مقصود (محور) سورة يوسف دراسة مقارنة (الجزء الأول)

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

مقصود(محور) سورة يوسف

وفيه تسعة مباحث:
المبحث الأول: الجو الذي نزلت فيه السورة.
المبحث الثاني: سبب تسمية السورة.
المبحث الثالث: مقصود سورة يوسف، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مقصود سورة يوسف بإيجاز، المطلب الثاني: شرح مقصود سورة يوسف وتلخيص مواضيعها، المطلب الثالث: أحسن أقوال العلماء في مقصود السورة.
المبحث الرابع: وفيه مطلبان: دلالة بداية السورة، وخاتمتها على مقصودها.
المبحث الخامس: دلالة الألفاظ والتراكيب التي انفردت بها السورة، والتي كثر دورها في السورة على مقصودها.
المبحث السادس: العلاقة بين سورة يوسف وسورة هود يشير لمقصود السورة.
المبحث السابع: سر إفراد سورة يوسف في سورة، وعدم توزيعها وتكرارها كبقية قصص الأنبياء؟
المبحث الثامن: أقوال المفسرين في مقصود السورة، وهي منقسمة إلى سبعة أقوال.
المبحث التاسع: مناقشة الأقوال والترجيح بينها.
*******
  1. المبحث الأول: الجو الذي نزلت فيه السورة.
هذه السورة هي إحدى السور التي تحدثت عن قصص الأنبياء، وهي مكية كلها على الراجح[1] ،نزلت بعد سورة " هود " ، وترتيبها [2] ـ حسب ترتيب المصحف ـ الثانيةَ عشرةَ، وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية ، عليها طابع الفترة الحرجة الموحشة، فقد نزلت في أواخر العهد المكي في أشق الفترات في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند احتدام الصراع واشتداد المواجهة بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقاربه وعشيرته من كفار قريش ، مثل: عمه أبي لهب، والنضر بن الحارث، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حيث توالت الشدائد والنكبات عليه وعلى المؤمنين، ووصل الأمر إلى حد تدبير قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ، أو إخراجه ،أو سجنه، في الوقت الذي كان رسول اللّـه - صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من المؤمنين يعانون من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش من آلهم وأقربائهم.
في تلك الفترة الحرجة العصيبة من حياة الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فقد نصيرَيهِ: زوجِه الطاهرِ الحنون " خديجة "، وعمِّه " أبي طالب " الذي كان له خير نصير، وخير معين، وبوفاتهما اشتد الأذى والبلاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
قص الله تعالى على نبيه الكريم قصة أخ له كريم - يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات اللّه وسلامه أجمعين الذي عانى صنوفًا من المحن والابتلاءات: محنة كيد الإخوة، ومحنة الجب والخوف والترويع فيه، ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله، ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز، ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلِّها ،هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف - عليه السلام - وزاول دعوته إلى الإسلام في خلالها ، وخرج منها كلِّها متجردًا خالصًا ،آخر توجهاته ، وآخر اهتماماته ، في لحظة الانتصار على المحن جميعًا، وفي لحظة لقاء أبويه ولَـمِّ شملِه، وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها، آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه ، منخلعًا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }[الآيات101،100].
وهكذا كانت طِلبتُه الأخيرةُ، بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمِّ الشمل ـ أن يتوفاه ربه مسلمًا، وأن يلحقه بالصالحين، وذلك بعد الابتلاء والمحنة، والصبر الطويل والانتصار الكبير.
في هذه الفترة بالذات نزلت السورة بما تحويه؛ تسليةً وتسريةً وتطمينًا وتثبيتًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللمطاردين المغتربين الموحَشِين! تقول: لا تحزن يا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تتفجع لتكذيب قومك ، وإيذائهم لك ؛ فإن بعد الشدة فَرَجاً لا محالة ، وإن بعد الضيق مخرجًا مهما اشتدت المصاعب، انظر إلى أخيك يوسف ـ عليه السلام ـ وتمعن بما حدث له من صنوف البلايا والمِحَن ، وألوان الشدائد والنكبات ، وما ناله من ضروب المِحَن فاصبر على ما نالك في الله تعالى، فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون، كما كنتُ قادرًا على تغيير ما لقي يوسف ـ عليه السلام ـ من إخوته ، ولم يكن تَرْكِي ذلك لهوان يوسف ـ عليه السلام ـ عليّ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته، فكذلك تَرْكِي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم، ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم، وإذعانهم لك، كما صار أمر إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ إلى الإذعان ليوسف ـ عليه السلام ـ بالسؤدد عليهم، وعلوِّ يوسف ـ عليه السلام ـ عليهم.
فكما فعلت من تمكيني ليوسف ـ عليه السلام ـ بعد ما لقي من إخوته ما لقي، وقاسى من البلاء ما قاسى، فمكنته في الأرض، ووطَّأتُ له في البلاد، فكذلك أفعل بك فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض، وأوتيك الحكم والعلم؛ لأنّ ذلك جزائي أهلَ الإحسان في أمري ونهيي، فكان نزول سورة يوسف ـ عليه السلام ـ في هذه الفترة، من أعظم المسليات التي واسى الله- تعالى- بها نبيه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذلك قال عطاء رحمه الله: "لا يسمع سورةَ يوسفَ محزونٌ الا استراح إليها".[3]
وإذا قارنا بين القصتين نجد مشابهة تامة، فقصةُ يوسف ـ عليه السلام ـ مع إخوته، وسيرتُه من أشبه القصص والسِّيَر بقصة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع قبيلته قريش:
  1. فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن آمن به كانوا يواجهون مثلَ ما أصاب سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ من الأجواء القاتمة والمشكلات التي لا تثير أملًا، ولا يُرَى فيها وميضٌ من النور: قلةِ عَدد، وضعفِ شأن، وفقدِ أسباب، وخِذلان من العشيرة، ومحاربةٍ شديدةٍ من القوم، وتآمرٍ على القتل.
  2. حسد ومحاربة في البداية، واعترافٌ وإجلالٌ وتقديرٌ وإعلانُ ندَمِ أعداءِ كلِّ واحدٍ منهما في النهاية. وإبعادٌ وإقصاء ونكران وجفاء في الأول، وخضوع والتجاء واستعطاف واستجداء في الآخِر، {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [الآية: 91] والجواب الرفيق الكريم من كلا النبيين الرفيقين الكريمين: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الآية:92]،" يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء".[4]
  3. غيابة الجب في محنة يوسف ـ عليه السلام، وغار ثور في رحلة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم.
  4. سجن في قصة يوسف عليه السلام، وشعب أبي طالب في قصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
المشابهة بين واقع النبِيَين، بالإخراج من الديار إلى حيث يكون النصر والتمكين والفرج مهما بدا أنَّ الخروجَ كان إكراهًا تحت التهديد! فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخرج من مكة إلى المدينة المنورة كما أخرج سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ من حضن أبيه ؛ ليواجه هذه الابتلاءات كلها، ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين في المكان الذي أخرج إليه :{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }[الآية:21] لقد كان هذا تعليق القرآن على قصة يوسف من القرآن الكريم، وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز حتى وهو ما يزال فتى يباع بيع الرقيق !
وتتضح المشابهة بين القصتين من خلال بدئ القرآن الكريم هذه القصة العظيمة بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} وختمها بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الآية:111]،
نزلت هذه السورة في جو مكة الثقيل المظلم؛ لتبشر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمستقبله العظيم المشرق الزاهر، فكأنَّ قصةَ يوسف ـ عليه السلام ـ قصتُه، والبغي على يوسفَ ـ عليه السلام ـ من إخوته هو بعينه البغْي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قومه، فقص الله تعالى قصته ليأتسي به.
وإذا نظرنا إلى التعقيب على القصة عرفنا الجو الذي نزلت فيه السورة والهدف منها ومحورها :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[الآيات،11،110]، فنَصْره سبحانه ينزله على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى :{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب}[البقرة: 214]، و سنته ـ سبحانه ـ جرت بأنه يطيل الامتحان ، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار ، حثاً للأتباع على الصبر وزجرًا للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء، فهذه الآيات في خاتمة السورة تصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل، ومنهم سيدنا محمد ويوسف ،عليهما الصلاة والسلام ، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله تعالى ، وتمضي فيها سُنَّته التي لا تتخلف ولا تحيد .
"إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود ، وتمر الأيام ، وتكر السنون والباطل في قوتِه ، وكثرةِ أهلِه ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة ، إنها ساعات حرجة ، والكفر يطغى ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض...أترى نفوسُهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا ؟ وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر.. في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، عليهم السلام، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملًا حاسمًا فاصلًا "([5])،" تلك سنة الله في الدعوات لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس.
إنه الإيحاء بمجرى سنة اللّه عند ما يستيئس الرسل - كما استيأس يوسف في محنته الطويلة - والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب! الإيحاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة، وهي في مثل هذه الفترة تعيش، وفي جوها تتنفس، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح. من بعيد". ([6]) ([7])

  1. المبحث الثاني: مقصود(محور) سورة يوسف، وفيه ثلاثة مطالب:
  1. المطلب الأول: مقصود (محور) سورة يوسف بإيجاز.
مقصودها:
  • إثباتُ أنَّ القرآنَ وحي هادٍ، من الله تعالى؛ دعوةً له وردًا على من جحده، وأشرك، وكذب بأن الله علمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم.
  • بيانُ حسنِ عاقبةِ المؤمنين المحسنين بنصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، وإيتائِهم العلمَ، وولايةِ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره عليم بكل شيء؛ تثبيتًا وتسليةً للرسول والمؤمنين ".
  1. المطلب الثاني: شرح مقصود سورة يوسف:
مقصود (محور) سورة يوسف الذي تدور حوله القصة:
  • هو الإثبات والتدليل على أنَّ القرآنَ الكريمَ المُـبَيِّنَ لكلِّ هدىً المعجزَ المشتملَ على التوحيدِ لله سبحانه، ونبِذ الشركاء، وإثباتِ الآخرة ـ وحيٌ من الله تعالى، علمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه لا يمكن أن يكون مكذوبًا على الله تعالى، وذلك من خلال قصِّ قصةِ سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ التي هي من أنباء الغيب التي لم يكن يعلمها الرسول الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس عنده طريق لعلمها، لا من خلال قراءةٍ ولا تعَلُّمٍ من العلماء، ولا كان حاضرًا تلك القصة عندما حدثت ، مع اشتمالها على البيان والتفصيل والكمال، والدقة والبلاغة في اللفظ والأسلوب والعرض، والهيمنة على الكتب السابقة ؛ ردًا على من كذب بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن والآخرة وأشرك بالله سبحانه؛ ودعوة لهم للإيمان.
ب) بيانُ حسنِ عاقبةِ المؤمنين المحسنين بنصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد وإيتائِهم العلمَ، وولايةِ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره عليم بكل شيء من خلال إعطاء العبرة لأولي الألباب بقص قصة سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ التي فيها:
  1. بيانُ النموذج الكامل والقدوة والأسوة الكاملة الحسنة في أطوار كثيرة مختلفة، وتصوير الفضائل في أَسمى صورها[8]، من ذلك: تمام التوحيد، ونبذ الشركاء، والدعوة لذلك، وغاية الإحسان والعفة والإخلاص لله سبحانه، والصبر والثقة بالله والرضى والتسليم لقضائه تعالى.
  2. بيانُ ولايةِ الله تعالى ليوسف جزاءً له على ذلك بالتربية، والاجتباء والإخلاص إليه، والفرج والإنجاء من الشدائد وإن طال الأمد، والكيد له، والنصر والتمكين والعزة، وإيتاء العلم والحكم، ورفع الدرجات دنيا وأخرى.
  3. بيان أن الله تعالى غالب على أمره سبحانه.
تثبيتًا وتسليةً للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين مما يلقون من شدة ومكر وأذى أقاربهم من مشركي قريش ومن غيرهم من الأجانب والأباعد؛ حثًا لهم على الصبر وعدم اليأس، مع التذكير والعظة للكافرين، واسمها سورة يوسف أدل ما فيها على هذا المقصد.
  1. المطلب الثالث: أحسن أقوال العلماء في مقصود السورة، مع ذكر الآيات التي تلخص المقصود وتشير له:
أحسن عبارة لخصت مقصود السورة هي عبارة إمام هذا الشأن البقاعي حيث قال:
  • "مقصودها: وصف الكتاب بالإبانة لكل ما يوجب الهدى لما ثبت فيما مضى - ويأتي في هذه السورة - من تمامِ علْمِ مُنزِلِه غيباً وشهادةً، وشمولِ قدرتِه قولاً وفعلاً، وهذه القصة - كما ترى - أنسب الأشياء لهذا المقصود؛ فلذلك سميت سورة يوسف. ( [9])
  • قال أيضًا ما ملخصه: "مقصود السورة:
  1. القطع بحقية القرآن وهداه، وأنه من عنده سبحانه بما قص من قصة يوسف ـ عليه السلام ـ على هذا الوجه العجيب.
  2. وأنه لا بد أن يكون ما أراده الله وشاءه؛ لأنه إليه يرجع الأمر كله وهو عظيم القدرة، فينصر عابديه كما فعل مع يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد ما لقي الشدائد من أقرب الناس إليه ومن غيرهم، ومن الغربة وشتات الشمل، ثم كانت له العاقبة فيه على أتم الوجوه؛ لما صبر على شديد البلاء وفوض الأمر إلى الله سبحانه؛ تسليةً وتثبيتًا لهذا النبي الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتأسية بمن مضى من إخوانه المرسلين، وبشارة إلى ما وقع له ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح من ملك قِياد من عاداه. [10]
  1. المبحث الثالث: سبب تسمية السورة، وعلاقته بمقصودها
سميت السورة باسم نبي الله تعالى "يوسف" عليه السلام[11]؛ لأنها حوت معظم قصته [12]، ولم تتكرر قصته في مكان آخر من القرآن، وهذه القصة أنسب الأشياء وأدلها على مقصود السورة الذي هو:
  • إثباتُ أنَّ القرآنَ وحي هادٍ، من الله تعالى؛ دعوةً له وردًا على من جحده، وأشرك، وكذب بأن الله علمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم.
  • بيانُ حسنِ عاقبةِ المؤمنين المحسنين بنصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، وإيتائِهم العلمَ، وولايةِ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره عليم بكل شيء؛ تثبيتًا وتسليةً للرسول والمؤمنين ".
بيان دلالة اسمها على هذا المقصود:
  • أنَّ قص قصة يوسف ـ عليه السلام ـ بما فيها من أنباء الغيب والتفاصيل الدقيقة لم يكن يعلمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا أدل دليل على إثبات أنَّ القرآنَ الكريمَ وحي من الله تعالى ، وأنه لا يمكن أن يكون مكذوبًا على الله تعالى، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمي ، ولم يدرس على أحد ، وليس عنده طريق لعلمها، وإذا قرأتَ القصة في التوراة تجد أن القرآن فاقها من حيث الأسلوبُ والبلاغةُ ،و البيانُ والتفصيلُ والكمالُ، والدقةُ في: اللفظِ، والأسلوبِ، والعرضِ ـ وصحةُ المعلوماتِ، ومنطقيةُ الأحداثِ ، وتنزيهُ الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وغيرُ ذلك مما يفهمك معنى قوله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3]، وفي ذلك ردٌّ على من كذب بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن، والآخرة، وأشرك بالله سبحانه.
  • من يقرأ سورة يوسف ـ عليه السلام ـ ويعرفها ينطبع في ذهنه ويتبادر إليه حسنُ عاقبةِ المؤمنين المحسنين بنصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، والفرجُ والإنجاءُ من الشدائدِ والكيدِ، والنصرُ والتمكينُ والعزةُ، ورفعُ الدرجاتِ دنيا وأخرى، وولايةُ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره عليم بكل شيء، ويرى في سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ النموذج الكامل والقدوة والأسوة الكاملة الحسنة في أطوار كثيرة مختلفة، والفضائل في أَسمى صورها، وهذا بعينه مقصود السورة. [13]
فاسم السورة المكون من كلمة واحدة يدل على مقصودها غاية الدلالة؛ لأن من يسمع اسم يوسف ـ عليه السلام ـ يتجلى في نفسه ما ذكر ثانيًا من مقصودها بوضوح، وإذا تأمل في عظمة هذا الاقتصاص الدقيق وفي بداية السورة وخاتمتها في مدح القرآن الذي أتى بالقصة تجلى له ما ذكر أولًا من مقصودها، فلله در شأن التنزيل ما أعظم إيجازه وإعجازه!
  1. المبحث الرابع: وفيه مطلبان: دلالة بداية السورة وخاتمتها، على مقصودها.
  • المطلب الأول: دلالة بداية السورة على مقصود السورة.
قبل بيان دلالة مقدمة السورة على مقصودها ومحورها نأخذ تفسير هذه المقدمة بشكل مختصر، ثم نفعل كذلك في الخاتمة؛ لأن ذلك يعيننا كثيرًا على الدقة في تحديد المقصود؛ لأن خلاصةَ السُّوَرِ ومحاورَها في مقدماتها وخواتيمها، فأرجو من القارئ الكريم ألا يظن أني خرجت عن موضوع البحث بتفسيري للمقدمة والخاتمة ، مع وجود بعض التكرار ؛ لأن تفسير المقدمة والخاتمة بدقة يجلي مقصود السورة غاية التجلية مع حسمه للخلاف الكثير الآتي في تحديد مقصودها في المبحث الثامن ، مع كونه يجعلنا نتكلم بمنهجية في تحديد المقصود دون الرجم بالغيب؛ لأنه يتيح لك أن تعيش في جو السورة، وأن تتعرف على الآيات الملخصة لمحور السورة:
{الر}:
  1. وردتْ هذه الأسماء[14] هكذا مسرودة على نمط التعديد:
  • للإيقاظ وقرع العصا لمن تُحُدِّي بالقرآن وبغرابة نظمه، وللتحريك للنظر، والتنبيهِ في أنَّ هذا المتلو عليهم ـ وقد عجزوا عنه عن آخرهم ـ كلامٌ منظومٌ من عين ما ينظمون منه كلامهم؛ ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أنه كلام الله تعالى؛ لأنه لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل في اقتضاب الخطب ـ إلا لأنه ليس بكلام البشر، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟!
  • وليكون أول ما يقرع الأسماع ما هو مستقل بنوع من الإعجاز، ومستقلٌ بضربٍ من الغرابة، وأُنموذجٌ لما في الباقي من فنون الإعجاز؛ فإن النطقَ بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما مِن الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة وأعزُّ من بَيْض الأَنُوق، وأبعدُ من مَناط العَيُّوق[15]، لا سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه[16].
  • ولأن التهجي معروف عندهم للتعليم، فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم؛ لأن حالهم في العجز عن الإتيان بكلام بليغ
يقتضي معاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم في المدرسة حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزاً لا معذرة لهم فيه.
  • وفضلًا عن ذلك فإنَّ تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر؛ لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيستمعوا حِكَماً وحُجَجاً قد تكون سبباً في هدايتهم واستجابتهم للحق.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [آية:1]
الْمُبِينِ: المراد بالكتاب القرآن كاملًا، والإضافة بمعنى "مِنْ"، والمراد بالآياتِ آياتُ سورةِ يوسفَ ـ عليه السلام، والمعنى أنَّ هذه السورةَ العظيمةَ آياتٌ من الكتابِ المبينِ المتصفِ كلِّه بالبيان، فتكون السورة أيضًا متصفة بالبيان، وأضيفت إلى الكتاب بدون "مِنْ"، كأنها كل الكتاب؛ لأن كل آية من الكتاب فيها خصائصه من إعجاز، وبيان وروعة.
وفي معنى الكتاب المبين قولان:
  1. القول الأول: تلك الآيات العالية القدر الرفيعة المكان آيات الكتاب الظاهر أمره والواضح في نفسه أنه من عند الله، وأنه ليس من عند البشر؛ لما فيه من المعاني العظيمة والنظْم المعجز، لا سيما الإخبارُ عن الغيب، وإن كذب به المشركون المعاندون ورموه بأنه من الشياطين أو شعر؛ لكثرة ظهوره في ذلك كأنه يبين عن نفسه، ويدل على ذلك أنَّ جميع السور التي ذكرت فيها {المبين} فيها، تفصيل للغيبيات من قصص الأنبياء.
وقد وردت هذه الصيغة في:
  1. سورة الشعراء: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
  2. سورة القصص: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
  3. سورة الزخرف: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
  4. سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
وكلها ذكر فيها قصص الأنبياء لا سيما قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام.
اختار هذا: الزمخشري، والبقاعي، والبيضاوي، وابن عاشور، والطباطبائي، وأبو السعود، ومحمد سيد طنطاوي، والآلوسي وقال هذا: أنسب بالمقام.
القول الثاني: تلك الآيات العالية قدرًا الرفيعة مكانةً آيات الكتاب المبين الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة، وأبان الحق من الباطل، وأبان كل باب عما سواه وجعلها مفصلة ملخصة، ووضح لكلِّ أحد مَا يحتاجُ إليهِ من أمور الدنيا والدين والآخرة، فهو من أبان المتعدي، ومفعوله محذوف.

والبيان: إظهار المعنى للنفس بما يتميز به عن غيره، وهو مأخوذ من البينونة، وهي التفرقة بين الشيء وغيره.

اختار هذا القول: الطبري، والجلال، وابن كثير، والماتريدي، والثعلبي، ومكي، والواحدي، والسمعاني، والسعدي، والبغوي، والقرطبي، والطوسي، والطبرسي.
والراجح: الجمع بين القولين: فالمبين أفاد معنيين أحدهما: أنه مبين شواهد صدقه وإعجازه وهديه لكل متأمل، وثانيهما: أنه مرشد ومفصِّل للهدى، وهذا الذي اختاره البقاعي حيث قال:" {المبين} أي البين في نفسه أنه جامع معجز لا يشتبه على العرب بوجه، والموضح لجميع ما حوى ، وهو جميع المرادات لمن أمعن التدبر وأنعم التفكر ، ولأنه من عند الله".[17]
ويؤيد الجمع بين القولين أن الآية التي تقابل هذه الآية من نهاية السورة جمعت الأمرين: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الآية:111]
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]
استئناف يفيد تعليل إبانة الكتاب؛ لأنه في سياق تكذيبهم به.
ومن بيانه وإيضاحه: أنه أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة وأبينها؛ فإنّ كونه قرآناً يدل على إبانة المعاني؛ لأنّه ما جعل مقروءاً إلاّ لما في تراكيبه من المعاني المفيدة للقارئ، وكونه عربياً يفيد إبانة ألفاظِه المعانيَ المقصودة للّذين هم النواة الأولى للإسلام الذين خوطبوا به ابتداء، وهم العرب؛ إذ لم يكونوا يتبيّنون شيئاً من الأمم التي حولهم؛ لأنّ كتبهم كانت باللغات غير العربية.
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: ليكون حالكم حالَ من يرجى أن يعقلوا ما يراد منهم.
والتّأكيد بـ(إنّ) ردٌّ على الذين أنكروا أن يكون منزلاً من عند الله تعالى، والضمير في {أَنْزَلْنَاهُ} يرجع إلى الكتاب، أي: أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف ـ عليه السلام ـ في حال كونه قُرْءاناً، منظماً على أسلوب مُعَدٍّ؛ لأنْ يقْرأ لا كأسلوب الرسائل والخطب أو الأشعار، بل هو أسلوب كتابٍ نافعٍ نفعاً مستمراً يقرؤه الناس، مشتملٍ على الآياتِ الإلهية والمعارف الحقيقية.
{عَرَبِيّاً}: منسوبًا للعرب؛ لأن لسانكم وكلامكم عربي فنزل بلغتِكم؛ ليكون حالكم حالَ من يرجى عقله؛ لأنه إذا كان مقروءًا بلغتكم تعقلون ما تضمن من المعاني وتحيطون بما احتوى عليه من البلاغة والإعجاز، وتحيطون بما فيه من البدائع خُبْراً، وتطّلعون على أنه خارجٌ عن طوق البشر منزَّلٌ من الله العليم الحكيم، فستعلمون أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء فتؤمنون؛ إذ لو كان بغير العربية لقيل: لولا أنزل بلغة العرب.
ولأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس.
وعُبّرَ عن العلم بالعقل؛ للإشارة إلى أنّ دلالة القرآن على هذا العلم قد بلغت في الوضوح حدّ أن يُنَـزَّل من لم يَحصل له العلمُ منها منزلة من لا عقل له، وأنّهم ما داموا معرضين عنه فهم في عداد غير العقلاء، وحذف مفعول {تعقلون} للإشارة إلى أنّ إنزاله كذلك هو سبب لحصول تعقل لأشياء كثيرة من العلوم من إعجاز وغيره لا يحصيها العد.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]
لما كان جسم هذه السورة قصة فقد أبرز ذكر القصص من مادة هذا الكتاب، على وجه التخصيص، فهذه الجملة تتنزل من جملة: {إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً} [يوسف: 2] منزلة بدل الاشتمال تؤكد أن القرآن الكريم منزل من عند الله؛ لأنّ أحسن القصص ممّا يشتمل عليه إنزال القرآن من عند الله تعالى، وكون القصص من عند الله يتنزّل منزلة الاشتمال منه.
{نَحْنُ}: عظم هذه القصة بمظهر العظمة، وأكد ذلك بقوله تعالى: {أحسن القصص}، وتقديم الضمير على الخبر الفعليّ يفيد الاختصاص، أي نحن نقصّ لا غيرُنا، ردّاً على من يطعن من المشركين في القرآن بقولهم: { إنّما يعلمه بشرٌ } [ سورة النحل : 103 ] وقولهم : { أساطير الأولين اكتتبها } [ سورة الفرقان : 5 ] وقولهم : يُعلمه رجل من أهل اليمامة اسمه الرّحمان .
{نَقُصُّ}: نبينه أحسن البيان؛ لأنه من قص الأثر؛ تثبيتاً لفؤادك وتصديقاً لنبوتك وتأييداً لرسالتك على أحسن ترتيب، وأحكم نظام، وأكمل أسلوب، وأوفى تحرير، وأبدع طريقة مع ما نفصلها به من جواهر الحكم وبدائع المعاني من الأصول والفروع، فنخبرك فيه عن الأخبار الماضية، وأنباء الأمم السالفة، والكتب التي أنزلناها في العصور الخالية أحسن البيان.
والقاص هو: الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على وجهه.
عَلَيْكَ: يا محمد ـ صلى الله عليه وسلم.
"القصص" فيها مسائل:
  1. المسألة الأولى: أصل كلمة (القَصَص)(بالفتح):
(القَصَص) في الأصل مصدر(قصَّ) على وزن (المـَدَد)، و(الشَّطَط) في المضاعفات من قولنا:
" فلان خَرَجَ يَقُصُّ أثرَ فلان" أي: يَتْبعه شيئًا فشيئًا، واستقصى في ذلك على الترتيب حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر ليعرف أين ذَهَبَ[SUP][SUP][18][/SUP][/SUP] ، ومنه قولُه تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] أي: اتِّبعي أثره، والقاصُّ هو: الذي يتتَّبع خبراً بعد خبر[SUP][SUP][19][/SUP][/SUP] .
وأطلق المصدر (القَصَص) مرادًا به المفعولُ، أي "المقصوص" كـ "الخلق" بمعنى "المخلوق" وهو قول أكثر التفسير وهو الصحيح[20]، وهو اسم مفرد[SUP][SUP][21][/SUP][/SUP] في اللفظ.

  • قال ابن فارس: "القاف والصاد أصلٌ صحيح يدلُّ على تتبُّع الشَّيء، من ذلك قولهم: قصَصْتُ الأثَر، إذا تتبَّعته".[SUP][SUP][22][/SUP][/SUP]
  • قال البقاعي:" وهو مصدر قصَّ الشيء - إذا تبِع أثره واستقصى في ذلك".[23]
  1. المسألة الثانية: كلمة (القَصَص)(بالفتح)تتضمن معنيين:
كلمة القَصص تشمل وتتضمن معنيين، أحدهما: متفق عليه، والثاني: قال به جماعة من المحققين، ولم يصرح به كثير من اللغوين والمفسرين:
  • المعنى الأول المتفق عليه: أنَّ القَصَص: اسم لما يُقص من الأَخبار المتتبعة التي تُتُبِّعت فيها الوقائعُ والمعاني حتى لم تدعْ في شيءٍ منها لبسًا، خبرًا بعد خبرٍ، ومعنىً بعد معنىً، مع كمال التفصيل، وتتوالى على نحو مترابطٍ إلى النهاية، كما يقص الأثر، فالقَصُّ أخص من الإخبار؛ فإنّ القص إخبار بخبرٍ فيه طولٌ وتفصيلٌ، والقاصُّ في الكلام يتتَّبع الأَخبارَ خبرًا بعد خبر، ويتتبع المعاني ليوردها.[SUP][SUP][24][/SUP][/SUP]
  1. سواء كانت قصة واحدة فيها أحداث كثيرة، فصلت أحداثها و أخبارها وتُتُبِّعت بدقة وتفصيل كما ورد في آل عمران في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}، الإشارة (هذا) إلى ما تقدم من أمر عيسى ومريم عليهما الصلاة والسلام، وكما في قوله تعالى: { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}[القصص:25]، المراد أن سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ حدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم، وإذلالهم لعباد الله ، والسبب الذي أخرجه من أرضه، وتتبع له الأمور على ما هي عليه، وهي قصة واحدة فيها تفصيلات.
  2. أو كانت قصصًا كثيرة كل قصة قد تُتُبِّعت وفصلت تفصيليًا تامًا كما جاء في:
  • سورة الأعراف بعدما قصت معظم قصص الأنبياء، وفصلت قصة بني إسرائيل، وذكرت قصة الذي أوتي الآيات ثم انسلخ منها عقَّب عليها القرآن الكريم بقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] و(ال) هنا للعهد، والمعهود قصص كثيرة ذكرت في سورة الأعراف وغيرها.[SUP][SUP][25][/SUP][/SUP][*=1]في سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} على الخلاف في عمومها لكل قصص القرآن ويدخل دخولًا أوليًا قصة يوسف عليه السلام وأخوته، أو الكلام على قصة يوسف وأخوته فقط.
هذا هو المعنى الأول المتفق عليه الذي تتضمنه كلمة (القَصَص).
  • المعنى الثاني الذي تتضمنه كلمة (القَصص)ذكره جماعة من المحقق وهو: أنَّ (القَصَص): يضاف لها مع المعنى الأول: "أنها المتحدث بها على أصح الوجوه وأصدقها، على ما هي عليه في الواقع". وهذا المعنى صرح به الفيومي في المصباح المنير[SUP][SUP][26][/SUP][/SUP] ،وابن الأثير في النهاية[SUP][SUP][27][/SUP][/SUP]، والزجاج في معاني القرآن، وابن الجوزي، والنسفي، والماوردي[SUP][SUP][28][/SUP][/SUP] ، وابن عاشور[SUP][SUP][29][/SUP][/SUP]، والبقاعي[SUP][SUP][30][/SUP][/SUP]، ومحمد رشيد رضا، وفريد وجدي، والمصطفوي في التحقيق[SUP][SUP][31][/SUP][/SUP].
قال محمد رشيد رضا في تفسير سورة يوسف:" فالقصص مصدر أو اسم من قص الخبر إذا حدث به على أصح الوجوه وأصدقها؛ لأنه من قص الأثر واقتصه إذا تتبعه وأحاط به خبرًا، كأنه قال: نقصه عن اقتصاص وإحاطة، ويجوز أن يكون بمعنى اسم المفعول، فيكون القصص بمعنى المقصوص من الأخبار والأحاديث".[SUP][SUP][32][/SUP][/SUP]
قالوا وعلى ذلك عدة أدلة:

  • أنَّ (قّصَص) مِنْ (قصَّ الأثرَ، واقتصه): إذا تتبعه وأحاط به خُبرًا، فيكون عن خُبْر وإحاطة.
  • التعبير بالمصدرِ المراد به اسم المفعول فيه مبالغة كأنه عين القص، وهذا يدل على صحة وصدق هذه الأخبار وأنه بولغ في تتبعها، والتعبير بالمصدر للمبالغة كثير في اللغة والقرآن الكريم، كما في سورة الكهف: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] أي قولاً ذَا شططٍ، أي: ذا بُعدٍ وتجاوزٍ عن الحدِّ والحق جداً، كأنه عينُ الشططِ، وُصفَ بالمصدرِ مبالغةً ثم اقتُصر على الوصف مبالغةً على مبالغة.[SUP][SUP][33][/SUP][/SUP]
  • اختيار المصدر " القَصص" بفك الإدغام دون "القَصِّ" بالإدغام، مع أنه يقال: قصَّ، يقصُّ، قصصًا، وقصًّا ([34] ففك الإدغام يدل على أمرين:
  1. غاية التتبع للأخبار والأحداث بغاية الدقة زيادة على دلالة المادة (ق، ص، ص) على ذلك[SUP][SUP][35][/SUP][/SUP].
  2. على أنه أخبار متتبعة كثيرة، خبر بعد خبر لا خبر واحد.
وهذانِ المعنيانِ لكلمة (القَصَص): الأول المتفق عليه، والثاني الذي ذكره المحققون، ينطبقان تمام الانطباق على كل ما ورد في القرآن الكريم
ففيها: الأَخبار المتتبعة التي تُتُبِّعت فيها الوقائعُ والمعاني حتى لم تدع في شيء منها لبساً، خبرًا بعد خبر، ومعنى بعد معنى، مع كمال التفصيل، المتحدث بها على أصح الوجوه وأصدقها، على ما هي عليه في الواقع، وهذا يدل دلالة واضحة على جزء مما ذكرته في مقصود السورة.
واختلف العلماء على في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} على قولين:

  • القول الأول: قالوا :المراد أن جميع قصص القرآن الكريم أحسن قصص ،فكلّ قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه ، وكلّ قصة في القرآن هي أحسن من كلّ ما يقصّه القاصّ في غير القرآن، ويدخل دخولًا أوليًا قصة يوسف ـ عليه السلام ـ بدليل ذكر هذه الآية الكريمة في أولها ، وهذا القول هو المتبادر الظاهر ، والأنسب بعموم اللفظ، ويدل عليه ورود القصص في خاتمة السورة بعد ذكر الرسل مطلقًا{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[الآيتان:111،110]: اختار هذا : قتادة، و الطبري، و مكي، و السمعاني، و البغوي، و الخازن، وابن عطية، و ابن عاشور، ابن أبي زمنين، و ابن عاشور، وابن الجوزي، ومحمد سيد طنطاوي، والسعدي،وجماعة آخرون من المفسرين.
  • القول الثاني: قالوا المراد قصة سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ وإخوته خاصة هي أحسن القصص، وقد اختار هذا: الثعلبي، والرازي، وأبو حيان، والقرطبي، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، والشوكاني، وجماعة آخرون من المفسرين.
وعلى هذا الذي القول: سمى القرآن قصةَ يوسفَ ـ عليه السلام ـ أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والفوائد التي تصلح للدين والدنيا ، "وهي في التوراة في نيف وعشرين ورقة لا يضبطها إلا حذاق أحبارهم ، من تأمل اقتصاصها فيها أو في غيرها من تواريخهم ذاق معنى قوله تعالى:{ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }[ يوسف : 3 ] حتى لقد أسلم قوم من اليهود لما رأوا من حسن اقتصاصها ،وقد ضمنها سبحانه من النكت والعبر والحكم أمراً عظيماً ، وذكر فيها حسن مجاورة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لإخوته وصبره على أذاهم ،وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو ، والأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء و الجهال والرجال والنساء ومكرهن، والتوحيد والنبوة والإعجاز، والتعبير والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجميع الفوائد التي تصلح للدين والدنيا ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ولم يدخل فيها شيئاً من غيرها دون سائر القصص ، وكان عاقبتها إلى خير وسلامة واجتماع شمل وعفو من الله وتجاوز عن الكل".[SUP][SUP][36][/SUP][/SUP]
وقال أبو حيان :" كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والشياطين ، والجن ، والإنس ، والأنعام ، والطير ، وسير الملوك ، والممالك ، والتجار ، والعلماء ، والرجال ، والنساء وكيدهن ومكرهن ، مع ما فيها من ذكر التوحيد ، والفقه ، والسير ، والسياسة ، وحسن الملكة ، والعفو عند المقدرة ، وحسن المعاشرة ، والحيل ، وتدبير المعاش ، والمعاد ، وحسن العاقبة ، في العفة ، والجهاد ، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا ، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا . أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر فعل بمعنى مفعول كالنقص والسلب".[37]
{بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ}:
{بِمَآ أَوْحَيْنَآ}: الباءُ سببيةٌ، وهي متعلقةٌ بـ " نَقُصُّ " و " ما " مصدريةٌ، أي: بسبب إيحائنا، {هَذَا الْقُرْءَانَ}، و {هذا}: مفعول {أوحينا}، {وإن} الواو: للحال، أي وإن الشأن والحديث، فـ(إن) مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، والزمخشري وأبو السعود يجعلان اسمها ضمير الشأن خلافا للجمهور، والضمير في {قَبْلِهِ} راجع إلى:
{الكتاب}أو إلى {ما أوحينا} ([38]).
{هَذَا الْقُرْءَانَ}: الذي قالوا فيه: إنه مفترى، فنحن نتابع فيه القصص قصة بعد قصة بعد قصة، حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممترٍ في أنه من عندنا وبإذننا، والأصح عموم القرآن ويدخل دخولًا أوليًا هذه السورة الكريمة، والتعرض لعنوان قرآنيتها؛ لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو، وكلمة {هذا} للإيماء إلى تعظيم المشار إليه.
{وَإِنْ كُنْتَمن قبله لمن الغافلين}: تعليل لكونه مُوحىً، واحتجاج على أنه من عند الله؛ لكونه جاء به من غير تعليم، وهم يعرفون أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مباعداً للعلم والعلماء، والتأكيد لأن فعلهم في التكذيب فعل من ينكر ذلك وهو ناظر إلى قوله تعالى آخر السورة: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [آية:102].
{مِنْ قَبْلِهِ} :(مِن) ابتدائية تفيد الاستيعاب والتأكيد لجميع زمان القبل[39]. {من الغافلين}: عن معرفة هذا الموحى الشامل لقصة يوسف ـ عليه السلام ـ وإخوته وغيرها، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه قطُّ، لا تعلمه ولا شيئًا منه قبل وحينا إليك لم تخطُر ببالك، فنقَلَك من حال إلى حال، وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله تعالى؛ لكونه جاء به من غير تعليم، وهو تعليلٌ لكونه مُوحى.
، والتعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأنِ النبيِّ عليه السلام وتأكيد إعجاز القرآن وكونه من عند الله تعالى؛ للرد على المشركين المُعْرضين عن هدي القرآن، والتعبير بـ{لمن الغافلين}: أقوى من غافلًا.
والمعنى: وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك الكتاب من الغافلين عنه، ويدخل دخولًا أوليًا هذه السورة التي فيها قصة يوسف ـ عليه السلام ـ ثم تفاصيل بقية القصص، شأنك في ذلك شأن قومك الأميين، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه.
تبين لنا من خلال الاطلاع على تفسير مقدمة السورة دلالته على مقصود السورة ففي قوله تعالى :{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[الآيات 1ـ 3] تأكيد أنَّ القرآن الكريم معجز مكون من جنس حروفهم وهو يتحداهم أن يأتوا بمثله ، وأن القرآن ظاهر جدًا في كونه من عند الله مبين لهم جميع ما يحتاجون له في دنياهم وأخراهم ، وأنه أنزله قرآنًا عربيًا ليعرفوا معانيه وبلاغته وإعجازه، وأن هذه القصة التي قصت لهم لا يمكن أن يعلمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قِبَل نفسِه ، وأن الله تعالى قص عليه في هذا القرآن الكريم أحسنَ القصص، وأولها سورةُ يوسف، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع المدة الماضية ما كان يعرف شيئًا من هذه القصص، ولا طرق سمعَه شيءٌ منها ، ولا تعلَّمَه، ولا قرأه، فهو الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا دليل على أنه من عند الله تعالى .
وهذا يشير إشارة واضحة إلى الجزء الأول من مقصود السورة، وهو:" إثباتُ أنَّ القرآنَ وحي هادٍ، من الله تعالى؛ دعوةً له وردًا على من جحده، وأشرك، وكذب بأن الله علمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم".
وفي قوله تعالى:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}التي منها سورة يوسف بما تحوي من العبر والحكم الأمر الكثير العظيم، وذكر فيها حسن مجاورة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لإخوته وصبره على أذاهم ،وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو ، وكان عاقبتها إلى خير وسلامة واجتماع شمل وعفو من الله تعالى وتجاوز عن الكل ، مع قوله تعالى :{ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ }[الآيات :1ـ7] ـ دلالة على الجزء الثاني من مقصود السورة وهو: " بيانُ حسنِ عاقبةِ المؤمنين المحسنين بنصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، وإيتائِهم العلمَ، وولايةِ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره عليم بكل شيء؛ تثبيتًا وتسليةً للرسول والمؤمنين "، وسيتضح هذا لك اتضاحًا تامًا عند تفسير هذه الآيات.
قال د. عمر عرفات: "جاء في مقدمة السورة ثلاث آيات تبين صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يبلغه عن ربه عز وجل ، فهو قد كان غافلًا عن الأحداث التي ستذكرها السورة بالتفصيل عن قصة يوسف عليه السلام ، فثبت إذًا أن إخباره عن القصة إنما هو بوحي من رب العالمين{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الآيات:2،1] وفي ذلك تثبيت لقلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..وقد كانت قصة يوسف ـ عليه السلام ـ أدل مثال على أن القصص القرآني هو أحسن القصص حقًا، فهي أطول قصة في القرآن تدور أحداثها حول شخصية واحدة في سورة واحدة ، وتبرز مدى العلم الإلهي بدقائق الغيب، وتحكمه المطلق بها وكمال قدرته على توجيهها حيث أراد.([40])([41])
ب ـ دلالة خاتمة السورة على مقصودها:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102]
أ- إثباتُ أنَّ القرآنَ وحي هادٍ، من الله تعالى؛ دعوةً له وردًا على من جحده، وأشرك، وكذب بأن الله علمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم.
ب- بيانُ حسنِ عاقبةِ المؤمنين المحسنين بنصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، وإيتائِهم العلمَ، وولايةِ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره عليم بكل شيء؛ تثبيتًا وتسليةً للرسول والمؤمنين ".

  • الجانب الأول :في هذه الآية دليل قاطع على صحة نبوة سيدنا محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه كان رجلاً أمياً لم يقرأ الكتب و ما طالعها ،ولم يتتلمذ لأحد، ولم يلق العلماء ، وما كانت البلدة بلدة العلماء فقد نشأ بين أمة أمية مثله ، ولم يسافر إلى بلد آخر غير بلده الذي نشأ فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لطلب العلم ، و أحداث هذه القصة ليست في جزيرة العرب ، بل في أرض غير مقاربة، ولا يمكن أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاضرًا زمن القصة الذي حصل من آلاف السنين كما قال تعالى: { وما كنت لديهم } الذي ذكر على سبيل التهكم ممن كذب النبي، صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كل أحد يعلم أنَّ سيدنا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان معهم حتى يقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها ويطّلع على سرائرهم طُراً ،ويحيط بما لديهم خُبراً .
وليس المرادُ مجردَ نفي حضورِه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط ، بل في سائر المشاهدِ أيضاً ، وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مَطْلعَ القصةِ وأخفى أحوالِها كما ينبئ عنه قوله تعالى : {وهم يمكرون}أي ، وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم ، ثم إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أتى بهذه القصة الطويلة على أحسنِ ترتيبٍ وأبينِ معانٍ وأفصحِ عبارة، لم يقع فيه تحريف ولا غلط، ثبت أنه لا معلم له إلا الله تعالى كما علَّم إخوانَه من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فعُلِم بذلك أن الذي أتى به هو وحي إلهي ونور قدسي سماوي فهو معجزة له قائمة إلى آخر الدهر.
  • الجانب الثاني: في الآية الإشارة إلى بيانِ عاقبةِ المحسنين ونصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، وولايةِ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره ؛تثبيتًا وتسليةً للرسول والمؤمنين ؛ لأن معنى الآية :{ ذلك } النبأ العالي الرتبة الذي قصصناه قصاً يعجز البلغاء من حملته ورواته فكيف بغيرهم، " أخبرتك به من خبر يوسف ووالده يعقوب وإخوته التي لها شأن عظيم، وسائر ما في هذه السورة من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ، ولم تعاينه ، ولكنا نُوحِيهِ إلَيْكَ ونعرّفكه ؛ لنثبت به فؤادك ، ونشجع به قلبك ، ونصبرك على ما نالك من الأذى من قومك في ذات الله ، وتعلم أنَّ مَنْ قَبْلك من رسل الله حين صبروا على ما نالهم فيه ، وأخذوا بالعفو ، وأمروا بالعرف ، وأعرضوا عن الجاهلين ، فازوا بالظفر ، وأيدوا بالنصر ، ومكنوا في البلاد ، وغلبوا من قصدوهم من أعدائهم وأعداء دين الله ، يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيهم يا محمد فتأسّ ، وآثارَهم فقُصَّ.[42]
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (103).
ولقد كان من مقتضى ثبوت الوحي ، وإيحاء قصة يوسف ـ عليه السلام ـ واللفتات واللمسات التي تحرك القلوب ، أن يؤمن الناس بهذا القرآن ، وهم يشهدون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعرفون أحواله ، ثم يسمعون منه ما يسمعون، و كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجو ويحرص أن تؤمن به قريشٌ واليهودُ لما قص عليهم من قصة يوسف ـ عليه السلام ـ مصدقة لما عندهم على وجه أبرع وأحكم وأدق ، مصححة لأخطائهم فيها ؛ فبين سبحانه، أن إخبارك بالغيوب دليل قائم على نبوتك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، وإن كنت أنت حريصاً على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم ، وتهالكت على إيمانهم؛ لتصميمهم على الكفر بعد هذه الدلائل البينة وعنادهم وتعنتهم ، فلا تظن أنهم يؤمنون لإنزال ما يقترحون من الآيات ،وأشارت الآية الكريمة لمقصود السورة من إثبات أنَّ القرآنَ الكريم وحي من الله تعالى بدلالة قص قصة يوسف عليه السلام ، وأن القرآن آيات عظيمة كافية لكن العناد هو من جهة الكفار واضحة.
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (104)
ولما ذكر تعالى ما هم عليه من الكفر وإنكار نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما يدعوهم له من التوحيد، ذكر أن شأنهم في الإعراض لعجيب وهي تعطى لهم بلا أجر ولا مقابل، فقال : هم على ذلك من العناد والكفر ، والحال أن موجب إيمانهم موجود ، وذلك أنك مع دعائهم إلى الطريق الأقوم وإتيانك عليه بأوضح الدلائل ما تسألهم على هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك ، من أجر كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك ، إن هذا الكتاب إلا تذكير للعالمين عامة ، أي إنا أزحنا العلة في التكذيب حيث بعثناك مُبَلِّغًا بلا أجر، وفيه توبيخ للكفرة وإقامة الحجة عليهم .

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (105).
ولما كان القرآن العظيم أعظم الآيات بما أنبأ فيه عن الأخبار الماضية والكوائن الآتية على ما هي عليه مضمنة من الحكم والأحكام ، في أساليب البلاغة التي لا ترام ، كما في قصة يوسف عليه السلام ، وغير ذلك مما لا يحصر، كان ربما قيل : إن هذا ربما لا يعلمه إلا الراسخون في العلوم الإلهية ، عطف عليه الإشارة إلى أن له تعالى غيرَه من الآيات مما لا يحيط به الحصر التي لا تحتاج لوضوحها إلى أكثر من العقل ، يعاينونها فيمرّون عليها معرضين عنها لا يعتبرون بها ولا يفكرون فيها وفيما دلت عليه من توحيد ربها، فلم ينتفعوا به ، ولم تؤثر فيهم ، وأن تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي ،كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك من آيات السموات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار ، وغير ذلك من آيات الأرض ، فلا تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك ، لأنّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كلّ مكان ، فليس إعراضهم عن آيةِ قص القصص الضاربةِ في التاريخ من الأمّي فحسب بل هم معرضون عن آيات كثيرة في السماوات والأرض ؛ تسليةً للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتقريرًا لكون الإعراض شأن الكفار دائمًا .
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (106)
هذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله تعالى خالقهم؛ لأنه لما كان ربما قيل: كيف يوصَفون بالإعراض وهم يعتقدون أن الله تعالى خالق وفاعل تلك الآيات، بيَّن أن إشراكهم مسقط لذلك؛ فقد كانوا يقرون بأن الله خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره من الأوثان والملائكة، وكذا المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفران، وكذا أهل الكتابين يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم في الكفر بغيره، فعلم أن إذعانهم بهذا الإيمان غير تابع لدليل ، وهو محض تقليد لمن زين له سوء عمله فرآه حسناً .
{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (107)
وبعد فما الذي ينتظره أولئك المعرضون عن آياتِ الله تعالى المعروضةِ في صفحات الوجود، بعد إعراضهم عن آيات القرآن التي لا يُسأَلون عليها أجرًا؟
لما أخبر الله تعالى عن ارتباكهم في إشراكهم ، وأنهم يتعامون عن الأدلة من الآيات المتلوة والآيات الكونية ، وكانوا آمنين من العذاب لا ينقادون إلا به ،أنكر عليهم سبحانه ووبخهم مهددًا أمنهم أن تأتيهم غاشية عظيمة من عذاب الله تغطيهم وتبرك عليهم وتحيط بهم في الدنيا ، أو تأتيهم الساعة بغتة فجأة من غير سابقة علامة ،وهم عنها في غاية الغفلة بعدم توقعها أصلاً ؛ ولما كان هذا المعنى مهولاً ، أكده الله بقوله سبحانه:{ وهم لا يشعرون } أي: نوعاً من الشعور، إعلاماً بشدة جهلهم ، والمعنى أن أمرهم في إعراضهم عن آيات السماء والأرض وعدم إخلاصهم الإيمان لله وتماديهم في الغفلة عجيب، أفأمنوا عذابًا من الله يغشاهم أو الساعة تفاجئهم وتبهتهم ؟!
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108)
و إذا كانت آيات القرآن الذي يحمل دليل الرسالة ومنها قصة يوسف ـ عليه السلام ـ وكانت الآيات التي يحفل بها الكون معروضة للأنظار ، إذا كانت هذه وتلك يمرون عليها وهم عنها معرضون ، ويشركون بالله شركًا ظاهرًا أو خفيًا وهم الأكثرون ، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماضٍ في طريقه ومن اهتدى بهديه ، لا ينحرفون ولا يتأثرون بالمنحرفين : قل : هذه سبيلي، وهي: الدعوةُ إلى التوحيدِ والإيمانُ بإخلاص لله تعالى دون الاَلهةِ والأوثانِ، والإعدادُ للمعادِ، والانتهاءُ إلى طاعته وتركِ معصيته ،وهي واحدة مستقيمة ، لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة .
فنحن على هدى من الله ونور، أدعو إلى الله على بصيرة وهي: الحجة الواضحة من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة بحيث يكون كأنه يبصر المعنى والأمور بالعين، متمكناً منها نعرف طريقنا جيدًا، لا نخبط ولا نتحسس، ولا نحدس، فهو اليقين البصير المستنير، ننزه الله - سبحانه - عما لا يليق بألوهيته، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به، وما أنا في عداد من يشرك به شيئاً بوجه من الوجوه، فمن شاء فليتابع، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم.
[43]


{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} (109)
من جملة شبه منكري نبوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكًا، فردَّ عليهم سبحانه بأنا لم نرسل في جميع مدة القبل لجميع الأمم ملائكةً بل رجالًا من أهل المدن التي هي مواضع الحكمة كمكة، فلأي شيء يستغرب قومك رسالتك؟ ويزعمون أنه ليس لك عليهم فضل، أليس قد ساروا في الأرض فلِمَ لم يعتبروا فيعرفوا بذلك كيف كان عاقبة من كذب هؤلاء الرسل من قبلهم؟ وما نزل بهم من العذاب لكفرهم، أهلكهم الله بتكذيبهم، فاحذروا أن تقيموا على ما أقاموا عليه، فيصيبكم ما أصابهم.
ولدار الآخرة خير للذين اتقوا فحملهم الخوف على الائتمار والانزجار والاتقاء، خير من دار الدنيا التي فيها تنغيص وتكدير، وفنون الآلام، أفلا تكون لكم عقول تُؤْثِرُ الذي هو خير على الأدنى؟ فيتبعوا الداعي إلى هذا السبيل الأقوم ويتركوا شركهم وكفرهم.
ومن بداية خاتمة السورة إلى هنا التركيز فيها على الجزء الأول من مقصود السورة وهو " إثباتُ أنَّ القرآنَ وحي هادٍ، من الله تعالى؛ دعوةً له وردًا على من جحده، وأشرك، وكذب بأن الله علمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم".
وفي الآية الآتية التركيز على الجانب الثاني من مقصود السورة ثم الجمع بين المقصدين في الآية الأخيرة.


{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}.
لما نزلت السورة تصبيرًا وتثبيتًا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين الذين طال بهم البلاء والصبر على أذى قومهم وعشيرتهم ، وتأخر عليهم النصر، وكانت السورة تعليقًا على قصة سيدنا يوسف ويعقوب ـ عليهما السلام ـ وعلى حسن عاقبتهما بعد طول البلاء مع إحسانهما واتقائهما ، فيوسف ـ عليه السلام ـ قد أوذي من أقرب الناس إليه إيذاءً شديدًا ،وكذلك يعقوب ثم كانت إرادة الله تعالى هي الغالبة والله تعالى غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فنصر الذين اتقوا وأحسنوا ،وكذلك يفعل بك يا رسول الله وبمن معك إن صبرتم، لكن النصر لا يأتي بسرعة في سنة الله تعالى بل لا بد من الصبر والتحمل والتضحيات الكثيرة ثم يأتي النصر في وقت ييأس الإنسان من حصول النصر لا شكًا بالله سبحانه ، بل للظن أنَّ وقتَ النصرِ لم يحِن بعدُ ـ أخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى {وَزلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214] ، وأعلمهم بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان ، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار ، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء، فهذه الآيات تصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل ، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله تعالى، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد .
تلك سنة الله في الدعوات ، لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس.
وحَتَّى : متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام ،كأنه قيل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} فدعا الرجالُ المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء ، وتوعد الله تعالى أقوامهم بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم ، وطال على الرسل الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم فتراخى نصرهم واستمر ذلك من حالهم[44] ، {حتى إذا استيئس الرسل}عن النصر جاءهم نصرنا.[45]

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.
في قوله تعالى {قصصهم} قولان:

  • القول الأول ـ وهو المختار ـ قالوا : الضمير في قصصهم لسائر الرسل ـ عليهم السلام ـ الذين طال بهم البلاء مع أممهم حتى استيأسوا فجاءهم النصر وأُهلِك أعداؤهم، وأنجاهم الله تعالى، من نوح إلى يوسف ومن بعده ـ عليهم الصلاة والسلام ، فيدخل دخولًا أوليًا يوسف ـ عليه السلام ـ وهذا هو الراجح بدليل الآية التي قبلها: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}، ثم جاءت هذه الآية:{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ }.[46]
  • القول الثاني: قالوا: الضمير في قصصهم ليوسف ـ عليه السلام ـ وإخوته فقط، والمعنى: لقد كان في قصص يوسف ـ عليه السلام ـ وإخوته عِبرة لأهل الحِجا والعقول، وقصة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأبيه وإخوته مشتملة على أخبار متعددة كثيرة.[47]
فلما ذكر سبحانه هذه القصص كما كانت، فذكر التفريج عن الرسل بعد أن استيأسوا، وذكر قصة يوسف ويعقوب ـ عليهما الصلاة والسلام ـ جاء التعقيب الذي يجمع مقصدي السورة، فقال حثاً على تأملها والاستبصار والاعتبار بها:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: لقد كان كوناً هو في غاية المكنة في قصص الرسل الذين طال بهم البلاء حتى استيأسوا، القصص الذي فصل الله تعالى فيه أحوالهم تفصيلًا تامًا دقيقًا من نوح إلى يوسف ومن بعده ـ على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ـ عبرة و عظة عظيمة وذكرى شريفة لأهل الحِجا والعقول، المبرأة من الشوائب يعتبرون بها وموعظة يتعظون بها، وإنما خص أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر ، ومن له لب أجاد النظر ، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان.
الاعتبار: العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول.
والعِبَر في قصة سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ كثيرة عظيمة من أهمها مما له تعلق بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة الكرام ثم بقية المؤمنين:
  1. أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب ليهلك ، ثم بِيع بيعَ العبيد بالخسيس من الثمن ، وبعد الإسار والحبس الطويل وإعلائه بعد حبسه في السجن ، بتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم، ومَكَّن له في الأرض وأعلاه على من بغاه بسوء من إخوته ، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة ، لقادر على إعزاز محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإعلاء كلمته ، ولا يتعذّر عليه أن يفعل مثله به، فيخرجه من بين أظهركم ثم يظهره عليكم ويمكن له في البلاد ويؤيده بالجند والرجال من الأتباع والأصحاب ، وإن مرّت به شدائد وأتت دونه الأيام والليالي والدهور والأزمان .
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد: في الجب، وفي بيت العزيز، وفي السجن، وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس، ثم كانت العاقبة خيرًا للذين اتقوا كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب.
  1. الإخبار بهذا القصص إخبار عن الغيب، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل، مع عدم قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكتب السابقة، فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثًا مفترى، فالأكاذيب لا تحقق هداية، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة؛ لذلك قال سبحانه في آخر آية مبينًا أنَّ مِنْ أجَلِّ العِبَر في قصة يوسف ـ عليه السلام ـ القطع بحقية القرآن:{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}لِمَا بيَّنه من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم، ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة، والتفاصيل الظاهرة والمناهج المعجزة القاهرة ، ما كان هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيره مفترى، ولا يصح أن يفتري ويُتَقول؛ لأن النبي الذي أتى به لم يقرأ الكتب ولم يتتلمذ لأحد، ولم يخالط العلماء ، فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت، وفيه تعريض بالنضر بن الحارث وأضرابه.
ثم أكد كونه غير مفترى بقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}: هو حديث صدق يصدق ما قبله من الكتب المنزلة من السماء، بحيث يطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت بل القرآن مهيمن مصحح لها، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ناطق بالحق، جاء به من لم يقرأ الكتب ولا تتلمذ لأحد، ولا خالط العلماء، فمحال أن يفتري هذه القصص.
{وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}: وتفصيل كل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدين وما ينفعهم في دينهم ودنياهم: من بيان أمر الله، ونهيه وحلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
{وَهُدًى}: من الضلال في الدنيا، يهدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلالة إلى السداد.

{وَرَحْمَةً}: أي: سببًا لحصول الرحمة لمن اهتدى بهديه، ينال بها خير الدارين في الدنيا والآخرة، وتورثه جنانه والخلود في النعيم المقيم، وتنقذه من سخط الله وأليم عذابه.
ومن أمثلة الهُدى والعبر الذي في القصص: العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة ، وذلك رحمة للمؤمنين؛ لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون ، فتصلح أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال ، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسببٌ لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] .
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بكل ما يجب الإيمان به، ومن جملة ذلك القرآن بما فيه من وعد الله ووعيده وأمر ونهي، فيعملون بما فيه من أمره وينتهون عما فيه من نهيه، خصهم بالذكر ؛لأنهم هم الذين انتفعوا به.
فالآية الأخيرة من السورة ملخصة لمقصود السورة، وإذا قارنته مع ما ذكر من مقصود السورة يتبين تلخيصها لمقصود السورة بكل دقة وإيجاز وبلاغة، وهو عبرنا عنه بقولنا:
أ- إثباتُ أنَّ القرآنَ وحي هادٍ، من الله تعالى؛ دعوةً له وردًا على من جحده، وأشرك، وكذب بأن الله علمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم.
ب-بيانُ حسنِ عاقبةِ المؤمنين المحسنين بنصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، وإيتائِهم العلمَ، وولايةِ الله تعالى لهم، وأنه غالب على أمره عليم بكل شيء؛ تثبيتًا وتسليةً للرسول والمؤمنين.[48]



[1] قيل: إنَّ الآيات الثلاث الأولى مدنيّات، وهو رأي ضعيف؛ لأن السورة كلّها قصة واحدة. «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» /عبد الله محمود شحاته (139)، قال ابن عاشور: "هي مكية على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره، وقد قيل: إن الآيات الثلاث من أولها مدنية، قال في «الإتقان»: وهو واهٍ لا يلتفت إليه". التحرير والتنوير/ابن عاشور (12/ 197).

[2] قال سيد قطب:" إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية إنما كان يحكمها «الرعاة» الذين عاش إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب ـ عليهم السلام قريبًا منهم، فعرفوا شيئًا عن دين اللّه منهم، نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب «الملك» في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى - عليه السلام - من بعد بلقبه المعروف. «فرعون».. ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف - عليه السلام - في مصر فهو ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة وهي أسر «الرعاة» الذين سماهم المصريون «الهكسوس»! كراهية لهم إذ يقال: إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة: «الخنازير» أو «رعاة الخنازير»! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن. (في ظلال القرآن / سيد قطب (4/ 1960).

[3] تفسير الخازن (لب التأويل) (2/ 511).

[4] السيرة النبوية /ابن هشام (5/ 74).

[5] في ظلال القرآن / سيد قطب (4/ 2036) بتصرف يسير.

[6] المرجع السابق (4/1950) بتصرف يسير.

[7] هذا المبحث مستخلص من (جامع البيان / الطبري (15/24)، (في ظلال القرآن / سيد قطب (4/ 2038) ،( النبوة والأنبياء / الندوي (122 ـ 124)،(تفسير تحليلي لسورة يوسف / أحمد نوفل )، (التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ محمد سيد طنطاوي (7/300)، (التحرير والتنوير/ الطاهر بن عاشور (12/198)،( صفوة التفاسير / الصابوني (2/34).

[8] قال المكي الناصري: وقد خصَّ القاضي عبد الجبار من بين سور القرآن جميعًا سورة يوسف بمقدمة نفيسة تولى فيها تحليل هذه السورة، ولفت الأنظار إلى ما فيها من مواطن العبرة والتدبر، فقال رحمه الله:" أول ما نذكر في هذه السورة أنها مشتملة من آداب الأنبياء صلوات الله عليهم، ومن آداب الأخلاق، والتمسك بالصبر والحلم، وتوقع الفرج بعد حين، والتشدد في الصبر على المعاصي واحتمال المكاره، على ما لو تأمله القارئ، وتمسك بكله أو بعضه، لعظم موقع ذلك في دينه ودنياه:
  1. فليتأمل القارئ أولًا: رؤيا يوسف للكواكب والشمس والقمر، وأن أباه، صلى الله عليهما، كيف تقدم بكتمان ذلك عن إخوته، والصبر في كتمان ذلك صعب، فاحتمله تحرزًا من حسدهم " {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
  2. وليتأمل ثانيًا: كيف جاد به على إخوته، لئلا يستوحشوا، وظن السلامة، مع خوفه منهم عليه، حتى أقدموا على ما أقدموا " {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.
  3. وليتأمل ثالثًا: أنه بعد ظهور ذلك منهم كيف احتملهم، ولم يجازهم على ما فعلوه، بقطعهم وإخراجهم عن محبته، وعن النظر لهم " {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
  4. وليتأمل رابعًا :صورة يوسف فيما وقع إليه من امرأة العزيز، كيف تشدد في الاحتراز عنها، واحتمل لذلك الحبس الطويل، حتى كانت عاقبة صبره ما حصل من اعتراف الكل بصيانته ووصوله إلى الملك والبغية " {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} - {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} - {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} - {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} - {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} - {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
  5. وليتأمل خامسًا :ما دفع إليه إخوته في تلك السنين الصعبة، من التردد إلى يوسف، يطلبون من جهته القوت، واحتمالهم لما عاملهم به {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} - {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
  6. وليتأمل سادسًا: كيف صبر عليهم، وكيف احتمل في تخليص أخيه إلى حضرته، واحتباسه عنده على مهل، وقد كان يمكنه التعجل " (واسم أخيه هذا بنيامين، وكان أصغر من يوسف) {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
  7. وليتأمل سابعًا: كيف حسنت معاملته مع إخوته حين ظفر بهم، وقد كانوا عاملوه من قبل بما عاملوه به، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
  8. وليتأمل ثامنًا: كيف توصل إلى إزالة الغمة عن قلب أبيه، وصبر إلى أن ظفر بالوقت الذي أمكنه فيه إحضاره عنده على أحسن الوجوه " {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}.
  9. وليتأمل تاسعًا: كيف كان صبر يعقوب ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بابه، وفي باب غيبة أخيه، وهو كالراجي لعودهما إليه واجتماعه معهما " {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} - {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
  10. وليتأمل عاشرًا: كيف قبل يوسف عذر إخوته، وقد اعتذروا إليه، مع تلك الجنايات العظام " {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فكان جوابه {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
  11. وليتأمل حادي عشر: كيف قبل يعقوب أيضا عذرهم " {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} وزاد بأن قال {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، " إلى وجوه أخر تركنا ذكرها ".
" ثم إنه تعالى قال في آخر السورة لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولجماعة المكلفين: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} فنبه بذلك على وجوب التمسك بهذه الأخلاق والآداب، وكذلك قال تعالى في أول السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}؛ لأن النفع يعظم بذلك لمن تأمله ".
" وهذا معنى قوله {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] لأن من تدبر القرآن، وتمسك بأحكامه وآدابه وأخلاقه، انفتح قلبه للخيرات دينا ودنيا، فإن قرأه من غير تدبر يصير قلبه كأن عليه قفلًا لا يتغير عما هو عليه، فهذه المقدمة التي قدمناها في هذه السورة تنفع فيها وفي القرآن ". (التيسير في أحاديث التفسير/ محمد المكي الناصري (3/ 162) يقول علي هاني لم أعثر على هذا النص في تفسير القاضي عبد الجبار في ضمن تفاسير المعتزلة فلعله نقله من كتاب آخر لعبد الجبار.

[9] مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ/ البقاعي (4/ 3)، (نظم الدرر / البقاعي (4/4،3).

[10] هذا الذي نقلته عن البقاعي حاصل كلامه ، وعبارته في تفسير الآية الأولى من سورة يوسف :" لما خلل سبحانه تلك [سورة هود ] مما خللها به من القصص والآيات القاطعة بأن القرآن من عنده وبإذنه نزل ، وأنه لا يؤمن إلاّ من شاء إيمانه ، وأنه مهما شاءه كان ،وبيّن عظيم قدرته على مثل ما عذب به الأمم، وعلى التأليف بين من أراد وإيقاع الخلاف بين من شاء ، وأشار إلى أنه حكم بالنصرة لعابديه، فلا بد أن يكون ما أراد ؛ لأنه إليه يرجع الأمر كله ، تلاها بهذه السورة لبيان هذه الأغراض بهذه القصة العظيمة الطويلة التي لقي فيها يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما لقي من أقرب الناس إليه ومن غيرهم، ومن الغربة وشتات الشمل ، ثم كانت له العاقبة فيه على أتم الوجوه لما تدرع به من الصبر على شديد البلاء والتفويض لأمر الله جلَّ وعلا؛ تسلية لهذا النبي الأمين، وتأسية بمن مضى من إخوانه المرسلين فيما يلقى في حياته من أقاربه الكافرين، وبعد وفاته ممن دخل منهم في الدين في آل بيته كما وقع ليوسف ـ عليه السلام ـ من تعذيب عقبه وعقب إخوته ممن بالغ في الإحسان إليهم ، وقد وقع ليوسف ـ عليه السلام ـ بالفعل ما همّ الكفار من أقارب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله به كما حكاه سبحانه في قوله { لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [الأنفال : 30] فنجاه منهم أن يكون شيء منه بأيديهم إلاّ ما كان من الحصر في شعب أبي طالب ، ومن الهجرة بأمر الحكيم العليم، ثم نصر الله يوسف ـ عليه السلام ـ على إخوته الذين فعلوا به ذلك وملكه قيادتهم ، فكان في سوق قصته عقب الإخبار بأن المراد بهذه القصص تثبيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسلية فؤاده إشارة إلى البشارة بما وقع له ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح من ملك قيادهم ورد عنادهم ومنّه عليهم وإحسانه إليهم ، وفي إشارتها بشارة بأن المحسود يعان ويُعْلى إنْ عمل ما هو الأحرى به والأَولى ، ومن فوائد ذكرها: التنبيه على أن الحسد داء عظيم شديد التمكن في النفوس حتى إنه بعزم تمكنه وكثرة مكانه وتعدد كائنه ربما غلب أهل الصلاح إلاّ من بادر منهم بالتوبة داعي الفلاح .
وتُرِكَتْ إعادةُ قصة يوسف ـ عليه السلام ـ دون غيرها من القصص صوناً للأكابر عن ذكر ما ربما أوجب اعتقاد نقص، أو توجيه طعن أو غمص، أو هور داء الحسد عند ذي تهور ولدد، وخللها سبحانه ببليغ الحكم، وختمها بما أنتجت من ثبوت أمر القرآن ونفي التهمة عن هذا النبي العظيم. (نظم الدرر (4/1ـ3).
وقال البقاعي عند قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الآية:111]:" {عبرة} أي عظة عظيمة وذكرى شريفة {لأولي الألباب} أي
لأهل العقول الخالصة من شوائب الكدر، يعبرون بها إلى ما يسعدهم بعلم أن من قدر على ما قص من أمر يوسف ـ عليه السلام ـ وغيره قادر على أن يعز محمداً ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف ـ عليه السلام ـ وغيره - إلى غير مما ترشد إليه قصصهم من الحكم، وتعود إليه من نفائس العبر". (نظم الدرر (4/ 183).
وقال في آخر تفسيره لسورة يوسف:" فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أنه الكتاب المبين، وانطبق ما تبع هذه القصص - من الشهادة بحقية القرآن، وأن الرسل ليسوا ملائكة ولا معهم ملائكة للتصديق يظهرون للناس، وأنهم لم يسألوا على الإبلاغ أجراً - على سبب ما تبعته هذه القصص، وهو مضمون قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} [هود: 12] الآية من قولهم: {لولا ألقي عليه كنز أو جاء معه ملك} [هود: 12] وقولهم: إنه افتراه، على ترتيب ذلك، مع اعتناق هذا الآخر لأول التي تليه، فسبحان من أنزله معجزاً باهراً، وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وكيف لا وهو العليم الحكيم - والله سبحانه وتعالى أعلم.( 4/ 184).
وقال في بداية سورة الرعد: لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السنوات والأرض مع الإعراض ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش؛ لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب. (4/ 185).

[11][11] قال ابن عاشور: " الاسم الوحيد لهذه السورة اسم "سورة يوسف"، فقد ذكر ابن حجر في كتاب «الإصابة» في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع بن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف، يعني بعد أن بايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم العقبة، ووجه تسميتها ظاهر؛ لأنها قصت قصة يوسف- عليه السلام- كلها، ولم تذكر قصته في غيرها، ولم يذكر اسمه في غيرها إلا في سورة الأنعام وغافر. التحرير والتنوير/ ابن عاشور (12/ 197).

[12] قال المهايمي: "سميت به؛ لأن معظم قصته مذكورة فيها، ومعظم ما فيها قصته". تبصرة الرحمن وتيسير المنان/على المهايمي (1/356).

[13] قال د. عمر عرفات:" سميت هذه السورة بسورة "يوسف" ؛لأنها حوت أطول قصة في القرآن عن شخصية واحدة ألا وهو يوسف ـ عليه السلام ـ في سورة واحدة ، فكان التفصيل الوارد في سياق عرض هذه القصة دليلًا على أن القصص القرآني هو أحسن القصص ، وذلك دال على كمال علم الله تعالى بأحداث الغيب، ومن أهم الدلالات السياقية لاسم السورة بيان قدرة الله تعالى التامة على توجيه أحداث الغيب حسب إرادته العليمة الحكيمة ...ثم قال : ذكر عدد من المفسرين والكاتبين أوجهًا لربط اسم هذه السورة بمحورها وموضوعاتها، فذكروا أنها سميت باسمه؛ لأنها حوت معظم قصته عليه السلام ، ولم تتكرر قصته في مكان آخر من القرآن، وأن من دلالات سياق قصته بيان تمام علم منزل هذا القرآن بالغيب والشهادة ، وشمول قدرته قولًا وفعلًا، وفيها دلالة على عناية الله تعالى بأحبابه وتهيئة الظروف لهم بالفرج بعد الشدة ، وفيها دلالة على توحيد الألوهية والربوبية والحكمية لله تعالى ، وكل ذلك فيه تثبيت لقلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما كان يلاقيه في المرحلة المكية من شدة عناد قومه ، وتصديق له بأنه لا يمكن له الإتيان بمثل هذه القصة التي تمثل أنموذجًا كاملًا لمنهج الإسلام في الأداء الفني القصصي إلا من طريق الوحي. دلالة أسماء السورة القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د. عمر عرفات (ص147).

[14] من المعلوم أن الألف واللام والراء أسماء بدليل صحة تعريفها بالألف واللام، وجواز جرها، ومسمى الراء مثلًا هو (ر)، ومسمي اللام هو (ل)، و(ر)، و(ل) حرفان.

[15] العَيُّوقُ: نجمٌ أحمر مضيءٌ في طَرَفِ المَجَرَّةِ الأيمن، يتلو الثُّرَيَّا لا يتقدمها.

[16] يراجع ما ذكره الزمخشري والبيضاوي في مقدمة سورة البقرة من الأسرار العجيبة التي راعها القرآن الكريم في ذكر الحروف المقطعة في تسع وعشرين سورة ، ثم ذكر نصف حروف اللغة العربية ، وأنصاف صفات الحروف ، بشكل عجيب جدًا.

[17] نظم الدرر/ البقاعي (4/ 6).

[18] قال الحرالي:" تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها، في معنى قص الأثر، وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر". نظم الدرر / البقاعي (4/ 444). وقال البقاعي في موضع آخر:" {فاقصص القصص} أي فأخبر الإخبار العظيم الذي تتبعت به مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم، وهو مصدر قص الشيء - إذا تبع أثره واستقصى في ذلك. (نظم الدرر/ البقاعي (3/ 247).

[19] قال الواحدي في التَّفْسِيرُ البَسِيْط:" والقَصَصُ: مصدر قولهم: (قَصَّ فلانٌ الحديثَ، يقصُّه قَصًّا، وقَصَصًا)، وأصله: اتِّباعُ الأثر؛ يقال: (خرج فلانٌ قَصَصًا في أثر فلان)، و (قَصًّا): إذا اقتصَّ أثَره، ومنه قوله تعالى: [{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]، وقيل للقاصِّ يقصُّ لأتباعه خبرًا بعد خبر، وسَوقه الكلامَ سَوقًا، فمعنى (القَصَص): الخبر الذي تَتَابَعُ فيه المعاني". التَّفْسِيرُ البَسِيْط/ الواحدي (5/ 325).

[20] قال أبو السعود: "{فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} أي: ما جَرى عليهِ من الخبرِ المقصُوصِ، فإنَّه مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالعَلَلِ". (تفسير أبي السعود (7 / 9)، وجاء في تاج العروس: "والقَصَصُ، بالفَتْح: الخَبَرُ المَقْصُوص، وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدرِ ". تاج العروس / الزبيدي (18/108). وجاء في لسان العرب: "والقِصّة الخبر، وهو القَصَصُ، وقصّ عليّ خبَره يقُصُّه قَصّاً، وقَصَصاً: أَوْرَدَه، والقَصَصُ الخبرُ المَقْصوص بالفتح وضع موضع المصدر حتى صار أَغْلَبَ عليه، والقِصَص بكسر القاف جمع القِصّة التي تكتب". لسان العرب/ ابن منظور (5/3651). وقيل: إنه اسم مصدر، مراد به أثر المصدر، أو أنه اسم لما يقص.

[21] قال اطفيش: {فَاقْصُصِ القَصَصَ} المذكور، وهو مفرد مصدر بمعنى مفعول. (تيسير التفسير / محمد يوسف اطفِيَّش (5/241).

[22] معجم مقاييس اللغة / ابن فارس (5/ 11).

[23] نظم الدرر/ البقاعي (8/ 161).

[24] قال الراغب والسمين في عمدة الحفاظ:" والْقَصَصُ: الأخبار المتتبّعة" مفردات الراغب (671)، عمدة الحفاظ / السمين الحلبي (3/ 312). وقال المعجم الاشتقاقي: "قَصُّ الشعر (نصر) قطعه، القُصّة - بالضم: الخصلة من الشعر، وقُصة المرأة ناصيتها.
المعنى المحوري: تتبع أو تتابع باطراد مع تسوية. فالقُصَّة(بالضم) تكون مجزوزة باستواء أو مسواة على مقدم الرأس.
ومن هذا: "قصصت الشيء: تتبعت أثره شيئًا بعد شيء، والتسوية هنا الانضباط على ذلك. {فارتدا على آثارهما قصصا} [الكهف: 64] أي: رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر، أي: يتبعانه (حتى يصلا) ومن ذلك "الخبر المقصوص قصة والقَصَص "بالتحريك: وضعت هذه المحركة موضع المصدر حتى صار أغلب عليها، والاستواء في القصة كمال التفاصيل، يقال: "اقتصصت الحديث رويته على وجهه/ أتى به من فصه "فهي أحداث أو أمور لها أصل (فص) وتتوالى على نحو مترابط إلى نهاية ما أو هي من قص الخبر أي حكايته متتابعة حسب ما سمع أو وقع) كقصة حياة سيدنا يوسف بأحداثها، وقصص سائر الرسل مع أقوامهم، والقرى مع أهلها ومصائرهم. المعجم الاشتقاقي/ محمد حسن جبل (4/ 1790). قال محمد رشيد رضا:" وأصل القص تتبع الأثر، فيكون بالعمل: كقوله تعالى حكاية عن أم موسى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]، وبالقول، ومنه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وهي الأخبار المتتبعة كما حققه الراغب فليس كل خبر قصصًا". تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (8/ 281). وقال الطوسي:" والقصص: الخبر الذي تتابع فيه المعاني وأصله اتباع الأثر، وفلان يقص أثر فلان أي يتبعه". (التبيان في تفسير القرآن/أبو جعفر الطوسي).

[25] في المراد بالقصص في آية الأعراف قولان:

  • القول الأول: اختاروا العموم فقالوا المراد: اقصص هذه القصة ـ وهي قصة الذي انسلخ عن آيات الله ـ وغيرها من المقصوص عليك من جهتنا من أخبار القرون الماضية، وأخبر بالأخبار العظيمة التي تتبع فيها مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم، وهو المختار.
واختار هذا: عطاء، والبقاعي، وابن عاشور، وأبو حيان، والخازن، وابن الجوزي، وسيد طنطاوي، والصابوني.
القول الثاني: قصروا المراد على قصة الذي انسلخ من آيات الله تعالى، وليس هذا الرأي بسديد فقد حجر واسعًا.


[26] قال المصباح المنير: قصصت الخبر قصًا: حدثت به على وجهه. (المصباح المنير/ 505).

[27] قال ابن الأثير:" القاصُّ: الذي يأتي بالقِصَّة على وجْهِها كأنه يَتَتَبَّع مَعانِيَها وألْفاظَها"(النهاية في غريب الأثر/ ابن الأثير (4/ 113).

[28] قال الزجاج، وابن الجوزي، والنسفي، والماوردي عند قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} أي: نبين لك أحسن البيان، والقاصّ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها". (معاني القرآن وإعرابه/ الزجاج (3/ 88)، (زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (2/413)، (تفسير النسفي (2/ 93)، (تفسير الماوردي = النكت والعيون (3/ 6).

[29][29] قال ابن عاشور: "القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة". (التحرير والتنوير/ ابن عاشور (13/ 71).

[30] قال البقاعي:"{وقص} أي موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ {عليه} أي: شعيب عليه الصلاة والسلام {القصص} أي حدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله، وتتبع له الأمور على ما هي عليه لما توسم فيه بما آتاه الله من الحكم والعلم من النصيحة والشفقة، والعلم والحكمة، والجلال والعظمة ". (نظم الدرر/ البقاعي (5/ 777).

[31] قال التحقيق: "الأصل في المادة رواية واقعة جارية مضبوطة بأي وسيلة كانت قراءة أو سماعًا على ما طابق الواقع". (التحقيق/ المصطفوي: (9/304).

[32] (تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (12/ 208).

[33] تفسير أبي السعود (5/ 210)، (نظم الدرر/ البقاعي (12/ 22).

[34] قال السمين الحلبي في الدر المصون: "والقَصَصُ: مصدرُ قولهم: قَصَّ فلان الحديثَ يَقُصَّه قَصَّاً وقَصَصَاً. وأصلُه: تتبُّعُ الأثرِ، يقال: «فلان خَرَجَ يَقُصُّ أثرَ فلان» أي: يَتْبعه ليعرفَ أين ذَهَبَ؟ ومنه قولُه تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي: اتِّبعي أثره وكذلك القاصُّ في الكلام لأنه يتتَّبع خبراً بعد خبر. (3/229).

[35] ومثله في الفرق بين الفعل المدغم وغير المدغم في الفعل المضارع المجزوم:
ففي قوله تعالى: {قالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} يصح لغة أن يقال: لا تقصص، ولا تقصّ، لكن اختار القرآن الكريم فك الإدغام لبيان قوة وتأكيد النهي من يعقوب ـ عليه السلام ـ ليوسف أن يقص الرؤيا، قال البقاعي:" فبين شفقته عليه، وأكد النهي بإظهار الإدغام فقال: {لا تقصص رؤياك}". (نظم الدرر/ البقاعي (4/ 224).
جاء في شرح البناء لعلي هاني في الكلام على الفعل المضعف المجزوم والمبني:" فكِّ الإدغامِ وارد على لغة الحجاز، والإدغامُ واردٌ على لغة تميم، وهذا لا يمنع من وجود سر بلاغي في الإيراد على إحدى اللغتين:
  1. أولًا: سر فك الإدغام: فك الإدغام إما أن يكون في الإثبات، وإما أن يكون في النفي أو في النهي:
  • فإن كان في الإثبات: ففك الإدغام يدل على المبالغة في الفعل والتمكن والظهور، فـ(يضلل) بالفك تدل على الضلال الراسخ الثابت، فمعنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ} [الرعد:33]، ومن يضلل اللُه الملكُ الأعظمُ المحيط بكل شيء إضلالًا راسخًا كأنه مجبول عليه فهوَ في غاية البيان واضحًا في قلبه، وفكه القرآن؛ ليُخرِج الضَلالَ العارضَ. وفَكُّ الإدغامِ في قوله تعالى: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ص:39]، يدل على عظمة المنِّ وظهور أمره، ومعنى قوله تعالى: {رَبَّنا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهمْ واشْدُدْ عَلَى قُلُوبهمْ} [يونس:88] اشدد شداً قويًا مكينًا ظاهراً لكل أحد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: اطبع عليها وامنعها من الإيمان.
  • وأما إن كان الفك في النفي أو النهي فهو يدل على تأكيد النفي أو النهي، وإليك بعض الآيات مع بيان سرها:
في قوله تعالى: {ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ في الْبِلادِ} [غافر:4] فك الإدغام فيه تأكيد للنهي عن الاغترار بتقلبهم، وفي قوله تعالى: {قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم:20] الفك أكد عدم المس لها أي: {ولم يمسسني بشر} بنكاح أصلاً: حلالٍ ولا غيره ِ، بشبهة ولا غيرها، هذه فائدة فك الإدغام.
  1. ثانيًا: سر الإدغام: الإدغام يدل على أن الفعل على أدنى الوجوه بوجه خفي، وقد جاء في أربعة مواضع في القرآن الكريم منها: قوله تعالى: { ياأ َيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يأتِي اللهِ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ }[المائدة:54] فمعنى قوله تعالى { من يرتدَّ}من يرتد ولو أقل ارتداد ولو على وجه خفي .(التسهيل في شرح كتاب البناء/ علي هاني(242).

[36] نظم الدرر/ البقاعي (10/ 8).

[37] البحر المحيط /أبو حيان (6/ 236).

[38] رجحه الزمخشري، والطبري، والبغوي، والرازي، والطوسي.

[39] ينظر بحث علي هاني في الفرق بين (قبل، ومن قبل)، و(بعد، من بعد)، نشر بعضه في ملتقى أهل التفسير باسم (تحقيق الفرق بين قبل ومن قبل/ علي هاني يوسف).

[40] قال سيد قطب:" الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» وهذه الآيات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليه السلام.. ونص الآية التالية في السياق هو: «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ...».
ثم تمضي القصة بعد ذلك في طريقها إلى النهاية، فالتقديم لهذه القصة بقول اللّه تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة، وكذلك هذه الأحرف المقطعة (الر) وتقرير أنها آيات الكتاب المبين ثم تقرير أن اللّه أنزل هذا الكتاب قرآنا عربيًا.. هو كذلك من جو القرآن المكي، ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن أعجميًا يعلمه لرسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ وتقرير أنه وحي من اللّه كان النبي ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته، ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها، وهو قول اللّه تعالى: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.. فهناك حبكة بين التقدمة للقصة والتعقيب عليها ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب (في ظلال القرآن/ سيد قطب (4/ 1949).

[41] دلالة أسماء السورة القرآنية على محاورها وموضوعاتها/د. عمر عرفات (149).

[42] جامع البيان / الطبري (16/ 283).

[43] ما أشبه هذه الآية الكريمة {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}[آية: 108]، بما ورد على لسان الرُّسُلِ في سورة هود أنَّ كل نبي منهم على بينة من ربه، ففي قصة سيدنا نوح ـ عليه السلام: { قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}[هود:28] ،و في قصة سيدنا صالح ـ عليه السلام {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}(63)،و في قصة سيدنا شعيب ـ عليه السلام :{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}(88). (سورة يوسف دراسة تحليلية /د. أحمد نوفل (89)).

[44] هذا التقدير اختاره: الزمخشري، وابن الجوزي، والبقاعي، والجلال، وابن عاشور، وهو الأحسن، وقدر أبو السعود تقديرًا آخر فقال:" أي: لا يغُرّنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء والتكذيب، فإن مَنْ قبلهم قد أُمهلوا وتراخى النصر للرسل وصبروا وطال دعاؤهم حتى أيِسَ الرسل عن النصر عليهم في الدنيا".

[45] إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ: الاستيئاس واليأس: انقطاع الطمع، لكن صيغة الاستيئاس (استفعال) تدل على المبالغة في اليأس، أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً.
وفي المعنى الذي استيأس منه الرسل قولان:

( 1 القول الأول: استيأسوا من قومهم أن يؤمنوا بالله ، ويصدّقوهم فيما أتوهم به من عند الله ، قال ابن عباس: يريد من قومهم أن يؤمنوا
واختاره :الطبري، والواحدي، والقرطبي، و ابن أبي زمنين، والقشيري، والنسفي، والقاسمي ،يقول علي هاني : وهذا التفسير أنسب بقراءة التشديد في {وظنوا أنهم قد كُذِّبوا}.
2) القول الثاني: استيأسوا من مجيء النصر لهم على أعدائهم .
اختاره : مجاهد، والبقاعي، والزمخشري، والشوكاني، و آخرون، يقول علي هاني: وهذا التفسير أنسب بقراءة التخفيف (كُذِبوا).

3) القول الثالث: جواز الوجهين.
اختاره :أبو السعود، وأبو حيان .
وَظَنُّوا : الظن : أنه اسم لما تحصل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت لم تتجاوز حد الوهم ، وعبارة المحكم لابن سيده "الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عِيان إنما هو يقين تدبر ".( المحكم والمحيط الأعظم (10/ 8) وعبارة الراغب :"الظن: اسم لما يحصل عن أمارة، متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضَعُفَت لم تجاوز حد الوهم" ومتى قوي أو تصوّر تصوّرَ القويّ استعمل معه (أنّ) المشدّدة، و (أنْ) المخفّفة منها، ومتى ضعف استعمل (أنْ) المصدرية المختصة بالمعدومين من الفعل نحو :" ظننت أن خرج، وأن يخرج". (مفردات الراغب (539)..



وقد ورد استعمال الظن بمعنى اليقين كثيرًا في القرآن الكريم لكنه يقين حصل عن أمارات إلى أن وصلت درجة اليقين ، ولكن اليقين الحاصل من الظن لا يساوي تمامًا يقين الرؤية ، فيقين الظن ليس كيقين العِيان نحو: { وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ }[يونس:22] ،{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا }[الكهف:53]،هنا يبقى شيء من الأمل ولو قليل،{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}[القصص:39]،و{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ }[الحشر:2] ، وكذلك{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ }[البقرة:46]{ قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّه}[البقرة:249] فهذا يقين عن استدلال يمدحهم بأنهم مع عدم رؤيتهم بأعينهم وصلوا بالاستدلال لليقين.
{أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا}:
عندنا قراءتان متواترتان:1) القراءة الأولى :{كُذِبوا}خفف الذال أبو جعفر والكوفيون (عاصم، حمزة والكسائي) ، 2) القراءة الثانية {كُذِّبوا}، بتشديدها قرأ بها الباقون، وسيأتي توجيه القراءتين.
جَاءَهُمْ نَصْرُنَا،أي: لما بلغ الحال إلى الحد المذكور جاءهم نصرنا فجأة، والظاهر أن ضمير { جَاءهُمُ } على سائر القراءات والوجوه للرسل .
{فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ}: هم الرسلُ والمؤمنون بهم وأتباعهم، وإنما لم يعيَّنوا؛ للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم.
وتفريع {فنجي من نشاء} على {جاءهم نصرنا}؛ لأن نصر الرسل ـ عليهم السلام ـ هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس، فينجي الله الذين آمنوا ولا يردّ البأس عن القوم المجرمين.

القراءات في{فنجي من نشاء}:
1) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنون واحدة مضمومة وبعدها جيم مشددة وبعد الجيم ياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول، و " مَنْ "نائب فاعل.

2)قرأ الباقون بنونين: الأولى مضمومة والثانية ساكنة وبعد الثانية جيم مخففة، وبعد الجيم ياء ساكنة مدية(فنُنْجي) على لفظ المستقبل على أنه مضارع أَنْجَى و " مَنْ " مفعوله، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه.
فعلى قراءة {فنُجِّي من} نشاء الكلام على من مضى.
وعلى قراءة (فنُنْجي مَنْ نشاء) فيها توجيهان كلاهما صحيح:

1) الأول: " على أنه حكاية حال ماضية يصور المشهد الماضي كأنه مشاهد الآن؛ لأن القصة كانت فيما مضى، فإنما حكى فعل الحال على ما كانت.
2) الثاني: قالوا : في الآية احتباك: فالجمع بين الماضي في ( نجّي ) والمضارع في{ نشاء} احتباك تقديره: فنُجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة ، وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين.
{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}:
البأس: أصلها الشدة و القوة في الحرب التي تقتل أو تضر من وجهت له إضرارا بليغًا ، يقال له بأس في الحرب.
{ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا }:عذابنا لما له من العظمة وعقوبتنا وبطشنا بمن بطشنا به من أهل الكفر بنا ، { عَنِ القوم المجرمين } فكفروا بالله وخالفوا رسله وما أتوهم به من عنده إذا نزل بهم ، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة؛ لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين، والتعبير باسم الفاعل للدلالة على الثبوت .
والمجرم : هو المكتسب على وجه الفساد للذنوب الكبيرة ، وأصله من جَرَم الثمر قبل بدو صلاحه على وجه الفساد ، ويقال للجسم الكبير جِرم بكسر الجيم، فدل على أن الإجرام : الاكتساب على وجه الفساد والضرر للذنوب الكبير وأعظمها الكفر بالله ورسوله .
أقوال العلماء في تفسير الآية على قراءة التخفيف :
القول الأول:اختاره : الطبري ابن عباس ، وابن مسعود، وسعيد بن جبير ،ومجاهد، وابن زيد ،والضحاك، والبغوي ، والقرطبي، والجلال، و الجصاص ، و الشوكاني، و الشربيني، و القاسمي، و ابن أبي زمنين ، و مكي ، و السمعاني، قال الواحدي وهو قول عامة المفسرين وأهلِ المعاني لقراءة التخفيف.
قالوا : الضمير في ظنوا للأمم وليس للرسل؛ لأن الرسل لا يظنون ذلك ، والظن هنا بمعنى التوهم والحسبان، ، و (كُذِبوا) من قولهم: كذَبْتُك الحديثَ، أي: لم أصدقك، ومنه قوله تعالى : { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}،أي: ظن الأمم أن الرسل كذَبُوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم، وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من إمهال الله إياهم، والمعنى :حتى إذا استيأس الرسل الذين أرسلناهم إليهم، وطلب منهم أن يؤمنوا بالله ، ويصدّقوهم فيما أتوهم به من عند الله ، وظنّ الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذّبة أن الرسل الذين أرسلناهم ، قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده إياهم نصرهم عليهم ، جاءهم نصرنا، وقد ورد مثل هذا المعنى في القرآن الكريم كما أخبر عنه في قصة نوح من قولهم:{ بل نظنكم كاذبين[ : هود : 27] ، وكذا في قصة هود وصالح وقوله:{ فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورًا }[الإسراء:101] .
القول الثاني:الضمائر الثلاثة للرسل ، والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعنى اليقين .
أي كَذَبتْهم أنفسُهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذَبهم رجاؤُهم ،فإن الرجاء يوصف بالصدق والكذب لقولهم : رجاء صادق ، ورجاء كاذب ، والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، لا شكًا في وعد الله تعالى ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب.
اختاره : الزمخشري، وأبو السعود، والآلوسي، والبيضاوي، والمظهري، والخطابي، وهذا التفسير هو الأوضح.
وأما قراءة التشديد {كُذِّبوا } ففي توجيها أقوال ، وأحسن الأقوال في تفسيرها ما اختاره : قتادة، والحسن، وعطاء، والواحدي، و البغوي، والزمخشري، وابن الحوزي، والقرطبي، والسمين الحلبي، والجلال قالوا: الضمير في ظنوا للرسل، والمراد بالظن اليقين، حمل الظن على العلم ، والمعنى حتى إذا أيقن الرسل أن الامم كذبوهم تكذيبًا عمهم حتى لا يفلح أحد منهم ،ونسبوهم إلى الكذب ، لأن التكذيب نسبة القائل إلى الكذب ،و أن الأمم قد كذبوهم تكذيبًا لا يرجى بعده إيمانهم ، وأن الرسل يئسوا من فلاح القوم ـ جاءهم نصرنا .(ينظر تتمة تفسير الآية في ملتقى أهل التفسير / علي هاني يوسف).


[46] اختار هذا القول: مقاتل، والزمخشري، البيضاوي، وأبو السعود، والنسفي، والآلوسي، والبقاعي، وابن عاشور، وابن عطية، وابن كثير، واطفيش - الهيمان، والسعدي، وأبو زهرة، ودروزة، وسيد طنطاوي، والطوسي، والتفسير الميسر والمنتخب.

[47] اختاره هذا: الطبري، والسمرقندي، وابن أبي زمنين، والثعلبي، ومكي، والماوردي، والواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والفخر الرازي، والخازن، والطبرسي، والطباطبائي.


[48] قال د. عمر عرفات:" جاءت الخاتمة وهي تحوي تعقيبات على القصة متناسقة أشد التناسق معها ، وفيها تثبيت وتصديق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسرية عنه مما يلاقيه في دعوته من قومه ، ولاحظ أول تعقيب على القصة :{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}، إنه يؤكد ما برز في سياق القصة من قدرة الله تعالى على توجيه الأمور الغيبية حسب حكمته ، وأنى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلم ذلك بالتفصيل الوارد في القصة إلا عن طريق الوحي؟
ثم أعقب السياق بذكر عدد من التوجيهات المسرية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يلاقيه من عناد قومه { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} وكأن السياق يقول: بعدما بينا للناس في قصة يوسف من علمنا الكامل بالغيب ولطف تقديرنا له ، لم يبق لهم حجة لعدم الإيمان ، فلا تلم نفسك على من لم يؤمن بعد ذلك ، فإن وعد الله تعالى لك بالنصر سيتحقق كما تحقق الفرج لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم انظر كم يتلاءم هذا التعقيب مع ما ورد في القصة من قول سيدنا يوسف عليه السلام ، والذي يبين أن الشرك أمر يقع فيه أكثر الناس :{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}.
ولاحظ في قول سيدنا يوسف عليه السلام السابق كيف حذر من الكفر بالآخرة، وهذا متسق مع قوله تعالى في الخاتمة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)}.
أما قوله تعالى مثبِّتاً النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.فلا يخفى ترابطه مع ما جاء في سياق قصة يوسف عليه السلام من تحقق الفرج ليعقوب عليه السلام باجتماعه مع ابنه بعد طول غياب ، ومع مصير يوسف عليه اللام إلى [أن صار وزيرًا ] في مصر بعد أن ألقي في الجب، وكل ذلك عائد إلى الأحداث الغيبية التي وجهها الله تعالى بعلمه وحكمته حسبما شاء وأراد.
وختمت السورة بقوله تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} وهو متناسق أشد التناسق مع ما فصلته قصة يوسف عليه السلام من علم الله تعالى الكامل بأمور الغيب وتوجيهه لها حسبما أراد، وهكذا تلتقي الخاتمة مع المقدمة على المحور المذكور والذي دل عليه اسم السورة أجمل دلالة.
دلالة أسماء السورة القرآنية على محاورها وموضوعاتها/د. عمر عرفات (154،153).
وقال محمد سيد طنطاوي:" أما القسم العاشر والأخير من السورة الكريمة، فقد كان تعقيبًا على ما جاء في تلك القصة من حكم وأحكام، ومن عبر وعظات، ومن آداب وهدايات ...وقد بين- سبحانه- في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله، وما يشهد بصدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يبلغه عن ربه... كما بين- سبحانه- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف المشركين من دعوته وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وأن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين.
قال تعالى: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}ثم يختتم- سبحانه- هذه السورة الكريمة بقوله: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.( التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ محمد سيد طنطاوي (7/ 305).
وقال في آخر السورة:" ثم يختتم الله- تعالى- هذه السورة الكريمة بما يدل على أن هذا القرآن من عند الله- تعالى- وبما يدخل التسلية على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وبما يفتح له باب الأمل في النصر على أعدائه. (7/ 305).
 
عودة
أعلى