجود في ثلاث آيات دلت على ثلاث حقائق كونية كبرى: الخلق والرحمة والمصير.
فرَبُّ كل هذه العوالم التي تراها، أو لا تراها وتسمع عنها، أو لا تراها ولا تسمع عنها، هو الله. ومن اللافت أن السورة لم تشرع في تقرير حقيقة الوحدانية بالقول: الله لا إله إلا هو، أو القول: الله رب العالمين، ولكنها بدأت بالتسمية أو بالتحميد لصاحب الأوصاف المذكورة، لتشير إلى أن التوحيد من حقائق الفطرة الإنسانية التي لا تحتاج إلى تقرير أو تدليل، ولكن السورة تأخذ بيدك أخذًا رفيقًا هينًا إلى أن هذا الذي تتوجه إليه فطرتك وطبيعتك، تدعوه وتناجيه، وتعتقد أنه خلق وقدّر، وسيجمع ويجازي، هو المستحق لأن تُفتتح الأعمال والأقوال باسمه، وهو المستحق وحده للحمد الكامل.
والحمد ليس هو الشكر، ولكنه معنى مركب من الثناء، أي المدح الذاتي، والشكر، فهو محمود لذاته، ومحمود أيضًا لآلائه ونعمه، أي المشكور له، وشُكره المتضمَّن في الحمد يكون بالأقوال ويكون بالأفعال، فتحصَّل من هذا ثناء ذاتي بمعزل عن كل شيء، وثناء بسبب الإنعام، وعمل ذاتي لأنه يستحق أن يعبد ولو لم يُنعم، وعملٌ، أي شكرٌ، بسبب نعمه.
فهذا هو البدء، وهو معرفة النشأة ومصدرها، إنها راجعة إلى (رب العالمين)، أي ليس رب جزء من الوجود بل رب (الكلية) التي لا يعلم حقيقتها وكيفيتها ومداها إلا هو.
وفي الوسط الرحمة، التي هي صفة من صفات الخالق، وغاية من غايات الوجود التكويني والتشريعي، ويجب أن تكون غاية المكلفين وخُلُقَهم الأول، فكل ما يجافي الرحمة هو بعيد من (رب العالمين) ومما يحبه ويرضاه. وهذه الرحمة قسمان: ذاتية دل عليها اسم (الرحمن)، ومتعدية إلى الخلق دل عليها اسم (الرحيم)، وهي بنوعيها في المفتتح وفي الختام، وقبل الشروع وبعد التمام. فمن أين تأتي القسوة والمشقة والشقاوة؟ والرحمة معك بدءًا من (الرحم)؟ لا شيء إلا أنه الابتعاد عن مصدر الرحمة!
والمصير هو إلى (ملك يوم الدين)، فهو لم يخلق الخلق للعب أو العبث، ولم يتركهم سدى، بل الرحمة الدنيوية موصولة برحمة أخروية، والشقاوة الدنيوية، موصولة بشقاوة أخروية.
وللدين يوم، بمعنى الدينونة والخضوع، والإيمان بالغيب، أو بمعنى الحساب والمجازاة، ولهذا اليوم صاحب يملكه، هو (المالك)، وحاكم يحكم فيه، فهو (الملك).
هذه فاتحة الفاتحة، وهي تشمل التصور الكامل لأصل الإيمان ولبابه، إيمان بالله على التفصيل المذكور، وإيمان باليوم الآخر.
ثم واسطة العقد، ومفتاح الفاتحة: (إياك نعبد، وإياك نستعين).
فـ (لا إله إلا الله) لها تحقق في عالم الغيب، وهو ما تكفلت به مقدمة البدء، ولها تحقق في عالم الشهادة، وهو ما تتكفل به آية الوسط، لأن وجودك المتحيز المشهود لا بد له من منهج طريق يلائم ما تؤمن به من الحقائق الكونية الكبرى، وليس يجوز أن تكون سيرتك في حياتك مناقضة لسريرة نفسك، ومن ههنا لم يقل: إياي فاعبد، وإياي فاستعن، لأن المقدمة الأولى تُسلم إلى هذه النتيجة بداهة، حتى إنك تنطق بها بضمير المتكلمين، متوجها إليه بضمير الخطاب، وهما ضميران للحضور، بعد أن كانت المقدمة مصبوغة بأسلوب الغياب.
أنت الآن في الحضرة.
توحيد العبادة، وتوحيد الاستعانة، فلِتعبدَه لا بد أن تستمد منه، ولا بد أن تستعين به، لأنه لا حول ولا قوة لك إلا به. كيف ستقدر على الوصول إليه إلا به؟ كما أنك لم تعرفه كمال العرفان إلا به، وما هذه القُدَر التي أوتيتها (العلمية والعملية) إلا للاختبار فحسب، ليعلم كيف توجهها، أما الاهتداء والمسير والوصول، فلا يكون إلا به.
ومن جملة عونه لك (ضمير الجماعة)، لأنك لن تعبده في صومعة ولا خلوة، على الأغلب، ولأنك في حال التفاعل (أقرب وأقدر).
إنك تسمع الآن ولا شك بعد قراءتك لهذه الآية وما بعدها صوت الترديد الجماعي (الكورال)، المنسجم المتناسق: (إياك نعبد وإياك نستعين).
والتحقق الثالث لـ (لا إله إلا الله) في الدعاء، فهو وحده الذي يجيب الداعي إذا دعاه، وهذا هو القسم الثالث من السورة، وهو ختامها ومشهدها الأخير.
والدعوة الأولى والأخيرة والدائمة هي الدعوة بـ (اهدنا الصراط المستقيم)، ولم تكن الدعوة باهدنا إليه، ولا اهدنا له، ولكن اهدنا إياه، بإسقاط الوسائط، وتسريع الوصول.
وهو طريق فخيم جليل الشأن، أوحى بذلك حرفان من حروف التفخيم في (الصراط)، وهو أيضًا طريق دقيق ومزلة إن لم تَستحضر اليقظة، وتتحرَّ الاستقامة عليه، وتسأل الله الهداية إليه في كل عمل وحال ومقال، أوحى بذلك حرفان في وصفه رقيقان.
وهو صراط بعيد عن الاعوجاج والالتواء والتلون، موصِّلٌ باختصار وثبات إلى المطلوب.
وهو طريق سُبقتم إليه، لكم فيه سلف، ولهؤلاء السلف قصص، سار فيه قبلكم السائرون، وعرفه بنعمة الله العارفون، وتنكب عنه آخرون، منهم متعمدون، ومنهم ضالون، فالأقسام إذن ثلاثة: قوم اهتدوا أنعم الله عليهم، فليس ذلك بجهدهم، ولكن بهداية الله لهم بسبب قلوبهم السليمة، وقوم غضب الله عليهم، عرفوا وحادوا عن الطريق، أو بالأحرى (مغضوب عليهم)، فهو غضب عام متعدد الجهات، لأنهم أضلوا وفتنوا، وقوم ضلوا الطريق، سكت عنهم.
ومن البديهي أن الذين أنعم عليهم في الدنيا ستنالهم نعمته في الآخرة، والمغضوب عليهم في الدنيا سينالهم غضب (عام) في الآخرة، وأن الضالين الكثيرين بطول مدة الألف، إلى الله أمرهم يحكم فيهم بحكمته.
ومن أجل اختزال هذه السورة لمعاني الدين ومعاني القرآن كانت فاتحة الكتاب، وأم الكتاب، وفُرضت قراءتها في كل ركعة من الصلاة، وكانت دواء شفاء.
وعلى كثرة ترديد المسلم لها في صلواته وغير صلواته، لا يملُّها، ولا يستثقلها، ولا يكرهها، ولو كان الكلام كلامًا بشريًّا لملَّتْه الأسماع، ومجَّته الألسنة، وزهدت فيه النفوس، ولكنها تُرَدَّد ملايين المرات، ويردِّدها ملايين البشر، في ملايين الصلوات والمواقف، وهي باقية على نضارتها وخفتها وحلاوتها، لا تبلى ولا تَخْلَق، وأيضًا لا ينضب معين عطائها من المعاني، فهي السبع المثاني، تُثَنَّى وتُكرَّر، بما أنها فاتحة الكتاب، ومفتاحه، وجامعة معانيه ومقاصده.
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاكم الله تعالى خيرا وبارك فيكم. ..واذكرك اخي الكريم بالحديث الصحيح...الحديث القدسي (جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين...فاذا قال عبدي الحمدلله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي.....الحديث) فان هذا الحديث يدل دﻻلة واضحة على منزلة الفاتحة وعظم قدرها...والله تعالى أعلم.
سورة البقرة -وهي أطول سورة في القرآن- مجاورة لسورة الفاتحة وهي من أقصر سور القرآن، وكلاهما جمع هدايات القرآن في أطول بيان، وأقصر بيان. ولقبت في الآثار بسنام القرآن، وفسطاط القرآن.
وقصة البقرة فيها تشير إلى الإيمان بالغيب، وهي تقول: أسلم نفسك وأطع ربك، بمعزل عن معرفتك بالحكمة، لأن التلكؤ يصعِّب الأمر عليك. وفي القصة أنه لم يقل لهم اذبحوها لتضربوا بها القتيل، بل قال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، ثم لما ذبحوها قال لهم: (اضربوه ببعضها)، لتحقيق غرضين: كشف قصةٍ آنيَّة، بمعرفة سر القتيل، وكشف قصة كونية بإراءتهم كيفية إحياء الموتى.
ولا بد لنا أن نتنبَّه إلى أن البقرة ليست من الأنعام التي ألفتها العرب، فهم يعرفون البقر الوحشي، وليس من دوابهم البقر الأهلي، وأن البقر ليس من الدواب التي تُركب، وأن هذه البقرة موصوفة بأوصاف عجيبة مثالية، فهي من قِبَل الحجم والعمر وسط، مع أنها في الأنعام شيء ضخم، وهي من قِبَل اللون براقة تسر الناظرين لا يشوب لونها شيء، وهي من قبل العمل عزيزة مُكرَّمة لم تذلَّل في أعمال الحرث والسقي، فهي إما أن يُشرَب لبنها وإما أن يؤكل لحمها. وكانت وظيفتها في بني إسرائيل كشف غيب، وإحياء ميت، وآية على إحياء الموتى. وقصتها تفردت بها هذه السورة. فإن لم تكن هذه أوصاف السورة نفسها فما تكون؟
وتقابل قصة إحياء القتيل ببعض البقرة في السورة خمس قصص أخرى في إحياء الموتى:
1- قصة إماتة بني إسرائيل وإحيائهم بعد قولهم لنبي الله موسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).
2- وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم، إذ لا مفر من الموت، ولكنه بيد الله، فإذا وجب القتال فليكن، لأن الأجل لا يقدمه القتال، ولا يؤخره الفرار.
3- وقصة الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، وادعى أنه يحيي الموتى، وهو لا يملك تدبير أمر نفسه فضلا عن أن يدبر أمر الكون.
4- وقصة الذي مر على قرية وسأل عن كيفية إحيائها بعد موات، (فأماته الله مائة عام ثم بعثه)، وأراه الله عيانًا كيف يرجع الأموات إلى الحياة، في نفسه وفي حماره وفي طعامه.
5- وقصة إبراهيم لما سأل أيضًا: (رب أرني كيف تحيي الموتى)، ليطمئن قلبه، فأراه الله ذلك في أربعة من الطير. وأظن والله أعلم أن عددها إشارة إلى المشْرِقين والمغْرِبين، وهي الجهات الأربع، فالله يجمع الخلق في البعث من أقطار الأرض جميعها، ولذلك أمره أن يجعل على كل جبل منهن جزءًا، فهو ليس يحييها فحسب، ولكن يجمع أجزاءها المتفرقة لو تفرقت.
والسورة ذكرت كثيرًا من الأحكام وأشارت إلى اتصال كل ذلك بالغيب، ومنه شأن البعث بعد الموت، فامتثال الأحكام يجب أن يكون بمعزل عن الحِكَم، لأنه لا يحيط بها وبأقداره فيها إلا الله، ولن يبلغ الفكر الإنساني المحدود الضئيل مبلغ العلم الإلهي الذي أحاط بكل شيء علمًا، ولأن الجزاء الكامل على الامتثال وهو (التقوى)، أو على العصيان، إنما هو في الآخرة، الآتية يقينًا ببعث الموتى.
وأمهات الأحكام التي جاءت في السورة تتصل بالصلاة، والصيام، والقتال، والحج، والأسرة، والأموال.
ففي الصلاة جعل لهم قبلة ثم ولاهم عنها بحكمته، لأن له المشرق والمغرب، ولأنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكشف لهم عن الحكمة في ذلك فقال: (وماجعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)، ولكنهم ما كانوا يعلمونها حين أمروا بالقبلة الأولى، ثم حُوِّلوا إلى القبلة الأخرى.
وفي القصاص قال لنا: (لعلكم تتقون)، وفي الصيام: (لعلكم تتقون)، ثم زاد فقال في الحكمة: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)، فهذه ثلاثة من المعاني، وهي بعض من المعنى الكبير (التقوى).
وفي السؤال عن الأهلة أجابهم بما يسمى في البلاغة أسلوب الحكيم، إذ سألوا عن الماهية، فأجابهم بالوظيفة: (يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج). حتى ذهب بعض المفسرين إلى أن التعقيب عليه بقوله: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها) يرجع إلى السؤال، وأن من إتيان البيوت من أبوابها أن يكون السؤال في محله وبصيغته الصحيحة. وليس هذا ببعيد إذا تذكرنا إلحاح بني إسرائيل في الأسئلة عن البقرة التي أمروا بذبحها، وتلدُّدَهم وتلكؤهم، حتي شدد الله عليهم بتشديدهم على أنفسهم.
وفي الحج قال لنا: (وأتموا الحج والعمرة لله)، أي لا لغرض آخر إلا أن الله أمر بهذا، وستَجْنُون المنافع الكثيرة، ولكنها ليست هي علة امتثالكم.
وفي القتال قال: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم، والله ويعلم وأنتم لا تعلمون)، فها هي قضية السورة بكل جلاء.
وقد جاءت هذه الجملة الأخيرة مرتين في السورة، والثانية في شأن الطلاق، وثالثة تشبههما في خطاب الله الملائكة: (قال إني أعلم ما لا تعلمون)، وهم قالوا لله جل ثناؤه لما سألهم أن ينبئوا بالأسماء: (سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) على ما يقتضية الأدب والتسليم.
وفي الخمر والميسر أنبأنا بالحكمة فقال: (وإثمهما أكبر من نفعهما).
وفي شأن اليتامى قال: (والله يعلم المفسد من المصلح).
فإذا جاءتك المقادير في الشأن الأسري فسلِّم وامتثل بمعزل عن معرفتك بالغاية: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، (الطلاق مرتان)، (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)، (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا)، (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضت لهن فريضة فنصف ما فرضتم)، (والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج).
وفي المعاملات المالية يظهر التعالم والتفيهق: (ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا)، وجاءهم الجواب الإلهي الجازم لا ببيان الحكمة، لأنه يبيِّن من الحكم مقادير يعلمهما في مواطن يعلمهما، وأما الاستجابة لأمره فبمعزل عن ذلك: (وأحل الله البيع وحرم الربا)، هكذا فحسب.
وفي الشهادة بين علة استشهاد رجل وامرأتين، فقال: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)، والحكمة: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)، حسبك الأمر للامتثال، وحسبك مثل هذا لاطمئنان القلب، ومن إتيان البيوت من أبوابها أن تستقيم كما أمرت.
ولا ننس أن هذا يجري على الشجرة التي أكل منها آدم وزوجه، ويجري في قصة استكبار الشيطان وإبائه، إذ جعل عقله مقياسًا للامتثال في مواجهة أمر الله.
ومن هذا الباب قوله تعالى في السورة في كلمة جامعة: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين).
فالمطلوب أن تدخلوا في الإسلام كله، وأن تستسلموا لله بكليتكم، ولا يجوز لكم أن تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، ولا أن تدخلوا ببعض حيواتكم دون بعض، فكلكم لله، فانغمروا في الإسلام كله، واصطبغوا بصبغته الجامعة، فهذا هو شأن المتقين الذين يؤمنون بالغيب.
واحذروا خطوات الشيطان وسلوك الشيطان، فإن له استدراجًا عن أمر الله خطوة فخطوة، وشيئًا فشيئًا، حتى يخرجكم منه جملة، ولا يبقى لكم منه شيء، يبدأ بالقليل ليجر إلى الكثير، ويأمر بالهين ليصل بكم إلى العظيم، فقد أعلنكم بالعداوة، وتعهد بإضلالكم وإغوائكم.
المقدمة:
الهداية التي طلبت في سورة الفاتحة هي في هذا الكتاب.
وهذا الكتاب لا ريب فيه، فكن مطمئنًا، فالتحدي به قائم، وإعجازه البشر متحقق، لأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله، فضلا عن أن يأتوا بمثله.
وهو هدى للمتقين، وهم مهتدون ويزدادون هداية بالقرآن. أنت في هذه الحياة الدنيا عرضة للمهلكات، فلا بد أن تُعِد وقاية من كل ما يضرك، وتلك هي التقوى.
ومن أهم ما يميزهم: الصلاة والزكاة، وهما طاعة بالأبدان وطاعة بالأموال، فأنفسهم وما يملكون لله، وهم يسيرون فيهما بما أمر الله، لا يبخلون بأنفسهم ولا أوقاتهم ولا أموالهم عما افترض الله، ويأتون فوق ذلك بما لم يفترض عليهم تقربًا وحبًّا.
وهؤلاء المتقون لهم نسب عريق في الإسلام، وهذا الذي أنزل إليهم ليس بدعًا من الرسالات، ولكنه متصل بما سبق، ومتمم له، ومهيمن عليه، بكشفه لما صح منه وما أصابه التحريف، ولذلك يؤمن المتقون (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك).
يؤمنون بهذا الأصل العريق، ويوقنون بالمصير إلى الله في الآخرة.
وجماع الثلاثة: أداء الفرائض، وهو حاضر، والإيمان بخبر الله عن الماضي، وخبره عن المستقبل، هو: الإيمان بالغيب.
ثم أقسام الناس في مواجهة الدعوة: المتقون، والكافرون، والمنافقون. وفي شأن المنافقين تفصيل وتطويل وتمثيل، يزيد على ما جاء في شأن المتقين وشأن الكافرين، فحالهم عجيب غريب يستحق ضرب المثل والبيان، فهم لابَسوا الحق واقتربوا منه، ولكنهم نكصوا على أعقابهم وحادوا عنه، وتحولوا من أولياء إلى أعداء.
الجزء الأول:
فيه دعوة الناس أن يعبدوا ربهم، وتحدٍّ بالقرآن، وعظة بقصة بدء الخلق، وتعليم آدم الأسماء، وعداوة الشيطان لبني آدم، ذلك أن أصل الخلق مرتبط بعداوة الشيطان.
الجزء الثاني:
فيه ذكر التاريخ القريب للدين الذي أنزله الله وهو الإسلام، وهو خطاب بني إسرائيل، وفيه موعظة وتذكير بالنعم، وسوق لقصصهم مع النعم وكفرانهم وعصيانهم وعدوانهم، وهو على ما ذكر بعض المفسرين من قبيل: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، ففي تقريع هؤلاء تحذير من سلوك سبيلهم، كما قال: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل).
على أن في الحديث عن بني إسرائيل قضية أخرى، وهي أن الدين الحق الذي أنزله الله كثيرًا ما يستعمله الناس في الطغيان والفساد، ويسوغون أعمالهم بنسبتها ونسبة أنفسهم إلى الله تعالى اسمه، ورفْع أنفسهم فوق الخلق، ويكونون قد حرَّفوا وبدلوا، ويتخذون دين الله مطية إلى أهواء وشهوات، ونموذجهم الأمثل هو بنو إسرائيل، أنعم الله عليهم وفضلهم، بنعم دينية ودنيوية: (اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين)، ولكنهم نقضوا العهد، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء، وقالوا مع ذلك: (نحن أبناء الله وأحباؤه)، وهي صورة مقيته للتدين لأغراض تضاد الدين وتجافيه.
وقضية ثالثة وهي سنة الاستبدال الماضية، كما قال الله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)، وقال: (من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه..) الآية. وفي هذه السورة قال لهم: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل..) الآية، وقال: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب). فقد جعلهم أمثولة لحال من أنعم الله عليه بالوحي والهدى والرحمة ثم بدل نعمة الله كفرًا، فهو يستحق أن يسلب مزية التكريم والتفضيل، وأن يُستبدل به غيره، ويستحق أيضًا العقوبة والنكال، كما فعل الله ببني إسرائيل، بعد تاريخ طويل من الأنبياء والآيات والإنعام والإمهال.
الحديث عن بني إسرائيل جرى بأسلوب الخطاب لهم إلى ذكر قصة البقرة، فانتقل إلى الحديث عنهم بأسلوب الغياب.
ثم عاد إلى الخطاب في وسط القصة: (وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها..)، ومن ههنا صار الحديث عنهم يتنوع من خطاب إلى غياب.
والغرض من هذا والله أعلم الحديث إليهم والحديث عنهم، وموعظتهم، والموعظة بهم، وذلك يتحقق بالأسلوبين.
وذكر قسوة قلوبهم بعد إراءة الآيات، وزيادة قسوتها على الحجارة التي هي وقود النار كما أن بعض الناس وقود لها، ولكن من الحجارة ما يلين وما يكون مصدرًا للماء وما يتأثر بخشية الله.
ولما جاء نداء الذين آمنوا في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا..) جاء ذكر (أهل الكتاب)، وبعد قليل جاء ذكرهم مفصلا (اليهود والنصارى)، ثم رجع إلى خطاب بني إسرائيل قبيل ذكر إبراهيم في قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم..).
ومع أن اليهود أشد عداوة فإن النصارى يساوونهم في أنهم لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم. وهذه سنة.
وبعد ذكر إبراهيم (وهو أبو إسماعيل أبي العرب وأبو إسرائيل أبي اليهود، وأبو الأنبياء)، وما يتصل بقصته ومكانته وإمامته من رفع القواعد من البيت ومحاجتهم في شأن إبراهيم جاء ذكر تحويل القبلة، وما في تحويل القبلة من جعل الأمة (وسطًا) ليكونوا (شهداء على الناس)، أي لاختيارهم وتفضيلهم، ومن اختبار تحويل القبلة في الإيمان بالغيب والتسليم للوحي واتباع الرسول. وذكر أن اختيار القبلة هو من إتمام النعمة، وهو مشبَّه وملحق ومتصل بإرسال الرسول منا يتلو ويزكي ويعلم الكتاب والحكمة وما لم نكن نعلم، (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم..) الآيات.
ثم كان من أول ما أمرنا به بعد اختيار القبلة الذكر والشكر والاستعانة بالصبر والصلاة، وذكر البلاء الذي أوله القتل في سبيل الله وهو حياة لا موت، ثم أنواع البلاء الأخرى. وهذا جاء بعد الاصطفاء للخيرية وتقليد الإمامة والإعداد للشهادة على الناس، فكل هذه تكاليف لها ما بعدها، وتحتاج إلى ما يليق بها من مجاهدة ومصابرة، ولا تأتي عفوًا سهوًا من غير ابتلاء، كما ابتلي إمام هذه الملة إبراهيم عليه السلام بكلمات، فأتمهن ونجح في اختبار الإمامة.
وبمناسبة ذكر البيت جاء ذكر الصفا والمروة.
وبيان عاقبة الكتمان متصل بشأن القبلة ومعرفة أهل الكتاب أنه الحق.
هذا كله جزء على حدة.
الجزء الثالث:
والجزء الذي بعده يبدأ من قوله: (وإلهكم إله واحد)، وفي مطلعه ذكر آيات الخلق، واتخاذ بعض الناس الأنداد، كما بدأ الجزء الأول بقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)، وقوله: (فلا تجعلوا لله أندادًا). وهنا قال: (إن في خلق السموات والأرض..) الآيات، وجاء خطاب الناس: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا).
وكما كانت تلك مقدمة لخطاب بني إسرائيل في الجزء السابق، كانت هذه مقدمة لخطاب الذي آمنوا في قوله: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم).
وذكر الأكل في المرتين إنما هو على معنى إقامة الأبدان على الحلال والطيب ليصح تلقيها للهداية، ولئلا تكون وقودًا للنار، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الأكل قوله: "بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار".
ومن ههنا يبدأ الخطاب الخاص بالمؤمنين تشريعًا وتعليمًا ووعظًا، في أمهات العبادات والمعاملات والفرائض.
فعلمهم أنه ليس البر في صور العبادات على جلالتها حتى يصاحبها أصول الخلال والأعمال من الإيمان وبذل المال والصلاة والوفاء بالعهد والصبر، فذلكم الصدق والتقوى.
والبدء بالقصاص لأنه من عادة القرآن أن يبدأ بمعالجة أشد الأحوال ويتدرج بعدها إلى ما هو أخف وإلى الوقاية من الخطايا والأخطاء قبل وقوعها، كما في سورة النور وسورة الحجرات، مما شرحته في كلمات سلفت (انظر: بعد التراويح).
وبعد ذكر شأن الصلاة في قصة تحويل القبلة، وتسمية الصلاة إيمانًا (وما كان الله ليضيع إيمانكم) متصلةً بقصة إبراهيم لمناسبة صلته برفع قواعد البيت، جاءت أحكام الصيام، وأما الزكاة فقد ذكرت غير مرة في السورة وسيأتي ذكر الإنفاق وأحكامه.
وههنا وقفة في الصلة بين القرآن والصيام، فقد جاء في أول السورة في وصف القرآن أنه (هدى للمتقين)، وهنا يقول في شأن الصيام: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذي من قبلكم لعلكم تتقون)، فالصيام أحد ما يهيئ للتقوى، والتقوى تهيئ للاهتداء بالقرآن، ولذلك اختير تشريع الصيام في الشهر الذي أنزل فيه القرآن.
وذكر الدعاء ضمن آيات الصيام هو مزية للصيام فهو درجة من القرب وصلاح من الحال وخلوص في القلب يُعِدّ لتقبل الدعاء وإجابة دعوة الداعي.
والنهي عن أكل الأموال بالباطل عقيب أحكام الصيام إنما هو للإشارة إلى أنه من غير اللائق أن يصوم المرء ثم يفطر على الحرام، فهذا الذي حُرِم منه في نهار رمضان إنما هو الحلال، وأما الحرام فممنوع نهارًا وليلاً وصومًا وفطرًا، والأشنع منه أن ينضم إلى ذلك الترافع إلى القضاة وشهادة الزور لأكل المال بالباطل.
ثم جاء ذكر الأهلة بين أحكام الصوم وأحكام الجهاد وأحكام الحج لصلة كل ذلك بالشهور، والحج تال في الزمن وقريب من الصيام، والحج نوع من الجهاد، والصد عن طريق الحج أحد أسباب الجهاد.
والأمر بالإنفاق بعد ذكر بعض أحكام الجهاد يراد به الإنفاق للجهاد، والامتناع عنه إلقاء بالإيدي إلى التهلكة.
وفي ضمن أحكام الحج ذكر أيضًا الدعاء كما في الصيام، فالقربات مناسبات للدعاء، وحَرِيَّات باستجابته عندها، وهنا علَّمنا الدعاء بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة وعدم الاقتصار على حسنة الدنيا، وذلك بمناسبة أن الحج موسم للمنافع الدنيوية كما ذكر هنا: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)، وفي سورة الحج: (ليشهدوا منافع لهم).
الجزء الرابع:
وهذا جزء عجيب هنا، يبدأ من قوله: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا)، وفحواه والله أعلم مزيد تفصيل في شأن القتال بذكر أسبابه وحقيقة وقوعه وابتلاء المؤمنين بكتابه عليهم، بعدما ذكر طرفًا من ذلك بين أحكام الصيام وأحكام الحج، وجعله هنا بين أحكام الحج وأحكام الأسرة، ولا يستغرب ذلك إذا ذكرنا ما جاء في شأن القتال ممزوجًا بأحكام الأسرة في سورة النساء، كما سيأتي إن شاء الله، لارتباط الأسرة بأسباب الضعف وبالهجرة.
وبدء هذا الجزء بذكر بعض صفات المنافقين متصل بأصل سبب اختلاف الناس كما سيأتي في قوله: (كان الناس أمة واحدة..) الآية، إذ وقع الاختلاف بين أصحاب الدين أنفسهم: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم).
وأطال في وصف المنافق، كما أطال في أول السورة، بسبب حالة التلون والالتواء التي هو عليها، فهو عليم اللسان في شأن الدنيا، يعجبك قوله، كما قال في سورة المنافقون: (وإن يقولوا تسمع لقولهم)، ثم هو يزعم أن قلبه عامر بالإيمان، وقوله ذلك كله مناقض لفعله، لأنه إن غادر مشهد القول لا هم له إلا الإفساد في شأن الدنيا نفسها بإهلاك الحرث والنسل، فإذا واجهه الناس بأفعاله الفاسدة المفسدة، وخوفوه بالله، لم يتعظ ولم يرتدع، بل حدثت له حالة من النشوة والنخوة سببها الإثم، حتى إنه يتعاظم ويتطاول بها. لوحة عجيبة تشير إلى نموذج بشري شائع نراه ونسمعه ونعرفه. ويقابله الذي باع نفسه كلها لله، فلا هم له إلا مرضاته.
بعد ذلك أمر بأخذ الإسلام كله، إذ من شأن المنافقين التحلل من بعض أحكام الإسلام ما استطاعوا، والمخُوف على المؤمنين أن يستدرجهم هؤلاء المنافقون ويُزِلُّوهم عن الطريق، فيتطاول عليهم الأمد، وتفجؤهم الساعة ساعة القيامة أو ساعة الموت التي هي قيامة الأفراد، ويكون قد قضي الأمر، وقد جرى ذلك لبني إسرائيل، وجاءتهم البينات، وبدلوا نعمة الله، فنزلت عليهم العقوبة. ومن أخطر أسباب وصولهم إلى هذه الحالة الاغترار بزينة الحياة الدنيا، واستعلاؤهم بها على المؤمنين، وما زخرف الدنيا بمنجٍ يوم القيامة.
ولكن كيف وقع الاختلاف وتفرق الأمم والناس؟ كان الناس أمة واحدة على الإسلام، فاختلفوا، فبعث الله النبيئين بالكتاب ليعظوهم ويعلموهم، فوقع الاختلاف بين أصحاب الكتب أنفسهم مع أن ما أوتوه آيات بينات، وما جرهم إلى ذلك إلا البغي والعدوان، وعصم الله المؤمنين من الباطل فأراهم الحق، وهداهم إليه.
وهنا وقع القتال بين المحقين والمبطلين، وتلك سنة ماضية، فلا تحسبوا أنكم ناجون منها، فلا بد أن تُبتَلوا كما ابتلي من قبلكم، وذلك ثمن الجنة، يزلزل الله المؤمنين، فيستبطئون النصر، ويجأر الرسول والمؤمنون: (متى نصر الله؟)، ونصر الله قريب، إما على معنى أن عِدة الزمن عندكم ليست كعدته عند الله، وإما على معنى أن أسبابه قريبة منكم، فابحثوا عنها واستعملوها. ومن أسبابه الإنفاق بإعداد العدة قدر الاستطاعة، ومراعاة الضعفاء وأصحاب الحقوق.
ثم حديث عن كراهة النفوس للقتال وهو خير، وهو كتاب علينا، حتى إنه يقع في الأشهر الحُرُم، ويقع عند الحرَم، وفتنة الناس عن دينهم أكبر من قتلهم، ثم يقرر حقيقة كبيرة أليمة أن القتال مستمر، لأن غرضهم منه أن يردوكم عن دينكم: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، هكذا بكل وضوح. وأمامكم طريقان: إما الارتداد، وإما الهجرة والجهاد، استمساكًا بالدين ونصرة له.
وذكر الخمر والميسر أي القمار هنا والله أعلم بسبب حاجة القتال إلى الإنفاق، وهذان مما يبدد الأموال في الباطل، وذكر اليتامى أيضًا لأن لهم أموالاً خيَّرهم فيها بين الإصلاح المستقل والمخالطة.
الجزء الخامس:
وبسبب من ذكر اليتامى فصَّل هنا وطوَّل في أحكام الأسرة، يمزجها بذكر الله، وأسماء الله، حتى تجري هذه الصلات القريبة اللصيقة بين الناس على هدًى من الله وبركة، ففي خواتيم هذه الآيات أسماؤه وصفاته جل ذكره (والله سميع عليم)، (والله غفور رحيم)، (والله عزيز حكيم)، (واعلموا أن الله بكل شيء عليم)، (واعلموا أن الله بما تعملون بصير)، (والله بما تعملون خبير).. إلخ. وقبيل اختتام هذه الأحكام وفي ضمنها جاء الأمر بالمحافظة على الصلاة، لأن من مسؤولية الأسرة تعليم الصلاة والأمر بالمحافظة عليها، كما قال الله في شأن إسماعيل عليه السلام: (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة)، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها).
الجزء السادس:
عودٌ إلى شأن القتال، ذكَر طرفًا منه قبل الحج وبعده، ويذكر هنا طرفًا آخر بعد أحكام الأسرة، لارتباط القتال بالهجرة.
وبدأه بذكر (الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)، فعدَدُهم هذا يؤهلهم للثبات والجهاد. ثم ذكر الإنفاق: (من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا)، لصلة الإنفاق بالجهاد.
ثم ساق قصة قوم من بني إسرائيل مع نبيء من أنبيائهم في شأن قتال أعدائهم، إذ سألوا نبيئهم أن يجعل لهم قائدًا يكون له الملك عليهم حتى يستطيعوا القتال، بعد أن أخرجوا من ديارهم وأبنائهم. وهنا يبين لنا القرآن درجات الناس في هذه الفريضة العظيمة التي هي ذروة سنام الإسلام، وتجري هذه السنة في كل الفرائض، ولكنها في الجهاد أبين، لثقله على النفوس وتكاليفه، فقد تولى هؤلاء إلا قليلاً منهم.
حسدوا طالوت على توليته عليهم، وجاءتهم آية التابوت، وابتلاهم الله بالنهر، ليمحصهم، (فشربوا منه إلا قليلا منهم)، وهؤلاء القليل قالوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)، وكان فيهم فئة مؤمنة موقنة بنصر الله قالوا: (كم من فئة قليل غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)، كما قال رجلان على عهد موسى: (ادخلوا عليهم الباب)، فمن أسلحة المؤمنين المبادرة والتوكل والصبر، وهي قد تفوق العَدد والعُدة. ومن هذه القلة التي صبرت برز نبي الله داود، وهو الذي قتل جالوت. فداود عليه السلام كان مركز الدائرة في هذه الفئة القليلة، وخلاصة هؤلاء المؤمنين، وأكثرهم جرأة وشجاعة، ولذلك (آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء).
وههنا أربع تصفيات، أولها تولية طالوت، والثانية النهر، والثالثة ملاقاة العدو، والرابعة المعركة، في الثلاث الأول سقط من سقط منهم، والفئة القليلة التي دخلت المعركة ثبتت، وهم الذين قالوا لما برزوا للقتال: (ربنا أفرغ علينا صبرًا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين).
وهنا يأتي ذكر السنة الكونية الأخرى، سنة التدافع بين الناس، يجريه الله بأقداره، لمنع الفساد أن يعم الأرض، فمن فضله أن شَرع الجهاد، وألهم أولياءه الصبر والتوكل عليه، فأنعم عليهم بنصره وتمكينه.
وههنا تعقيب وختام عجيب لهذا الجزء: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين)، وهو يشير إلى ما جاء في الجزء الرابع من قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق) الآية والتي بعدها، فإنه إذا كانت هذه سنة الأنبياء، وكانت هذه حقيقة أسباب القتال والبأساء والضراء، فإن هذا الكتاب هو آيات الله، وإنك لمن المرسلين، فيجري عليك وعلى أتباعك ما جرى على السابقين من المرسلين وأتباعهم.
والرسل متفاضلون ولبعضهم مزايا ودرجات، وآخر من أرسل قبل رسول الله محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين عيسى بن مريم، ولكنهم متفقون في أصل الإسلام، وفي سنتهم في الدعوة ومع الأقوام، والذين جاءوا من بعدهم اختلفوا واقتتلوا، وكان منهم مؤمن ومنهم كافر، ولو شاء الله ألا يقع ذلك لما وقع، ولكنه أراده، وهو يفعل ما يريد. فهذه سنة، وهي (مَثَل الذين خلوا) من قبلنا، لا بد أن تأتينا كما أتتهم.
الجزء السابع:
هو جزء المال والإنفاق، وهو الجزء الأخير في السورة، وهو يبدأ من قوله: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) الآية، وقد ضمَّنه في أوله آية الكرسي، وما تلاها من نفي الإكراه في الدين، وولاية الله للمؤمنين، وخبرَ الذي حاج إبراهيم في ربه، وخبر الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وخبر سؤال إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى.
ومناسبة آية الكرسي وما تلاها هنا والله أعلم أن جهاد المؤمنين بأموالهم وأنفسهم إنما هو من أجل هذا الإيمان الذي دلت عليه هذه الآيات، وإذا كان الناس من أتباع الأنبياء قد اختلفوا، ففي هذا الإيمان بالله وباليوم الآخر الذي تبينه الآيات (العروةُ الوثقى لا انفصام لها)، فهذا ما يؤمنون به، وما يدعون إليه، وما يجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم.
ثم إنهم لا يُكرهون عليه أحدًا، ولكنهم بعد رفع الفتنة، واستنقاذ المستضعفين، وبعد البلاغ والبيان، يخلُّون بينه وبين الناس، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وليست الهداية إلى أحد، ولكنها إلى الله تعالى، فهو يهدي من يشاء، ويخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور، فهو وليهم، يرقِّيهم في العلم واليقين ويرفعهم درجات، والآخرون يفعل بهم الطاغوت عكس هذا تمامًا.
وهو تعالى يهدي أولياءه كما ألهم إبراهيم الحجة في مجادلة النمروذ، وكما أرى إبراهيم والذي مر على قرية كيف يحيي الموتى رأي العين.
ثم شرعت الآيات تحث على الإنفاق في سبيل الله، وتحذر من تكديره بالمن والأذى، فهذا شأن المنافقين، الذين لا ينتفعون بنفقاتهم لأنهم يراءون الناس، والمن والأذى يبطل الصدقات، وضرب لذلك الأمثال. وعلمهم أن ينفقوا من الطيب لا الخبيث، وألا يتبعوا وسوسة الشيطان فهو يخوفهم الفقر، وما عند الله خير وأبقى في الدنيا والآخرة، وعلمهم أن ينفقوا سرا وعلانية، وأن من نعم الله أن يؤتي الحكمة في كل شيء ومنه الإنفاق، فيكون كما ذكر الله (قوامًا) بين الإسراف والتقتير، إلخ هذه الأحكام والوصايا، فليس المقام للتفصيل.
ثم تأتي آيات تحريم الربا، تتلوها وبمناسبتها آيتان في تنظيم إثبات الحقوق المالية، ومنها الدَّيْن. وقد جعل هنا الربا في مقابلة البيع مرة، وفي مقابلة الصدقات مرة أخرى، وذلك في قوله: (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وقوله: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات)، ففي الأولى هو يقابل البيع من جهة المعاوضة، ففي البيع سلعة، وفي الربا (ربا النسيئة) زمن فحسب، وفي الأخرى هو يقابل الصدقة من جهة أنها أعلى أنواع التصرف المالي، لأنها إقراض لله تعالى جدُّه، والربا من أخس أنواع التصرف المالي، لأنه استيلاد للمال بالمال بلا عمل ولا سلعة. ومثل هذا في سورة الروم: (وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله..) الآية.
وقوله تعالى: (لله ما في السموات والأرض..) الآية هو من التعقيب على الأحكام السالفة، فإنه ينبههم على أنه عليم بالنفوس ونياتها، ويحاسبهم على ما قصدوه وعزموا عليه من النيات، سواء أبدوها أم أخفوها. وذلك من أجل دقة الأمر في باب الأموال وحقوق الناس والتعاملات والتصرفات، وهو يشير إلى وجوب تمحيص النية في هذا الباب حتى لا تتعلق بشيء مما نهى الله عنه من أكل الأموال بالباطل أو كتمان الشهادة.
الختام:
وختام السورة آيتان عظيمتان، وفي صحيح مسلم أنه نزل ملك فقال للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل عليه السلام: "أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته".
وهما يخبران أن هذا الذي أنزله الله آمن به الرسول ومن اتبعه من المؤمنين، وعملوا به، فهو ليس فوق وسع البشر، وهو لم يذهب جفاء، بل صادف من يحمله ويعمل به، وهؤلاء يؤمنون كما علمهم الله أن الدين واحد، وهو الإسلام، ويؤمنون بالرسل جميعًا، لا يفرقون بين أحد منهم في الرسالة، يصدِّق بعضهم بعضًا، ويثني بعضهم على بعض، آمنوا بذلك وعملوا به إذ قالوا: (سمعنا وأطعنا).
وموقع قوله: (غفرانك ربَّنا) موقع الوجل من التقصير، ومن موقف المصير، ولذلك أعقبوا هذا بقولهم: (وإليك المصير)، كما جاء في سورة المؤمنون: (يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون).
ثم جاء كلام الله معترضًا ضمن كلامهم مبينًا العدل الإلهي بأنه لا يكلف إلا الوسع، وأنه يحصي على كل امرئ ما له وما عليه، كسبًا واكتسابًا، طمأنة لهم، فطمعوا هم في رحمته، فطلبوا التجاوز عن الخطأ والنسيان، وألا يكون التقصير سببًا في عقوبة تنزل بهم كما نزلت بالسابقين، وإذ قد علموا أن السنَّة أن يأتيهم مَثَل الذين خلوا من قبلهم من مس البأساء والضراء والزلزلة، سألوا أن يخفف عنهم وألا يحمِّلهم ما لا طاقة لهم به، وأن تجري عليهم هذه السنة بالقَدْر الذي يقدرون على احتماله. والفرق بين الوسع والطاقة، أن الوسع في التكليف، والطاقة في البلاء والمشقة.
وسؤال العفو يقابل (لا تؤاخذنا)، وسؤال المغفرة يقابل (ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا)، وسؤال الرحمة يقابل (ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لهم به)، ولذلك لم يُعِد (ربنا) في الثلاث الأخيرة، لأنها توكيد للأُوَل، كأنه قيل: لا تؤاخذنا، بل اعف عنا، ولا تحمل علينا إصرًا، بل اغفر لنا، ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به، بل ارحمنا (مقتبس من ابن عاشور مع إيضاح).
وأُخرت الدعوة بالنصر على الكافرين، كما أخر ذكر النصر في سورة الصف في قوله: (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب)، إذ الأُوَل -وهن العفو والمغفرة والرحمة- أولى، وما ينفع نصرٌ مع عدم هؤلاء؟ وإن حصلت الأُوَل مع عدم النصر كانوا قد فازوا بالمطلوب، لأن غرضهم أخروي، فإن انضم إليه الجزاء الدنيوي بالنصر فبها ونعمت.
هذا، مع أن ختم السورة بالدعاء بالنصر على الكافرين فيه تنويه برتبة القتال في سبيل الله ومكانته في حياة الأمة، وباستمرار المعركة، كما قال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
وطلب النصر على الكافرين خرج مخرج الغالب في كينونة القتال للكافرين، وكينونة الكافرين محاربين، كما قال في السورة: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر).
ومجيء (أنت مولانا) قبل الدعوة بالنصر يشير إلى أنه كما كان من مقتضى الولاية الهداية والإخراج من الظلمات إلى النور، كان من مقتضاها أيضًا النصر على الكافرين.
وكما ختمت سورة الفاتحة بالدعاء، ختمت سورة البقرة بالدعاء، والدعاء في الأولى عام، وههنا مفصل بمناسبة التكاليف والأخبار الكثيرة التي قصتها السورة.
سورة آل عمران 1
سوة البقرة وسورة آل عمران متجاورتان متآخيتان متكاملتان، وهما وحدهما من السور الطوال ما بدأ بـ (ألم)، وهما متقاربتان في الطول، وهما أطول سور القرآن، وجاء في الحديث وصفهما بالزهراوين (أي المضيئتين)، والأمر بقراءتهما معًا، وأنهما يوم القيامة تأتيان تحاجان عن صاحبهما، وأنهما تُظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان (ظُلّتان)، فجَمَعَهما معًا، وجعل لهما شأنًا خاصًّا.
وسورة البقرة بمثابة التأسيس والتقرير للأحكام، وسورة آل عمران بمثابة إعمال هذه الأحكام في الواقع.
وأحكام القرآن تواجه في الواقع فئتين من الناس: أهل الكتاب والأميين، وهؤلاء يقابلونها بطريقتين: بالجدال وبالقتال. ومن الواضح أن جدال أهل الكتاب أكثر، من أجل الكتاب والعلم الذي جاءهم.
وقد سلف في سورة البقرة شطر من محاجة بني إسرائيل، وههنا شطر من محاجة النصارى، ولذلك تذكر السورة القصص الحق في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وتدعوهم إلى المباهلة في شأنه، ولكن الخطاب هنا بـ (يا أهل الكتاب)، ذلك أن عيسى عليه السلام أرسل إلى بني إسرائيل، فضلَّ في شأنه أكثر اليهود والنصارى.
وأيضًا جمعُهم في خطاب واحد يشير إلى سلوكهم مسالك متشابهة في مواجهة الدعوة، وإلى تظاهرهم معًا على المسلمين، مع ما بينهم من عداوات، واعتقاد الفريقين أن الآخر ليس على شيء، كما قال الله تعالى: (وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء).
وتواجه آيات القرآن ثالثًا زينة الدنيا والشهوات، وما يعتمل في النفس الإنسانية من الضعف أمامها، والسورة تعالج ذلك بالموعظة والبيان.
وهذه الخطوط الثلاثة من المحاجة والمقاتلة والموعظة في شأن شهوات الدنيا واضحة في السورة، لكن معنيي الجدال والقتال يكادان يقسمانها قسمين.
مقدمة السورة:
مقدمة السورة فيها جولتان:
مفتتح السورة بالأحرف المقطعة، ثم قوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، وهو صدر آية الكرسي التي مرت في سورة البقرة، وهو لبابها وأجمعُ ما فيها لمعانيها، وقد سلف هناك أن مجيء آية الكرسي في سياقها إنما هو للدلالة على أن هذا هو أصل الإيمان الذي يجاهد المؤمنون في سبيله بأموالهم وأنفسهم، ومجيء هذه الآية هنا أيضًا للغرض نفسه على سبيل الاختصار.
تلا ذلك حديث عن تنزيل الكتاب وهو القرآن، وإنزال التوراة والإنجيل، وإنزال الفرقان، وهو هنا والله أعلم ما تضمنه القرآن مما يفرق ويقطع من بيان الحق من الباطل، وهذا بيِّنٌ مما جاء في آية الصيام في سورة البقرة: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، فالفرقان هنا هو ما تضمنه القرآن، وكذلك في أول سورة آل عمران، ومعلوم أن الله تعالى سمى القرآن (الفرقان) في أول سورة الفرقان، فهو اسم له، وهو أيضًا من وظائفه ومما جاء فيه، ومعلوم أيضًا أن الله تعالى ذكر فيما أعطى موسى الفرقان في موضعين من القرآن، في سورة البقرة: (ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان)، وفي سورة الأنبياء: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)، وعطفه على الكتاب من عطف الخاص على العام. ويوضح ذلك ما جاء بعد قليل من تضمن القرآن للمحكمات والمتشابهات، فالفرقان هو من قبيل المحكمات القاطعة في البيان.
وبعد هذا جاء ذكر نفي خفاء شيء عليه سبحانه، وذكر تصويره المخاطبين في الأرحام، وموقع ذلك والله أعلم أنه لا مجال لتعالم أحد أو تكبره على ما أنزل الله، فإنه محيط بكل شيء علمًا، وهو الذي خلق الإنسان وأنشأ له السمع والبصر والفؤاد، فالله يعلم كل شيء، ويعلم ما يمكن للإنسان أن يعلمه بأدواته المحدودة الضعيفة الضئيلة، فمن الحكمة ومن العلم أن يسلِّم لما أنزل الله في كتابه، وما لم يدرك معناه منه وَكَلَ علمَه إلى منزله، موقنًا أنه كله من عند الله.
ولذلك أعقب هذا بذكر تفصيل الكتاب إلى محكم ومتشابه، وبموقف فريقين من الناس من هذين القسمين، والفريقان هما من في قلوبهم زيغ، والراسخون في العلم.
فهؤلاء الزائغون أو الزائغة قلوبهم يتبعون المتشابه، يطلبونه طلب غاية، ولا يعتنون بالمحكم، الذي هو الأم يُرَدّ إليه المتشابه، وفيه الفرقان، لأن قصودهم رديئة. والمتشابه هو ما دل على معان يشبه بعضها بعضًا في احتمال القصد إليها. ولهؤلاء الزائغين غرضان: الفتنة، أي الصد عن الكتاب نفسه، وادعاء أنهم يعلمون تأويله، وما يعلم تأويله الكامل ومنه الوقائع التي تصدّق أخباره، إلا الله.
ولذلك يسلك الراسخون في العلم مسلك التواضع تجاه محكمه ومتشابهه، فهم يأخذون الكتاب كله بنوعيه، وليس لهم ادّعاء كادّعاء أولئك، ولكن همهم هو ألا تُزاغ قلوبهم بعد الهداية، يسألون الله ذلك ويسألونه أن يهبهم رحمة من لدنه، تعينهم على تدبره، وعلى العمل به، وهم يعلمون أنه سيأتي يوم للجمع ينبئ الله الناس فيه باختلافهم.
هذا القسم من آيات مطلع السورة يمهد لمحاجة أهل الكتاب في عقائدهم وشبهاتهم وما يشغبون به على الدعوة.
ويتلو ذلك تمهيد آخر يتعلق بالخطين الآخرين في السورة، وهما القتال وشهوات الدنيا، ولاتصالهما معًا جمعهما في شوط واحد، ذلك أن شهوات الدنيا مما يَثقل بالمؤمنين عن القتال، ومما يزيِّن حال الكافرين في أعينهم، كأنهم على شيء، وهي أيضًا تغرُّ الكافرين، وتدعوهم إلى الاستكبار واتباع ما أترفوا فيه.
وهو يبدأ بأن هذه الأموال والأولاد التي للكفار لا غناء لها عند الله، وسيكون هؤلاء وقودًا للنار، وستذهب بهجتهم وزينتهم وافتخارهم وتكبرهم، وقد علا وطغى قبلهم آل فرعون، وهم نموذج الطغيان والاستكبار التاريخي، وكان عاقبتهم نزول العقوبة بهم، وأخذ الله الشديد لهم بذنوبهم.
وليقينك بهذه السنة قل لهؤلاء الكفار: إن مصيركم في هذه الدنيا أن تُغلبوا، ومصيركم في الآخرة إلى جهنم.
وهذا البيان إنما هو تثبيت للمؤمنين ونفي لرهبة الباطل وانتفاخه وانتفاشه من نفوسهم، فهو إلى هزيمة لا محالة، مهما كان له من زينة الدنيا وأسبابها وسطوتها، كما قال في آخر السورة: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد).
ويدلك على تحقق هذه السنة أنها قد جُرِّبت في هزيمة الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الطاغوت وهي تبلغ في العدد ضعف الفئة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله. فليست الأسباب المادية وحدها هي أسباب النصر والهزيمة.
ثم يذكر في الآية التالية أنواع الشهوات المزيَّنة للناس، وأنها لا تزيد عن أن تكون متاع الحياة الدنيا، والمزيَّن في الحقيقة ليس الشهوات، ولكن حبها، فالأمر نفسي محض، لا خارجي. وبناء فعل التزيين للمجهول لأنها مزيَّنة بالفطرة ثم يلتحق به تزيين الناس وتزيين الشيطان بعد ذلك مزيدًا على الأصل الفطري.
ثم يذكر بعد ذلك المقابل الأخروي لهذه الشهوات، وفوقها وأكبر منها رضوان من الله، وموقعه هو تحريض على التخفف منها، وعدم التحسر على فوات شيء منها، وعدم الاغترار بما يكون لدى الكفار المحاربين منها.
ومشهد مناجاة المؤمنين لله تعبيرًا عن مواقفهم وأعمالهم وما في نفوسهم يتكرر في السورة وفي القرآن، كما في دعوة الراسخين في العلم في صدر السورة، ودعوة المتقين هنا، ودعوة الحواريين، ودعوة الرِّبِّيين، ودعوة أولي الألباب في آخر السورة. وهو يشير إلى أن مدار الأمر على الموقف النفسي أو القلبي، ثم بعد ذلك تتبعه الأقوال والأعمال وما يترتب على كل ذلك من مآل.
والجولة الثانية من المقدمة تبدأ من قوله تعالى: (شهد الله أنه لاإله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط)، وهو يقابل في الجولة الأولى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).
ونظم الآية عجيب. فإن الشهادة خبر، والقيام بالقسط فعل، ولأنه الفاعل وحده على الحقيقة أتى الحال (قائمًا) منه وحده.
ولأنه هو الحي القيوم الذي وهب الحياة والعلم لكل شيء فشهادته هي الأصل وهي المقدَّمة، وخبره هو أصل الأخبار، ويستمد الملائكة والعلماء شهادتهم بالحق منه.
ولكمال عدله وأنه هو الحق يقترن خبره الصادق بحكمه العادل تكوينًا وتشريعًا، كما قال: (وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا)، وفي نظيره قال لعباده المؤمنين: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) في سورة النساء، وفي سورة المائدة: (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط).
وشهادته بالوحدانية قائما بالقسط تَستمد منها كل الأشياء نظامها وقيامها وصلاحها.
وإيراد قضية التوحيد في صيغة الشهادة هذه منسوبة إلى الله، مقرونة بقيامه بالقسط، للتنبيه على أصل هذا الخبر السماعي بهذا الإسناد العالي الموافق للفطرة، متنزلاً من الله إلى ملائكته إلى أولي العلم، وذلك في وحيه في كتبه وعلى ألسنة رسله، مع ما نصبه من آياته في الآفاق وفي خلق السموات والأرض.
وإذا تقررت هذه الحقيقة فالدين الحق الذي أنزله الله وارتضاه لعباده ولا يقبل غيره منهم هو الإسلام الذي هو دين كل الأنبياء، جاءوا به ودعوا إليه، وما وقع اختلاف أصحاب الكتب إلا بسبب البغي، ومن بعد ما جاءهم العلم، وهذا كما جاء في سورة البقرة: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين..) الآية.
وما على الرسول إلا البلاغ، فأعلنْ أنك وأتباعك أسلمتم وجوهكم لله، وقل للفريقين من الكتابيين والأميين: (أاْسلمتم). ولم تكن الصيغة: (أسلموا)، لأن كل الدلائل نقلا وعقلا وحسًّا وفطرة تدعو إلى الإسلام، فهو منتظَر متوقَّع منهم، والسؤال عن تحقق وقوعه فحسب لا عن طلبه، على أنه قد طُلب ضمنًا في قوله: (أسلمت وجهي).
وهؤلاء الذين لم يسلموا كيف ستكون سيرتهم؟ (يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس)، فهم ليسوا فلاسفة أو عقلانيين أو مفكرين يشتغلون بـ (بالمحاجّة)، بل سبيلهم القتل.
والآية التالية كشفت جانبًا من معنى الإسلام، وهو أنهم (يُدعَوْن إلى كتاب الله ليحكم بينهم)، ومع أنهم (أوتوا نصيبًا من الكتاب) فإنهم يتولون معرضين إذا سمعوا هذه الدعوة. وعلة ذلك أن لهم افتراء وغرورًا في شأن الدين.
وموقع قوله: (قل اللهم مالك الملك..) الآيتين، يقابل قوله في الجولة الأولى من المقدمة: (زين للناس حب الشهوات..) الآية، فالملك شهوة أخرى تتعلق بالجماعات وإدارة شؤونها، وهي مختلفة عن الشهوات الفردية التي سلفت.
ومجيئه بهذه الصيغة تعليم وتذكير بحقيقة الملك وأنه إيتاء ونزع إلهي، وهو أيضًا نفي للاغترار به وللرهبة له من النفوس، وإشارة إلى أنه مداولة بين الناس كالليل والنهار، وإحياء وإماتة كما في سائر أحوال الخلق، ورزق وابتلاء كما في سائر شئون الحياة.
وذكر العزة والذلة في ضمن ذلك يشير إلى أن من تعزز بالْمُلْك والأعوان والأنصار إنما أمره إلى اضمحلال، وإلى انقلاب عزته إلى مذلة وهوان، لأن (العزة لله ولرسوله وللمؤمنين)، فهي العزة الباقية ببقاء سببها، وتلك عزة زائلة بزوال سببها.
وموقع النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين بعد هذه الآية واضح الصلة، فإن من أسباب اتخاذ الكافرين أولياء ما لهم من الملك والعلو والسطوة، كما قال في سورة المائدة: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة).
وما يخفيه بعض الناس في صدورهم في هذا الشأن لا يخفى على الله، فإنه مُحصًى مكتوب سيجدونه يوم القيامة محضرًا، وسيودُّون لو أن بينهم وبينه بُعْدَ المشرقين من سوئه وفضيحته.
وهذا مقام لا ينفع فيه الادعاء، كما يفعل أناس يدَّعون أنهم من أهل الحب والقرب، وأفعالهم لا تلائم ذلك، لأن مقياس هذا الحب هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الله وطاعته، فهذا هو الحب الذي يقابله الله بالحب. وهذا كما جاء في سورة المائدة بعد الآية السابقة التي نهت عن موالاة اليهود والنصارى بقليل: (من يرتدِدْ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه).
الجزء الأول:
الجزء الأول من السورة هو في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، نفيًا لاعتقاد أكثر النصارى الباطل فيه، كما قال في سورة المائدة: (لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم)، (لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة). وقد كانت قصة ولادته بلا أب سبب ضلال أقوام فيه، فقص القرآن هنا القصص الحق في ولادته بما هو أطول مما جاء في سورة مريم، حتى إنه بدأ من قصة جدته امرأة عمران، وزاد على حادثة ولادته أن ذكر ما كاده له بنو إسرائيل، وما قاله له الحواريون، ورفْعَ الله له إليه. وهذا المقدار الطويل من القصة الذي ذكر جذورها ومآلها خاص بسورة آل عمران، جاء أغلبه مفرقًا في سور أخرى، وزادت هذه السورة بقصة امرأة عمران وما نذرته وما قالته.
ومهَّد لهذه القصة ولملحظ الاصطفاء فيها بذكر اصطفاء آخرين من عباده من لدن آدم إلى آل عمران، هم تقريبًا المذكورون في سورة مريم في قوله: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيئين من ذرية آدم..) الآية. فمن شأن الله أن يصطفي من خلقه من يخصه بفضله وكرامته، بحسب علمه وحكمته، كما قال تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس)، فليس فيه بدع ولا عجب، وعلى هذا النحو اصطفى مريم وابنها، واصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم لختم النبوة. فلا يُستغرب أن يجري على أيدي هؤلاء المصطفين وفي أحوالهم ضروب من المعجزات والخصوصيات لا تكون لسائر البشر، كخلق آدم وعيسى عليهما السلام.
وهو نسب متصل، وذرية بعضها من بعض، إذ يجعل الله الفضل في الذرية أيضًا ما بقيت متمسكة بما كان عليه الآباء والأجداد مما ارتفع بهم إلى هذا المقام من الاصطفاء والاجتباء.
وتذييل قضية الاصطفاء بالاسمين الكريمين: (والله سميع عليم)، يشير إلى مناجاة هؤلاء لله بالكلم الطيب، والدعاء الصادق، والذكر الكثير، كما في كلام امرأة عمران ومريم وزكريا هنا، وهو قول موافق لأعمالهم وقرباتهم وصلاحهم، فالله سميع لما قالوا، عليم بما عملوا، وهذا كما قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)، فجمع بين الكلم والعمل، وجعل العمل الصالح رافعًا للكلم الطيب.
وبعد أن ساق هذا القصص ذكر أن مثل عيسى عليه السلام كمثل آدم، كلاهما خُلق على غير المعهود في إيجاد البشر، وذلك راجع إلى طلاقة القدرة الإلهية في الخلق، فكما صدَّقتم بخلق الإنسان الأول بلا أب ولا أم، فصدقوا بخلق عيسى عليه السلام بلا أب. وهو مع ذلك بشر كسائر الخلق يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وكما كان خلقه آية، كان رَفْعُهُ وتَوَفِّيه آية.
فهذه قصة عيسى بن مريم بالحق، والحكم بين المختلفين في شأنه إلى الله يوم القيامة. ولا يبقى بعد خبر الله تعالى في كتابه العزيز إلا محاكمتهم إلى ما يعرفونه حق المعرفة في قرار أنفسهم، بدعوتهم إلى الابتهال إلى الله أن يلعن الكاذب من الفريقين مع الأبناء والنساء، وهو ما لا يقوون على فعله، فثبت أن الاستمرار على هذه الأغاليط في شأن عيسى عليه السلام إنما هو لأسباب ليس منها الحقيقة، ولكن أن يفسدوا على الناس دينهم ودنياهم تمسكًا بالأهواء والشهوات.
الجزء الثاني:
فهذا الجزء الأول من السورة هو في قص خبر عيسى عليه السلام مستوفى والتعقيب عليه بدعوتهم إلى المباهلة، وكل ذلك تمهيد لدعوتهم في هذا الجزء الثاني منها إلى الإسلام ومجادلتهم في شأنه وشأن ما يدَّعونه وما يفعلونه مما هو مخالف بل مناقض لما أنزله الله وأراده لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله.
فبعد أن أقام عليهم الحجة بنكولهم عن المباهلة، بقيت دعوتهم إلى الإسلام قائمة، لا ليكونوا تبَعًا أو أذلاء أو طبقة دنيا في الإسلام، بل إلى أن نكون جميعًا عبادًا لله، فهي كلمة عدل، وطريقة مستقيمة، لا حيف فيها ولا جور، ولا فضل فيها لنسب ولا لون، (ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله)، وهذا إلماح إلى ما صرح به في سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح بن مريم) بإحلالهم الحرام، وتحريمهم الحلال، أُدمج فيه النفس تأليفًا لهم وتوكيدًا لمعنى التسوية. فإن أبيتم الاستجابة لهذه الدعوة فقد تبين لكم أننا المسلمون لله لا أنتم، وعليكم أن تشهدوا بذلك، لأنكم أبيتم التسوية في العبودية لله، واتخذتم الشركاء والأرباب.
وبعد أن حاجَّهم في طريقتهم المعوجَّة في الدين، حاجهم في سلفهم وهو إبراهيم عليه السلام، فإن كنتم تنتسبون إليه فقد قد كان مسلمًا مثلنا، ولم يك من المشركين مثلكم، فنحن ونبينا صلى الله عليه وسلم أولى به منكم.
وموقع (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم..) موقع التسجيل عليهم أنهم قد أُبطلت كل دعاواهم، وأنهم يعرفون أن هذا الذي أنتم عليه هو الحق، ولذلك يحسدونكم عليه، ويودون لو يستطيعون إضلالكم، كما قال في سورة البقرة: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق).
ثم يتنوع السياق بين موعظتهم، وكشف أحوالهم الرديئة، وإبطال دعاواهم المتهافتة، وبيان ما أنزله الله من الدين الذي هو إسلام الوجه لله وترك اتخاذ الأرباب من دونه، وما أخذه من الميثاق على النبيئين وأتباعهم أن يؤمنوا بالرسل التي تأتي من بعد وينصروهم، وفتْح باب التوبة لهم قبل الممات، وقبل اللجاج والعتو والغلو في باطلهم.
وههنا فرق بين آية البقرة: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا..) الآية، وآية آل عمران: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا)، فحين كان الخطاب للجماعة (قولوا) ناسبه (إلينا)، لأن الإنزال كان إليهم بوساطة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحين كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ناسبه (علينا)، لأنه أنزل عليه هو صلى الله عليه وسلم، وأنزل على أصحابه بالتبع له. وهذا وصَفَه الزمخشري بالتعسف بسبب ما جاء من عكسه في القرآن، والعكس روعي فيه وساطة جبريل عليه السلام، وتنزيل المؤمنين منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الحديث هناك في البقرة قريبًا من ذكر الشرائع ومنها تحويل القبلة ناسبه توكيد فعل الإيتاء بقوله: (وما أوتي النبيئون) لاختلاف ما أوتوه من الشرائع، وأما في آل عمران فالحديث عن أصل الدين والتوحيد، فناسبه الاستغناء عن التوكيد، لأن ما أوتوه في هذا الباب واحد.
ولأن الحديث في سورة البقرة كان بمناسبة الشرائع ولأنه جواب لقولهم: (كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا) كان الخطاب للجماعة: (قولوا). ولأن الحديث في سورة آل عمران كان بعد ذكر أخذ ميثاق النبيئين بأنه إذا جاءهم رسول مصدق لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه كان الخطاب بـ (قل) للنبيء صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المقصود بالوفاء بما يقتضيه الميثاق الآن.
وموقع (لن تنالوا البر..) الآية وما بعده من ذكر حل الطعام لبني إسرائيل قبل أن تُنزل التوراة، وذكر البيت وإيجاب الحج إليه، هو من تأنيسهم بشرائع الإسلام التي أنزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنها تخالف مألوفاتهم من الشرائع، فأخبرهم بما يوجبه الله عليهم في التشريع الذي أكمل به الدين وأتم به النعمة، وأنه من الإسلام الذي طولبوا به، ومن الكلمة السواء التي دُعوا إليها. وجعله هنا ختامًا لمحاجتهم بعد أن فرغ من الأصول وما يتصل بالتوحيد والوحي والرسالات. ثم طوى هذه المحاجة وختم هذا الجزء بموعظتهم في قوله: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله..) الآيتين، ليتوجه الخطاب بعد ذلك في الجزء الثالث من السورة إلى المؤمنين.
الجزء الثالث:
هذا الجزء يتوسط جدل أهل الكتاب، وتعقيب القرآن على أحداث غزوة أحد، وفي ضمن هذا التعقيب حديث ليس بالقصير عن نصر بدر. وهذا الجزء قضيته والله أعلم تماسك الأمة المسلمة، متميزة بإسلامها وخصائصها وقوتها في مواجهة أسباب التذويب والارتداد.
وهو يشير في هذا الباب إلى العلاقة بأهل الكتاب، وسعيهم إلى أن يردوا المؤمنين بعد إيمانهم كافرين، ويذكر الوصايا التي في امتثالها العصمة من انحلال الأمة واضمحلالها بفقدانها لخصوصيتها كما أخرجها الله للناس وأرادها بسماتها وملامحها الأصيلة.
وافتتاحة بالتحذير من طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب، لأن في طاعتهم الارتداد بعد الإيمان إلى الكفر: (إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين)، وهذا الفريق هو مَن وراء مَن استثناهم ووصفهم عند قوله: (ليسوا سواء..) الآيات. وسعي هؤلاء إلى ردتنا ذُكر في مواضع من القرآن الكريم، فهم يودُّون ذلك أي يحبونه: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا)، وهم يقاتلون من أجل ذلك: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وبعد أن نهى في سورة المائدة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء قال محذرا: (من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله يقوم يحبهم ويحبونه)، فجعل الارتداد ثمرة لتوليهم، والاستبدال ثمرة للارتداد.
والنهي هنا عن طاعة فريق منهم يأمرون بما يؤدي إلى الكفر، والنهي بعد قليل عن أن نتخذ بطانة من دوننا، هو تفصيل للنهي الذي سلف في أول السورة عن أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بذكر أهم مظهرين للولاية: الطاعة، واتخاذ بطانة.
ثم جعل تلاوة آيات الله ووجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم عصمة من الكفر، فمن العجب أن يكفروا مع ذلك، فالوحي هو نفخة الروح، وسبب الحياة، وهو ما بعث هذه الأمة وأخرجها إلى الناس، فكيف تموت هذه الأمة في وجود أسباب حياتها؟
ثم نهاهم أن يموتوا إلا وهم مسلمون، أي أمرهم أن يستمروا على الإسلام حتى الممات. وهذه الآيات تفهم حق الفهم حين نتذكر مجتمعات مسلمة اختفت من الوجود بسبب الفتنة والتنصير، أو صارت مسلمة بالاسم فقط، ليس لها من الإسلام إلا العنوان.
والآيات تشير إلى المسؤولية الجماعية للمسلمين في أن يحفظوا على أنفسهم إسلامهم، وذكرت الوسيلة إلى ذلك، وهي الاعتصام بحبل الله. وليست الصورة لحبل نازل من السماء كما يتبادر إلى الذهن عند سماع الآية: (واعتصموا بحبل الله جميعًا)، وإن كان قد جاء في الحديث: "كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض"، فهذه صورة أخرى، وأما التي في الآية فحبل الله ممدود بين المسلمين وهم متمسكون به يعصمهم من التفرق، كخيط العقد أو المسبحة تحفظ حباتها من الانفراط، بدليل قوله: (جميعًا)، وقوله: (ولا تفرقوا)، فهو ممدود مدًّا أفقيًّا. وقوله : (ولا تفرقوا) توكيد لقوله: (واعتصموا بحبل الله جميعًا) بذكر علته، كما في الحديث: "استعن بالله ولا تعجز". ولا يخفي ما في إيثار التعبير بالاعتصام من معاني التمسك والحفظ والنجاة.
وهم مجتمعون أمة واحدة بسبب، وهذا السبب هو حبل الله، أي ما أنزله من الوحي، وهو ما أشار إليه قبل قليل في قوله: (وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله)، فهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وزيادة في التحريض على التمسك بحالة الاجتماع ذكَّرهم بالحالة الماضية التي كانوا عليها، للموازنة بين ما هم فيه من النعمة، وما كانوا عليه من الحال السيئة، وهما نعمتان اثنتان: الألفة في الدنيا، والإنقاذ من النار في الآخرة.
ولتحقيق استمرارهم أمة واحدة واستمرار اعتصامهم بحبل الله واستمرار إسلامهم حتى الممات ذكر أهم أسباب الاعتصام بحبل الله، وهو أن يكونوا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأساسه المعروف بالوحي، والمنكر بالوحي، وما يلتحق به. وسواء أكانت (منكم) للتبعيض أي ليكن بعضكم آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، أم كانت (منكم) للتجريد، أي اجعلوا أمتكم أمة آمرة ناهية، فالنتيجة واحدة، لأنه إن كان فيها من يفعل ذلك، فهي توصف بأنها تفعل ذلك. كما قال بعد قليل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس..) الآية.
فإن لم يفعلوا ما وصاهم به فسيكونون على الحالة التي نُهوا عنها، وهي حالة كان عليها من سبقهم من الأمم: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)، وحذرهم من المآل الأخروي لذلك، كما هو شأن القرآن دائمًا، يقدم الجزاء الأخروي خيرًا أو شرًّا ويعلي شأنه على ما سواه.
وهذا التفرق في الانتساب، والاختلاف في الاعتقاد، ليس مجهول المضمون، لأن مآله ابيضاض وجوه، واسوداد وجوه، فهما لونان متضادان، في أكرم عضو من الإنسان وهو الوجه، وزيادة في وضوح قضية التفرق والاختلاف يقال لمن اسودت وجوههم يوم القيامة: (أكفرتم بعد إيمانكم؟)، وهو ما كان يأمر به فريق من الذين أوتوا الكتاب: (إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين).
ولأن هذا هو المآل الأخروي قدمه وعقب عليه بآية جامعة: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلمًا للعالمين)، ثم شرع في ذكر الأحوال الدنيوية، فأول شيء وأهمه أن تنجُوا يوم القيامة، ثم إن لوجودكم أمة كما أخرجها الله منفعة للناس، وأصل ذلك موازين القيم، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فهذه هي الأسباب التي تحفظ على الأمة إسلامها، وتحفظ على الناس إنسانيتهم، إن كانت أمة قوية هادية كما أراد الله لها.
وتأخير الإيمان بالله عن الأمر والنهي لأنه في معرض إخراج الأمة للناس، وهذان أي الأمر والنهي ينتقل أثرهما إلى الناس، بتقليل الفساد، وتكثير الصلاح، وإن لم يؤمن الناس، على أن الأمر والنهي ليسا مطلقين من قاعدة، ولكنهما يرجعان إلى إيمان بالله، وعسى أن يؤمن من الناس من لم يؤمن برؤيته لرفعة المعروف، وما يترتب عليه من كثرة الصلاح، وانقماع المنكر، وما يترتب عليه من قلة الفساد.
وأما أمم أهل الكتاب فلم يكن تنكبهم عن الأيمان الحق خيرًا لهم فضلا عن أن يكون خيرًا للناس: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم)، على أن منهم من آمن، ولكنهم الأقل.
وإذ قد كانت لكم رسالة في الحياة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان الحق بالله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) فإنه من المتوقع الاصطدام بأهل الكتاب الذين اختلفوا في الكتاب بغيًا بينهم، فسيحاولون الإضرار بكم، ولن ينالوا ذلك إلا بمقدار الأذى الذي يسبب الألم ولكنه لا يضر، وأما في القتال فالسُّنَّة أن يُهزموا إن قاتلوكم. وهذا وعد للأمة إن وفت بالشرط، وكانت هي الأمة التي أخرجها الله للناس بملامحها وخصائصها المعروفة.
ثم شرع في شرح حال هذا المنافس الذي من شأنه محاولة الإضرار والأذى والمقاتلة، وهذه الأوصاف وهي ضرب الذلة عليهم والمسكنة وبواؤهم بغضب من الله، قد حقت عليهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبئاء، وكفرهم وقتلهم الأنبئاء قد كانا منهم بسبب عدوانهم وعصيانهم، وهذا يشبه ما يأتي بعد من قوله: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا)، فالمعصية تؤدي إلى ما هو أكبر منها، كما أن الحسنة كذلك.
وهذه الأوصاف هي لليهود كما عرفنا ذلك في سورة البقرة، وكما جاء في سورة الأعراف: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) بعد أن قص عصيانهم وعدوانهم، ولكن لِمَ عبَّر هنا بوصف (أهل الكتاب)، وبعد أن ذكر القصص الحق في شأن عيسى عليه السلام؟ ذلك والله أعلم أنه يعدهم هنا فريقًا واحدًا، أُرسل إليهم موسى ثم عيسى عليهما السلام، ولهم من الدعوة مواقف متشابهة ومتظاهرة. وهذا كما قال قبل قليل: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل)، وهو من مقولات اليهود، وصدَّره بقوله: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك). وقد بدأ هذا في أوائل السورة عند قوله: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أاْسلمتم)، فجعل الناس في مواجهة الدعوة قسمين فحسب.
وبعد أن وصفهم هنا استثنى بقوله: (ليسوا سواء)، ووصف هؤلاء المستثنين، وهم الذين آمنوا بما أنزل إليهم وما أنزل إلينا، وهم الأقلون كما دل عليه نحو قوله: (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون).
والذين كفروا منهم يغرهم ويغر الناظرين إليهم الأسباب الدنيوية التي آتاهم الله، وهي الأموال والأولاد، وهي غير نافعة في الآخرة، لأن مصيرهم النار، وغير نافعة في الدنيا، لأنها كمثل حرث الظالمين -وهي سنة- تصيبه ريح فيها صرٌّ أي برد شديد فتهلكه، فما لهم من أسباب دنيوية موعود بالإهلاك والفساد بسبب الظلم.
وختم هذا الجزء المتعلق بخصوصية الأمة وامتيازها بالنهي عن اتخاذ بطانة من دوننا، والبطانة داخل الثوب مما يلي الجسد، فلا يكون الكفار من (أهل الكتاب والأميين) في داخل البيت مستشارين ونافذين ومطلعين على الأسرار.
وأرى والله أعلم أن الوقف يكون على قوله: (لا تتخذوا بطانة من دونكم)، فالأصل في الأوصاف التخصيص، وما جاء بعد ذلك من أوصاف مستأنفة هي شرح لحالهم خرج مخرج العلة للنهي، وذلك الجمل: (لا يألونكم خبالا) أي بأعمالهم، (ودوا ما عنتم) أي في نفوسهم، (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) أي من أقوالهم.
(لا تتخذوا بطانة من دونكم)
هذا ختام المقطع الذي يؤسس للتحصين من الانفراط والتذويب.
وقد بدأ بالنهي عن طاعة فريق من أهل الكتاب، لأنكم إن تطيعوهم (يردوكم بعد إيمانكم كافرين)، فهذه هي الغاية لهم، وقد أشارت إليها آيات أخر، فقد سلف في سورة البقرة: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا)، وهم يقاتلون من أجل ذلك: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
أنتم أمة لها خصوصية وامتياز، ولها ملامح واضحة، تاجها الإيمان بالله، ويتفرع عنه أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر.
وأسس هذا التحصين: ترك طاعتهم، والاستمرار على الإسلام بزاد التقوى: (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، والاعتصام بحبل الله الذي هو كالخيط للمسبحة يعصمها من التفرق، وحبل الله هو ما أشار إليه بقوله: (وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله)، والأمر والنهي، بأن يكون لكم يقظة ومناعة تجاه الاختلالات والانحرافات، تنبه عليها، وتحذر منها، كما يكون في الجسد الحي الصحيح منبهات على الأسقام، وذلك بالألم والصداع والتورم، وكلها تشير إلى اختلال لا يحتمل السكوت عليه، وإلى علة تتطلب المسارعة بالعلاج والتطبيب.
فإذا تحققت هذه الأسس، فأنتم أمة واحدة، وأيضًا أمة أخرجت للناس، وظيفتها نفع الناس، وقد كان قبلكم أمم، زاغوا عن الإيمان الحق الذي قال فيه في أول السورة: (إن الدين عند الله الإسلام)، فهو إيمان كل الأنبياء، وبما أوحاه الله إليهم، وما أخذه من العهد عليهم، فمن المتوقع أن يحصل الصدام، فذلك سنة، ولذلك يبادر السياق إلى قسمتهم قسمين: (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)، وسيفصل بعدُ في شأن هؤلاء المؤمنين، ويبادر أيضًا إلى الإخبار بوقوع الأذى ووقوع القتال: (لن يضروكم إلا أذى، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون).
وكما ذكر الصفات الغالبة عليهم من الذلة والمسكنة والبواء بغضب من الله، وأن أسباب ذلك الكفر والعصيان والعدوان، فهي خصال يجر بعضها إلى بعض، وينمي بعضها بعضًا، ذكر صفات القلة المؤمنة منهم، وأنهم في غاية من التبتل والقيام بالآيات، وهؤلاء هم الذين آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والله عليم بهم مجازٍ لهم بما هم أهله.
وأما فريق الأكثرية ذو الأموال والإنفاق في هذه الحياة الدنيا فمآل إنفاقهم وأعمالهم المحق والإهلاك وإذراء الريح التي تجعله هباء منثورًا.
وإذا كنتم كذلك في خصوصيتكم وفي تربص أعدائكم بكم فلا يجوز لكم أن يكون الملاصقون لكم المطلعون على أسراركم والمشيرون عليكم من هؤلاء، لأنهم لا يألونكم خبالا، أي لا يقصرون في طلب الفساد لكم، بأعمالهم، ويودون كل ما يرهقكم ويشق عليكم بقلوبهم، وتفلت من ألسنتهم بين الحين والحين كلمات البِغضة لكم، وما في قلوبهم أكبر من هذا بكثير.
كيف تقرّبونهم ولا تناسب بين شأنهم وشأنكم، فأنتم في حال اتخاذهم بطانة تحبونهم، وهم لا يحبونكم، وأنتم تؤمنون بكل الرسالات، وهم من إيمانكم هذا في غيظ إلى حد عض الأنامل، تسوؤهم الحسنة تمَسُّكم، وتسرهم السيئة تصيبكم، وها قد أطلعكم الله على خبيئتهم، وعلى ما غاب عنكم من شأنهم، وأنتم إن امتثلتم الأمر باجتنابهم، واتقيتم الله فيما أمركم، وصبرتم على أذاهم فلن يضروكم، فكل ما يكيدونه لكم يقع في إحاطة الله لا يخرج منه شيء، وهو بعونه لكم سيبطل كيدهم، ولكن كونوا أنتم كما أمركم ربكم، وكما أرادكم، وكما أخرجكم للناس، لا كما يريد أعداؤكم لكم.
(وما النصر إلا من عند الله) سورة آل عمران تتألف من قسمين كبيرين: جدال أهل الكتاب، والتعليق على غزوة أحد، ومن تقديم وختام بالطبع، وهناك قسم منها منطوٍ في ضمن هذين القسمين، وهو الموعظة بالتحذير من شغل متاع الدنيا عما أعد الله في الآخرة.
ومن هنا من قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) يبدأ التعليق على غزوة أحد وما جرى فيها من أحداث كانت مناسبة لتقرير كثير من الحقائق الدينية والنفسية والكونية.
ويستمر هذا التعليق الطويل إلى قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)، فهو تتمة لجدال أهل الكتاب، ويتلوه مقطع الختام.
وغزوة أحد التي أصاب فيها المسلمين القرح -كما سماه الله- لا تُذكر باسمها في القرآن، وذُكرت بدر باسم الموضع الذي جرت فيه، لا في السورة التي نزلت بالتعقيب على أحداث بدر، وهي سورة الأنفال، ولكن في هذه السورة، سور آل عمران، تذكيرًا بمنة الله تعالى عليهم وأنه نصرهم وأنزل ملائكته تقاتل معهم، ولكنهم في هذه المرة قصّروا، وإنما أُتوا من عند أنفسهم، كما أخبر الله، ووعظهم طويلا في شأن هذا التقصير، وقد شمل خلجات النفوس، ومخالفات الأعمال.
ومن العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في شأن الجبل الذي وقع عنده القرح للمسلمين، واستُشهد منهم سبعون، منهم سيد الشهداء حمزة عمه، رضي الله عنهم، يقول: "جبل يحبنا ونحبه"، ليعلمنا ألا نتطير بالأشياء والأمكنة إن اقترنت ببعض ما نكره، لأن ما أصابنا إنما هو من عند أنفسنا، وهذه الأشياء لا علاقة لها بذلك، بل ربما يكون لها من الودادة والمنفعة لنا ما لا تستحق به التطير أو الكراهة، بل التفاؤل والمحبة.
ويأتي الحديث عن بدر هنا طويلا بالقياس إلى تخصيص هذا القسم من السورة لأحد، إذ يبدأ منذ البدء بعد ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، في إشارة إلى الإعداد والترتيب والتخطيط، وبعد ذكر هَمِّ طائفتين بالفشل، وأن الله ثبتهما، ولم يلتحقا بالمنافقين الذين انخزلوا وخذلوا المؤمنين ورجعوا إلى المدينة، للإشارة إلى تثبيت الله للمؤمنين، الذي وسيلتة صدق النية بالتوكل عليه: (والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
ثم يأتي السياق إلى بشريات بدر ونصرها ونزول الملائكة إلى المعركة تقاتل المشركين وتعوض فرق العدد بثلاثة آلاف ثم بخمسة آلاف، وقد ذكر في سورة الأنفال أنهم ألف مردفون، أي يتلوهم آخرون بعدهم.
ويذكر السنة الكونية المؤكَّدة بالقصر معترضة في وسط أغراض النصر بقوله: (وما النصر إلا من عند الله)، ويحيط بها قبلها وبعدها غايات النصر، وهي التبشير بفضل الله وتأييده، وطمأنة القلوب المفتقرة إلى الطمأنة، كما قال في سورة الأحزاب: (وتظنون بالله الظنونا)، وقطع طرف من الذين كفروا، أي أخذ بعضهم بالقتل، لإيقاع الوهن بهم، أو كبتهم بإلحاق الغم بهم وردهم خائبين لم يحققوا مرادهم، كما قال في الأحزاب أيضا: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا)، ومن أغراض النصر أيضًا استدراج بعض الكفار إلى التوبة ممن يعلم الله أن فيهم من الخير ما يهيئهم إلى الخير، فالله رب العالمين، وليسا ربا لقوم دون قوم، والغرض الأخير تعذيبهم بذنوبهم وظلمهم. وفي ذكر هذه الأغراض تعترض جملة أخرى تمثل حقيقة أيضًا: (ليس لك من الأمر شيء)، فالأمر كله لله، في مصائر الناس وما يريد الله بهم ولهم، وإرادته مطلقة في العذاب والمغفرة.
هذا المقطع الذي يبدأ بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة) معترض في سياقة التعليق على أحداث غزوة أحد بما يوهم أنه منفصل عنها، وهو في قلبها، ووثيق الصلة بها.
ذلك أنه بعد أن أشار منذ البدء إلى نصر بدر، عطف الكلام إلى أسباب النصر النفسية والخلقية الخليقة بتهيئة أصحابها إلى أن يكونوا أهلا لتنزل العون الإلهي، فليست الأمور متروكة للمصادفة أو للتمني، ولكنها قوانين تؤدي مبادئها إلى نتائجها.
فأشار إلى الأساس التشريعي الذي تقوم عليه حياة المؤمنين، باجتناب ما حرم الله، والحذر منه، وذكر الربا بوصفه ذروة المحرمات المتعلقة بالمال الذي هو عصب الحياة كما يقال، ونهى عن أكله أضعافًا مضاعفة، لا على سبيل القيد، ولكن على سبيل حكاية الحال، والنهي عن أخطر الصور شديدة الضرر. وإذا كانوا في حالة حرب واشتباك مع العدو فمن الغفلة أن يجمعوا على أنفسهم حربين، فإن الله توعد على الاستمرار في أكل الربا بحرب من الله ورسوله.
وكعادة القرآن في تعظيم الجزاء الأخروي وتقديمه وعظهم هنا بعد النهي عن الربا بتقوى الله العامة في كل شئونهم، ومنها ترك كبائر المحرمات وأولها الربا، واتقاء النار التي أعدت للكافرين، وفي مقابل اجتناب المنهيات فعل الطاعات بدرجاتها: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون).
والالتزام بهذا المنهج من المعلوم أنه سبب الولاية والنصرة والتوفيق، ولكنه قبل ذلك خط مستقيم إلى المغفرة والجنة، وهذا هو الأول والأهم، فيجب تصويب النظر والسعي إلى هذا الهدف، ولا يليق به إلا المسارعة، لأنه لا شيء فوقه يجوز أن يبطّئ عنه، فضلا عن أن يشغل عنه.
وهذه الجنة يكفي من أوصافها أن يقال فيها: (عرضها السموات والأرض) لتقفز إلى الأذهان عظمتها وكرامتها وما فيها مما هو معلوم مستقر في الأذهان أنه الغاية التي ليس بعدها غاية. وهي معدة لصنف من الناس هذه أوصافهم.
والقرآن الكريم في شرح أوصاف المؤمنين يسلك طريقًا عجيبًا في الترغيب، ذلك أن هذه الخلال ليست خلالا يُرغَّب فيها فحسب على أنها أفق يُطلب الوصول إليه، ولكنها خلال أقوام كانوا على الحقيقة من أصحاب (الصراط المستقيم) الذين ذكرهم في الفاتحة، فما عليكم إلى الانضمام إليهم، وأن تكونوا منهم، فهم نموذج واقع وواقعي، وليس خيالا، فطالما طلب القرآن أن نكون منهم، وأن نكون معهم.
وههنا يعرض مشهدًا من هذه الأخلاق، كأنما هو في كل مرة يعرضها من جانب أو زاوية، ويسلط الضوء على أصحابها في حال أو مقام من مقاماتهم، وهم في كل مرة يمثلون النموذج بما ذُكر من أوصافهم وبما لم يُذكر، لأن ما طُوي ولم يُذكر هو شديد الصلة بما ذُكر، يؤدي إليه ولا يكون إلا به، وهو على كل حال مذكور في مواضع أخرى تناسبه.
ما يعرضه هو ملمح من التقوى التي هي اسم لخلال كثيرة يجمعها أنها وقاية من الشر والضرر في الدنيا والآخرة، بما أن الإنسان في مسيرته معرض للمهلكات التي يجب الحذر منها والتوقي منها، وبما أن مدارج المتقين هي مقامات في أهلية التلقي من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، وهدايته للمتقين.
المشهد هنا من شقين: شق إنساني، وشق رباني، ففي الشق الإنساني عطاء في كل الأحوال (في السراء والضراء)، فالسراء تدعو إلى البطر، والضراء تدعو إلى الشح، وهم يتجاوزن هاتين الحالتين بخلق ثابت في العطاء. وفي الاحتكاكات البشرية المعهودة عند الاختلاط والمعاملة هم من أهل كظم الغيظ والعفو عن الناس، وهم بذلك من المحسنين.
وفي الشق الرباني حساسية دائمة مما يغضب الله، فكلما وقعوا وقعة صغيرة أو كبيرة كان ذكر الله منبهًا لهم، وموقظًا لهم، من الغفلة، فسرعان ما يستعيدون حالة الانتباه والاستبصار بذكر الله، كما قال في سورة الأعراف: (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
والفرق بينهم وبين غيرهم هو ترك الإصرار والتمادي والاستمرار على الخطيئة تعززا بالإثم، كما قال أيضًا في الأعراف: (وإخوانهم يُمدونهم في الغي ثم لا يُقْصِرون).
وفي وسط هذا جملة معترضة كالعادة في النسج القرآني: (ومن يغفر الذنوب إلا الله؟)، فهم يعرفون الوجهة التي بيدها المؤاخذة أو المغفرة، هي هي المقصودة بالنية، ليست ملكا ولا صنما ولا واسطة ولا نبيا على الإطلاق.
أولئك يستحقون الجزاء الأخروي، وهو الهدف الأسمى، ومن طرف خفي هم هم أهل النصر على العدو، المؤهلون لتنزل الملائكة تقاتل معهم كما في بدر.
(وتلك الأيام نداولها بين الناس)
هذا المقطع هنا مخصص للسنن الاجتماعية والتاريخية، وسيتلوه مقطع مخصص لأحداث المعركة، وقد سبقه مقطع يتعلق بمؤهلات النصر.
وهو يبدأ من قوله: (قد خلت من قبلكم سنن)، والتالي له يبدأ من قوله: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) الآية.
القصة ليست جديدة، وهناك قوانين تحكم سير التاريخ، والأمر يقوم على البدء والإعادة، ربما عشت غارقًا في تفصيلات المكان والزمان، تسد عينيك وفكرك عن المدى الواسع للجغرافيا والتاريخ، فأنت محتاج بين حين وحين إلى الموعظة بالأحداث الماضية في الأمكنة النائية، فسِرْ بقدمك أو بعقلك في هذه الأرض لتجد في كل قُطر قصة شبيهة بالقصة التي ترى فصولها أمام عينيك، وستجد أن هناك سنة قد خلت تجعل لكل الأفعال عواقب ومآلات، ولا يمكن أن تمر الجرائم بلا عقاب، ولا يمكن أن تكون عواقب الكذب والتكذيب والظلم والعدوان خيّرة حسنة، ولا أن تكون عواقب المكذبين الذين يحاولون تغطية عين الشمس بالغربال سعيدة، فمدار الأمر كله على الكذب، أي على فرض رواية أو سيناريو للأمور مجافٍ للحقيقة ومعاند للواقع: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)، لأن كل التصرفات تفترض غايات خيرة لها بالحق وبالباطل.
إن الاستبصار بالتاريخ فيه إنارة للعقل المنفتح للتنوير، وفيه موعظة للقلب القابل للاعتبار، وفيه قبل ذلك بيان مذخور مهيَّأ للاستعادة عند الحاجة: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين).
إن ضغط الواقع عليك ربما جعلك تحزن أو تستكين، والحزن عاطفة إنسانية أصيلة "إن القلب ليحزن"، وأكثر ما جاء الحزن في القرآن منفيًّا أو منهيًّا عنه، على معنى أن السلوك السوي هو مغالبة الحزن، والتخلص منه، ربما يكون طيفًا عابرًا، أو سحابة مارّة، ولكن لا يصلح أن يكون طابعًا عامًا، أو سمة غالبة، فهذا ضد ما يراد للإنسان من القوة والحيوية.
إن الإيمان بالحقائق الكبرى من أنفس ما في الوجود، والمؤمنون قوم اختصروا على أنفسهم مسافات الشك والتردد والحيرة، ووصلوا إلى المطلوب بسرعة، فاعتقدوه وبنوا عليه، الحياة أقصر مما تظن، والمهلكات أعتى مما تقدّر، والسفر طويل وجاد، والمنافسة على أشدها، فإن كنت من أهل هذا الإيمان فاعلم أنك صاحب بضاعة نفيسة، ولا يطلب منك إلا أن ترفع نفسك إلى مكانها اللائق بها، وعثرات الطريق لا تقلل من قيمة ما في يدك، إن أحسنت القبض عليه وصيانته، وسرت في مشوارك بالسيرة التي تليق به وترضي الذي هداك إليه: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
الأيام مداولة، ومن هذا اللفظ خاصة اشتقت كلمة الدولة، ومن قديم عبر العرب فقالوا: دولة فلان ودولة بني فلان، بمعنى غلبتهم، والأحرى أن يكون المعنى (دورهم)، أي نوبتهم، وهذه النوبة لها قوانين مادية، وسنن اجتماعية، وأقدار إلهية، و"الهمّ مقسّم"، كما يقال عندنا، (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، وأصحاب السعادة -نعم أصحاب السعادة- مطمئنون، لأنهم بين الصبر والشكر، إن أجْدَتِ الأسباب فبها، وإن لم تجد فقد أدينا ما علينا، ولا يمكن بالفهم القاصر فك شبكة الأقدار، ومعرفة مساراتها على التفصيل والإحاطة، لكن مداولة الأيام بين الناس ملمح من ملامحها، وهي تنفذ من خروق التقصير والتهاون والعصيان: (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
هذا طرف من تفسير ما حدث، وليس هو كل شيء، إن الدعاوى في حاجة إلى بينات، والقول وحده لا يكفي، لا بد من اختبار في الواقع، لا بد من وضع الأقوال في محنة التجربة: (وليعلم الله الذين آمنوا)، فهذه غاية، وغاية أخرى، وهي تهيئة فرصة للاصطفاء والاجتباء، أو كما عبر القرآن للاتخاذ، ففي الناس ناس يريد الله أن يتخذهم شهداء، وكيف سيكون ذلك إن لم تجر الأقدار بتعريض أنفسهم للأخطار، وأن يكونوا ممن قبلوا الصفقة، وعرضوا الثمن المطلوب للسلعة، فاختار الله من يشاء لهذا العرض، وقبِلهم في ذروة القيام بالشهادة على حقائق الإيمان، وهؤلاء يصعدون إلى هذا المقام بأيدي الظالمين: (والله لا يحب الظالمين)، فليس تمكينهم من المؤمنين إلا تحقيقًا لقدره في اتخاذ الشهداء.
وإذ قد التقى الجمعان فالحدث واحد، قرح هنا، وقرح هنا، ولكنه مختلف الأثر، فهو هنا ترقية وتصفية، وهنا محق وإهلاك: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
إنها مداولة الأيام بين الناس، وتحقُّق مقتضيات الإيمان في الواقع، واتخاذ الشهداء، وتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين، وتحقق الجهاد والصبر بوصفهما سبيلا إلى الكرامة الأخروية، وثمنًا لدخول الجنة: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين)، وواو المعية دليل على طلب اقترانهما، فقد يقع جهاد، ولا يقع صبر.
الحديث عن الشيء ليس هو الشيء نفسه، وتصور الأشياء قبل معاينتها مختلف عن تصورها بعد المعاينة، ومن ذلك حدث الموت أو القتل، للنفس أو الغير من نصير أو كبير، فقد كانوا يتمنون الموت قبل لقائه، فها هو الموت رأي العين، فكيف رأيتم التجربة ولو بالاقتراب والاحتمال؟ هل هي سهلة كالقول والتمني؟ فها هي جلالة الأمر وخطورته، كما قال لهم في سورة الصف: (لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
الموت قدر محتوم، وأجل مرسوم، فلا يقدمه خطر، ولا يؤخره حذر، ولم يجعل الله لرسول من الرسل الخلد ولا لبشر، وما الرسل إلى مبلغون عن الله وقدوات يُهتدى بها، وكل امرئ مسؤول عن نفسه وعن عمله، كما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: أنقذوا أنفسكم من النار، لا أغني عنكم من الله شيئًا، وقال الرسل لأتباعهم كما في أول السورة: (ولكن كونوا ربانيين).
وههنا امتدح الرِّبِّيِّين، ومن العجيب أن النسبتين إلى الرب جل شأنه، ولكن في باب التعليم أضاف الألف والنون، لما فيه من معنى الكثرة، وفي باب الجهاد وهو يحتمل أن يفضي إلى الاستشهاد فيلقى المرء ربه وحده، اكتفى بالنسبة مجردة من الإضافة، وقد اقتبس هذا المعنى الصدّيق رضي الله عنه فقال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا هذه الآية ، وكأنما أعدت لتتلى في هذا الموقف خصوصًا، وفي صحيح البخاري من قيل ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون بهذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه.
وفي هذه السورة كما في مواضع أخرى من القرآن يذكر الله ثواب الدنيا وثواب الآخرة، وفي سورة الشورى: حرث الدنيا وحرث الآخرة، وفي سورة النساء: (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة)، وبعد قليل في هذه السورة: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)، وقال في شأن الربيين: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة)، فسكت عن وصف ثواب الدنيا ووصف ثواب الآخرة بالحسن، ووصف المهتدين في سورة البقرة بأنهم يسألون الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، فالعلاقة بين هاتين الضرتين واضحة في القرآن، ثواب الآخرة أعلى وأبقى، وهو الأصل والمطلب، وثواب الدنيا يؤتيه الله بمقادير بحسب الأسباب، ووعد المؤمنين بحسنة الدنيا، كما قال في سورة النحل: (لنبوئنهم في الدنيا حسنة)، ولكن متاع الدنيا قليل، وهو متاع الغرور، لا يُركَن إليه ولا يعتمد عليه، فإن تعارضا فالمطلوب إيثار الآخرة على الأولى، وكل الهلاك في اشتراء الدنيا بالآخرة، فهذا هو الخسران المبين، إذ هو إيثار للبخيس على النفيس، واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير، كما بين في غير آية.
إن الرسل يموتون، ولكن تبقى آثارهم وأقوالهم وأعمالهم وقصصهم في أقوامهم، فالذين آمنوا بهم يشعرون بهم كأنما يعيشون معهم، ولهذا قص الله القصص الكثير للأنبياء والرسل، وكرره في السور، وذكّر بهم وأثنى عليهم، وأثنى أيضًا على أتباعهم الربَّانيين أو الرِّبِّيِّين، وههنا ذكر من مواقف هؤلاء الأتباع أنهم مع وقوع القتل في أنبيائهم أو فيهم لم يصبهم وهن العزائم، ولا ضعف الأبدان، ولا استكانة النفوس، وكأنما هذا هو تفسير الصبر: (والله يحب الصابرين).
وكما هي عادة القرآن في الدلالة على المواقف النفسية الجليلة، والأعمال المتقبلة الرفيعة، بالأقوال الطيبة ومناجاة الله ودعائه، يقص دعاء هؤلاء، وهم يسألون ربهم أول ما يسألونه غفران الذنوب، فهم مع فضلهم ذوو ذنوب ككل بني آدم، ولكنهم يحذرونها ويستغفرون منها، ويسألونه أيضًا غفران الإسراف في الأمر، ومن العجيب أن يكون من شأن هؤلاء الإسراف، كما قال في سورة الزمر: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)، فهم يسألون غفران الذنوب جملة، ويخصون الإسراف بدعوة خاصة، وهو التمادي أو الإهمال في الكيفية بالوقوع في كبير الذنوب، أو بالكمية بكثرتها، ويقدمون هذا الطلب على طلب النصر، فثواب الآخرة أهم عندهم، ويطلبون حسنة الدنيا ومنها النصر على القوم الكافرين، ومن شأن الله أن يستجيب لهؤلاء، فعملهم هذا من الإحسان: (والله يحب المحسنين).
هذا المقطع يصف أحداث المعركة على التفصيل: الأعمال، والأقوال، وخطرات النفوس، والرعاية الإلهية الدائمة، والمحاسبة الدائبة أيضًا على كل شيء، ويحيط بكل ذلك العفو عن الزلات والرحمة الغامرة.
إن كادر الصورة الآن في قلب المعركة، يصور الحركة، وينقل القول الملفوظ، ويستخرج حديث النفس المكتوم.
كل شيء له حساب وثواب وميزان وتقدير، كما قال سبحانه: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة)، وقال: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين).
النهي عن طاعة الكفار في أول المشهد لأن كل المعارك تسبقها مساومات وشروط وتهديد، فنهاهم أن يطيعوا الذين كفروا في مقابل تجنب الحرب، لأنهم لا يأمرون إلا بما فيه الخسران، والارتداد على الأعقاب، فليتكلوا على الله، فهو مولاهم وناصرهم.
وبدأت المعركة، وصدَقهم الله وعده بنصرهم وتأييدهم، وأوقعوا القتل فيهم بإذن الله، لا بقوتهم ولا بتدبيرهم، كما قال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، واستمر ذلك حتى وقع الفشل والتنازع والعصيان، وهي أمور يغذّي بعضها بعضًا، وإنما كان ذلك بعد ما أراهم ما يحبون من النصر والغلبة على عدوهم، وهنا موضع المزلة، أن ترى ما تحب مما كنت تأمل وترجو يتحقق أمام عينيك، فتتهاون وتنسى الحزم فيما أمرك الله به، وتضعف، وتستسهل العصيان، ولكل هذا عواقب وخيمة.
وفي النفس نيات غير سوية من إرادة الدنيا في غير الموضع الذي تحمد فيه هذه الإرادة، وهي تُذم إذا أدت إلى شيء من التهاون فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)، وهذا الانقسام في الإرادات جر الوبال على الكل، حتى إن الله خاطبهم خطاب الجماعة، ولما مَنَّ عليهم بالعفو شمل العفو الجميع، فهم جسد واحد. وهذا هو الفضل الإلهي يصحبهم في المعركة من أولها وفي أثنائها ومن بعدها، يأخذ بأيديهم، ويرقيهم حتى يبلغوا الغاية التي يريدها لهم.
وههنا مشهد متحرك سريع يصور به القرآن ما آلت إليه المعركة: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم)، رجوع سريع لا يلتفت فيه أحد إلى أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الثبات في أخراهم، فهو أقربهم إلى العدو، وكان جزاؤهم أن أصابهم الغم في مقابل ما أصابوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالغم، ولكن هذا الجزاء وإن كان مؤلماً هو تدريب على احتمال ما يصيبهم من قرح وما يفوتهم من غنيمة: (فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون).
وكأنما هي عملية جراحية داخل النفس، تطبّب أدواءها، وتسوسها بقدر الله وتدبيره: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم)، يالَلَّه! حتى النعاس له غايته وأثره.
وطائفة أخرى قلقة تضطرب في نفوسهم أشياء من الموروث القديم للجاهلية، وهم قد انتقلوا إلى أفق الإسلام والخير الذي من الله عليهم به بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم وتزكيته، فلا يليق أن تبقى هذه الهموم والظنون: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية)، فهو هم خاص في مقابل هم عام يجب أن يشغلهم، وظن جاهلي بالله، ويحكي القرآن قولهم الذي قالوه وقولهم الآخر الذي كتموه: (يقولون: هل لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا)، ظنوا أنهم بتدبيرهم لأنفسهم يستطيعون أن يتجنبوا ما قدر الله عليهم، وفتحوا بـ (لو) وسوسة الشيطان، ونسوا الحقيقة الراسخة أن قدر الله لا يرد، وآجال الناس لا تتأخر ساعة ولا تتقدم: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
إن الله تعالى يبتلي الأبدان ويبتلي العقول ويبتلي القلوب، ويريد لها أن تسلم له، وتتخلص من الظنون والوساوس والإرادات الردية، وتكون طائعة خاضعة له، ترضى بقدره، وتطلب ما عنده، وتلزم ما أمر به: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم، والله عليم بما في الصدور).
أي رقابة هذه على كل خطرة وفكرة وقَوْلة نبست بها الشفتان، أو كانت حديثا للنفس لم يغادر الجنان، يبيّن الله ما فيه، ويمحّصه ويبتليه، ويريد للمؤمنين الخير، حتى يتخلصوا من كل أدران الشيطان، وعوائد الجاهلية، ويتقوا جواذب النفس إلى الجبلة الطينية؟