تلمسان ليست لفظة غريبة علي فقد عرفت الكلمة من اسم الشيخ عمر التلمساني رحمه الله، فقد كان المرشد العام للإخوان المسلمين وكان يكتب في صحيفة الشرق الأوسط (أتاحت له الفرصة ذراً للرماد في العيون) فكان مما أذكر من تلك الكتابات قوله (إن الزعيم أو الحاكم أو الرئيس أو الملك لا يخرج بنفسه لاعتقال المواطنين الشرفاء، وليس هو من يعذبهم ويذيقهم الأمرين من السجون والضرب والإيذاء البدني والمعنوي، ولكن يقوم بهذا أناس منّا قد يكون أخاك أو ابن أخيك أو ابن عمك، إنه – أي الحاكم_ يستخدمنا أدوات ليرتكب عن طريقنا كل أنواع المخازي، ثم إن هذا الحاكم يتخلص من هؤلاء الذين يقومون بالنيابة عنه تلك الأعمال القذرة الوحشية.
ولعمر التلمساني موقف مع الرئيس السادات حين اتهم الإخوان المسلمين بالتنسيق مع الشيوعيين ضد النظام, فقال له الداعية الكبير: "لو كان غيرك قالها (أي هذه الاتهامات) لشكوته إليك, أما وإن محمد أنور السادات هو الذي قالها, فإنني أشكوه إلى الله", فتأثَّر الرئيس السادات, وقال له: "اسحب شكواك يا عمر", فقال له الداعية العملاق: "إني شكوتك لعادل, فإن كان لي حق أخذته, وإلا فلن يضيرك شيء".(بدر محمد بدر- موقع الإخوان المسلمون)
وعرفت تلمسان من أسماء المدن التي كانت مهمة في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وإن كان البشير الإبراهيمي عاش في وهران فترة من الزمن. وقد زرت وهران قبل أحد عشرة سنة وها أنا تتاح لي الفرصة لأكون في تلمسان وقد كسبت خبرات كثيرة منذ ذلك الحين في مجال تخصصي، وقد صلب عودي نوعاً ما في مواجهة الاستشراق أو محاولة بعض الغربيين استغفالنا.
كيف وصلت إلى تلمسان؟ وصلتني دعوة قبل سنة تقريباً من الدكتور سعيدي محمد عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة أبي بكر بلقايد (الوزير الشهيد ابن تلمسان العظيم) وبعثت إليهم بفكرة موضوعين ولكن أحدهما أكثر قرباً منهم وهو (الاهتمام بالاستشراق في الصحافة الإصلاحية الجزائرية" وانتظرت واقترب موعد المؤتمر ولم يصلني منهم تأكيد بقبول الموضوع أو رفضه، وفجأة يأتيني اتصال أنهم سيبعثون تذكرة سفر وخطاب دعوة، فقلت للأخ مصطفى حسن نعم سأحضر دون تردد وقد قال لي الأخ مصطفى أنت الوحيد الذي لم تتردد في القبول. وصلت التذكرة وخطاب الدعوة، فذهبت إلى السفارة فأخبرني موظف القنصلية نحتاج أربعة أيام لنعطيك التأشيرة، فقلت له لا سأحصل على التأشيرة أسرع من ذلك، وجئت ومعي النموذج ونسختين من كتابي عبد الحميد بن باديس نسخة هدية للسفير وثانية للقنصل فوعدوني بالتأشيرة بعد يومين، وحصلت على التأشيرة مجاملة أو تأشيرة مجاملة.
أما التذكرة فكانت عن طريق اسطنبول التي تقلع رحلتها من الرياض على الساعة الثانية وخمسة وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل، وتصل اسطنبول (التوقيت واحد) على الساعة السادسة تقريباً ، والرحلة من اسطنبول الساعة العاشرة والنصف وتصل الواحدة والنصف. ثم الرحلة من الجزائر إلى وهران على الساعة الثالثة بعد الظهر والوصول على الساعة الرابعة والركوب في سيارة من وهران إلى تلمسان والوصول بعد غروب الشمس إلى تلمسان. فهل الرحلة طويلة؟ وهل هي شاقة؟ لن أقول، فلدي كلمة أن التعب يذهب حالما أجد فراشاً وغرفة هادئة. ولي مع السفر الطويل تاريخ طويل.
كان الاستقبال في مطار وهران جميلاً ورافقني في الرحلة من وهران إلى تلمسان الدكتور أحمد حلواني أستاذ الإعلام والعلوم السياسية بجامعة دمشق، وكذلك وزير السياحة السابق في سوريا. وقد كان حديثنا طوال الرحلة حول المظاهرات في سوريا وعرفت بعض التفاصيل عن صعوبة موقف المتظاهرين وصعوبة مواجهة الدولة، ولكن الله ناصر عبده وسينتصر الحق مهما كان الظالم قوياً أو قاسياً أو عنيفاً.
والطريق الذي سلكناه طريق سريع ليس فيه نقاط لدفع رسوم كما هو الحال في الدول التي تسير في ركب الرأسمالية التي تنهك جيوب الناس وتستنزفها. ولكن مع جودة الطريق فإنه بُنِيَ دون أن يفكر المصممون بوضع محطات استراحة أو محطات وقود على الجانبين. فهل ثمة خطأ أو عجلة في التنفيذ أو هناك كما يقولون وراء الأكمة ما وراءها. وقد عانينا في المملكة المشكلة ذاتها في طريق القصيم المدينة المنورة حيث تأخر بناء المحطات سنوات عديدة وطريق المدينة المنورة يبلغ خمسمائة كيلو متر بينما لا يزيد طريق وهران تلمسان على مائة وخمسين كيلو متر. بل إن طريق القصيم انتقد لأن كثيراً من الجسور التي كان ينبغي أن تبنى في وقت بناء الطريق تأخرت، والتهمة الجاهزة أن البعض أراد أن تكون مناقصات جديدة لبناء الجسور فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
الطريق جميل وتزفيته جيد ولا بد أنه يتمشى مع المواصفات العالمية.كما أن جوانب الطريق جميلة حيث الخضرة، ولم نلاحظ سوى الزيتون وبعض اللوز (الذي فاتني شراء قليل منه) ولكن الفكرة التي تهاجمني عندما أرى السهول الخضراء الخصبة في البلاد العربية أقول إن بلداً فيه هذه الأراضي العظيمة يجب أن لا يجوع أهله أو على الأصح بلد يملك هذه الثروة يجب أن يكون ثرياً. قيل إن فرنسا كانت تُطْعِم أوروبا كلها من سهول المتيجة (على ساحل البحر المتوسط، ذات الأرض الخصبة الحمراء) فلماذا يجوع الجزائريون أو المغاربة أو تجد متسولين حول نهر النيل ويكفي كما أقول أن يرمي الواحد حفنة من القمح في الأرض فإذا بها شجار قمح وليس نبتات وسنابل.
وأخيراً لا بد من كلمة حول مشروع (عاصمة الثقافة الإسلامية) أن هذا المشروع يشجع المدن المختارة للقيام بمشروعات للمحافظة على التراث والآثار بل كذلك القيام بمشروعات حفريات كثيرة إلاّ إن كانت مدفوعة من جهات أجنبية لربط البلاد الإسلامية بالتاريخ القديم قبل الإسلام أو قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وإن تلمسان التي تنطق بتسكين التاء وفتح اللام وسكون الميم (تْلَمْسان) كانت عاصمة لحكم الزيانيين الذين تقول عنهم موسوعة ويكيبيديا أنهم ( بنو زيان أو بنو عبد الواد سلالة بربريةزناتية حكمت في غرب الجزائر بين 1235و1554 م. مقرهم تلمسان. وفي رواية أخرى أنهم من نسل القاسم بن محمد بن عبد الله بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر جد الشرفاء الأدارسة) ويتحدث أبناء تلمسان عن دولة أخرى وعن الصراع بينها وبين الزيانيين هي الدولة المرينية وقد وصفتها الموسوعة (ويكيبديا) بما يأتي: "ينحدر المرينيون من قبيلة زناتة الأمازيغية، استقروا في المناطق الشرقية والجنوب الشرقي من المغرب. بعد صولات وجولات مع الموحدين استطاع المرينيون في عهد الأخوين أبو يحي عبد الحق (1244_1258 م) ثم أبو يوسف (1258_1286 م) أن يستولوا على العديد من المدن، مكناس: 1244 م، فاس: 1248م. مع حلول سنة 1269م استطاعوا التخلص من آخر الموحدين في مراكش، وبدؤوا بعدها في تنظيم جيش قوي حتى يمكنهم الاحتفاظ بالمناطق التي انتزعوها. خاضوا عدة حروب على أرض الأندلس في عهد أبو يعقوب يوسف (1286_1307 م)، توسعوا إلى الجزائر (الاستيلاء على وهرانومدينة الجزائر). عرفت الدولة أوجها أثناء عهدي أبو الحسن علي (1331_1351م) ثم أبو عنان فارس (1351_1358م) وازدهرت حركة العمران. استطاع الأخير صد سلاطين عبد الواد والاستيلاء على عاصمتهم تلمسان، ثم واصل في غزواته حتى بلغ تونس واحتلها على حساب الحفصيين."
تقوم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي برعاية عدد من المؤتمرات والندوات أو ما يسميه إخواننا في الجزائر بالأيام المدرسية بمناسبة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، ولا تقتصر النشاطات على جامعة أبي بكر بلقايد وإنما تشمل جامعات وكليات أخرى سوى كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية. وأبدأ بالحديث عن أبي بكر بلقايد فلقد تعجبت من اختيار اسمه ليطلق على جامعة تلمسان حيث ينسى كثيرون اسمه ليقولوا جامعة تلمسان. وهذه مبادرة كريمة من الشعب الجزائري والمسؤولين الجزائريين لتكريم المخلصين من أبناء البلاد بإطلاق أسمائهم على مؤسسات علمية. وهذا يذكرني بإطلاق اسم دكتور في برشلونة على أحد الشوارع الكبرى في تلك المدينة. وقد وجدت في موقع الفيسبوك تعريفاً به حيث يقول معد الصفحة أن أبا بكر بلقايد (رحمه الله وأسبل عليه منشآبيب رحمته) رجل ما فتئ إلا أن أعطى لهذا الوطن المفدى ما عزت عليه النفس ولد يوم 19 مارس 1934 , أبلثلاثة أطفال - انخرط في حركة الانتصار والحرياتالديمقراطية و حزب الشعب الجزائري بداية من 1949. - التحق بجبهة التحرير الوطنيإثر تأسيسها حيث تقلد عدة مسؤوليات منها: - عضو الأمانة العامة للإتحاد العامللعمال الجزائريين - منسق لمجموعة المحامين المكلفين بالدفاع عنالمعتقلين والمساجين. - ِاعتقل وزج به في سجن فرينس (FRESNE) بفرنسا. وخلال ثلاثين عامامن 1964 إلى 1994، بذل جهودا معتبرة في خدمة بلاده، مما جعله يشغل مناصب متعددة ومتنوعة أهمها: -1967 مدير المعهدالوطني للتكوين المهني -1977 أمين عام لوزارة السكنوالتعمير 1986- وزير الشغل و التكوينالمهني -1987وزير التعليم العالي و البحث العلمي - 1988 وزير الداخلية والبيئة -1992-1991 وزير الاتصال و الثقافة. لقد كرس أبو بكر بلقايد خمسة وأربعين سنة من حياته في خدمة تحرير الوطن، والتنمية الاقتصادية و الاجتماعية، وترقية العلم و الفنون و الثقافة و خاصة لإرساء دعائم الديمقراطية و الحداثةببلاده.-لقد اغتيل في 28 سبتمبر 1995، وقد كتب على ضريحه بمقبرة العالية هذهالكلمات: "إن المعارك التي نخسرها, هي المعارك التي لا نخوضها" http://ar-ar.facebook.com/topic.php?uid=124430297592721&topic=239
إشكالية الملتقى
يشكل الحوار أهم انشغال عالمي اليوم في إعادة أنسنة الإنسان وذلك بإعادة قراءة التاريخ، خاصة في الجانب المسكوت عنه، فالحوار ينتج مقاربات لمفاهيم معمقة تستطيع رفع اللبس عن الجوانب المختلف فيها ثقافيا. ولا ريب أن الاستشراق كفضاء معرفي وثقافي يشكل جزءا أساسيا في بناء هذا الحوار، وتزكية أهدافه السامية و هو ما يحتاج حسب هذا الطرح إلى إعادة النظر في خطاباته المتعددة وإبراز جوانبه الموضوعية وغيرالموضوعية، لنتمكن في النهاية تعرية الزوايا المعتمة للخطاب الاستشراقي و نستطيع أيضا إخراجه من بعده السياسي والديني و نزيل عنه كل لبس في تصوراته وشك والريبة في أهدافه، وأيضا حتى لا يكون مرتبطا دائما بتلك النظرة السلبية التي صاحبته بداية من الحروب الصليبية وصولا إلى مفاهيم الإيديولوجيات الجديدة. فمن غير هذا الإجراء سوف يظل الحوار في هذا الباب معرضا للصدام، وهذا في غياب سوء التعريف بثقافة الذات والآخر الناتجة بدورها عن سوء القراءات السوسيولوجية والإثنية. إن تعريف الاستشراق بأنه "وعي الذات من خلال الوعي بالآخر"، كفيل بأن يفرش أمام الآخر مساحات واسعة من القراءة الجادة والحوار الفعال لتجاوز الحساسيات ووضع الطروحات والمفاهيم في مسارها الصحيح ، الدقيق. تأسيسا على ما سبق، تسعى مدينة تلمسان، بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 2011/2012، إلى تنظيم ملتقى دولي حول " الإسلام والاستشراق وحوار الثقافات".
الإشكالية: هل يمكن أن نؤسس لفكرة الحوار بين الثقافات انطلاقا من الدراسات الاستشراقية؟ وكيف نجعل من الاستشراق خطابا تفاعليا بين الذات والآخر؟
محاور الملتقى
1.ماهية الاستشراق 2.الاستشراق والإسلام 3.المستشرقون ومصادر التاريخ الإسلامي 4.حقيقة الخطاب الاستشراقي 5.الاستشراق ومعوقات الحوار 6.المناهج الاستشراقية 7.حوار الثقافات: المفهوم؛ الشروط؛ الوسائل 8.واقع الاستشراق في ظل حوار الثقافات
أما الموضوع الذي تقدمت به فهو (الاستشراق في الصحافة الإصلاحية الجزائرية فيما بين الحربين العالميتين: وقد جاء في الاقتراح ما يأتي: أثار كتاب البروفيسور إدوارد سعيد ضجة كبرى في الأوساط العلمية في الغرب والشرق على حد سواء. وبالرغم من أهمية هذا الكتاب في فهم هذه الظاهرة لكنه لم يكن المواجهة الأولى بين الشرق والغرب. فمن خلال دراستي لتاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية تيسر لي مراجعة الصحف الإصلاحية والاطلاع على كثير من المقالات والكتابات التي يمكن أن تكون مادة غنية في دراسة ظاهرة نقد الاستشراق ومواجهته . وفي هذا البحث سأحاول تتبع ظاهرة الاهتمام بكتابات الغربيين عن الإسلام من جميع النواحي:عقيدة، وشريعة، وتاريخاً واجتماعاً. فقد حفلت الصحف الجزائرية الإصلاحية بصفة خاصة بتتبع ما يكتبه المستشرقون وما تنشره الصحف والمجلات الفرنسية عن الإسلام والمسلمين. كما لاحظت اهتمام الصحافة الإصلاحية بما يكتب عن هذه القضايا في الصحف العربية فتنقل عنها. ولهذا فسوف يتناول هذا البحث رصداً لما تناولته صحف الإصلاح الجزائرية في مجال الهوية الإسلامية ومقاومة التذويب والفرنسة التي كان الاستعمار الفرنسي يسعى جاهداً لتنفيذها في مستعمراته وبخاصة في الجزائر التي خضعت للاستعمار الفرنسي ما يزيد عن القرن وثلاثين سنة . كما سيتناول البحث كذلك ما تناولته هذه الصحف من دفاع عن القرآن الكريم وعن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن التاريخ الإسلامي . وينقسم البحث مبدئياً للحديث عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر ومحاربته للهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، كما سيتناول الصلة الوثيقة بين الاستعمار والاستشراق حتى يكاد يكون جميع الذين عملوا في الإدارة الاستعمارية من المستشرقين . ويحاول البحث تقويم هذه التجربة في الرد على الاستشراق وكيف أثبتت جدواها في تنشئة جيل من العلماء المعتزين بدينهم وبقيمهم الإسلامية .وسوف يتم التركيز على كتابات كبار زعماء الحركة الإصلاحية الجزائرية ومن هؤلاء على سبيل المثال الشيخ عبد الحميد ابن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي ومبارك الميلي رحمهم الله وغيرهم حيث حفلت كتاباتهم بالرد على كتابات المستشرقين أو ما كانت تثيره الصحف الفرنسية من قضايا. ومن هذا على سبيل المثال مقالة الشيخ عبد الحميد بن باديس بعنوان (وخز الدبابيس) التي تناول فيها ما كانت تكتبه جريدة (الطان) الفرنسية التي أسماها كبرى الصحف الفرنسية من تحريض ضد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أو الطعن في الإسلام. وهكذا عقد المؤتمر في موعده وكان الافتتاح برعاية مدير الجامعة ثم كلمة لعميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية ورئيس المؤتمر الدكتور محمد سعيدي. وقد تناول الدكتور سعيدي قضية الاستشراق مشيراً إلى سلبيات الاستشراق وكذلك بعض الجوانب الإيجابية في هذا المجال المعرفي.عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية لجامعة تلمسان الأستاذ محمد سعيدي أن "الحوار يأتي استجابة لاهتمام مشترك ما بين الثقافات ويعد مطلبا أكثر إلحاحا من أي وقت مضى". وأضاف في نفس السياق أن "الحوار وحده كفيل بتبديد الخلافات الثقافية والدينية بين المشرق والمغرب" موضحا أن "الاستشراق! يعد فضاءً معرفيا وثقافيا وأيضا كعنصر مؤسس لحوار ما بين الحضارات". ثم كانت الجلسة العلمية الأولى وقد تضمنت محاضرتين إحداهما للدكتور نادر معروف الأستاذ بإحدى الجامعات الفرنسية وكان عنوان محاضرته (الاستشراق وبناء هوية وطنية). أما الأستاذ السعودي مازن الموطبقاني (حسب كتابة الموقع الجزائري الموضح أسفله) (المطبقاني) فقد تطرق في محاضرته “الاستشراق في الصحافة الجزائرية الإصلاحية ما بين الحربين” إلى مختلف الكتابات والنصوص الصادرة بالصحف الإصلاحية الجزائرية و”نضالها ضد تجهيل الشعب الجزائري خلال الفترة الاستعمارية”. وذكّر في هذا السياق بنضال هذه الصحافة “لإثبات الهوية الإسلامية للشعب” الجزائري مع تسليط الضوء على الجهود التي بذلت للدفاع عن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي مستندا إلى كتابات كبار العلماء الجزائريين كالشيخ عبد الحميد ابن بأديس ومبارك الميلي والشيخ البشير الإبراهيمي. http://ar.midipress.com/dz/dz570/76096/
كان الوصول إلى باريس سهلاً جداً والمغادرة أسهل وقد كتب صحفي قبل أكثر من خمس عشرة سنة أن السلطات تنظم الوصول إلى المطار والخروج منه في خمسة دقائق أو أكثر من ذلك قليلاً، وهذا التنظيم لو تعثر قليلاً لتسبب في ازدحام في الشوارع المحيطة بالمطار. ويا ليت المطار العربية والعالمية تأخذ بمثل هذا التنظيم ففي آخر رحلة لي إلى الجزائر ومن الجزائر إلى وهران كان علينا الانتظار وقتاً طويلاً وكأنه يتعمدون إزعاج الركاب حتى كنت أقول إنهم يحملون الحقائب من الطائرة إلى الصالة. فما أن خرجت من الطائرة حتى وجدت أن علي الركوب في الحافلة إلى الصالة الثانية التي تسمى الحافلة الدائرية لأواصل الرحلة إلى مدينة نيس. ووصلت مدينة نيس فاشتريت تذكرة الحافلة إلى مدينة إكس إن بروفانس. ولما كان أمامي بعض الوقت فوضعت حقيبتي في مستودع الحقائب بعشرة فرنكات فرنسية ريثما يحين موعد الحافلة على الساعة الثانية عشرة وأربعين دقيقة. بدأت الرحلة وكان الطريق يسير بمحاذاة البحر حتى مدينة كان ثم سار برّاً بين الحقول والمزارع والغابات والقرى الصغيرة، وكانت مدة الرحلة ثلاث ساعات وعشرين دقيقة. ووصلت إلى الفندق الذي كانت لا تزيد عدد غرفه على سبع وثلاثين غرفة وكانت الأجرة لا تزيد على ستين فرنكاً ولا تزيد عدد نجوم الفندق عن نجمتين ولكنه نظيف ومرتب، فهو فيما يبدو مخصص لطلاب الجامعة أو زوارها. كان أول موعد لي في بروفانس مقابلة البروفيسور روبرت مانتران ومعي ورقة من المشرف باللغة الفرنسية لأستفيد منه في بحثي فعرفت مباشرة أن مانتران متخصص في تاريخ الدولة العثمانية وليس التاريخ المعاصر. فأرشدني لمقابلة البروفيسور برونو إتيان Etienne الذي لم يكن موجوداً بل ردت علي ابنته باللغة الإنجليزية أن والدها يزور باريس في ذلك الوقت. ولم أتمكن من مقابلته وقد عرفت فيما بعد أنه من المستشرقين الذين لهم موقف من الإسلام والحركات الإسلامية وهو عالم اجتماع وليس مؤرخاً. لقد جبت شوارع بروفانس مشياً على الأقدام ولا يستغرق ذلك أكثر من ساعتين أو زيادة قليلاً. وفي أثناء سيري في شوارع المدينة رأيت لوحة مكتوب عليها مركز دراسات مجتمعات البحر المتوسط، فدلفت إليه ومكثت في المكتبة عدة ساعات خرجت بمذكرات جنرال فرنسي عن الجزائر كتبه عام 1947م مكتوب على الآلة الكاتبة (الراقنة كما يقولون في الجزائر)، وعلمت أن هناك باحثاً جزائريا يبحث في تاريخ جمعية العلماء، ولكني لم ألتق به وإن كنت قد التقيت بباحث جزائري متخصص في التاريخ وقد أمضى في فرنسا ثماني سنوات حتى إني لما سألته عن المسجد قال لي ساخراً (دع المساجد للعباد تسكنها ... واذهب بنا إلى ساقي الخمر يسقينا). ولم أبحث عن باقي البيت حتى أخذته من قوقل الآن، وأحمد الله أنه لم يكن يهمني معرفة مثل هذا الكلام ولكن أزعجني سخريته من سؤالي عن مسجد. ولقيت باحثاً فرنسياً في المقهى فقال لي : هل تظن أننا نستطيع أن نفهم بلادكم، وما يحدث فيها؟ قلت له "وهل أنا أفهم ما يحدث في بلادي، ثم أكملت: بلادنا مهمة وإستراتيجية وكل دولة من الدول الكبرى تحاول أن تسيطر عليها وولاؤنا موزع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي (لم يكن قد سقط بعد) وشعوبنا ليس لها من الأمر شيء"، فلماذا لا يحدث فيها ما يحدث، فقال يبدو أنك متأكد مما تقول، فقلت له ولِمَ لا؟ أردت أن أزور مركز دراسات مجتمعات البحر المتوسط فركبت سيارة أجرة، ولكن عرفت من خلال المشوار أن الطريق سهل ولا يحتاج إلى سيارة أجرة. وقد حدث لي موقف مشابه في أورلاندو بفلوريدا حيث أخذت سيارة أجرة إلى المؤتمر فكانت الأجرة خمس عشرة دولاراً فعرفت الطريق فقررت العودة مشياً حتى يكون المشوار بسبعة دولارات ونصف. ومن طرائف بروفانس كثرة حنفيات الشرب في الشوارع والميادين والحدائق وليس هناك من يشرب لأن الجو بارد. كما تنتشر في هذه المدينة الكلاب فلكل كلب حارس أو حارسة أو صاحب أو صاحبة. كما لاحظت قلة عدد الأطفال وهو أمر تشكو منه فرنسا منذ زمن طويل وهو ما كتبته لواجب مادة الأحياء عام 1970م عندما كنت أدرس في جامعة أوريجنOregon بمدينة يوجين Eugene . وقد حدث شيء جميل أن بدأت وزني ينقص فقد انخفض مقاس بنطلوني أربعة أرقام وكذلك المعطف حيث كنت لم أتناول وجبة كاملة عدة أيام بل أحصل على قطة واحدة من البيتزا التي كانت تصبح باردة بعد خروجها من الفرن بوقت قصير جداً. ولمّا كنت موظفاً في الخطوط السعودية في إدارة الاتفاقيات الثنائية حيث كنت المدير وعلمت أن مدينة بروفانس تضم أحد المعاهد القليلة التي تدرس قانون النقل الجوي وقضايا أخرى تتعلق بالنقل، فقد حملت رسالة من مدير الخطوط الإفريقية وقد كان من موريتانيا وقد درس في بروفاس إلى مدير معهد النقل الجوي فدعاني إلى العشاء في منزله وحضر العشاء بناته الثلاثة وابنه الذي كان يجيد الإنجليزية. وأما إحدى بناته فكانت برفقة زوجها ولم يكن سلوكها مهذباً. ومن اهتمامات المعهد إدارة الطيران وقضايا ازدحام المطارات، وبناء مواد الطيران، والوكالات السياحية وتوسعة المطارات وتنظيم الاستثمار في النقل الجوي ويقوم بأبحاث في مجالين هما: النواحي القانونية والنواحي الاقتصادية. فكان الحديث حول مسائل النقل الجوي وكم كنت أتوق للحصول على ماجستير في قانون النقل الجوي بعد أن أمضي ستة أشهر في تعلم اللغة الفرنسية، ولكن لم تكن الخطوط السعودية حينها تشجع المبادرات الشخصية. حملت خريطة لمدينة بروفانس وسرت باتجاه إحدى الحدائق وقد كانت صغيرة نسبياً بالنسبة للحدائق في أوروبا والغرب عموماً أما في مقاييسنا فهي كبيرة حيث كانت تجاوز عشرة آلاف متر مربع وليست كحدائق جدة في عهد (أمينها) محمد سعيد فارسي حيث كانت أراض ضائعة لا تصلح لشيء فيتم جعلها حديقة (أي لا يطمع فيها أحد من الأكابر) وقد شاهدت في تلك الحديثة رجالاً يتعاطون الخمر من الصباح الباكر وكأنهم يتمثلون بيت الشاعر (وداوني بالتي كانت هي الداء) كما وجدت بعضهم يرتدي الأقراط في أذنيه وهي مسألة لها دلالة خاصة عندهم لا أحب أن أخوض فيها. اتجهت إلى وسط المدينة بكل سهولة وبدون استخدام الخريطة حيث إن اللوحات التي تشير إلى وسط المدينة كثيرة، وفي الطريق مررت بسوق النباتات والزهور، وقد لاحظت أن أثمان النباتات والزهور رخيص جداً فلا تتجاوز أفضل نبتة الثلاثين ريالاً بينما تساوي في بلادنا بين الخمسين والسبعين مع اختلاف مستويات المعيشة، فكأنّ التجار في بلادنا لا يكتفون بهامش بسيط من الربح أو لأن تجارة الزهور والنباتات ليست رائجة عندنا.
قضيت أياماً في هذه المدينة لا أحفظ عددها ولكنها لا تقل عن عشرة أيام إن لم يكن أسبوعين. حتى إنني كتبت بطاقات بريدية و-كانت شائعة ورائجة في تلك الأيام- إلى عدد من الأهل والأصدقاء وكان منهم الأولاد وعبد الإله بخاري وأحمد ألطف وعبد الله النجار وأحمد باهمام وعبد الرحمن خواجة وعبد الكريم مطبقاني وغدير والوالد رحمه الله. استيقظت باكراً ذات صباح فأدرت مؤشر الإذاعة فإذ بعض الإذاعات العربية، ولكنها كانت ضعيفة كحالنا في العالم العربي في إعلامنا الخارجي أما إعلامنا الداخلي فما أقواه وما أفسده في أغلبيته الغالبة. فكانت إحدى الإذاعات تقدم دروساً في التفسير فسررت لذلك، أما إذاعة أخرى فكان همها تقديم الأغاني حتى إنها أعلنت عن الأغنيات التي سوف تذيعها طيلة الأسبوع التالي وكأن العرب هنا لا يهمهم إلاّ الأغاني. بحثت عن مساعدة للاطلاع على وثائق الأرشيف حول جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فلقيت باحثاً فرنسياً في مركز دراسات مجتمعات البحر المتوسط وكان قد أقام في الجزائر سبع سنوات وكان يتقن اللغة العربية وإذ بهذا البحث هو فرانسوا بوغارت الذي كان باحثاً شبه مغمور في تلك الأيام وهو اليوم من أبرز الباحثين في دراسات العالم الإسلامي وله مواقف مشهودة ضد من يريد أن يشوه الإسلام والحركات الإسلامية حتى إنه يقف في الطرف المقابل لجيل كيبل Jill Kippel بل تسمى مجموعته بقبيلة بوغارت وقبيلة كيبيل ويكيد هذا الأخير لبوغارت كيداً عظيماً والمعروف أن الأول يسير في ركاب الحكومات الفرنسية ووقف في صف من أراد منع الحجاب في فرنسا. وجيل كيبل أراد أن يزور المملكة ذات يوم وكنت قد أصبحت محاضراً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فكان اسمي من بين الأسماء التي رغب في مقابلتهم وقد وافق الديوان الملكي على ذات واشترطوا أن لا يكون في لقائي به أية التزامات مادية. وعجيب كان ينبغي أن يهتموا بشيء آخر هو أن لا أقدم له معلومات معينة أو أكون حذراً في لقائه ولكنهم لم يشترطوا شيئاً من ذلك. ولم تتم المقابلة وحدث أن جاء إلى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية فلقيته ولم يهتم بي وكأنه لم يطلب لقائي ذات يوم، وربما لأنه رآني بلحية وأتحدث معتزاً بالإسلام وهذا صنف من الناس لا يحبهم جيل كيبل – وهم لا يحبونه-. وفي أثناء وجودي في بروفانس دارت أحاديث مع بعض الأخوة المغاربة والجزائريين حول الدولة الإسلامية وسمعت كلاماً كثيراً في قضية الملك والخلافة، وكأنهم يريدون أن يحكموا على الخلافة ناسين أن العلماء المسلمين من أمثال الماوردي والجويني وابن خلدون وابن تيمية وغيرهم في القديم وكتب ضياء الدين الريش والمودودي وغيرهما في الحديث في هذه القضية. ولكن المعاصرين الذين يخوضون في هذه القضايا يتهجمون أو ينتقدون عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو الصحابي الجليل مجهز جيش العسرة ومن اشترى بئر رومه وجامع القرآن الكريم، والمبشر بالجنة في أكثر من موضع منها حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم(اثبت أحد فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان) وقال فيه صلى الله عليه وسلم (ما على عثمان ما فعل بعد هذا) ويتطاولون على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه غير مقدرين صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم والفتوحات التي تمت على يديه. ولو كان الأمر يتعلق بأحد زعماء العصر الحاضر لجبنوا وسكتوا وخرسوا . عدت إلى الأرشيف الوطني لما وراء البحار يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة، العشرين من مارس 1984م حيث أمضيت ست ساعات وجمعت ما يقارب المائتين والخمسين صفحة من الوثائق عدا الأوراق التي حصلت عليها سابقاً وقد كانت قليلة لأنني كنت أبحث عمن يساعدني،ولما توكلت على الله واستعنت به وجدتني أستطيع أن أصل إلى الوثائق حيث إن الكلمات الفرنسية التي تدل على الوثائق المطلوبة لم تكن صعبة فمنها على سبيل المثال: تقارير الأمن وتقارير الشرطة والحالة السياسية والاجتماعية في الجزائر. وكان البحث ميسوراً فهم يعطونك العلبة كاملة بل يعطونك أكثر من علبة واحدة في وقت واحد وكنت أطلب ثلاثة علب في وقت واحد وأبحث فيها عن الأوراق التي تهمني ثم أقوم بتصوير ما شئت، بينما عانيت في الأرشيف الوطني الجزائري في قسنطينة تحت إدارة عبد الكريم بجاجة حيث لا يعطونك من العلبة إلاّ ورقة ورقة. بل لم يكن مسموحاً لي أن أبحث حتى أقابل المدير الذي يجري معي استجواباً واستفساراً طويلاً بينما في فرنسا يقوم أقل موظف في الأرشيف بمساعدتك ما دمت تملك الأوراق الثبوتية اللازمة. وكم كان جميلاً أنه كان لدي المال لأصور ما شئت حيث كنت موظفاً في الخطوط السعودية وراتبي جيد، ولما تحولت إلى العمل الجامعي صابتني الفاقة لشح الرواتب وشح المخصصات للبحث العلمي حتى إن ما أعطي لي لمدة شهر للبحث في مدينة برنستون الأمريكية وهي من المدن المرفهة وفي لندن لا يكفي مدة أسبوع، وكان هذا عام 1408هـ (1988م) ولو كنت صاحب واسطة لمنحوني انتداباً بمبالغ طائلة. قاتل الله الجهل والعصبية والعنصرية والتخلف. قابلت بعض العرب في بروفانس وتوقعت أن أدعى إلى عشاء أو غداء في منزل أحدهما فهما مقيمان في هذه البلاد مدة طويلة، ولكنهما فيما يبدو فقدا تلك الخصال العربية من الكرم بينما عندما تحدثت مع فرنسي (مدير معهد الطيران) دعاني إلى منزله لتناول العشاء. لاحظت أن مدينة بروفانس تنتشر فيها مكائن الفليبرز (ربما كانت رائجة في بلاد كثيرة حتى بلادنا لولا أن الأجهزة تدخلت فمنعت الترخيص لها) حتى في الأماكن القريبة من الجامعة. كما لاحظت أنه ليس في المدينة كلاب ضالة ، ولعل الضلال خاص بالبشر هنا. بعد أن مكثت في بروفانس عدة أيام كان من المقرر أن أسافر إلى الجزائر عن طريق باريس بعد أن أمضي ليلة في مدينة نيس (لن أرى منها إلاّ الفندق والمطار) وكان السفر من بروفانس إلى نيس كان بالحافلة التي تمر بمكاتب لتدفع مكوس معينة وهذه من بدع الدول الرأسمالية حيث إن الشركات التي بنت الطريق للحكومة تستغل الطريق سنوات عديدة وربما إلى ما لا نهاية. وفي باريس علمت أن المكتبة الوطنية لها فرع تجاري يبيع الصحف الجزائرية القديمة فقررت شراء تلك الصحف وحين أخبرت أحد الإخوة الجزائريين في إكس سخر مني وقال هل تظن أن الصحف مثل الطماطم تباع في السوق فعجبت له وهو المقيم في فرنسا ما يقارب ثماني سنوات ولا يعرف أن الفرنسيين يبيعون كل ما سرقوه من بلادنا بعد أن يقوموا ببعض البلطجة مثل حذف بعض الأعداد، ولكن ذلك كان أفضل مما وجدت في الجزائر نفسها. واشتريت المجلات التي أردت ونقدتهم الثمن ووصلتني في البريد المسجل خلال أربعة أيام وسبحان من ييسر الأمور حيث لم تتعطل لا في جمارك ولا إعلام كالعادة في المواد الثقافية والفكرية في تلك الأزمان وإلى عهد قريب. أسافر إلى الجزائر لأقضي فيها ثلاثة أيام. وهنا أقول من ظن أن البحث العلمي عملية سهلة فالحقيقة أنه لم يكن كذلك بالنسبة لي كما أن السفر من بلد إلى بلد كان شاقاً مهما كانت التسهيلات ويكفي أن نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح البخاري ومسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: {السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فَليُعجل إلى أهله}
زرت مكتبات كثيرة في حياتي العلمية ولم أجد أسهل من المكتبات في العالم الغربي حيث زرت المكتبة الوطنية في باريس وكان هناك ازدحاماً في المكتبة (مقرها القديم) فانتظرت حتى يفرغ أحد المقاعد، وحالما وجد المقعد نودي علي ودخلت ومعي رقم الكرسي الذي أجلس فيه. وكان الذي أعطاني الرقم وسمح لي بالدخول أحد موظفي الاستقبال، فلم يأمرني بالانتظار ريثما يسأل رئيسه أ ورئيسته في العمل كما هو الحال في المكتبات في العالم العربي. وبدأت البحث وقدمت إلي الخدمة مثل أي باحث آخر وهو أنه من حقي أن أطلب عشرة كتب أو وثائق في اليوم الواحد. وكانت المكتبة مزدحمة حقاً ولكن هادئة حتى إنك لا تسمع سوى كتاباً وضع على طاولة أو صفحة تقلب أو خطوات تسير بهدوء. ويستغرق وصول الوثيقة أو الكتاب أو المجلة ساعة كاملة ولكن من حقك أن تطلب ثلاثة أشياء دفعة واحدة. وجلست ووجدت أمامي رجلاً لا يقل عمره عن السبعين سنة إن لم يكن أكثر وهنا تذكرت شيباً في بلادنا ينشغلون بأمور بعيدة عن العلم والتعلم بينما لا يكاد هذا العجوز يمشي مشية صحيحة ومع ذلك فها هو في المكتبة. وفي الوقت الذي أمتدح هذا العجوز الفرنسي لا أنسى أننا في العالم الإسلامي كان علماؤنا يسعون إلى طلب العلم حتى وإن كان الواحد على فراش الموت. وفيما أنا في باريس سمعت بأخبار عن تعرض السودان لغارة على إذاعة أم درمان، وهنا صدرت أصوات الاستنكار من أنحاء العالم العربي فالحسين يشجب وأمريكا ترسل طائرة أواكس التجسسية ومصر تنشّط معاهدة الدفاع المشترك، وتقول إن حدود السودان هي حدودها وحدودها هي حدود السودان. ومع كل هذا فلم أفهم من الذي أغار ولماذا إذاعة أم درمان؟ لماذا لم يغيروا على قصر السلطان أو على ثكنة عسكرية أو غير ذلك؟ لماذا على الإذاعة والإذاعات العربية لا تزيد نسبة الصدق فيها على العشرة في المائة؟ لقد قيل للشيخ إبراهيم الأخضر لماذا لا تقرأ القرآن ليذاع في الإذاعة فقال إن القرآن تفتتح به الإذاعة حيث لا يجلس أحد للاستماع وكذلك في ختم البرامج (قبل أن توجد إذاعات للقرآن الكريم) ، أما لو جعل ضمن البرامج قبل نشرة الأخبار أو بعدها أو قبل التمثيلية أو بعدها فإني مستعد للقراءة. وذهبت إلى الحي اللاتيني الذي يذكّر بأيام باريس البوهيمية والمركز الثقافي للمدينة حيث يتجمع المثقفون والأدباء وغيرهم. وفي الحي اللاتيني المتاجر الغريبة والكنائس على الطراز القوطي القديم.كما تكثر فيه التماثيل للشعراء والكتّاب حتى إن أحد هذه التماثيل للكاتب مايكال إيقويم دو مونتين (1533-1592) Michel Eyquem de Montaigne ولدى طلاب السوربون خرافة أن من يلمس قدمي الكاتب قبل الامتحان يناله حظ جيد. وقد لفت انتباهي وجود أناس من مختلف الجنسيات والألوان والأعمار، فكنت أتعجب إن وجد العرب وبخاصة من شمال أفريقيا الذين استعمرت فرنسا بلادهم والأفارقة الذين خضعوا للاحتلال الفرنسي فما بال الأسيويين من الصين واليابان والهنود وغيرهم. وقريباً من الحي اللاتيني يوجد على أسوار إحدى الحدائق سوق حراج للأنتيكات وغيرها. ومن الحي اللاتيني كان لا بد من زيارة شارع الشانزلزيه وهو من أجمل شوارع باريس وحتى في العالم لجماله واتساعه حتى قيل إن المهندس الذي صممه قيل له إنه واسع جداً (أكثر من مائة متر) فقال سيأتي زمن يحتاج الناس إلى هذا الاتساع، وهذا يلفت انتباهنا إلى من يخطط الشوارع في عالمنا العربي كيف لا يمتلكون بعد النظرة والرؤية على العكس من تخطيط عمر بن الخطاب رضي الله عنه للكوفة وكيف جعل شوارعها واسعة حتى إن أضيق طريق يزيد على ستة أمتار. ويمتاز الشارع بالمحلات التجارية ذات الأسماء التجارية الفخمة وكذلك المطاعم كما أنه يوجد بالقرب منه حدائق يحدث فيها من الموبقات ما يحدث ولكنها تظل حدائق جميلة للنزهة. وفي هذا الشارع توجد مكاتب شركات الطيران المختلفة ومنها الخطوط السعودية والعراقية (عندما كان العراق عراقاً) والخطوط الإيرانية والإيطالية والفرنسية وغيرها. ورحلت من باريس إلى الجزائر وعند ركوب الطائرة كان هناك تفتيشاً للحقائب اليدوية والذين يعتقدون أن التشدد في التفتيش جديد هم مخطئون فهو قديم، ومررت دون تفتيش. وقد تأخرت الطائرة خمسة دقائق وما أن ركبنا حتى قال قائد الطائرة سوف نقلع بعد دقيقة وهم لا يعرفون إن شاء الله. وهذا يذكرنا أن الطائرة المصرية التي تم تفجيرها وفيها عدد كبير من الضباط المصريين اتهموا قائد الطائرة أو مساعده بقول توكلنا على الله ويزعمون أنها إشارة إلى الانتحار فأصبحت هذه العبارة من العبارات التي يلتزمها كثير من القباطنة في العالم العربي. ها أنا أزور الجزائر وأشعر كأني ذاهب إلى جدة فهناك من أعرف ويعرفني ويسأل عني ويهتم بشؤوني. وما أن حطت الطائرة في أرض المطار حتى أتي بالسلّم وكنت في الصفوف الخلفية فصرت أول من نزل، وجميل أن الجزائريين يساوون بين مواطنيهم والضيوف فلم نتأخر كثيراً في الوصول إلى مكان الحقائب، وكان الاستقبال جيداً من موظفي الجوازات والجمارك ربما لأن الرحلة قادمة من فرنسا وليس من بلد عربي حيث يبالغون في السؤال عن العمل ومكان الإقامة وسبب الزيارة. وقد كان في استقبالي وسيم بن الصديق عبد القادر ربّاني فأوصلاني إلى منزلهم الذي كان مكتظاً بالزوار لأن صديقي كان قد أجرى عملية المرارة ودارت أحاديث عن العروبة والإسلام ولماذا كانت فرنسا تخشى الإسلام والاتجاهات الإسلامية وقد انتقل هذا الخوف إلى الدول العربية والإسلامية عموماً. وكان هذا الحديث عام 1404هـ(1984) وقد ازداد هذا الخوف أضعافاً مضاعفة. وفي إحدى رحلاتي إلى باريس لشراء الصحف والمجلات الجزائرية القديمة كان من المقرر أن نزور فرع المكتبة الوطنية في فراساي وهي إحدى ضواحي باريس ويسير إليها قطار الأنفاق المتجه إلى بالارد Balard رقم 8 وعند محطة إنقالد Invalid أخذنا القطار المتجه إلى فرساي وحصلت من هذه المكتبة على بعض المقالات ولمّا سألت عن إحدى المجلات قالوا إنها في المكتبة الوطنية في باريس التي كان عمالها مضربون عن العمل ولمّا سألت عن إمكانية إرسال الصورة ذكروا أنها تستغرق شهرين أو علي الحضور بعد انتهاء الإضراب في اليوم التالي. وبعد هذه الخواطر وجدت أن لدي دفتر مذكرات آخر تحدثت فيه عن رحلتي إلى الجزائر الأولى 11-16 جمادى الأخرة 1405هـ (2-7مارس 1985 والرحلة الثانية من 25 إلى 28 رمضان 1405هـ (12 إلى 15 يونيه 1985م) وسيكون الحديث عنهما في المقالات التالية إن شاء الله
ذكرت فيما سبق طرفاً من مشقات البحث العلمي من سفر وترحال من بلد إلى بلد وفيما أنا أبحث في دفاتري إذ بي أعثر على عدد من القصص الطريفة التي أرجو أن تكون مسلية لطلاب العلم حين يواجهون ما واجهت وتكون أيضاً عبرة لأستاذ يشرف على طلاب فلا يرهقهم ولا يكلفهم من أمرهم عسراً. تساءلت هل المتسول هو الذي يقف بالباب يطلب اللقمة واللقمتين أو الريال والريالين؟ ليس هذا هو المسكين الذي تجوز عليه الصدقة ولكنه الذي لا يسأل الناس إلحافاً الذي تحسبه غنياً من التعفف. ولكن ثمة طريقة للتسول وإن كنت أراها أقرب إلى النصب والاحتيال والسرقة والاغتصاب وهي ما يفعله بعض المشرفين في بلادنا العربية وربما في أنحاء أخرى من العالم. فلماذا توجد هذه الصفة في الأساتذة؟ وهي ليست في الأساتذة وحدهم، ولكن عيب أن يتصف أستاذ بالنصب والاحتيال والطمع والجشع. وكم صدق الشاعر ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانواودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما ولجدي حامد رحمه الله عبارة رائعة يستنكر أن يكون الإنسان من أهل العلم ويكون في الوقت نفسه ذليل النفس حيث قال (علم وإراقة ماء وجه لا يجتمعان) وكان من مشقات مرحلة الماجستير أنني عشت عدة سنوات أعاني أستاذاً من الصنف الذي لم يصن العلم وإليكم بعض القصص المتفرقة حوله. - كنت أزور الرياض ذات يوم للبحث عن أساتذة التاريخ الحديث لآتيه بأسمائهم ليختار منهم مناقشاً، فما كان إلاّ أن قال لي ما دمت في الرياض فاذهب إلى دارة الملك عبد العزيز فإنهم يوزعون مطبوعات بالمجال وقد أعطوا أحد زملائي وقد كتبت إليهم فلم يردوا. فقلت حاضر ولا بد أن أكون قد ذهبت وأحضرت عدداً من هذه الكتب، أو ربما تشيطنت كما يتشيطن التلاميذ فلم أحضر له شيئاً وصارت من النقاط السوداء في سجلي عنده. - كان قادماً من سفر ذات يوم وكنت سأسافر في اليوم التالي إلى الجزائر، فقال لي لِمَ لا تستقبلني في المطار فأعطيك رسالة لمن يساعدك في بحثك حول الجزائر. فصدّقته وحضرت في الموعد فوجدت عدداً من الطلاب قد سبقوني لاستقباله وإيصاله إلى منزله وقد حللت الأمر بأن بعض الطلاب محبون وبعضهم فعل ذلك انتهازية وفرصوية وزئبقية وابتذالية، أما من ناحية الأستاذ الذي أتى بأربعة طلاب ليستقبلوه فقد كانت في نظري نصب واحتيال وطمع واستغلال ودناءة وحقارة (ومعذرة عن كثرة الأوصاف، فهل كان بحاجة إلى جمهور ليرحب به في المطار وكانت تكفيه سيارة واحدة توصله إلى بيته حتى لا يدفع أجرة التاكسي. وهذا يذكرني أن الرئيس عبد الناصر كان يصل إلى القاهرة من رحلاته على الساعة الثانية بعد الظهر حين يخرج الموظفون من أعمالهم، فيغلقون أبواب الوزارات كلها والإدارات ويتركون باباً واحداً يقف عليه وكيل وزارة يحمل ساندويتشات فيعطي الموظف واحداً ويقول له (مش عايز تقابل الريس) فلا يستطيع أن يقول لا فيضعوه في الشاحنات وليس في حافلات محترمة. ويقاد الشعب كله لاستقبال الرئيس. فهل عاش أستاذنا مثل هذه التجربة؟ وتشرفت باستقبال أستاذي المبجل وطلبت منه أن يقدم لي النصائح والإرشادات في رحلتي إلى الجزائر فما كان منه إلاّ أن أخذ ورقة صغيرة وكتب عليها رسالة إلى عثمان شبوب رئيس تحرير مجلة الثقافة يطلب مكافأته لقاء بعض المقالات التي كتبها للمجلة وطلب مني إحضار الفلوس. فقلت هل هذه هي الإرشادات والتعليمات والتوجيهات؟ فلا حول ولا قوة إلاّ بالله. - ضرب لي ذات مرة موعداً على الساعة الحادية عشرة صباحاً وجئته في الموعد الذي استمر حتى الثانية عشرة والنصف، وفي نهاية اللقاء قال لي أريدك الساعة الثالثة أو الثالثة والنصف عصراً، فقلت له سمعاً وطاعة، فعدت إلى البيت بعد أن قطعت أكثر من عدة كيلومترات ولم أكد أتم الغداء حتى ذهبت إليه في طريق مكة، فوجدته مرتدياً زي الإحرام يريد العمرة. فقلت له يا أستاذي الكريم لو أخبرتني لأحرمت معك ولأخبرت أهلي (لم تكن الهواتف متوفرة إلاّ بواسطة، ولم يكن لدي) فقال لا بأس أوصلني إلى موقف النقل الجماعي ، ولم أكن أعرف مكانه فأخبرني. فأوصلته إلى النقل الجماعي. وعرفت أنه كان ينتظر منّي أن أوصله إلى مكة كسائقه، ولكني رب أسرة ولا يمكنني أن أغيب حتى منتصف الليل دون أن تعلم أسرتي بغيابي. وعرفت منه أنه لو أخبر أحد تلاميذه الأثرياء (لديه سيارة وسائق) لأوصله إلى مكة. فقلت أي عمرة هذه التي تؤديها على حساب الناس وتجعلهم يعملون عبيداً عندك؟ - أراد السفر إلى المدينة المنورة ذات مرة لمقابلة بعض الأشخاص للحصول على معلومات لبحث يقوم به حول الجزائر، فقال رتب لي أمر السفر يوم الأربعاء فقمت بشراء تذكرتين بالدرجة الأولى وقام أحد طلابه بالحجز له في فندق جوار البقيع (الأستاذ لا يدفع عادة) وفي صبيحة يوم السفر اتصل بي على العمل متعللاً بأنه مريض ولا يستطيع السفر وطلب مني أن أقوم بالمقابلات وأحضر له المعلومات. فسافرت إلى المدينة ولم أحضر له المعلومات. وكنت أتوقع أن يعيد إليّ التذكرة ولكنه لم يفعل فهل كانت حيلة ليكسب مني قيمة التذكرة؟ لا أدري. الأستاذ سرق وثائقي عن ترصّد وعمد أحضرت كمية كبيرة من الوثائق من فرنسا والجزائر، فقال الأستاذ نريد أن نضع بعض هذه الوثائق ملاحق للرسالة، فقلت له لا بأس، فقال ائتني بالوثائق حتى أساعدك في ترتيبها. فقمت بتصويرها لأحتفظ بنسخة عندي لو ضاعت أو حدث لها مكروه. وظللت أسأله كلما قابلته هل أتممت أستاذي ترتيب الوثائق، فيقول ليس بعد. وبعد مدة قال يا مازن لقد قمت بإرسال الوثائق مع العفش إلى مصر وأنت تعرف أن هذه سنتي الأخيرة في الجامعة. فقلت له كيف ترسلها يا أستاذي وهي وثائقي التي تعبت لأحصل عليها وتكلفت سفراً ومشقة من أجل ذلك. واضطررت أن أسكت وأن أقوم بترتيب عدد من الوثائق لتكون ملاحق للرسالة وكان هذا مثار انتقاد من المناقش الدكتور أبو القاسم سعد الله. وما كان سكوتي خوفاً منه ولكن حتى أحصل على الدرجة. وغادر البلاد إلى غير رجعة فكتبت إليه أن يعيد إليّ وثائقي فلم يرد فأرسلت التعقيب تلو التعقيب وفي آخر رسالة كتبت له: " عندما كان الحجاز فقيراً معدماً كان أجدادك المصريون ينفقون بسخاء على سكان الحرمين تقرباً إلى الله، ولما أغنى الله الحجاز جئتم أنتم تريدون أن تأخذوا ما قدمه أجدادكم بسخاء نفس وكرم ولكن فعلتكم كانت بأسلوب دنيء. أعد إليّ وثائقي أيها الأستاذ. وبالفعل أعادها ولكن بعد أن كتب إلي يقول أرجو أن لا يخاطبك تلاميذك بمثل هذا الأسلوب. فقلت في نفسي لو فعلت فعلتك فأنا أستحق أسوأ من هذا. - الغضب نار في الجوف. ذهبت إلى الجزائر وقد أتممت كتابة الرسالة لأعرضها على الدكتور أبو القاسم سعد الله للحصول على توجيهاته الأخيرة وقد كنت كتبت الرسالة خمس مرات بالقلم الرصاص الغليظ وكان علي أن أكتب بخط كبير حتى لا يتعب الأستاذ. وعندما رجعت زرته فإذ به يبدأ في التعديلات والإصلاح ومطالبتي بمزيد من البحث. فشعرت بنار في جوفي (لم أكن أعرف أنها نار الغضب وأنها تحرق فعلاً) فقلت له أستاذي لو كتبت الرسالة عشرة مرات لما أصبحت كما تريد، فقال ولن تصبح كلاماً منزّلاً. قلت له نعم ولكن إلى متى وأنت تطلب مني التعديلات والإضافات والإصلاحات؟ وخرجت من عنده وأنا لا أكاد أرى طريقي من شدة الغضب فاتصلت برئيس القسم أشكو له حالي فقال عليك أن تصبر وأستاذك يثني عليك وقريباً تنتهي. فعلمت أن الأستاذ غير السعودي يسهم في ترقية الأساتذة بل ربما يساعدهم في كتابة بحوثهم -كما رأيت بأم عيني- فعرفت لماذا يطلب مني رئيس القسم أن أصبر. وصبرت حتى ناقشت وحضر والدي رحمه الله المناقشة ولذلك حديث آخر
صبغت مرحلة البحث في تاريخ الجزائر تفكيري في مجالات مختلفة، بل كان البحث في الجزائر هو همّي الأول أينما ذهبت. ففي رحلة إلى العاصمة الأمريكية ضمن وفد الخطوط السعودية للتفاوض مع السلطات الأمريكية حول تمديد التصريح للخطوط السعودية بالنقل بين المملكة وأمريكا وبالعكس زرت جامعة جورج تاون لأبحث عن رسالة دكتوراه عن الشيخ عبد الحميد بن باديس أعدها باحث كندي هو أندريه ديرك Andre Dirlik بمعهد الدراسات الإسلامية بجامعة ماقيل McGill عام 1971م، وكنت حريصاً على الحصول عليها فرجعت إلى مجلدات ملخصات الرسائل العلمية في كندا والولايات المتحدة الأمريكية. واطلعت على الكتب حول الجزائر في المكتبة فوجدت أن ما يوجد من كتب حول الجزائر في هذه الجامعة أكثر من الكتب الموجودة في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز، وأعتقد أن الأمر مازال قائماً حتى الآن. وفي هذه الرحلة عرفت عنوان المكتبة الوطنية في كندا وأرسلت إليهم صكاً مصرفيا (شيك) بثمن نسخة الرسالة حتى يرسلوها لي إلى مكتب الخطوط السعودية في نيويورك حيث كان يرأس المكتب زميلي الأستاذ فهد حمّاد حتى يرسلها إليّ حين يتسلمها عن طريق بريد الخطوط السعودية وليس البريد العام الذي كان مرعباً لنا أن نتراسل من خلاله لأن الفكرة أن كل الرسائل تُفتح وأن الكتب أخطر من المخدرات فلا بد أن تتأخر، ومن لسعته الحية يخشى من الحبل. والحقيقة أن مكتبات جامعاتنا ما تزال ضعيفة ولأضرب لذلك مثلاً فإن أحد الطلاب يريد أن يبحث في التنصير فبحث عن كتاب لعبد الملك التميمي هو في الأصل رسالة دكتوراه قامت بنشرها دار كاظمة في الكويت وعنوان الرسالة (التبشير في منطقة الخليج العربي: دراسة في التاريخ الاجتماعي والسياسي) وصدرت طبعتها الثانية عن دار الشباب بقبرص ومؤسسة الكميل في الكويت عام 1988م. فلم يجده في جامعته فلمّا اتصل بي فقمت بتصوير الكتاب كاملاً وسلمته لأحد أقاربه (لم يتصل بي لتأكيد تسلمه الكتاب على الرغم من إلحاحه على تصوير الكتاب، وبالتالي لم يشكرني، ونسي أنه من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) وأعود إلى مشاركتي في المفاوضات مع السلطات الأمريكية فإني وإن كنت عضو الفريق المفاوض عن الخطوط السعودية، ولكن كان المتوقع مني أن أكون صامتاً في المحادثات وأن رئيس الوفد وبعض الأعضاء الكبار هم الذين يتكلمون، وربما تكون مهمتي الوحيدة المشاركة في إعداد محضر الاجتماع (سكرتير محترم) وقد أنهى "الكبار" المفاوضات ذات مرة في تركيا، وبقيت خلفهم لأساهم في كتابة المحضر أي مجريات ما تم نقاشه. وكنت أصوّر نفسي حامل الحقيبة أو التابع غير الكريم. واحمد الله عز وجل أن يسّر لي التمرد على العمل في الخطوط والانتقال إلى الجامعة التي عشت دهراً مضطهداً من بعض الأساتذة الذين يرون المعيد والمحاضر أو طالب الدراسات العليا مجرد خادم مطيع لأساتذته حتى إن أحدهم قال ذات يوم (ألا تريد أن توصل أستاذك إلى المحاضرة؟) (وهل كنت سائقاً عنده؟) وفي حالات كثيرة يطلب منك أن تفعل ما يفعله الخدم؟ ولكن مع الصبر أصبحت أستاذاً أحاضر وأبحث وأحضر المؤتمرات حتى كانت الفرصة منذ وقت مبكر أن ألقي كلمة الضيوف منذ عام 1409هـ (1989م) في الجزائر إلى مؤتمر جامعة الإسراء حيث قدمت ورقة علمية مرتجلاً دون الرجوع إلى بطاقات أو غيرها. حتى إن الدكتور عصام ماشة مستشار سابق للملك حسين وأستاذ بقسم اللغة الإنجليزية في الجامعة قال أتصور فيك مجدداً مثل محمد عبده أو الأفغاني وغيرهما. وتشرفت بإلقاء محاضرة افتتاحية بجامعة ماليزيا الوطنية UPM حول التهديدات التي تواجهها اللغة العربية في القديم والحديث. وكان آخر تكريم أن قدمت محاضرتي في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الذي عقد في تلمسان بجامعة أبي بكر بلقايد بمناسبة اختيار تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 1432هـ (2011م) وكان ذلك في 25 ربيع الآخر 1432هـ (30 مارس 2011م). عشت مع الجزائريين وهم في حركة تحرر حقيقية من الاحتلال الفرنسي فكان يعجبني القول القوي المحارب للظلم والاستبداد حتى في قراءاتي العادية. وفيما يأتي بعض هذه المقتطفات: كان الشيخ عمر التلمساني ينشر مقالات في صحيفة "الشرق الأوسط" بعنوان (ذكريات لا مذكرات) وكنت أقرأ في أثناء تلك الأيام كتاباً بعنوان (شرعية السلطة في العالم العربي) لأحمد بهاء الدين الكاتب اليساري المصري الذي تولى رئاسة تحرير مجلة العربي المصرية بعد العالم المشهور الدكتور أحمد زكي. كما كنت أقرأ كتاب (أدب النضال في الجزائر 1945-1962م) وكذلك بعض كتابات خالد محمد خالد حول الحكم والاستبداد وغير ذلك فجاءت مقالات التلمساني رحمه الله كأنها إجابة عن بعض تساؤلاتي حيث كتب يقول: ليست العلة في الظالم بل العلة في المظلوم الذي يقبل الظلم، فالظالم يستعين ببعض المظلومين على بعض، ثم يتخلص من هؤلاء الذين ساعدوه ليثبت أنه هو المسيطر دائماً، ثم ينادي التلمساني الحكام أن لا يقسو على شعوبهم أي يقيموا علاقة طيبة رحيمة مع شعوبهم، كما أشار إلى أن المسلمين لم يكونوا أبداً في حالة أسوأ من الحالة التي هم عليها الآن، وليست المشكلة في الدين الإسلامي وإنما هي في المسلمين أنفسهم. عندما رأيت بعض الأساتذة يكسبون حراماً حتى قال لي الشيخ إبراهيم سرسيق يا مازن ادفع وخذ الدرجة فعندنا في مصر لا بد أن تدفع في كل جلسة إشراف مع المشرف وقد تصل أن تقدم ثلاجة وغسالة وفرن وغير ذلك. فقد أزعجني حرص البعض على الحرام حتى وجدت قولاً أثّر فيّ وهو : إذا أراد اله بامرئ سوءاً رزقه حراماً ، وإذا أراد له مزيداً من الابتلاء بارك له في الحرام حتى ظن أن ذلك رضاً من الله. أمريكا من الداخل: رؤية سيد قطب رحمه الله، كتاب أعدّه صلاح الخالدي قال فيه إن سيد قطب سافر إلى أمريكا عام 1948 في شهر أغسطس، وعاد بعد سنتين ولم يذكر المؤلف عُمر سيد عندما سافر ولكني أتوقع أنه لم يقل عن الثلاثين فهو بالتالي قد تجاوز سنوات التكوين فقد ذهب وهو يحمل مبادئ معينة أو قل المبادئ الإسلامية النقية . وقال المؤلف إنهم أرادوا لسيد قطب أن يتأمرك فعاد شوكة في حلوقهم بدل أن يكون شوكة في ظهر أمته. وأما نحن الذين ابتعثنا بعد الثامنة عشرة من العمر فلم يكونوا بحاجة لتخريبنا لأنها سن قابلة للخراب ولكن لم يكن هناك من يريد صلاحنا.
ما دامت زياراتي قد تعددت للجزائر فإنها حفلت بلحظات جميلة رائعة كما حفلت بلحظات صعبة، وسأبدأ باللحظات الجميلة، فقد خرجت من الفندق متوجهاً إلى مديرية الوثائق في قسنطينة وسألت أحدهم في الطريق ، فقال أنا أوصلك إلى المكان ، وهناك نسأل واستفسرنا فقيل إن اسمها ليزآرشيفز Les Archives فعرفنا المكان وكان الوقت باكراً فالساعة لم تصل الثامنة والنصف صباحاً، فذهبنا لنشرف فنجاناً من القهوة، وعندما أردت أن أدفع قال لي ما يصحش،(لا يصح) قلت له: نعم لا يصح، فقلت له ولكنك خدمتني كفاية ، قال نحن إخوة ، وعرفت منه أنه لا عمل له وقد كان في جيش التحرير سبع سنوات، ويقال لا بد لنا من حرب تحرير أخرى لنقضي على الفساد والفرنسة. فعندما وجدت هذا التعامل الجميل تذكرت أن على الإنسان أن يفعل الخير كما قال الشاعر (من يفعل الخيـر لا يعـدم جوازيـهُ لا يذهبُ العرفُ بين الله والناس) كما قال الشاعر زهير بن أبي سلمى : ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يُستغنَ عنه ويُذمَم فحمدت الله عز وجل أنني كنت أؤمن بتقديم ما أستطيع فوجدت أنني ألقى خيراً مما قدمت والحمد لله. والطريف أن المجاهد قال إنهم بحاجة إلى سبع سنوات تحرير جديدة لمحاربة الفساد بينما اللوحات المضاءة ليلا تقول عكس ذلك أو تبرئ الجبهة من أي فساد وفيما يأتي بعض هذه اللوحات: · حزب جبهة التحرير يؤكد على نزاهة وكفاءة والتزام مناضليه . · الثورة الاشتراكية صنعها المناضلون الاشتراكيون. · جبهة التحرير الوطني هي القوة المسيرة للمجتمع، المنظمات الجماهيرية امتداد طبيعي للحزب · التضامن العربي الإفريقي يدعم كفاح شعوب العالم الثالث. · مساندة فعّالة لحركات التحرر في العالم. ولا بد أن أذكر أنني لقيت خدمات جلّى من زملائي في الخطوط السعودية في فرعها في الجزائر حيث مساعدتي في العثور على حجز في أحد الفنادق الجيدة بالتخفيض الذي يعطى حول العالم لموظفي الطيران، أو تمديد الحجز لدى أحد الفنادق، وتسيير حجزي للعودة وكذلك مساعدتي في حمل أثقالي من الكتب والمجلات فعلى الرغم من أنني حملت كثيراً من الكتب فلم أدفع غرامة الوزن الزائد. ومن الجوانب الإيجابية أنني أدين لكثير من الجزائريين بتزويدي بعدد هائل من الكتب والمجلات والقصاصات ولم يبخلوا علي مطلقاً بمساعدة. كما وجدت لديهم الدعم المعنوي والتشجيع ومن التشجيع ما قاله لي الدكتور أبو القاسم سعد الله ذات مرة :" لقد جمعت من المادة العلمية ما يكفي لأكثر من ماجستير ولا يستطيع غيرك في نفس المدة التي قضيتها في الجزائر أن يجمع ما جمعت." حتى إن أحد أصدقاء أخي عبد الكريم وهو الدكتور أسامة محمد مشعل عندما نظر في الرسالة –وهو أستاذ جامعي- قال لو كانت جامعاتنا تسمح بمنح الدكتوراه لباحث الماجستير لتميز بحثه لكانت رسالة جمعية العلماء تستحق درجة الدكتوراه. وبرر ذلك أن رسالة الماجستير لا يتطلب في إعدادها الرجوع إلى الوثائق أو المصادر الأصلية بكثافة، ولا تحتاج إلى مقابلات شخصية وتاريخ شفوي، وهذه الرسالة تجاوزت كثيراً ما هو مطلوب. وهذا قيل أيضاً عن رسالة صالح بوياصير رحمه الله بعنوان (جهاد شعب فلسطين في خمسين عام). وبالمناسبة فإن زميلاً لي من جامعة الإمام كان يعد رسالة ماجستير عن الجمعية من الناحية الدعوية وقد زار الجزائر وحصل على معلومات غزيرة لم يبخل بتزويدي بما أحتاجه منها، ولكن عملي في الخطوط السعودية وعدم وجود القيود العلمية في الجامعات حيث كنت أحصل على الإجازات المستحقة في عملي وما يوفره لي راتبي من بحبوحة في العيش لم يكن –وربما حتى الآن- يحلم بها موظفو الجامعات وفرا لي الفرصة لزيارة الجزائر عدة مرات بالإضافة إلى معرفتي باللغة الإنجليزية وحصولي على مراجع لم يكن ممكناً لزميلي الدكتور إسحق السعدي الحصول عليها. ومن اللحظات الجميلة في زياراتي للجزائر والتي أحتاج أن أعود إليها مرة أخرى وهي زيارة الأماكن الأثرية في الجزائر العاصمة كمسجد كتشاوة التي حولته فرنسا إلى كنيسة ثم عاد مسجداً بعد عودة الاستقلال، وكذلك القصبة في العاصمة والمناطق الأثرية الأخرى، كما أن الجزائر تمتاز بطبيعتها الخلابة من جبال خضراء وأنهار وبحيرات وغابات وسواحل رائعة. وفي قسنطينة توجد الجسور البديعة المعلقة التي تربط الجبال مثل جسر سيدي مسيد وجسر سيدي راشد أعلى جسر معلق في العالم كما تقول بعض المواقع في الإنترنت وقد مشيت فوقه وهو مخيف. كما يوجد في الجزائر كثير من المناطق الأثرية من العهد الروماني. وقد ذكر لي وزير السياحة السابق في سوريا الدكتور أحمد الحلواني أن مدينة عنابة فيها شواطئ بديعة تلتصق الجبال الخضراء بالشواطئ الرائعة التي كان الرئيس هواري بومدين يهرب إليها حين كان يريد أن يستجم أو يبتعد عن ضغوط الحياة. ومن أجمل ما يمكن أن يحمله الزائر من الجزائر التمور ذات الطعم اللذيذ وعلى الرغم من أنني أنتمي للمدينة المنورة ذات التمور المميزة لكن لا بد من الإشادة بدقلة نور وبخاصة التمور التي تنتج في مدينة طولقة، إحدى دوائر ولاية بسكرة، هي واحة كبيرة مترامية الأطراف، ذات نخيلكثير، تقع جنوب الجزائر، حيث تبعد عن الجزائر العاصمة مسافة 363كلم وعن مدينة بسكرةمقر الولاية 37 كلم، شهيرة بجودة تمورها. وقد لفت انتباهي أن الحكومة الجزائرية بنت عدداً كبيراً مما يسمونه المركبات السياحية حيث تقدم للجمهور فرصة التنزه بأسعار معقولة حيث إن هذه المركبات بنيت من قبل الحكومة ولم تترك للاستغلال الرأسمالي الجشع. أما من منغصات السفر إلى الجزائر في تلك الأيام فهو قلة الفنادق الجيدة فما زلت أذكر فندقاً في قلب العاصمة وله اسم أجنبي وأرجو أن يكون قد تغير الآن وهو فندق ألبير الأول وينطقه الجزائريون بالاسم الفرنسي Albert Premiere فقد كانت تنقطع المياه فيه من الساعة الثالثة عصراً حتى الحادية عشرة ليلاً. وكان عمال التنظيف في الفندق يملؤون حوض الاستحمام بالماء للاستخدامات المختلفة، ولكنهم قد لا يفعلون أحياناً. ففي أحد الأيام عدت إلى الفندق بعد يوم طويل من التنقل بين أرجاء العاصمة وصلت الفندق على الساعة التاسعة مساءً فلم أجد قطرة ماء للاستحمام مما جعلني أنام على الحال التي كنت عليها. وعندما استيقظت قريباً من منتصف الليل وجدت أنه ليس في الفندق أي ماء حار فلا بد من الاستحمام بالماء البارد وقد كنّا في أشهر الخريف. وكان من متاعب السفر في الجزائر الاضطرار إلى صعود عدد لا نهاية له من الدرج أو كما يقول المصريون سلالم، فأحد المواعيد كان في الطابق الخامس وبدون مصعد كان علي أن أصعد مائة درجة إن كان بين كل طابق وطابق عشرون درجة. إما الصعود إلى المكتبة المركزية في قصر الحكومة فيتطلب صعود مائة وسبع درجات والمسافة من الفندق إلى ما قبل قصر الحكومة أكثر من تسعين درجة ثم هناك دروج هنا وهناك.
فتحت أحد دفاتري التي أدون فيها بعض تفاصيل رحلاتي وسفري ومؤتمراتي فوجدت بعض الأبيات الشعرية دون أن أشير إلى الشاعر فاستشرت العم جوجل فأعطاني المعلومة وهي أن الأبيات للعلامة إقبال رحمه الله فها هي أبدأ بها قبل أن أكمل الحديث عن المكالمة الهاتفية
والطير صادحةُ .. على أفنانها .. تبكي الربى بأنينها المتجددِ
قد طال تسهيدي .. وطال نشيدها ومدامعي كالطل في الغصن الندي
قيثارتي .. مُلئت .. بأنات الجوى لا بد للمكبوت من فيضانِ
بعد منتصف الليل تلقيت مكالمة هاتفية من المجلس الشعبي البلدي يدعونني أن أشارك في الندوة الدولية حول أثر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الحياة السياسية والثقافية في الجزائر. وسبب تأخر المكالمة الفرق في التوقيت بين الجزائر التي يمكن أن تكون أحياناً وفقاً لتوقيت جرينتش أي يكون الفرق ثلاث ساعات. ومن العادة أن يخشى الإنسان في عالمنا العربي طارق الليل إلاّ طارقاً يطرق بخير. ولكن الخوف هو الأغلب وليس طارق الليل ولكن صار عندنا طارق ما قبل الفجر. اخترت موضوع (العلماء المسلمون الجزائريون: مواقف سياسية مؤثرة) وقدمته لزميلي الدكتور أحمد الخرّاط لمراجعته فكان مما كتبه تعليقاً:" حار اللهجة، ويصلح لمجلة جماهيرية وليس لمجلة علمية" ومع احترامي الشديد لرأي الدكتور الخراط وهل لا يصلح في المجلة العلمية اللهجة الحارة أو حتى الحادة أو العنيفة؟ ومرة أخرى لم تصل التذكرة كما وعدوا فاشتريت تذكرة من الخطوط السعودية على حسابي ، وسافرت إلى الجزائر ونسيت الآن كيف انتقلت إلى قسنطينة فربما كان بالطائرة. لكن قدمت ورقتي في المؤتمر وفي ختام المؤتمر طلب منّي أن ألقي كلمة الضيوف. فحمدت الله عز وجل وقلت إنني لست من أرباب هذا المقام ولكن أشكركم على اختياري فلا أعرف تنميق الكلام والخطابة،ثم أشدت بالملتقى وموضوعه وما قيل فيه. ودعي المشاركون إلى مكتب رئيس المجلس الشعبي البلدي المضيف وكان رأيي أنه كان الأولى به أن يلتقي بنا في الفندق أو مقر إقامتنا. فطلب مني أن أقول كلمة كما طلب مني أن أتحدث للتلفزة الجزائرية لمحطة قسنطينة وتحدثت قليلاً وكانت أول مرة أقف أمام الكاميرات أو الأنوار الساطعة. وبعد هذا أجرى شابان من صحيفة الشعب لقاءً معي. ونظراً لطرافة الموضوع الذي قدمته فأحب أن اثبت هنا بعض العبارات التي وردت في المقدمة ومن الطريف أنني قدمته إلى مجلة جامعة الإمام دون أن أدرك أنه من المستحيل نشر مثل هذا الكلام وإليكموه: ولما ابتعد العلماء عن الساحة أصبحت القيادة في يد مجموعة من الزعماء العلمانيين الذين صاغهم الاستعمار والغزو الفكري الذين أخذوا يطالبون بحقوق الجماهير، ويطالبون أن تكون الأمة مصدر السلطات، وأن يكون للحاكم حدود يلتزم بها ولا يتجاوزها.([1]) وحين أصبحت القيادة في يد هؤلاء فإن من حقنا أن ندعو العلماء للعودة إلى القيادة بعد أن يستعدوا لها و يبغونها لوجه الله لا لمطمع دنيوي أو مصلحة شخصية. وسيكون الحديث في هذا البحث عن ثلاثة علماء هم : الشيخ عبد الحميد بن باديس ([2])، والشيخ البشير الإبراهيمي ([3]) والشيخ الطيب العقبي. ([4]) نذكر بعضاً من مواقفهم العلمية والقولية مما يساعدنا على فهم موقف العلماء في الكفاح ضد الاحتلال الفرنسي ومن العمل السياسي بعامة. لئن ابتعد العلماء المسلمين من ذوي الاختصاص في العلوم الشرعية عن السياسة في القرن الأخير ، فإن لنا في ماضي هذه الأمة ما يؤكد لنا ممارستهم للسياسة بكل ما تعنيه هذه الكلمة. ألم يكن الإمام السنوسي رحمه الله يعمل مع تلاميذه - ولا أبالغ إن قلت النخبة من شعبه - يوماً في مزارع الزاوية وفي يوم ثان يتعلمون صناعة من الصناعات ، وفي يوم ثالث يتدربون على الفروسية والقتال ([5]). ألَم يؤسس الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله جمعية التربية والتعليم بقسنطينة ويلحق بها مصنعاً للنسيج ، ويثبت في نظامها الأساسي تعليم الصنائع وإرسال بعض أبنائها إلى المعامل الكبرى للتعلم والتدريب .([6]) وقد يبدو للبعض أن العلماء قد ابتعدوا عن السياسة والعمل فيها لأن السياسة قد أضحى لها مفهوم عجيب، لأننا أخذنا هذا المفهوم من اللغات الأوروبية التي تربط السياسة بالخداع والغش والكذب والمناورة. وننقل هنا ما استشهد به أحمد لطفي من كلام أحد المفكرين الغربيين:" إن أدب السياسة الدولية هو أدب القرصان، أدب الخداع...فأين أدب السياسة والسياسيين ،وإلى أي شيء مرده ، إلى محكمة الضمير وقد جرى العرف على أن السياسة لا ضمير لها.([7]) ولنلتفت الآن إلى تعريف لفظ السياسة في اللغة العربية فهي تدل على الرعاية والاهتمام والمداراة .وقد جاء في لسان العرب أن كلمة سياسة معناها القيام على الشيء بما يصلحه([8]). وقد عرفها المقريزي في خططه أنها " القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال." ([9])وقال أبو البقاء :" السياسة استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل."([10]). وأما زعمهم أن السياسة هي فن الغش والكذب فليس في حياة المسلم أي مكان لذلك حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالصدق وحث عليه و حذّر من الكذب في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم ( وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا)([11]). وقد أصبحت السياسة في عصرنا علماً مستقلاً له مناهجه وبحوثها المختلفة ، وتطورت المفاهيم وتعقدت حتى إن تعرف السياسة أصبح هو الآخر يعكس هذا التطور والتعقيد، وفي ذلك يقول أحد الباحثين إنّ السياسة أو مفهوم السياسي بأنه: "مجموعة العلاقات التي تتناول الحكم والسلطة."([12]) ويعرض هذا الباحث لأقوال العلماء الغربيين من أرسطو وماكس فيبر وغيرهما ويضيف قائلاً:" إن السياسة إنما تتعلق أساساً بالأفكار و المبادئ اللتين تكونان الجسم (العقدي) الذي يصنع القرارات في داخل الجماعة ، وبما يتضمنه من مؤسسات سياسية رسمية وغير رسمية والتي يناط بها ممارسة المسؤوليات العامة."([13])
[2] - عبد الحميد بن باديس هو عبد الحميد بن محمد بن المصطفى بن مكي بن باديس ،ولد بقسنطينة في 11 ربيع الثاني 1307 الموافق 4 ديسمبر 1889، من عائلة عريقة في الحسب والنسب ،تلقى تعليمه الأولي في قسنطينة على أيدي الشيخ محمد الماداسي حيث حفظ القرآن الكريم .وتلقى اللغة العربية والفقه على الشيخ حمدان الونيس .ثم توجه إلى الزيتونة وهو في الثالثة عشرة من عمره حتى نال شهادة التطويع.عاد إلى الجزائر وبدأ التدريس في الجامع الكبير ثم الجامع الأخضر ومسجد سيدي قموش .شارك في الكتابة بجريدة النجاح ثم لمّا وجدها لا تتحمل نشر فكره أنشأ جريدة المنتقد عام1925 .انتخب رئيساً لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين عند تأسيسها سنة 1349هـ(1931م) وظل رئيساً لها حتى وفته في 9 ربيع الأول 1359هـ الموافق 16 أبريل 1940 م.
[3] - الشيخ البشير الإبراهيمي ولد في أولاد سيدي إبراهيم شرق الجزائر عام 1889م (1307) تلقى تعليمه في بلده على يد والده وعمه ،ثم هاجر مع والديه إلى المدينة المنورة عام 1329هـ(1911م) وفي المدينة المنورة أكمل تعليمه . غادر المدينة المنورة إلى سوريا عام 1334(1916) حيث ازداد علما ،كما بدأ في إلقاء الدروس العلمية في الجامع الأموي .عاد إلى الجزائر عام 1920م،وبدأ حركته العلمية .عندما تأسست جمعية العلماء كان نائبها في الغرب الجزائري ومقره تلمسان .تولى رئاسة الجمعية بعد وفاة ابن باديس وظل رئيساً لها حتى انضمت إلى جبهة التحرير الوطني ، وكان ممثل الجبهة في المشرق ، وعاد إلى الجزائر بعد استعادة الاستقلال ،توفي عام 1386هـ) 1966م)
[4] - الطيب العقبي :هو الطيب بن محمد بن إبراهيم العقبي ولد في بلدة سيدي عقبة في شوال 1307( 1890) هاجر مع أسرته إلى المدينة المنورة وهو ابن خمس أو ست سنوات ،تلقى تعليمه في الحرم النبوي الشريف حتى أصبح معلّماً فيه .نفاه الأتراك لاتهامه بتأييد القومية العربية ،عينه الشريف حسين بعد عودته من المنفى محرراً في جريدة القبلة .عاد إلى الجزائر عام 1327هـ(1920) ليعمل في مجال الإصلاح سواءً بالخطابة أو الكتابة .أسس جريدة صدى الصحراء وجريدة الإصلاح ، وكان من الأعضاء المؤسسين لجمعية العلماء المسلمين واختير ليكون ممثلها في العاصمة.
[5] -لوثروب ستودارد. حاضر العالم الإسلامي .ترجمة عجاج نويهض .م 2 ،ص 163-164.
[6] -عمار الطالبي ، ابن باديس حياته وآثاره ، م1 ص 114.
[7] -أحمد لطفي السيد .قصة حياتي ،ص 200 نقلاً عن ألدوس هسكلي ، وللتوسع في هذه النقطة انظر مكيافيللي .الأمير والمطارحات السياسية وغيرها.
[8] -ابن منظور الإفريقي .لسان العرب .م6 ص108 مادة سوس.
[10] - أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوى .الكليات :معجم في المصطلحات والفروق اللغوية. نقلاً عن سعدي أبو حبيب .دراسة في منهاج الإسلام السياسي .(بيروت:1406-1985)ص 440.