مكانة الحديث النبوي في علم التفسير

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
10
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
قد تبين مما ذكرنا مكانة الحديث النبوي في علم التفسير ، وأنه إنما يطلب تفسير القرآن - إن لم يوجد في القرآن - من حديث رسول الله e ، فيأتي تفسير القرآن بالسنة في المرتبة الثانية ، وتقدم دليله ؛ وعليه ، فما صح من تفسير القرآن عن النبي e ، فهو حُجَّة قاطعة ، إذ هو مِن الوحي ، والنبي e مبين للوحي ، وهو أحقُّ من يُؤْخَذ عنه ، وقوله مقدَّم على قول كل أحدٍ ؛ لأن الله Y ما جعل الحُجة في قول أحدٍ إلا في قول نبيه e .
ولكن يبقى سؤال : هل بيَّن رسول الله e للصحابة معاني القرآن كاملا ، أم اقتصر البيان على بعضه ؟
قال ابن تيمية - رحمه الله : يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ e بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ، كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ] لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ [ [ النحل : 44 ] ، يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا ؛ وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ ، كَعُثْمَانِ بْنِ عفان ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَغَيْرِهِمَا ، أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ e عَشْرَ آيَاتٍ ، لَمْ يُجَاوِزُوهَا ، حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ؛ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ ، وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا [SUP][1] [/SUP]؛ وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ ، قِيلَ : ثَمَانِ سِنِينَ ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ [SUP][2] [/SUP]. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : ] كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُإلَيْكَمُبَارَكٌلِيَدَّبَّرُواآيَاتِهِ [ [ ص : 29 ]، وَقَالَ : ] أَفَلَايَتَدَبَّرُونَالْقُرْآنَ [ [ النساء : 82 ، محمد : 24 ] ، وَقَالَ : ] أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [ ( المؤمنون : 68 ) ، وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : ] إنَّاأَنْزَلْنَاهُقُرْآنًاعَرَبِيًّالَعَلَّكُمْتَعْقِلُونَ [[ يوسف : 2 ] ، وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ ، فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ ؛ وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ ، وَلَا يستشرحوه ، فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ ، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ ، وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ[SUP] [3] [/SUP]؟.ا.هـ .
ونقل السيوطي في ( الإتقان ) كلام ابن تيمية هذا وما بعده ، في ( النوع الثامن والسبعون : في معرفة شروط المفسر وآدابه ) ثم قال : انتهى كلام ابن تيمية ملخصًا ، وهو نفيس جدًّا[SUP] [4] [/SUP].
قال مقيده – عفا الله عنه : اللام في قوله : ] لِتُبَيِّنَ [ للتعليل ، أي : من أجل أن تبين لهم ؛ واسْتُدِل - أيضًا - بقوله تعالى : ] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [ [ القيامة : 19 ] ، لأنه يتضمن بيان لفظه ، وبيان معناه .
قال ابن القيم - رحمه الله - شارحا هذه المسألة : وكذلك عامة ألفاظ القرآن نعلم قطعًا مراد الله ورسوله منها ، كما نعلم قطعًا أن الرسول بلغها عن الله ، فغالب معاني القرآن معلوم أنها مراد الله ، خبرًا كانت أو طلبًا ، بل العلم بمراد الله من كلامه أوضح وأظهر من العلم بمراد كل متكلم من كلامه ، لكمال علم المتكلم ، وكمال بيانه ، وكمال هداه وإرشاده ، وكمال تيسيره للقرآن ، حفظًا ، وفهما ، عملا ، وتلاوة ؛ فكما بلغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة ، بلغهم معانيه ؛ بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه ، ولهذا وصل العلم بمعانيه إلى من لم يصل إليه حفظ ألفاظه ، والنقل لتلك المعاني أشد تواترًا ، وأقوى اضطرارًا ، فإن حفظ المعنى أيسر من حفظ اللفظ ، وكثير من الناس يعرف صورة المعنى ويحفظها ، ولا يحفظ اللفظ ؛ والذين نقلوا الدين عنه علموا مراده قطعًا لما تلا عليهم من تلك الألفاظ ؛ ومعلوم أن المقتضى التام لفهم الكلام الذي بلغهم إياه قائم ، وهم قادرون على فهمه ، وهو قادر على إفهامهم ، وإذا حصل المقتضى التام ، لزم وجود مقتضاه .

وبالجملة ، فالأدلة السمعية اللفظية قد تكون مبنية على مقدمتين يقينتين :
إحداهما أن الناقلين إلينا فهموا مراد المتكلم .
والثانية أنهم نقلوا إلينا ذلك المراد ، كما نقلوا اللفظ الدال عليه .
وكلا المقدمتين معلومة بالاضطرار ؛ فإن الذين خاطبهم النبي باسم الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والوضوء ، والغسل .. وغيرها من ألفاظ القرآن في سائر الأنواع من الأعمال ، والأعيان ، والأزمنة ، والأمكنة .. وغيرها ، يعلم بالاضطرار أنهم فهموا مراده من تلك الألفاظ التي خاطبهم بها ، أعظم من حفظهم لها ، وهذا مما جرت به العادة في كل من خاطب قومًا بخطبة ، أو دارسهم علمًا ، أو بلغهم رسالة ، وإن حرصه وحرصهم على معرفة مراده أعظم من حرصهم على مجرد حفظ ألفاظه ؛ ولهذا يضبط الناس من معاني المتكلم أكثر مما يضبطونه من لفظه ، فإن المقتضى لضبط المعنى أقوى من المقتضى لحفظ اللفظ ؛ لأنه هو المقصود ، واللفظ وسيلة إليه ، وإن كانا مقصودين ، فالمعنى أعظم المقصودين ، والقدرة عليه أقوى ، فاجتمع عليه قوة الداعي ، وقوة القدرة ، وشدة الحاجة ، فإذا كانوا قد نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول مبلغًا لها عن الله ، وألفاظه التي تكلم بها يقينًا ، فكذلك نقلهم لمعانيها ، فهم سمعوها يقينًا ، وفهموها يقينًا ، ووصل إلينا لفظها يقينًا ، ومعانيها يقينًا ؛ وهذه الطريقة إذا تدبرها العاقل علم أنها قاطعة ، وأن الطاعن في حصول العلم بمعاني القرآن شر من الطاعن في حصول العلم بألفاظه ؛ ولهذا كان الطعن في نقل بعض ألفاظه من فعل الرافضة ، وأما الطعن في حصول العلم بمعانيه ، فإنه من فعل الباطنية الملاحدة ، فإنهم سلَّموا بأن الصحابة نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول ، وأن القرآن منقول عنه ، لكن ادعوا أن لها معاني تخالف المعاني التي يعلمها المسلمون ، وتلك هي باطن القرآن وتأويله[SUP] [5] [/SUP].
والذي يظهر - والعلم عند الله تعالى - أن النبي e بيَّن لهم ما أشكل عليهم ، وإذا بيَّن لهم ما أشكل عليهم يكون قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ؛ ولعل ذلك ما قصده شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ؛ فالصحابة y كانوا يفهمون القرآن الذي نزل بلغتهم ، ولكن إذا أشكل عليهم شيء ، رجعوا إلى النبي e ، فيبين لهم ذلك ؛ كما في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ] الَّذِينَآمَنُواوَلَمْيَلْبِسُواإِيمَانَهُمْبِظُلْمٍ [ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e ، وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ : ] إِنَّالشِّرْكَلَظُلْمٌعَظِيمٌ [ ؛ ولفظ مسلم : شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e ، وَقَالُوا : أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ : ] يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ "[SUP] [6] [/SUP].
فهم فهموا من لفظ ( بِظُلْمٍ ) أنه يقع على ظلم النفس ، كما يقع على الشرك ، وعلى ظلم الغير ، فلما رجعوا إلى رسول الله e رفع هذا الإشكال ، وبين أن المراد بالظلم ها هنا : الشرك .
وقد ناقش هذه المسألة د. محمد حسين الذهبي في ( التفسير والمفسرون ) قال : اختلف العلماء في المقدار الذي بيَّنه النبي e من القرآن لأصحابه ؛ فمنهم مَن ذهب إلى القول بأن رسول الله e بيَّن لأصحابه كل معاني القرآن ، كما بيَّن لهم ألفاظه ، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية ؛ ومنهم مَن ذهب إلى القول بأن رسول الله e لم يُبيِّن لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل ، وعلى رأس هؤلاء الخُويِّي والسيوطي[SUP] [7] [/SUP].ا.هـ .
ولم يذكر - رحمه الله - قولهما ، ولا أشار إلى المرجع الذي يمكن أن يرجع إليه ؛ ولم أقف عليه مع تتبعي لـ ( إتقان ) السيوطي ؛ والذي نقله السيوطي - رحمه الله - قول ابن تيمية ؛ ثم قال : انتهى كلام ابن تيمية ملخصًا ، وهو نفيس جدًّا[SUP] [8] [/SUP].
ثم قال د. الذهبي : وقد استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوردها ، ليتضح لنا الحق ، ويظهر الصواب ... ثم ساق أدلة كلٍّ من الفريقين ، وناقشها ؛ وحكم بغلو كلا الفريقين[SUP] [9][/SUP] .
وما أدري لم حكم على الفريقين بالغلو ؟ وحَمْلُ كلام ابن تيمية وتلميذه على ما ذكرته أولى ، وهو الذي يُفهم من كلامهما - رحمهما الله .
ثم اختار - د. الذهبي - التوسط بين الرأيين ، فقال : إن الرسول e بيَّن الكثير من معاني القرآن لأصحابه ، كما تشهد بذلك كتب الصحاح ، ولم يُبيِّن كل معاني القرآن ؛ لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، ومنه ما يعلمه العلماء ، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ، ومنه ما لا يعُذر أحد في جهالته ، كما صرَّح بذلك ابن عباس ... وبدهي أن رسول الله e لم يفسِّر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب ، لأن القرآن نزل بلغتهم ، ولم يفسِّر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته ، وهو الذي لا يُعذر فيه أحد بجهله ؛ لأنه لا يخفى على أحد ، ولم يفسِّر لهم ما استأثر الله بعلمه ، كقيام الساعة ، وحقيقة الروح ، وغير ذلك من كل ما يجرى مجرى الغيوب التي لم يُطلع الله عليها نبيه t ، وإنما فسَّر لهم رسول الله e بعض المغيبات التي أخفاها الله عنهم ، وأطلعه عليها ، وأمره ببيانها لهم ، وفسَّر لهم - أيضًا - كثيرًا مما يندرج تحت القسم الثالث ، وهو ما يعلمه العلماء ، يرجع إلى اجتهادهم ، كبيان المجمل ، وتخصيص العام ، وتوضيح المشكل ، وما إلى ذلك من كل ما خفي معناه ، والتبس المراد به .
هذا .. وإنَّ مما يؤيد أن النبي e لم يُفسِّر كل معاني القرآن ، أن الصحابة y ، وقع بينهم الاختلاف في تأويل بعض الآيات ، ولو كان عندهم فيه نص عن رسول الله e ما وقع هذا الاختلاف ، أو لارتفع بعد الوقوف على النص[SUP] [10] [/SUP].
قال مقيده - عفا الله عنه : وعند التأمل لكلام ابن تيمية وتلميذه أرى أن ما قاله الذهبي هو معنى كلامهما ، ولا يتصور من كلامهما أن النبي t وقف مع هؤلاء العرب الأقحاح عند كل لفظ من القرآن يبين لهم معناه .
وصفوة القول أن النبي e كان مأمورًا بالبلاغ والبيان ، فإذا بيَّن لهم ما أشكل عليهم ، فقد قام بما أمر به ، وأدى أمانة ربه ، وهذا الذي يتضح من الجمع بين الأدلة الواردة في هذه المسألة ، والعلم عند الله تعالى .

[1] جزء من حديث رواه أحمد : 3 / 120 ، 121 ، وعنده : جَدَّ فينا ؛ أي صار ذو حظوة وقدر عظيم ، وابن حبان ( 744 ) وعنده : عُدَّ فينا ذو شأن .
[2] رواه مالك بلاغًا : 1 / 205 ( 479 ) ، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان ( 1956 ) .
[3] مجموع الفتاوى : 13 / 131 ، 332 .
[4] انظر ( الإتقان في علوم القرآن ) : 4 / 202 - 207 .
[5] انظر الصواعق المرسلة : 2 / 636 - 638 - تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله - دار العاصمة - الرياض .
[6] البخاري ( 6520 ) ، ومسلم ( 124 ) .
[7] انظر ( التفسير والمفسرون ) : 1 / 39 .
[8] انظر ( الإتقان في علوم القرآن ) : 4 / 202 - 207 .
[9] انظر ( التفسير والمفسرون ) : 1 / 39 – 42 .
[10] انظر ( التفسير والمفسرون ) : 1 / 41 .
 
عودة
أعلى