أبوخطاب العوضي
New member
مكتبتي
::يرى بعض الناس زينة البيت في غرفة الاستقبال الفسيحة التي تصطف على جوانبها الأرائك الفاخرة، وتضطجع على أرضها البُسُط العجمية الرفيعة، وتتدلى من سُقُفها الثريات الضخمة المتلألئة بمئات الشموع الكهربية .
وبعضهم يرى زينة البيت في غرفة النوم الأنيقة، ذات الأثاث الراقي المطبوع بلمسات الفنان المبدع، والفراش الوثير الناعم، الذي يغوص فيه صاحبه، فيغري أجفانه بالنوم اللذيذ، ويحلّق به في جو من الأحلام الوردية الممتعة .
والمولعون بهواية الأكل، المفتونون بشهوة بطونهم، يرون زينة البيت في المطبخ الذي يعطر أركان البيت برائحة الطعام الفواحة، ويتيح لأهله حرية المزاولة لهوايتهم المفضلة، ويمنح بطونهم المتعة التي لا تعدلها متعة عندهم في الحياة .
أما أنا فزينة البيت عندي مكتبته التي يرتفع رفها أو أرففها في شموخ وكبرياء، ولو كانت مصنوعة من خشب متواضع، أو حديد صدئ، وتتكدس كتبها في كل ركن منها، ولو أوحى منظرها بالفوضى وسوء الترتيب والنظام، ويتسع ضيقها في الصدر، ولو كانت مساحتها أمتارًا مربعة لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة .
وإذا خلا بيت من مكتبة - مهما صغرت - كان في نظري كالبيت المبني في مقبرة يلفّه سكون الموت من كل مكان، أو كالكهف القديم المهجور يتردد صدى الوحشة من كل زواياه . ولا يمكن عندي أن يملأ فراغ المكتبة شيء آخر، ولو كان البيت قصرًا من قصور الرشيد الأسطورية، ولا يغني عنها بديل ولو كان بديلاً غارقًا في الرخاء، سابحًا في الترف .
حتى أولئك الذين يتخذون المكتبة في بيوتهم مظهرًا للتباهي ومجاراة لغيرهم وتقليدًا، ويصفُّون كتبها المجلدة ذات الألوان المختلفة لتعطي المنظر البديع الذي يزين ركنها، أو لتحدث الانسجام والتناغم مع بقية أثاث البيت ومحتوياته - أبارك صنيعهم، ولو كانوا أميين لا يفكون خطًّا، فقد يخرج من أصلاب هؤلاء من يعرف للمكتبة قدرها، وينفض عنها غبارها، ويحرر كتبها من سجنها، ويغترف من خيرات منابعها . وقد يجد فيها قريب من أقربائهم، أو صديق من أصدقائهم، أو زائر من زوارهم - ضالته من كتاب , أو حاجته من مرجع . وقد تستيقظ الأريحية في نفس صاحبها الأمي قبل أن يودع الدنيا، وتدفعه الرغبة في أن يكون له ذِكْر طيب بعد رحيله، فيجعل المكتبة وقفًا يصل إليه ثوابه بعد موته، وصدقة جارية يقدِّم بها نورًا بين يديه . وهكذا يؤجر المرء على رغم أنفه، وقد يفعل شيئًا لغير الله فيأبى [ الله ] إلا أن يكون لله .
والمكتبة في كل الأحوال لا يهمها إلا أن تضيء وتشع، ولا شأن لها بعد ذلك بمن يقتبس الضياء، ويستقبل الأشعة، ولا تميز إن كان المقتبس أو المستقبل من أهل البيت أو من غيرهم، كالشمس تؤدي وظيفتها اليومية في رتابة، وتوزع أشعتها على الدنيا بالعدل، ثم لا يبطرها من يتعرض لضوئها فيستفيد، ولا يضيرها من يهرب منها إلى الظلام فيحرم خيرًا كثيرًا .
تلك مكانة المكتبة - كما أرها - في بيوت الناس جميعًا .
أما مكتبتي فلي معها شأن خاص، وعلاقتي بها علاقة حب قديمة، تضرب بجذورها في أعماق عمري، وترجع بدايتها الأولى إلى زمن طفولتي الغض، حيث غرست نواة مكتبتي في صندوق شاي صغير وأنا ابن عشر سنين، وكانت نواة مباركة متمثلة في مصحف شريف ذي أرباع برواية ورش عن نافع ورثته عن والدي - رحمه الله ! - وكتاب قديم أو كتابين .
وأخذَت المكتبة تنمو في سِنيها الأولى ببطء شديد لضيق ذات اليد كما ينمو طفل وليد يشكو من سوء التغذية، أو كما تنمو بذرة لم تُهيَّأ لها التربة بالسماد والماء الكافي، ثم توقفت عن النمو البطيء في سنوات القحط التي أجهدت البلاد والعباد في أواسط الأربعينات، تلك السنون التي مرت عصيبة كئيبة كما تمر سكرات الموت، أو هي الموت نفسه، ثم أدركت الناس رحمة الله، فدبت في مكتبتي نفحة من الحياة كما دبت في الأرض الميتةالجافة .
واستأنفت المكتبة نموها البطيء جدًّا متغذية بقدر ضئيل تتبلَّغ به من قُوتي؛ لأني كنت يومئذ لا أملك فضل زاد أطعمها به . ولما تيسرت الأمور بعد العسر، وأقبلت الدنيا قليلاً بعد إدبار، بدأت مكتبتي تنمو نموًّا طبيعيًّا، وتزدهر مع الأيام كما تزدهر صبيَّة محاطة برعاية أبويها، وما زالت تترعرع ويشتد عودها حتى شبَّت عن الطوق، وأصبحت يافعة صبوحة الوجه، بهية الطلعة، فارعة القوام، تملأ عيني ووجداني .
وأنا هنا لا أبغي أن أُثقل عليكم بسرد قصة حياة مكتبتي، وإنما غرضي أن أبين أن شأني معها كشأن فلاح وضع في الأرض شتلة صغيرة سقاها بعرقه، وأطعمها من عصارة أعصابه، وسهر على حمايتها من لسعة البرد، ولفحة الحر، وصبر عليها كما يصبر الأب على تنشئة ابنه، إلى أن استغلظت واستوت على ساقها، ثم ارتفعت دوحة ظليلة ذات بهجة تسر الناظرين .
وكما يغار الفلاح على شجرته التي رباها على عينه، وغذاها من دمه - أغار أنا على مكتبتي التي كوَّنتها من حبات عرقي، وغذّيتها سنين طويلة من قوتي وقوتي عيالي .
وكما يتألم الفلاح لخدش يجرح غشاء شجرته، أتألم أنا لخدش يجرح كتابي، وأشعر كأن الجرح أصاب جسمي . بل أنا في العادة أهمل العناية بجرح يمزق طبقة جلدي، ولكن لا تطاوعني نفسي أن أهمل تمزقًا يقطع غلافًا أو صفحة من كتبي، فأسارع إلى علاج التمزق بكل رفق، وأحاول أن أرأب صدع الكتاب بكل دقة، وأجتهد في ألا أخلّف للكتاب المصاب عاهة مستديمة تشوهه، وألا ألصق به جبيرة تطمس بعض حروفه، حتى إذا ما نجحت في مهمتي غمرني سرور كالذي يغمر طبيبًا جراحًا أجرى عملية ناجحة أعادت العافية إلى مريضه .
إلى هذه الدرجة بلغ حبي لكتبي ومكتبتي، بل قد تجاوز الحب هذه الدرجة فجعل لمكتبتي تأثيرًا عجيبًا في نفسي قد لا تصدقونه، وإذا صدقتموه فلا بد أن يكون تصديقًا مشوبًا بالاستغراب والدهشة، وأنتم غير ملومين في ذلك، فمعذور من ذاق، ومعذور من لم يذق .
من هذا التأثير العجيب أني أخلو إلى نفسي في مكتبتي، فأستمتع بهذه الخلوة كما يستمتع العابد المنعزل في صومعته، وأجد فيها برد الراحة كما يجده في الواحة الظليلة الظاعن الْمُجهَد من سفره، وأناجي فيها روحي بصمت عميق معبّر يعجز عن بلاغته وروعته أفصح الكلام المنطوق شعرًا ونثرًا .
وفي مكتبتي تتجمع أفكاري المشتتة، وتحضر خواطري الغائبة، وتتوارد على ذهني الصور والألوان، وتتولد عندي المعاني بلا مخاض عسير، ويسْلُس أسلوبي بلا تصنع ولا تكلف، ويسيل قلمي بلا تعثر ولا توقف، كأنها مصدر إلهام، أو منبع إيحاء، أو سر يفتح على العبد فتوح العارفين .
ومن هذا التأثير أنه قد ينتابني قلق، وتعروني كآبة، كحال كل البشر في هذه الحياة الصعبة، وقد يركبني همٌّ، ويُمِضُّني غمٌّ، كشأن كل إنسان مبتلى بشرور الناس، فأهرب إلى مكتبتي، أستروح نسمة من الطمأنينة، وأستفتح كُوَّة للانشراح والسرور، وألتمس مخرجًا مما أختنق فيه من الضيق، فما هي إلا لحظات حتى أستشعر أُنسًا يبدد القلق كما تبدد سياط الرياح السحب القاتمة، ويُسرَّى عني كأن الكآبة قد ضايقتها المكتبة فلم يطب لها في نفسي مقام، وتَنْزل علي سكينة تُفرِّج الهم وتكشف الغم كأن يدًا رحيمة امتدت فأزاحت ثقلاً كان ينوء به كاهلي، وأحس كأن الكتب المباركة قد أهمها أمري فسارعت إلي من أرففها تربّت على كتفي تواسيني، وتسكب علي من حنانها تلاطفني، وتقص علي من حكاياتها تسليني، وتنثر بين يدي حكمتها تعظني، وتذكرني بالله الذي بذكره تطمئن القلوب .
وقد أتصور - لسبب ما - أن الوقت يتثاقل في برود يُغضب الحليم، ويتباطأ في ملل يحطم الأعصاب، حتى ليُخيَّل إليّ أنه يسير على غير عادته سيرًا وئيدًا كما تسير عربة محمَّلة بالأثقال يجرها حمار هرِم .
وقد أتصور - لسبب ما أيضًا - أن عقارب الساعة توقفت عن الدوران كأنها أصيبت بكساح أفقدها الحركة، أو كأن الإجهاد المتواصل قد أنهك قواها، وفكّك مفاصلها . وأفرُّ من هذه الحالة التي لا تأتي من حسن الحظ إلا نادرًا - إلى مكتبتي، فإذا بالوقت المتباطئ يسرع كأن محرِّكًا جديدًا رُكِّب فيه، وإذا بالعربة القديمة المحملة بالأثقال تنطلق كالسهم كأنما يقودها بُراق، وإذا بعقارب الساعة المتوقفة تجري كأنها تريد أن تسابق الزمن .
وأعترف بأن هذا الحب الجارف لمكتبتي دفعني إلى أن أنحاز إليها وأخصها بامتياز وفضل لا أعطيهما لغيرها من مرافق البيت، فهي حرة في أن تتحرك كما تشاء، وتنتقل إلى حيث تريد . لها إن ضاقت بكتبها أن تتوسع في أي مكان من البيت بلا استئناس ولا استئذان، ولها أن تحتل ببعض كتبها ركنًا من الأركان بلا سابق إنذار، ولا إشعار بالإخلاء، ولها أن تشارك أي غرفة مساحتها، بدون أن يكون للغرفة حق الاعتراض أو الاحتجاج .
وفي المقابل أحجب هذه الحرية عن غير المكتبة، فأمنع أي غرفة أن تتوسع بمحتوياتها في المكتبة، وأطرد بلا رحمة أي شيء غريب يقتحم رحاب المكتبة، مهما كان صغيرًا أو قليلاً . وفي حالات الاضطرار القصوى أقبل على مضَض هذا التجاوز بشرط أن يكون مؤقتًا ينتهي بانتهاء المناسبة التي دعت إليه .
هكذا أنحاز إلى مكتبتي بوعيي وإرادتي، على شدة عشقي للحرية، وتمسكي بحق المساواة في المعاملة، ولا يحرجني في هذا الانحياز أن أكون مثل أب أسرف في تدليل ابنه، فسمح له أن يضايق الآخرين ويشاركهم، ولم يسمح للآخرين أن يضايقوه ويشاركوه .
ومن تأثير مكتبتي في نفسي أن الكتاب الذي ينتسب إليها، ويدخل فردًا في عائلتها، يتحول في شعوري من كائن مصنوع من ورق إلى كائن حي تربطني به صداقة متينة، وتشدني إليه عاطفة حميمة، يستوي في ذلك أقدم كتاب وأحدث كتاب . لذلك لا أطيق فقد كتاب من مكتبتي مثلما لا أطيق فقد صديق عزيز . وأذكر أني فقدت كتبًا منذ أكثر من ربع قرن، فلم يخفف طول الزمن من لوعة فراقها في قلبي، ولم ينسني بُعد العهد على فقدها حزني، ولا يزال جرحها يثير فيَّ المواجع كلما طَفَتْ ذكراها الأليمة على سطح ذاكرتي، في حين فقدت أموالاً وأشياء ثمينة لم يترك فقدها في نفسي حسرة، ولا أكاد أتذكرها الآن، وإذا تذكرتها عبرت خاطري عبور الطيف الخاطف كأن لم تكن .
وأسوأ فقد لكتاب من كتبي يعتصر قلبي ألَمًا، وتبقى ذكراه جمرة متَّقدة تكوي كبدي - أن يكون المفقود جزءًا من كتاب ذي أجزاء، إذ يصبح الكتاب المخروم كشخص بُترت ساقه، أو قُطعت يده، أو شَلَّ عضو من أعضائه، أو كعمارة أصاب طابقًا من طوابقها قذيفة من مدفع ميدان، فأحدثت فيها ثُغرة واسعة أوهنت من قوة بنائها، وقلَّلت من درجة الانتفاع بها، أو كأسرة كانت ملتئمة الشمل، متراصة الصف، فجاءت يد آثمة اختطفت أحد أفرادها، فتمزق بذلك شملها، وتضعضع صفُّها .
ومن أجل المحافظة على كتبي من الخرم والضياع لا أعير في الغالب كتابًا؛ لأن إعارة الكتب من أوسع أبواب فقدها، وفي مقدمة أسباب ضياعها، حتى بالغ بعضهم فعدَّها عارًا ينبغي أن يبرأ من وصمته، فقال :
ألا يا مستعير الكُتْب دعني .. فإن إعارتي للكُتْب عارُ
وإني لأعلم أناسًا من ذوي الوجاهة المرموقة في المجتمع، ومن أصحاب الأسماء البراقة الرنَّانة، كوَّنوا معظم ما في مكتباتهم بالسطو على كتب الآخرين تحت ستار الاستعارة، وجمعوا ما عندهم من المخطوطات والدوريات والمراجع بالوجه الصفيق الذي لا يَنِزُّ بقطرة خجل، ويحلف الواحد منهم بأغلظ الأيمان، ويأخذ على نفسه أوثق العهود، على ألا يبقى لديه المستعار من كتاب وغيره أكثر من شهر، ثم يمتد الشهر إلى أشهر، وتمتد الأشهر إلى شهور، وتلد الشهور سنين، ثم لا تعرف السنون لنفسها نهاية .
ويحاول صاحب الكتاب أو المخطوطة أو غيرها أن يسترجع حقه الذي طالت غيبته، ويُلِحُّ في مطالبته حتى يُبَحَّ صوته من كثرة الإلحاح، ويتردد على السارق المغطي وجهه ببرقع الشهرة حتى تتورم قدماه، ولا يملك في الأخير إلا أن يستسلم وييأس من رجعة كتابه أو غيره إليه كما ييأس من رجعة موتى القبور إلى الدنيا .
وقد تعير شخصًا كتابًا مخدوعًا بمظهره الذي يدل على أنه ممن يُحتَجر عنده الأيتام، ويؤتمن على خزائن الأرض، ثم يخبرك بعد مدة أن صديقًا زاره فرأى الكتاب وأُعجب به، وطلب أن يستعيره منه، ولما كان صاحبنا يستحيي أن يرد طلبًا لصديق اضطُر إلى أن يوافق ويعير الكتاب المستعار .
وتنفجر في هذا اللئيم البارد الذي خدعك بمظهره : كيف تسمح لنفسك أن تتصرف في شيء لا تملكه، وتعير كتابًا أنت مستعيره ؟! ولا يجيب اللُّكَع بغير ضحكة صفراء يتجمع فيها من صقيع الصفاقة ما لو وُزع على آبار مدينة لجمَّدها جميعًا !
وقد يأتيك شخص تنطبع على جبهته سمة مستديرة من كثرة السجود، ويستدرجك بلسانه الذي يغزل الحرير لفرط لينه، ويطلب منك في لهجة خجل وانكسار كتابًا، فلا يسعك إلا أن تستجيب لطلبه مرحِّبًا، وتعيره الكتاب راضيًا مطمئنًّا، وترجو من وراء ذلك أن ينالك قبس من اللُّمعة المطبوعة على جبهته، وتتعرض لنفحة من نفحات بركته، وتنتفع بدعوة غيب صالحة يدعوها لك .
وبعد مدة يأتيك هذا الشخص متباكيًا متظاهرًا بحزن عميق كما تظاهر إخوة يوسف بالحزن عندما جاؤوا أباهم عشاءً يبكون، ويخبرك في مرارة لا يخفى على حسك الصادق أنها ناضحة بالكذب، وفي أسف ينطق تصنُّعه المفضوح بأنه طافح بالنفاق - بأنه كان في مكان ما ومعه كتابي الذي استعاره مني، ثم غاد المكان ونسي الكتاب، وما أنساه إلا الشيطان أن يذكره، وعندما انتبه إلى إلى فقد الكتاب فزع وانزعج، واكترب واضطرب، وولَّى مهرولاً إلى ذلك المكان، لاهث الأنفاس، مكلوم الفؤاد، فلم يجد للكتاب أثرًا كأن الأرض ابتلعته .
وحتى يُبرِّئ صاحبنا ذمته، ويُخلّص ضميره من وخز التأنيب، أبلغ على الفور الشرطة بالحادث، وزوَّدهم باسم المفقود وحجمه ولونه وأوصافه المميزة، لعل دورية من دوريات الأمن تعثر عليه، وتزف البشرى إلى ذويه . كما نشر صاحبنا إعلانًا في المكان محل الضياع يلتمس فيه من كل من يجد الكتاب أن يعيده إلى صاحبه في العنوان كذا، وله جزيل الشكر، وفوق الشكر مكافأة سنيَّة .
ونسي صاحبنا أن يذكر أنه قصد برنامج " بريد المغتربين " في الإذاعة؛ ليناشد من خلاله الغائب أن يعود إلى أهله، وليَتَوَجَّه بالرجاء إلى كل من يعرف عنه شيئًا أن يبلغ أقرب مركز للشرطة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً !
قل لي بربك : ماذ يستطيع صاحب الكتاب أن يفعل إزاء هذا الكذّاب الأشِر، والأفاك الأثيم، إلا أن " يشرب " مكرَهًا مشهده التمثيلي السخيف، ويبتلع الحسرة على كتابه الذي ذهب ولن يعود ؟! هل على صاحب الكتاب من لوم بعد ذلك إذا كوى يده بالنار حتى لا تمتد مرة أخرى إلى كتاب تعيره لمخلوق لا يعرفه، ولو رآه يمشي على الماء، أو يطير في الهواء ، أو يعلق في رقبته ألف مسبحة، أو يطبع على جبهته مائة لُمعة ؟!
وقد تعير شخصًا كتابًا في حالة جيدة من الصحة والسلامة والنظافة، فإذا صادف أن رده إليك بعد لأْيٍ وعنَت ومماطلة - وجدت الكتاب غير الكتاب : متغير اللون من كثرة ما تراكم عليه من وسخ، أو مخلوع الغلاف، أو ممزق الأوراق، أو مفكك الملازم . وقد تجد الكتاب مشوّهًا بخطوط ورسومات وآثار من عبث الأطفال . وقد تجده مشبعًا بدهن كأن صاحبنا كان يغترف به الزيت، أو ملطخًا ببقايا طعام كأنه استعمله مكان الملعقة في الأكل، أو ملوثًا بشيء يعف قلمي عن ذكره .
هذه " عيّنات " من سيئات الإعارة للكتب، وهي كلها صادقة، وكلها مستخلصة من واقع عشته، أو عاشه غيري، وليس فيها من الزيادة إلا ما يقتضيه التصوير من وصف وتشبيه، وما تستلزمه صنعة التشويق بتطرية الكلام ببعض الْمُلَح والمفارقات .
هناك بطبيعة الحال اسثناءات، فكثيرون ممن تربطني بهم أخوة راسخة، أو صداقة متينة، أعيرهم ما يطلبون من كتبي، وأستعير منهم، وأثق بدينهم وأمانتهم كثقتي بنفسي، ويحافظون على كتابي كما أحافظ عليه .
ومن المهم ن أذكر أن امتناعي عن إعارة من لا أثق به كتبَ مكتبتي - لا يعني أني أضن بمعارفها على من يطلبونها، وأحبس سحائب كرمها عن أن تجود بفيوضات خيرها على المتعطشين للعلم . فأنا أومن أن المكتبة نعمة، والنعمة تستوجب الشكر، ومن شُكْر نعمة المكتبة أن يعم نفعها، وينتشر نورها، ويتوزع برُّها . أومن أن المكتبة ثروة، وفي الثروة حق الزكاة، وزكاة المكتبة أن يُبذَل عطاؤها لسائليه، ويصل خيرها إلى محروميه . وعندي أن الذي يكْنِز علم المكتبة ولا ينفقه في سبيل المحتاجين إليه، كمن يكْنِز الذهب والفضة ولا ينفقهما في سبيل الله، كلاهما بخل بما آتاه الله من فضله، وكلاهما أخل بوظيفة ما جعله الله مستخلفًا فيه، وكلاهما حجّر ما يجب أن يكون دُولة بين الناس جميعًا .
لذلك لا أرد طالب كتاب أملكه، ولا أقفل مكتبتي في وجه من يريد الانتفاع بها . وطريقتي في ذلك أن أحدد له موعدًا يناسبه ويناسبني ليشرّفني زائرًا كريمًا في بيتي، فإذا جاء استقبلته بترحاب، واستضفته بحفاوة، وفتحت له صدري ومكتبتي، وقدمت له ما يريد من كتب ومراجع عندي، وقد أقترح عليه كتبًا تتصل بموضوع بحثه لم يطلبها، وقد أوجهه إن كان محتاجًا إلى توجيه . وبالجملة أضع مكتبتي تحت تصرفه، وأضع نفسي تحت إمرته، وأوفر له - بقدر ما أستطيع - جو الهدوء الذي يساعد على التركيز والاستيعاب والتسجيل، ولا أتضايق مهما شط في طلباته، ولا أتذمر مهما ألح في أسئلته، ولا أحدد له وقتًا يقضيه في ضيافتي إلا أن يحدده هو . وأُشهد الله أني أفعل ذلك عن رضا نفس، وطمأنينة بال، وحماسة صادقة، ورغبة مخلصة في خدمة العلم وأهله، ولو تكررت زيارة الزائر مرات، ولو اقتطع من وقتي ما اقتطع .
وبهذه الطريقة أكون قد حفظت مكتبتي من شر الإعارة وبلائها، وأمّنتها من امتداد أيدي اللصوص إليها، وأرجو بذلك أن أكون قد شكرت نعمتها، وأديت زكاتها، وأوفيت بحقها .
ختاماً ، فقد قالوا قديمًا : من أحب شيئًا أكثر من ذكره، وقد أكثرت في هذه الصفحات من ذكر مكتبتي لأني أحبها . وآمل أن أكون قد حببت المكتبة إلى قلوب الناس جميعًا؛ لأنهم إذا أحبوها اقتنوها، وإذا اقتنوها ازدانت بيوتهم بأفضل ما تزدان به البيوت، وجنوا منها ثمرات ومنافع لا يجدونها في غيرها، وكانت بركة تعمهم، وتطرد الشيطان عنهم .