ملاحظات على كتاب المسيو درمانغام

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : اليزيدي
مجلة المنار لرشيد رضا
جمادى الآخرة - 1348هـ
ديسمبر - 1929م

ملاحظات على كتاب المسيو درمانغام
المُعَنْوَن بحياة محمد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
مقدمة وتمهيد :
حياة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، اشترك في درسها الكُتاب والفلاسفة
والمؤرخون ورواة الأخبار منذ ما ينيف على العشرة قرون ، وإن منهم إلا من بخسه
حقه ، وقصر عن وصف نقطة من بحر مزاياه ، ومع هذا فلا لوم عليهم ولا عتاب
مهما تفاوتت مداركهم ، واختلفت أساليبهم ، وتباينت مذاهبهم ومللهم ؛ لأنه عظيم بل
أعظم من أظلته السماء ، ولا ترتقبوا مني دليلاً على ما أدعي فإني أقصر باعًا ممن
تقدمني لهذا الباب ، والقصور لا يمنع من ابتلي به عن إدراك النقص فيما يرى أو
يسمع ، فها أنت ذا تأخذ على ممثل التصنعَ في القول أو تعيب عليه الخفةَ في
الحركات ؛ ولكنك لا تستطيع أن تأتي بأحسن من صنعه ، وهذا مثل واضح ضربته
حتى تعلم أنه ليس من شروط المنتقد أن يكون أعلم ممن تصدي لانتقاده أو - على
الأقل - في درجته ، فإذا فهمته حق فهمه علمت أنني لا أدعي تفوقًا أو علمًا ؛ وإنما
ألاحظ أن خزائن الكتب العربية خالية من تأليف يحتوي على درس دقيق لحياة
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس كل ما كتب إلى الآن في هذا الموضوع إلا
بمثابة مواد يجب على طائفة من العلماء أن يحللوها ، ثم يرتبوها ويبوبوها بعد أن
يضيفوا إليها ما غفل عنه المتقدمون ، وعند ذلك يضعون بين يدي الخاص والعام
أحسن تعريف بذلك النبي العظيم الذي لم يأت التاريخ بمثله .
فهو الرسول الوحيد الذي استطاع أن يأتي أمته في ظرف عشرين سنة بخير
دنياها وسعادة أخراها : شرَّع لها العبادات - سنَّ لها قوانين الزواج والطلاق
والإرث - شرح لها طرق الكسب والمعاش - أشرع لها منهج المعاملات - علمها
سياسة البلاد - قرر لها أنواع الأحكام - بيَّن لها آداب الأكل واللبس والزيارة -
زرع في قلوب أهلها الرأفة والشفقة - وحَّد صفوفهم - حرَّم عليهم ما فيه مضرتهم ،
على حين كان مشتغلاً بحاجات بيته الطاهر ، ناشرًا لدعوته الصادقة محاربًا
للمشركين الذين كانوا يكيدون له الكيد ليل نهار .
أرجو أن يسمع علماء المسلمين ندائي على خمول مصدره ، فيصنفوا لنا كتابًا
تستنير به بصائر الجاهلين ، وترتاح إليه قلوب الحائرين ، ويزيد المهتدين إيمانًا
مع إيمانهم .
بمثل هذا الكتاب ينقطع سيل الحملة التي أرسلتها الكنيسة على الملة الإسلامية
بأن قلدت الجيوش من الدجالين أمضى ما لديها من الأسلحة وأوعزت إليهم أن ينالوا
من الديانة الإسلامية ما استطاعوا حتى تبطئ في السير أو ترجع القهقرى .
أنا مستيقن وأنتم معي - معشر المسلمين - بأنهم لن يصيبوا منها شيئًا ؛ لأن
الله يأبى إلا أن يُظهرها على الدين كله بالرغم من المعاند والملبس ، ومع هذا يجب
علينا - وخصوصًا العلماء منا - أن نعارض خطة الكنيسة في هذا الصدد ، وأن لا
نغفل عن جماعة المفسدين المضلين الذين يريدون أن يزعزعوا بسطاء العقول
والجهلة ويزيغوهم عن معتقداتهم ثم يقودوهم إلى النصرانية .
فالتدارك التدارك قبل أن يتسرب الخراب إلى الطائفة المحمدية ؛ لأن
خصومنا لا يذرون طريقًا مستقيمة ولا معوجة إلا سلكوها ، ولا تركن إلى ما
يدَّعونه من اللادينية والتسامح والإخلاص للعلم وغير ذلك من زخرف القول وخادع
الألفاظ ، فما فرَّط في دينهم اليوم إلا المسلمون ، وما جاوز حدود التسامح إلا هم ،
فلو أنهم أقاموا شعائره واتبعوا أوامره لما تجاسر أحد أن ينسب إليه الجمود ، بل أن
يطعن فيه وفي صاحبه عليه الصلاة والسلام ، فيدَّعى أن القرآن المرسوم في
المصاحف غير القرآن المنزَّل من السماء ، وأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم
كان يأخذ عن اليهود والنصارى .
نعم ذلك ما جاء في كتاب ظهر منذ عام باللغة الإفرنسية بعنوان ( حياة محمد )
صلى الله عليه وسلم ، وقد سبقني إلى انتقاده صديقي أحمد بلافريج حيث نشر
عنه في العدد 146 من مجلة الفتح الغراء كلمة لاحظ فيها على المؤلف - مسيو
درمنغام (
Dermcnghem . E . M ) خطأين عظيمين ، ثم بيَّن كلاًّ منهما
وناقش مرتكبهما الحساب ، وبذلك أدى واجبه نحو الأمة الإسلامية فجزاه ربنا خيرًا .
وأنا أريد أن أقتفي أثره وأعرض على قراء المنار الكرام ما بدا لي من
الملاحظات عند تلاوة ( حياة محمد ) صلى الله عليه وسلم .
اقتنيت هذا المؤلَّف وأملي أن أجد فيه ما لم أقف عليه في غيره من الكتب لما
عُرف به أدباء الغرب اليوم من البحث والتنقيب ، فلم يخب ظني إذ عثرت فيه
حقيقةً على آراء هي - في نظر المؤلف - أنفس من أن تسكن بطون كتبنا القديمة ،
وقد أشرت إلى البعض منها آنفًا ، وبقي علي أن أنقل إلى القارئ كلام المسيو
درمانغام فيها ، ثم أعلق عليه ما خطر لي من الأفكار عند تلاوته ، وسأقتصر في
انتقادي على نقطتين بارزتين في الكتاب ، ولو أردت أن أُبيِّن كل ما احتوى عليه
من الزلات كبائرها وصغائرها لما اكتفيت بضعف صحائفه وليس ذلك من المتيسر
لي .
قال في صفحة 135 عند كلامه على كتاب الله العزيز ( القرآن أقرب إلى
المسيحية من السنة على ما هو عليه الآن ، وأما إذا اعتبرنا كيفية تدوينه فيمكننا أن
نتساءل هل كان أصله ( كذا ) يزيد شبهًا بها من الفرقان الموجود الآن ؟ وعلى كل
حال فالحديث هو الذي حفر هوة بين الديانتين ) .
ثم خط على صفحة 276 ما معناه ( غير صعب على عقولنا وهي أشد معرفة
بأفعال الله من معاصري النبي ( عليه السلام ) ومن علماء المسلمين [1] أن نؤمن
بوجود فرق بين كلام الله القديم وبين الفرقان المحفوظ في الصدور المرسوم على
الأوراق ، وقد يظهر ذلك الفرق بعد الدرس والتفكير وربما برز عند مجرد النظر ) .
ثم كتب على صفحة 283 ( لم يدون القرآن إلا بعد نزوله بمدة ، وقد ضعفت
عندئذ ذاكرة القوم وكثر بينهم الخلاف فيه ، وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله
عليه وسلم بسبعين سنة ) .
وقال في الصفحة التي بعدها ( بأية وسيلة يمكننا أن نتوصل إلى معرفة
الشروح والتأويلات التي أدرجت في القرآن وما هي نسبتها منه ؟ ترى هل هو
مجرد عن الحديث النبوي ؟ )
تلك آراء المسيو درمانغام في القرآن الكريم ، وإلى هذا الحد وصل سوء ظنه
بالصحابة الأجلاء الذين يأبى حتى البليد أن يتهمهم بتحريف أو تزوير في كتاب
الله [2] لِما عُرفوا به من الإخلاص لهذا الدين الحنيف والاعتصام بحبله والاعتناء
بقانونه ودستوره الذي هو القرآن العزيز ، لا شك أنه لا ينكر هذا كما أنه لا ينازع في
قوة الحافظة عند العرب لرواية أخبارهم وأشعارهم مع الغريب من ألفاظها والمعقَّد من
معانيها ، فكيف وما ذكرتَ يجوِّز في حقهم نسيان آيات من كتاب نزل عليهم من عند
الله واستولى على حواسهم بفصاحته وسلاسة معانيه وعذوبة ألفاظه وصدق روايته ؟
وكيف ننسب إليهم زيادة أو نقصًا فيه ، وهم يعلمون أن من بدَّل منه حرفًا يصلى
سعيرًا ؟ عار على المفكر أن يرميهم بشيء من ذلك لمجرد شكوك ساورت عقله أو
شبه ضعيفة تراءت لخياله .
على أنهم كانوا رضي الله عنهم يكتبون القرآن عند نزوله ، إما من تلقاء
أنفسهم وإما بأمر صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ، وقد جمعه كثير منهم إلا
أن ثلاثة مصاحف هي التي اختصت وقتئذ بالثقة ، منها : مصحف سيدنا زيد بن
ثابت ، وقد كان عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر حياته ووافق
عليه ، وزيد هذا هو الذي كُلِّف من لدن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أيام
خلافته بكتب المصحف ، وبقي ذلك المصحف عند أبي بكر حتى مات رحمه الله ،
ثم انتقل إلى عمر رضي الله عنه حتى توفي ، فبقي عند ابنته أم المؤمنين حفصة
إلى أن طلبه منها سيدنا عثمان رضي الله عنه ، ثم أمر زمرة من الصحابة الأعلام
أن يأخذوا منه عدة نسخ ليفرقها في أنحاء المملكة .
وكل ذلك مبسوط في محله ؛ وإنما أوردته لأبين للمسيو درمانغام أن القرآن
جُمع أول مرة بعد ممات النبي عليه السلام بنحو سنتين ، وثانيًا بعده بما دون
العشرين ، وأما حديث السبعين عامًا فلم يقله إلا هو ، وله أن يراجع التاريخ
الإسلامي ليتأكد لديه صحة ما ذكرت ، وعليه أن يدرس حياة سادتنا أبي بكر وعمر
وعثمان رضوان الله عليهم ليعلم أنه يستحيل في حقهم أي تحريف أو تبديل في
القرآن ، أليس عمر هو الذي كاد يقضي على أعرابي سمعه يتلو آيات بقراءة
مخالفة لما أخذه هو عن رسول الله ؟ بلى هو ذاك الفاروق الذي لو روى لنا القرآن
وحده لما ارتبنا في صحته ؛ لأننا لا ننقاد لسلطان الخيال وندع نور الحق جانبًا ،
ولأننا لا نعقل وجود ( فرق بين كلام الله القديم وبين القرآن المحفوظ في الصدور ) .
ولكنا نعلم أن في نفس المسيو درمانغام حاجات يحول دون الوصول إليها
القرآن ، وقد حسب أنه ينال مقصوده بالتكلم في الذكر الحكيم والطعن في خاتم
المرسلين ، وما غايته إلا تقريب الديانة الإسلامية من الملة المسيحية حتى يسهل
على أصحاب الأولى أن يمروا إلى الثانية ؛ لأنه من المخلصين لها ( دينًا أو سياسة )
فكأنه يقول : الإسلام فرع من النصرانية ، وقد كان القرآن ( الأصلي ) أقرب
إليها من الفرقان الموجود الآن ، وإنما بعد عنها بتحريف من الصحابة والفقهاء ،
فالأوفق والأنسب الرجوع إلى الأصل [3] .
وهذه مكيدة من سياسة الكنيسة اليوم في التبشير فقد أمرت خدامها أن لا
يصادموا المسلم بادئ بدء بدعوته إلى النصرانية ، بل أن يقوضوا دعائم الإسلام
واحدة فواحدة ، ويشككوا بسطاء العقول من أهله في معتقداتهم حتى إذا ما بقوا
حيارى ومرت بهم قافلة أخرى من المبشرين ساقتهم معها إلى الصليب .
غير أن المسلمين لا ينخدعون لها ولا يخالجهم ريب في القرآن { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 41-42 ) لأنهم يتلون ويسمعون { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ } ( الحجر : 9 ) فيقولون : صدق الله العظيم .
ولو أقامت الكنيسة الإنجيل كما أُنزل من عند الله لكُنا وأهلها أمة واحدة ؛
ولكن رجالها بدَّلوا فيه وغيَّروا [4] ثم أبوا أن يرضوا عن سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم حتى يتَّبع ملتهم ، فنهانا الله تعالى أن نؤمن لهم .
وأما مسيو درمانغام فنظره أن مسألة الصلب وحدها هي التي أبعدت الإسلام
عن النصرانية ، وهو لا يستعبد أن تكون تلك المسألة من المحرفات في الكتاب قال
في صحيفة ) 130 ( 130 ) .
( إذا اعتبرنا أن القرآن لم يُجمع إلا في عهد عثمان و الحجاج ( كذا ) …
وأن الألفاظ لم تكن مشكولة بنقط أو حركات بحيث كان في الإمكان النطق بها
بكيفيات مختلفات يبقى لنا أن نتساءل فيما إذا كانت هذه الآية { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ .... } ( النساء : 157 ) تكفي لأن تكون سدًّا مانعًا بين ديانتين متحدتين
في كل ما سوى هذه المسألة ، زد على ذلك أن تلك الآية تناقض ما جاء في سورة
آل عمران { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ .... } ( آل عمران :
55 ) وفي سورة المائدة { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ( المائدة :
117 ) وفي سورة مريم { وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ .... } ( مريم :
33 ) اهـ .
نحن لا نرى تناقصًا بين آيات ( الوفاة ) وبين آية نفي ( الصلب ) وقد قال
بعض المفسرين : إن الله توفى المسيح قبل أن يرفعه ، وهو تأويل معقول المعنى ؛
لأن سيدنا عيسى عليه السلام كان لابد له من الموت ؛ لأنه إنسان يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق ويتعب كسائر الناس ، والموت لا يقتضي أن يكون بسبب
الصلب أو القتل ، بل المتبادر من التوفي أنه عليه السلام مات حتف أنفه بدون فعل
أحد ، وذلك لا ينافي الرفع ، ألم تر أن الله يقول : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ( آل عمران : 55 ) فلم العناد إذًا ، وقد ذُكر في القرآن أن اليهود قتلوا أنبياءهم
كيحيى و زكريا ؟ ثم هب أننا عمدنا إلى آية الصلب فغيرناها حسب رغبتك ،
أفتظن أن ديانتينا تصيران متشابهيتن ؟ كلا إننا نقول ( الله أحد ) وقومك يقولون :
الله ثالث ثلاثة ، ونحن نقول : إن عيسى المسيح عبد الله ورسوله وهم يقولون ( إن
الله هو المسيح عيسى بن مريم ) وقد قال الله تعالى لرسوله محمد خاتم النبيين
{ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ( آل عمران : 64 ) فأينك وما أحدثته - في زعمك - آية الصلب من التباين ؟
وأينك وتآخي الديانتين والمسلمون لا يزالون يتلون { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا
اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ( المائدة : 51 ) .
أتكون كل هاته الآي وما في معناها مما ذكره مزيدة في القرآن بقصد إبعاده
عن المسيحية ؟ أم تريد أن تحذف كل ما في هذا المعنى من القرآن لنندمج في
النصارى ؟ ذلك ما لسنا بفاعليه وإن بدل الهلال غير الهلال ؛ لأن الخلاف بيننا في
أس الاعتقاد أعني ( التوحيد ) { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ( هود : 118-119 ) .
اللهم اجعلنا من المخلصين في الإيمان بك والاتباع لرسولك إلى الأبد .
والآن سأرجع بك أيها القارئ إلى الصحيفة 117 من كتاب المسيو درمانغام ،
حيث يستخدم قوة خياله وسوء نيته في الحط من قدر صاحب الشريعة عليه السلام .
قال هنالك ( والذي لا ريب فيه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تأثر بديانة
المسيح ، بل إن الرهبان والنصارى المقيمين بمكة وبعض المفكرين من العرب
كزيد بن ثابت هم الذين الذين زرعوا فيه العاطفة الدينية قبل عهد الرسالة ) [5] .
هذا مما لا يشك فيه كاتب ( حياة محمد ) ولكن ما أدلته وحججه ؟ أَنَزَل عليه
الوحي بذلك ؟ أم تسار مع النبي صلى الله عليه وسلم بطريق استحضار الأرواح ؟
ذلك ما أهمل ذكره ، وكل ما برهن به على ما ادعى هو زعمه وجود بعض
النصارى بمكة وضواحيها ! مع أنه لا يجهل أن الإنجيل كان في ذلك العهد محفوظًا
عند رجال الكنيسة بحيث كان يستحيل أن تجد من بين مطلق المسيحيين من يروي
شيئًا من تعاليمه ، وإليك كلامه عن ذلك في الصحيفة 63 ( 63 ) : ( كان محمد
صلى الله عليه وسلم يميل إلى ديانة المسيح غير أنه كان لا يعرف عنا إلا شيئًا نذرًا ،
وما كان يمكنه أن يأخذ عن النصارى المقيمين بمكة ؛ لأنهم جهلاء لا يتفقون على
رواية ) .
الله أكبر ، الآن حصحص الحق وظهر تناقض المؤلف وخباله ! فمن جهة
يزعم أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام كان يأخذ عن النصارى الذين كانوا بمكة ،
ومن جهة كان يثبت أنه ما كان يمكنه الأخذ عنهم لأنهم يجهلون تعاليم المسيح ولا
يتفقون على شيء منها ، اللهم إن عقولنا تعجز عن الجمع بين هذين المعنيين ، بيد
أنها تعلم أن جل النصارى اليوم لا يعرفون من الإنجيل شيئًا مع تعدد طرق النشر
وأساليبه ، فما بالك في عهد لم تكن فيه مطبعة ولا جريدة ؟ ... وعليه فعمَّن أخذ
صلى الله عليه وسلم التفاصيل عن أخبار الأمم السالفة ، ندع الجواب للمسيو
درمانغام ، وربما يجيبنا بأنه كان عليه السلام يتلقى ذلك من طريق الوحي حيث
إنه لا ينكر تلك المعجزة ، وإن حاول غير مرة في كلامه عنها أن يظهر لنا نبينا في
صورة ( درويش هندي ) أو ( فقير صوفي ) في لجة الارتباك ، قال في صحيفة
62 ( 62 ) ما معناه ( انقطع محمد - عليه السلام - عن الناس وحببت إليه الخلوة ،
وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقيين ، فكأنه كان بتأمله وبطول تفكيره في
خلوته يستجمع قواه العقلية وينمي حاسة الاختراع فيه ؛ وبذلك لا يصيبه تعب ولا
ملل من بعد… وبعبارة كان محمد صلى الله عليه وسلم مقر أزمة وكان يفزع إلى
الجبال ليحلها ) .
مفهوم هذا الكلام أنه عليه السلام كان يعتزل الناس ليخترع لهم دينًا جديدًا وإلا
فما معنى ؟ قوله ( وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقين .. ) نعم نحن لا ننكر أنه
كان قبيل إبان الوحي يتردد إلى غار حراء ولكن عسير علينا - والله - أن ندرك ما
كان يدور في خلده آنئذ وإن كنا من الشرقيين الذين ينسب إليهم واسع الخيال ، فإن
استطاع المسيو درمانغام أن يأتينا بحجة على ما يقول فإنا مستعدون لقبولها بل
ولقبول ما جاء في الصحيفة ( 66 ) من كتابه وإليك ترجمته :
( علم محمد صلى الله عليه وسلم من طريق نصارى سورية و مكة أن هناك
دينًا سماويًّا ، وأن الله كان يبعث بأوامره لبعض الأمم ليلقنهم الحقيقة ، وذلك
بواسطة رجال يصطفيهم ليرشدوا الناس ويردوهم إلى الجادة كلما حادوا عنها ، كما
علم أن ذلك الدين كان واحدًا ؛ وإنما الناس يحرفونه في مدة الفترة ، وطالما تمنى
أن يقيض الله للأمة العربية من يرشدها لأنها كانت تائهة في فيافي الضلال ) .
فعاطفة مثل هاته غير مستحيلة في حق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام مع
ما عُرف عنه من مكارم الأخلاق { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم : 4 ) كما أننا
لا نشك أن الدين الذي أتى به كل الرسل واحد في أصوله الاعتقادية ، وهي توحيد
الله والوحي والبعث والجزاء وأصوله العملية وهي الفضائل والأعمال الصالحة ،
وإنما يختلفون في الفروع والشرائع العملية { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ( المائدة : 48 ) وقد أمرنا بأن نؤمن بهم ، وأن لا نفرق بين أحد منهم ، فما جاء به
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو عين ما أنزل على كل من سادتنا نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم أجمعين في أصوله ، إلا أن
قومهم من بعدهم حرَّفوه حسب أهوائهم وأغراضهم وإلا لاتبع اليهود والنصارى
سيدنا محمدًا عليه السلام ( { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ } ( الأعراف : 157 )
وأما دعواه أن النبي عليه السلام علم ذلك من طريق نصارى سورية فهي من
الغرابة بمكان ، بل مثال متناه في الجسارة على البهتان .
وبعد هذا كله إذا فرضنا أنه عليه السلام أخذ ذلك عنهم ، فمن أين يا ترى
تلقى ما يحويه الفرقان من الحكم والأحكام والآداب ؟ إذا كان من طريق الوحي
وهو الحق واعترف به المسيو درمانغام ، فإذًا ما وجه الحاجة إلى النصارى أو
غيرهم ؟ أليس الذي علَّمه ما ذكر بقادر على أن يقص عليه أخبار الأمم الماضية ؟
بلى ! وهو العليم القدير .
فكفوا معشر المسيحيين عن غلوكم وتحاملكم وحوِّلوا جهودكم شطر الهمج من
الوثنيين ، وأما المسلمون فهم لا يرضون بدينهم بديلاً لما يجدون فيه من خير
الدارين ، ولقد كانوا أرقى الأمم وأعزها وأكرمها وأشدها بأسًا يوم كانوا متمسكين به ،
ولديهم من المجلدات القناطير المقنطرة شهادة على ذلك ، وهذه الآثار لا تزال
قائمة ناطقة في كل بلد فتحوها ؛ ولكنهم اشتغلوا بعد ذلك بالسفاسف وتمسكوا
بالقشور من أمر دينهم فحقت عليهم كلمة العذاب ، ولئن لم يستدركوا ما فاتهم بأن
يعلِّموا أولادهم تعليمًا دينيًّا عربيًّا ؛ فإنهم لا يلبثون أن يصبحوا مذبذبين بين الإسلام
والنصرانية والإلحاد ، لا إلى هذا ولا إلى تلك ولا إلى الآخر ، والوقت حرج لا
يدع مجالاً للتردد ، فإما علينا وإما لنا .
... ... ... ... ... ... ... الرباط ( المغرب الأقصى )
... ... ... ... ... ... ... ... ... اليزيدي
في ( 8 ) جمادى الأولى عام ( 1348 ) ، ( 12 ) أكتوبر ( 1929 )
( المنار )
إذا كان درمانغام هذا يؤمن بالله تعالى ويعقل أفعاله وحكمه أحسن
مما كان يعقلها الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما ادعى - فليخبرنا
بالبرهان الذي قام عنده على نبوة موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعته
وآخرهم المسيح عليهم السلام ، وعلى أنها وحي من الله دون نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم وشريعته ، مع أن القرآن أعلى من التوارة وغيرها من كتبهم في العلوم
الإلهية والتشريع الأدبي والمدني ، وإخباره بالغيب أصح من إخبارهم رواية وأصرح
منها وأثبت ، وقد كان أميًّا نشأ بين أميين من حيث نشأ موسى في بيت ملك كان
أرقى ما في الأرض علمًا وتشريعًا ، فإن كان يعقل هذا ويتكلم عن اعتقاد ورغبة في
الجمع بين الديانتين فعليه أن يدعو النصارى إلى الإسلام مصلح النصرانية ،
وخاتمة الأديان الإلهية .
__________
(1) المنار : وغير صعب على عقول المسلمين أن يؤمنوا بأن هذا الكاتب وأمثاله يفترون ويقولون
في القرآن والحديث ما لا يعملون وما لا يعتقدون لتشكيك المسلمين وإضعاف دينهم ليخنعوا لهم
ويقبلوا ظلمهم ، فإن بناء سياستهم على الكذب والخداع أمر مشهور يعرفه حتى الرعاع ، ودعواه
أنهم أعلم بأفعال الله تعالى من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم غرور باطل ودعوى لا تقوم
عليها بينة ، فهم أجهل الخلق بأفعال الله .
(2) المنار : لا شك أن هذا الرجل سيئ النية ، متعمد للكذب لتشكيك قراء كتابه من عوام المسلمين ، فما كتبه تقولات - لا آراء - أملاها الجهل وقلة الحياء ، وأي جهل ووقاحة أشد من دعوى من
يزعم أن القرآن كُتب بعد انتهاء مدة الخلفاء الراشدين و يزيد و معاوية الأصغر و مروان أي في عهد عبد الملك و4 من بني أمية أي في عهد عبد الملك بن مروان فهل كان المسلمون في هذه المدة بغير قرآن ؟ .
(3) المنار : لا حاجة إلى مزاعم هذا الرجل في إرجاع المسلمين إلى القرآن ، فعقيدتهم التى يكفر عندهم كل من خالفها أنه هو الأصل القطعي ، وأن الحديث الذي يخالفه مخالفة حقيقية لا يمكن أن يكون صحيحًا ؛ ولكن هذا الأصل ينقض النصرانية المعروفة بأشد مما تنقضها الأحاديث كما يأتي .
(4) المنار : إن النصارى أضاعوا الإنجيل الذي أوحاه الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ؛ وإنما هذه الكتب المسماة بالأناجيل عندهم تاريخ أو تواريخ له ، فيها شيء من ذلك الإنجيل الذي نقل عنه لوقا ذكره بقوله (16 : 15 وقال لهم اذهبوا إلى العالم ، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها ) اهـ . وقال الله تعالى : [ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ] (المائدة : 14) فالقرآن هو المهيمن على هذه الكتب كلها ، وهو دين الله الأخير المكمل لما جاء به جميع الأنبياء من دين الله الواحد في أصوله وأهمها وأعظمها التوحيد ، والناسخ لجميع ما خالفه من شرائعهم وهو الذي حفظ دونها ، فالنصرانية هي التي يجب أن ترجع إليه دون العكس الذي يحاوله المبشرون بدين الكنائس ، بل بأديانها المتعارضة ، وإنجيل برنابا أصح عندنا من هذه الأناجيل الكنسية ، وهو ناطق بالتوحيد وبراهينه وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
(5) المنار : من حسن حظ المسلمين أن هؤلاء الذين يطعنون في دينهم يفضحهم في كذبهم وافترائهم جهلهم بالإسلام وتاريخه ، فزيد بن ثابت الذي زعم هذا المفتري أنه كان يزرع عاطفة النبوة والرسالة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنصاري من يثرب كان عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة طفلاً فيها ، ولم يره قبلها ، وقد استصغر يوم بدر فلم يؤذن له بالقتال لصغره ! ! .
(30/440)
 
منشور في مجلة المنار
المحرم - 1349هـ
مايو - 1930م
الكاتب : إميل درمنغام
__________
رسالة من مؤلف كتاب
حياة محمد في باريس

الحمد لله وحده
إلى سيدي مدير مجلة ( المنار ) الغراء .
تحيةً وسلامًا وبعد :
فإني قرأت في مجلتكم مقالاً للسيد اليزيدي على كتابي ( حياة محمد ) ، أنا لا
أريد هنا مناقشة مطولة مع صاحب المقال فيكفي القارئ أن يراجع كتابي نفسه فيجد
فيه الأجوبة لاعتراضاته التي لم تأتِ بشيء جديد ، ولكن يجب عليَّ أن أعلمكم أن
فكري قد حُرِّفَ تحريفًا كاملاً ؛ فإن صاحب المقال لم يفهم شيئًا مما قلته .
الله شاهد على أن ليس لي المقاصد التي أعارنيها ، وحقيقة قصدي في نشر
(حياة محمد ) هو البحث الحق الذي هو من أسماء الله تعالى ، وعاملت القرآن مثل
معاملتي التوراة والإنجيل ، وأظهرت في كل حين ميلي للرسول صلى الله عليه وسلم
وعطفي إلى الإسلام دين الغزالي وابن ( العربي ) وابن الفارض وابن رشد
وابن سينا وابن خلدون رضي الله عنهم . ورجال أكابر الدين إنما فهموا مقصدي
وفكري لو أنهم قرأوا كتابي ( ؟ ) إن الشيخ الأكبر قال - ولله دره - :
إذا علم الله الكريم سريرتي ... فلست أبالي من سواه إذا سخط
وليت علماء مسلمين قرأوا كتابي ودرسوه بمثل الإنصاف والميل اللذين كتبته
بهما ، وقد علق عليه بعضهم منهم السيد بلا فريج في ( الفتح ) ومكاتب ( فتى
العرب ) اللذين إن لم يكونا في الكل من فكري علما صدق ضميري ، وإني أطلب
من لطافتكم ، أيها المدير أن تنشروا في مجلتكم هذه الكلمات لتقويم ما علق على
كتابي في مجلتكم .
وفي الختام اقبلوا تحياتي واحترامي والسلام .
... ... ... ... ... ... ... ... ... إميل درمنغام
(31/77
 
المحرم - 1354هـ
مايو - 1935م
كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم
الحكم بين المختلفين فيه
( 1 )

ألَّف بعض كتاب الأوربيين مصنفات في تاريخ سيدنا محمد رسول الله وخاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم ، أو ترجمة حياته ، عُرف غير واحد منها باسم ( حياة
محمد ) كان آخرها فيما علمنا للكاتب الفرنسي البليغ موسيو درمنغام ، ويقال : إنه
أقربهم إلى صحة الرواية ؛ لأنه اعتمد على المصادر الإسلامية وأوسعها عنده سيرة
ابن هشام ، وأجدرهم بحسن النية فيما أخطأ فيه ؛ فإنه حاول الجمع بين اعتقاده
واعتقاد المسلمين ، والتقريب بينهما بقدر ما تعطيه بلاغته الفرنسية في مدح النبي
صلى الله عليه وسلم وتصوير فضائله .
أعجب بهذا الكتاب الدكتور حسين بك هيكل الكاتب المصري الشهير ، ولسان
حزب الأحرار الدستوريين في جريدتهم ( السياسة ) فطفق يترجمه وينشره في
صحيفة السياسة الأسبوعية الخاصة بالعلم والأدب والفنون متصرفًا في الترجمة
تصرف ( عرض ونقد ) فكان لما ينشره أحسن تأثير في قلوب قرائها من المسلمين ،
سرهم منه أن رأوا هذا الكاتب العصري صار من أنصار الدين ينشر لهم أمثل ما
كتب الإفرنج في النبي صلى الله عليه وسلم وما هو خير منه ، بعد أن كان لجريدة
السياسية من المقالات ما أوقع بينها وبين المنار ما لم ينسه قراؤهما ، ثم اتفقنا ولله
الحمد ، وكانت أشد الصحف تعاونًا معنا على إصلاح الأزهر .
ثم اتفق في أثناء عرض الدكتور هيكل لهذا الكتاب ( حياة محمد ) أنني كنت
أكتب بحث ( الوحي المحمدي ) في تفسيري لسورة يونس عليه السلام ، وكان
غرضي الأول منه دحض شبهات القائلين من الإفرنج وغيرهم بالوحي النفسي ،
يعنون أنه نابع من نفس النبي وصادر عن استعداد عقله الذي يعبرون عنه في هذا
العهد بالعقل الباطن ، ونعني نحن به الروح الغيبي المعبر عنه بقول تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } ( الإسراء : 85 ) ولكن هؤلاء الماديين لا يؤمنون بعالم الغيب ، ولا بأن للإنسان
روحًا مستقلاً نُفخ فيه من ذلك العالم ، فهم يسندون كل ما ثبت عندهم من مدارك
الإنسان غير الحسية ولا العقلية المنطقية إلى اسم جديد سموه العقل الباطن ، ومنه
ما ثبت من إخبار المنومين بالتأثير المغناطيسي بالغيب ، وما يسمونه قراءة الأفكار
ومراسلة الأفكار ، وقد رأيت أن ما نقله هيكل عن درمنغام من الكلام على بدء
الوحي المحمدي ومقدماته قد جمع فيه جميع الشبهات التي يمكن الاحتجاج بها على
أن هذا الوحي نفسي ، وقد لخصته في عشر ، رددت عليها أقوى رد ، ثم أثبت أن
وحي القرآن من عالم الغيب ، بما بسطته من كليات مقاصد القرآن العشر ،
واستحالة كونها من عقل محمد واستعداده ، واستحالة أن يكون ما دونها من العلم
والفهم والعمل مما وقع أو يقع مثله لأحد من البشر في سن الكهولة .
لم أقرأ كل ما نشره هيكل من هذا الكتاب ، ولكن علمت أنه يضع كتابًا مستقلاً
في ذلك فتح بابًا للاشتراك فيه ، ثم صدر هذا الكتاب مطبوعًا أحسن طبع ، ونُشرت
له دعاية واسعة في الصحف ، فكان له تأثير حسن ، وتفضل عليَّ المؤلف بنسخة
منه جاءت في وقت حاشد بالشواغل الكثيرة : منها إتمام المجلد 34 من المنار ،
والجزء الثاني عشر من التفسير ، وما يقتضيانه من خاتمة وفهارس وتصدير ،
ومنها الشروع في الطبعة الثالثة لكتاب ( الوحي المحمدي ) ، والشروع في
(التفسير المختصر المفيد ) اختصارًا وطبعًا ، وقد اشتد الإلحاح بطلبه ، لهذا أرجأت
ما يوجبه عليَّ سروري به من مطالعته وتقريظه إلى فراغ أرى أن انتظاره لا يعدو
شهرين ، بيد أنني تصفحت مقدمته وبحث مقدمة بدء الوحي منه ، فعجبت لمؤلفه
كيف أقر درمنغام مؤلف الأصل على مزاعمه فيها بعد تفنيدي لها في كتاب الوحي
المحمدي ، وقد اطلع عليه وذكره في الكتب التي استمد من مباحثها في مصنفه ، فإن
أدري أغفل عن تفنيدي لشبهاتها العشر وإثبات الوحي الإلهي بكليات مقاصد القرآن
العشر أم ماذا ؟ فهذه المسألة أنكر المنكرات في أصل الكتاب ، ولم يفطن لها
الجمهور فيه ، ولا في فرعه ، ولا لفروعها المنكرة وهي كثيرة ، وقد أنكروا ما هو
دونها .
ثم رأيت من علماء الأزهر وغيرهم من يسألني عن رأيي في هذا الكتاب ،
ومنهم من يطالبني بالرد على ما أنكروا عليه منه ، ورأيت بعضهم رد عليه في
بعض الصحف فلم أقرأه ، ثم جاءتني رسالة بعد رسالة يوجب عليَّ مرسلها الرد
عليه ( وإنقاذ الدين مما يثيره من الشك فيه ، الفاتن للشباب العصري بتنميقه )
ويرى كغيره أني أولى الناس به وأقدرهم عليه ، وهو في حسن ظنه هذا يشير إلى
سوء ظن باحتمال أن أحابي المؤلف بالسكوت عن الإنكار عليه ، فصار السكوت
بعد السؤال من كتمان العلم الذي أوجب الله بيانه ، وحظر كتمانه ولعن أصحابه .
فأنا أنشر ألطف الرسالتين نقدًا ، وأحسنهما أدبًا ، وأذكر من الثانية المنكرات
التي أشار إليها بأرقام صفحاتها ، وما عدا هذا من طعن في الكاتب والمقرظين
لكتابه فلا يجب نشره ، وربما يكره وقد يحرم ، ولا يتوقف عليه إنكار المنكر ولا
إحقاق الحق ، وأجيب بما أعتقد أنه الحق الواجب بالإيجاز ، ولعلي أعود إلى تقريظ
الكتاب ونقده في جملته ، من مسائله وأسلوبه ولغته ؛ لأنه جدير بذلك بشهرة مؤلفه
وتأثيره ، عسى أن يكون النقد العادل عونًا على تنقيحه ، فيكون النفع به منقحًا في
طبعة أخرى أتم وأعم .
***
الرسالة الأولى للأستاذ العالم الباحث صاحب الإمضاء
( بسم الله الرحمن الرحيم )
حضرة صاحب الفضيلة العالم الشهير السيد ( محمد رشيد رضا ) منشئ
المنار الأغر السلام عليكم ورحمة الله ، أما بعد فإن كتاب الدكتور هيكل ( حياة
محمد ) صلى الله عليه وسلم حين كان يُنشر على صفحات جريدة السياسة
الأسبوعية ، كان الذين يتحرجون عن وصمة سوء الظن بلا موجب يحسنون الظن
بصاحبه ، ويقولون لعله أخذت بيده العناية الإلهية فوضعته في صفوف الذابين عن
الحقائق الدينية ، الناشرين لمحاسن الشريعة المحمدية ، فأنشأ يبرز للناس مخدرات
عرائس السيرة في ثوب قشيب يلائم ذوق العصر ، ويتناسب والثقافة الحاضرة
حيث لم يتح لهم إذ ذاك أن يقفوا على جله فضلاً عن كله ، فلما ظهر في عالم
المطبوعات ما عتموا أن تهافتوا على اقتنائه بناء على ذلك الظن ، ثم طفقوا يقرءونه
بفضل عناية وكمال تدبر ، فما لبثوا أن بدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون من تشويه
للحقائق القطعية ، وتمويه على الضعفاء بالإغراق في إلباس الباطل ثوب الحق ،
وصوغ الخيالات في ثوب الحقائق ، وإقرار ما ليس بثابت عند أئمة الدين ، وإنكار ما
هو معلوم للخاصة والعامة من المسلمين ، وحسبنا الآن توجيه ثاقب نظركم إلى
أمر واحد هو أساس لجميع أخطائه أو جلها ، ألا وهو إنكاره جميع المعجزات
المحمدية سوى القرآن ، ولو أنه اقتصر على مجرد هذا الإنكار لتأولنا لحضرته
وقلنا لعله أراد أن القرآن العظيم هو المعجزة العظمى التي تتضاءل في جنبها سائر
المعجزات ؛ ولكنه قد علل الإنكار المذكور بأن تلك المعجزات بأسرها مخالفة لسنن
الله عز شأنه ، وأن تجويز شيء منها مناف لما نطق به القرآن من أن تلك السنن لا
تتبدل ، وزعم أن أحاديث المعجزات كلها موضوعة إما لمحاولة أن يجعل له صلى
الله عليه وسلم من الآيات مثل ما لموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وإما
لتشكيك من يؤمنون بقوله تعالى : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ( الأحزاب :62 )
فهذا نص لا يحتمل تأويلاً في أنه لا يدين بشيء من المعجزات الكونية ؛ فإنه قرر
أن وقوع شيء منها تبديل للسنن الإلهية ، وأنه محال ، ويا ليت شعري ماذا يصنع
بالآي القرآنية المتضمنة لمعجزات الأنبياء من نحو انقلاب العصا حية ، وفلق البحر
لموسى ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى عليهما الصلاة والسلام .
لهذا نلجأ إلى عظيم غيرتكم ، وعَلِيِّ همتكم ، أن تغيثوا الدين بمثل ما عودتموه
من استئصال شأفة الإلحاد ببواهر البراهين الساطعة ، وصوادم الحجج القاطعة ،
على وجه يروق للكافة ، ويخلب ألباب الخاصة والعامة .
وإلى الحق تعالى نضرع أن يؤيدكم وكل من يقوم لله في نصرة الحق بروح
منه ، إنه تعالى نصير المجاهدين المخلصين ، والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد محمد زهران
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة الإسعاد سابقًا
هذا نص الرسالة الأولى ، وأما المنكرات المعينة في الثانية فهذا نصها :
( 1 ) قصة أبرهة والكعبة في الصفحة 64 .
( 2 ) أسطورة شق الصدر - هكذا عنوانه - ص 72 .
( 3 ) بدء الوحي 95 .
( 4 ) ما نسبه إلى السيدة خديجة .
( 5 ) ما قال في الإسراء ص 153 وما بعدها .
( 6 ) ما عقَّب به معجزة الغار .
( 7 ) تلبيسه في قصة سراقة 179 وما بعدها .
( 8 ) دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر المنكر 433 .
( 9 ) عزوه إلى عائشة ما لا يليق .
جواب المنار
مقدمة وتمهيد :
إن العدل وإيثار الحق على الخلق يوجب عليَّ قبل النظر في هذه المسائل
لأعلم ما فيها من حق وباطل ، أن أقول إنني حسن الظن في خطة الدكتور محمد
حسين هيكل الدينية الجديدة ، وأعتقد أنه يريد بها خدمة الإسلام ومناهضة الإلحاد
والإباحة ، على أنني كنت بينت فيما نشرته من الرد على المتهمين به في المنار
وفي جريدة كوكب الشرق أنني أعني بالإلحاد معناه المستعمل في القرآن ، وهو
الزيغ الذي قد يكون بما دون الكفر المخرج لصاحبه من الملة ، وأرى أن هذا
الكتاب يجذب كثيرًا من الزائغين إلى الإيمان بنبوة محمد خاتم النبيين : الذي أكمل
الله ببعثته وبكتابه المنزل عليه الدين ، من المفتونين بالأفكار المادية وتقليد أهلها ،
وأن من هؤلاء من يعرف له ما أنكره عليه غيرهم ، وأن أكبر خطأ رأيته فيه تبعًا
لأصله الفرنسي من شبهات الوحي النفسي يخفى على أكثر قرائه ، أو على من لم
تتمكن هذه الشبهات من نفسه قبل قراءته ، فإن موسيو درمنغام نفسه ينقل رواية
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لملك الوحي والتلقي عنه ، والدكتور هيكل زاد هذه
المسألة بسطًا ، وإن أخطأ كل منهما فيما ذكرا من مقدماتها باجتهادهما ، وما اعتمد
عليه من رواياتها الباطلة لقلة اطلاعهما ، أو عدم اضطلاعهما بالتمييز بين الراجح
والمرجوح منها ، وأنى لهما أن يعلما أن ابن هشام وأستاذه ابن إسحاق أخذا بالرواية
المرسلة في حديث بدء الوحي ، وأنه كان رؤيا منامية ، فخالفا رواية الصحيحين
المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد حاول بعض الحفاظ أن
يجمع بين الروايتين فأخطأ ؟
وأما ما ادَّعاه الناقد من إنكار المؤلف لجميع معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم وتشكيكه في القرآن ، وما دون ذلك من المنكرات ، فسننظر فيها بعيني الحق
والعدل ، ولا أشك في اختلاف وجهة نظر الأستاذ الناقد وأمثاله من واسعي الاطلاع
على كتب المناقب والسير وهو أن الأصل عندهم أخذ كل ما فيها أو جله بالتسليم ،
وعدم تمييز أكثرهم بين ما هو صحيح منها وما هو موضوع أو منكر - ووجهة
نظر الدكتور هيكل وأمثاله في قاعدة الأصل في الأشياء الشك ، فالتحليل والنقد ،
وعدم وقوفهم على قواعد علماء الأصول والمحدثين في ذلك الذي يعبرون عنه
بالتعادل والترجيح ، والواجب على مثلي أن يكون وسطًا بين الفريقين ، وهو موقف
دقيق ؛ فإن من كل منهما مَنْ يعد بعض ما يؤيد به الدين عند الآخر نافيًا له أو مشككًا
فيه ؛ وإنما المهم الأعظم التمييز في البحث بين ما هو قطعي في الدين يعد جحوده
خروجًا من ملة الإسلام وما ليس كذلك ، وبين ما يعد سنة ، وما يعد ابتداعًا ، وما
دون ذلك مما لا يجب علمه ، ولا يضر جهله ، وإن صح أصله .
يعلم أهل الحديث أن أكثر ما روي من الخوارق وما في معناها ، لا يثبت
برواية قطعية متواترة يعد حجة على النبوة يجب الإيمان بها ، بل لا يصح بحديث
مسند مرفوع يتخذ دليلاً ظنيًّا عليها ، وأن المحدثين تساهلوا في رواية الضعاف
والمنكرات منها ؛ لأنهم عدوها من باب المناقب التي تنفع أو لا تضر ، وأن بعضهم
لم يتحاموا رواية الموضوعات أيضًا ، ألم تر أن أشد المتأخرين منهم عناية أو
تساهلاً في تصحيح ما لا يصح أو تقويته كالسيوطي يقول في الروايتين الطويلتين
في المولد النبوي إنهما منكرتان شديدتا النكارة ، ولولا أنني رأيت الحافظ أبا نعيم
ذكرهما في كتابه ( دلائل النبوة ) لما ذكرتهما ، يعني في خصائص النبوة ، وهاتان
الروايتان عليهما مدار قصص المولد الرائجة بين الناس ، ولعل أكثر الذين يسمون
العلماء أو كبار العلماء يجهلون نكارتهما وبطلانهما ، ولعل من يتجرأ على هذا
الإنكار عند الجمهور يتُهم بالكفر أو بالتقصير في حب المصطفى على الأقل ، وإنه
صلى الله عليه وسلم لغني عن تأييد نبوته أو حبه بالباطل ، بل لا يجوز ذلك ، وإنا
لنعلم أن كل ما وجهه إليه أعداء الإسلام من الطعن فيه أو أكثره فهو من هذه
الروايات الباطلة ، وأكثر علماء عصرنا يجهلون هذا ، ويعجزون عن الرد عليه
بالأدلة المقنعة ، حتى إن كثيرًا من قراء كتاب الدكتور هيكل يرون أنه من أقوى
المدافعين عن الإسلام حجة ، من حيث يراه آخرون أشدهم طعنًا عليه وهدمًا له ! !
أفما لهذا التباعد بين المسلمين من حد ؟ بلى ولكن من ذا الذي يضع هذا الحد
الفاصل بين الحق والباطل ؟
أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل ، أو أكثره مسألة المعجزات
أو خوارق العادات ، وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها
ومطاويها في الفصل الثاني ، وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس بما أَثْبَتُّ به
أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
بالذات ، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا
بها ، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة ؛ لأنها موجودة في زماننا ككل
زمان مضى ، وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل ، وبَيَّنْتُ سبب هذا
الافتتان ، والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره ،
فعسى أن يَطَّلِع عليها المختلفون في كتاب هيكل ؛ لأن حكمنا بينهم لا يكون فاصلاً
بدونها .
((يتبع بمقال تالٍ))
(34/787
 
درمنجهام

الكاتب : حسين الهراوي
__________
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن
[*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي

عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد ، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد ، وأخذ ورد ، ويكشفون عن محاسن الكتاب ، وعن المآخذ التي
يرونها فيه .
وهذه الطريقة قديمة ، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين :
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب ، وإما تنفيرًا منه ، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا .
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين ، أو أخدع القارئين ، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف ، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة .
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري ، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك ، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب .
ولعلي لا أجامل إذا قلت : إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده ، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي ، إن لم يكن في العالم أجمع .
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي ، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام .
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر ؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته ،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات ، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين ، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة ، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق ، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق ، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين ، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم .
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي .
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن ، فأسلوب القرآن البياني ، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين ، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } ( فصلت : 53 ) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن[1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ( القيامة : 3-4 ) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي ،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام ، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع .
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته ، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة ، وتعتمدها المحاكم ، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا ، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان ، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية .
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن ، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير ؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة[2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن ، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد ؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام ؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان .
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام ، وذم
التقليد ، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل ، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث .
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين ، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية ، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية ، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية ، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم ، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام ؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا ، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو ، لا كما صوره الواهمون المغرضون ،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم ، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام ، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام ، وعدَّدها واحدًا واحدًا ، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص ، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام ، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده ، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول : إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته ، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق ، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم .
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات ، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق ، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية ، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية ، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان .
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة ، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث ، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا ، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين ؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن ، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام ، وتقدس الإنسان .
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة ( جان دارك ) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع ؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية ، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي .
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث ،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع .
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين ، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده ، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي .
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب ، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية ، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية ، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب ، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين .
اهـ .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر ، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا ، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي .
(1) المنار : قد بينا هذا في كتاب الوحي ، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته .
(2) إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه ، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث .
(3) إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح .​
(34/64)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
الفصل الثاني
محمد قبل البعث

من البيّن أن مجيء القرآن وأثره في النهضة الفكرية العالمية - كما رأيت -
مسألة مدهشة حقًّا .
وقيام شخص واحد هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة الناجحة
التي اكتسحت العالم مسألة موجبة للحيرة ومعجزة بلا مراء .
والمستشرقون يقفون أمام هذه الحقائق ذاهلين ، ويحاولون الدخول إلى هذا
الصرح العالي من باب التشكيك والتضليل ، أو باب الاستنباط والقياس .
والتاريخ يعلمنا ويعلمهم أن حياة العظماء لها طريق في البحث والدرس ولها
طريق مألوف وهو الابتداء بدراسة الوسط الذي نبغ فيه الرجل العظيم والظروف
المحيطة به ، ثم دراسة طريقة انتزاعه للسلطة أو قيامه على قيادة الأمة .
ثم يأتي بعد ذلك دور تكوين الشخصية وأثر الثقافة المحلية والعالمية في نفسه ،
وأثر هذه الثقافة في أعماله .
وقد أرادوا أن يطبقوا كل هذه النظريات والمباحث على حياة النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم ، كما يدرسون مثلاً حياة نابليون والإسكندر وغيرهما .
وأول ما صادفهم من الخيبة والفشل أن الوسط الذي عاش فيه سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم كان وسطًا فطريًّا ساذجًا ؛ ولكن هناك في محيط ذلك الوسط
وجد بعض النصارى واليهود .
ووجدت ظروف بسيطة في حياته صلى الله عليه وسلم من سفره مرتين إلى
الشام يمكن أن يبنوا عليهما القصور العالية من الأوهام .
ولا بأس من أن يجعلوا من هاتين المسألتين - وجود نصارى ويهود في
الحجاز وسفره إلى الشام مرتين ثانيًا - موضوعًا للتشكيك والتضليل .
ولذلك نقتبس لك أسهل طريقة وأبسط تضليل من كتاب درمنجهام الذي نشر في
السياسة الأسبوعية ورددنا عليه ؛ لأنه كان أول مثار للبحث [1] :
والواقع أن محمدًا منذ الساعة الأولى بل قبل أن ينزل عليه جبريل بالوحي
كان أشد ما يكون نفورًا من الوثنية التي نشأ ونشأ أهله من قريش فيها ، وأشد ميلاً
لهذه المعاني الروحية التي يتحدث عنها النصارى واليهود من أهل الكتاب في أنحاء
شبه جزيرة العرب ممن كان يتصل بهم في أثناء ذهابه إلى الشام وإلى اليمن في
القوافل قبل أن يقوم بتجارة خديجة وبعد أن قام بها .
وهذه المعاني الروحية في اتصالها بنفس محمد صلى الله عليه وسلم المتوثبة
منذ صباها للكمال هي التي دفعته إلى تحنثه بغار حراء شهرًا أو أكثر من شهر .
إن الله - تعالى - رضي للناس الإسلام دينًا مع بقاء الأديان السابقة للقرآن
وحده مندمجة في هذا الكمال الروحي - أي الإسلام - اندماجًا أشار إليه القرآن في
قصص أصحاب هذه الأديان وما جاءوا به من الحق من عند ربهم ، وأشار إليه
حين أراد أن يثبت محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمر ما جاءه كما جاء في سورة
يونس : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ
لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ } ( يونس : 94 ) .
وفي هاتين الفقرتين ملخص لآراء المستشرقين الذين يظنون أنفسهم أهلاً
للبحث والاستنتاج دون أن نرميهم بشيء من سوء النية . ولعل ذلك أهدأ أنواع
ضلال المستشرقين .
ولما تسربت هاتان الفقرتان في الصحافة المصرية وعلى أيدي باحثين مسلمين
رأينا توضيح هذه الطريقة وإظهار ما فيها من خطأ في تطبيق ما يقال عن عظماء
الغرب على حياة نبي عربي عاش في بيئته خاصة وفي محيط لا زال يتمسك بعادته
وأخلاقه إلى اليوم .
ولسنا نتهم هذا الرأي بأقل من أنه استنباط غير موفق ورأي خاطئ نتيجة
الجهل والخطأ في الحكم .
فأنت ترى من هاتين الفقرتين أن سيدنا محمدًا تعمّق في درس الأديان وتلقي
مبادئها على الرهبان في سياحاته ، وأن ذلك العلم هو الذي دفعه إلى التحنث .
أما أنه خالط الرهبان وتشبع بمبادئ الأديان السابقة فذلك ظن ليس له من مؤيد ،
ولو أنه كان كذلك لكان في كل عمل من أعماله دليل على ذلك ، وقد أحصى
القرآن الكريم كل ما وجهه أعداء الإسلام وأعداء محمد صلى الله عليه وسلم له من
التهم ، ومنها الكذب والسحر والشعر وكل ما شئت من صنوف السب والشتم والتهكم
والضرب بالحجارة والتحدي للقتال ، كل هذا قيل ولكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن
يقول له إنك تعلمت هذا العلم على فلان ، ولو كانت هذه الجملة قيلت لكنا على
الأقل وجدنا عليها ردًّا في القرآن .
ولو أن نفس محمد - عليه السلام - اعتنقت دينًا أو مالت لأي دين قبل
الإسلام لوجدنا لذلك أثرًا واضحًا في الحديث ، وقد سأله الناس كل أنواع الأسئلة بلا
خجل ، وكان يرد عليهم بالصدق والأمانة التي اشتهر بها ، ولم يرد ما يؤيد هذا
الزعم ؛ ولذلك استنبطنا - وكنا محقين في هذا الاستنباط - أنه عليه السلام كان
خالي الذهن من جميع الأديان ، وأنه اشتق طريقًا في العبادة لنفسه كما سنبين ذلك
في التحليل النفسي لحياته .
أما الرحل والأسفار في التجارة أو مع عمه فقد كانت رحلته [2] الأولى مع
عمه إلى الشام وهو ابن تسع سنين ، ولم يكن هناك مجال ما لتلقي هذه العلوم فليس
ثمة جامعات وليس للرهبان حلقات درس ، كما أنه لم يكن يومذاك جماعة من
المبشرين الذين نراهم اليوم يغررون بالناس ، وكل ما حصل من الراهب بحيرا أن
تنبأ لهذا الغلام بمستقبل ديني ، وتوسم فيه استعدادًا خالصًا لهذه الرسالة الكبرى .
والرحلة الثانية كانت وهو ابن خمس وعشرين من مكة إلى بصرى ومدة هذه
الرحلة كانت ثلاثة أشهر .
إذن فلنمش في هذا الطريق نفسه ، ولنر ولنستنبط ما يمكن استنباطه ،
ولنتعرف عادات العرب وأخلاقهم .
فأول ظاهرة خفيت عن المستشرقين من عادات العرب أن صغارهم لا
يجالسون كبارهم ، ولا يمكن شاب حديث السن أن يجلس في مجلس الكبار ولا
يناقشهم ، ولا يباح له أن يتحدث في مجالسهم .
ولم يخبرنا التاريخ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم شذَّ عن هذه القاعدة ، وهذا
دليل على أن كبار الرهبان وغيرهم لم يكن لهم من وسيلة لقلب عقيدة هذا الفتى كما
يفعل المبشرون من أذناب المستشرقين في هذه الأيام .
وأما الرحلة نفسها فيجب أن نلم بعمل التاجر الذي تكون مهمته من نوع عمل
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والعادة الجارية في بلاد العرب إلى يومنا هذا
هي أن يقوم التاجر ببضاعته حتى يصل إلى المدينة التي سيبيعها فيها .
ثم يذهب إلى منزل وسيط التجارة فيمكث في منزله بضعة أيام حتى يصرفها
الوسيط ويعطيه الثمن ، ثم يعود قافلاً .
فعمل التاجر في هذا السبيل ينحصر في المحافظة على التجارة في أثناء
الطريق ، ومساومة الوسيط ، وحمل الثمن إلى أصحاب البضائع .
والمسافة بين مكة وبصرى تقطع على ظهور الإبل في نحو أربعين يومًا ذهابًا
ومثلها إيابًا ، ومدة إقامة التاجر في بيت الوسيط هي المدة التي تبقى من ثلاثة
الأشهر التي قضاها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة .
فالوقت كله يقطع في الطريق وكانت رحلة واحدة ، فأي عقل إنساني أو غير
إنساني يمكنه أن يستنبط أن سيدنا محمدًا يمكنه أن يتعلم كل ما أتى به ، أو كل
العلوم التي وردت عنه في وقت كهذا ؟
وأي سخف أدعى للسخرية من مثل هذا الاستنباط الملفق القائل أن سيدنا
محمدًا في أسفاره تعلم من الأحبار .
أضف إلى ذلك ما استنبطه فريدرك شولنهنس عندما جمع ديوان أمية بن أبي
الصلت وطبعه سنة 1911 [3] ، وأظهر في مقدمة هذا الديوان مقدار ما بذله من
الجهد في جمعه من كتب السير ومن شوارد أخبار الكتب ، ورأى أن أمية هذا كان
قد ترهّب ولبس المسوح ونظم قصصًا مصدرها التوراة والإنجيل ، وكان يطمع في
النبوة إذا أشيع وعرف أنه سيبعث نبي في زمنه .
وبعد ذلك بعث محمد - عليه السلام - وأخفقت آمال أمية ، فناوأ الإسلام
وجاهر بعداوة نبيّه .
ليس في الأمر غرابة فليس أمية بأول رجل في مكة أو بلاد العرب عرف
شيئًا عن التوارة والإنجيل ، وليس هو أول من عادى الإسلام والتوراة والإنجيل
والقرآن بين أيدينا شاهد بذلك ، وفي هذه الكتب توافق في بعض النواحي التاريخية
واختلاف في نواحٍ أخرى ؛ فليس من المستغرب أن يعرف شاعر عربي شيئًا عن
التوراة والإنجيل وينظمه شعرًا ؛ ولكن المستغرب حقًّا أن يقول شولنهنس هذا إن
محمداً عليه السلام استقى تلك المعلومات من المصدر نفسه الذي استقى منه أمية .
وليس أدل على الجهالة والتضليل في هذا القول ، وعلى التعصب الأعمى
وقلة الخبرة من أن القرآن ليس بقصصه ؛ ولكن بأحكامه وبقانونه وبإعجازه ،
وبأثره الاجتماعي والفكري ؛ فهل اجتمع كل هذا في أحد ؟ كلا ، ولكن مستشرقًا
يظن نفسه في منزلة علمية يطلق لنفسه العنان ويصدر الأحكام ، فيتلقفها طاعن من
طاعن ، ومبشر عن مستشرق للتشكيك في مصادر القرآن .
ولو طاوعنا هؤلاء فيما زعموا ، وبحثنا عن كل حكم من أحكام القرآن
ومصدره ورأينا حكمًا منها من السند والآخر من الهند والآخر من فارس ومن مصر
ومن أثينا و روما للزم لهذا النبي الكريم آلاف الأسفار والاشتغال بالجامعات عدة
قرون قبل أن يأتي بكتاب لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
مثل هذا التفكير المزري يقول به المستشرقون وتهضم عقولهم أن محمدًا أتى
بما أعجز الإنس والجن في سفره إلى الشام ثلاثة أشهر ، منها ثمانون يومًا ذهابًا
وإيابًا وعشرة إقامة .
ولكنها طريقة من طرق التشكيك وضرب من الهوى لا نشك أن القارئ عرف
مغزاه .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) طبع باسم حياة محمد للدكتور هيكل .
(2) تحقيق الطريق ومسافته ، وعادة العرب هذه رجعنا فيها إلى فؤاد باشا الخطيب وزير خارجية الحجاز سابقا ورئيس ديوان شرق الأردن الآن .
(3) أدب اللغة العربية لمحمد هاشم .​
(35/261)
 
عودة
أعلى