مقدمات فقهية نافعة

إنضم
08/04/2006
المشاركات
18
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
هذه مقدمات فقهية كتبتها كمقدمة لشرح متن أبي شجاع، أسأل الله أن تكون خالصة لوجه الله الكريم، وأن ينفع بها كاتبها وقارئها ، وليس لي أنا الفقير إلا الجمع والترتيب ، وأحببت نشرها هنا للفائدة ، وسوف أجمعها هنا لتكون متتابعة لمن أرادها :

المقدمة الأولى : شرف علم الفقه .
مما لا يخفى أن علم الفقه هو من أهم العلوم الإسلامية وأشرفها، ويكفي في الدلالة على ذلك قول المولى سبحانه وتعالى: [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] {التوبة:122}
وقال جل جلاله : [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:18} .
قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء (1/4) : فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا وجلاء ونبلاً.اهـ

وقال الله عز وجل : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {المجادلة:11}

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن سيدنا معاوية رضي الله عنه : ( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ) .

وفي الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة الباهلي قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير.

والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ، فنكتفي بما ذكرنا.

وقد ذكر الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/109) عن عمر بن عبد العزيز قال: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
 

المقدمة الثانية : الحاجة إلى الفقه .
لا يحتاج الناس إلى شيء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل كحاجتهم إلى الفقه، فهو يَمَسُّ أكثرَ مجالات الحياة، ولهذا كان للفقهاء المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة، وكان الأئمة يقدمون الاعتناء بالفقه على الاعتناء بالحديث، بل ويقدِّمون في الحديث نفسه رواية الفقيه عن الفقيه على رواية المحدث عن المحدث .

فهذا الإمام الرامَهُرْمُزي يذكر لنا في المحدث الفاصل (ص238) عن وكيع بن الجراح شيخ الشافعي أنه قال لأصحابه : الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله – بن مسعود- ، أو سفيان – الثوري - عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة ، عن عبد الله، فقلنا: الأعمش عن أبي وائل أقرب. فقال : الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقية عن فقيه عن فقيه عن فقيه.اهـ

فانظر إلى هذا الإمام الكبير أعني وكيع بن الجراح كيف فضل سلسلة الفقهاء على سلسلة من لا عناية لهم بالفقه، مع كونهم أئمة في الحديث.


ومن الخلل البين الواضح ما يفعله كثير من الناس من العبث العلمي تحت شعار اتباع السنة وتعظيمها، فتراه دون فقه وعلم ، يقدم على دراسة كتاب من كتب الحديث كصحيح البخاري أو صحيح مسلم أو سنن أبي داود ، ثم يريد بعد ذلك أن يكون مرجعاً للفتوى، وإصدار الأحكام ، وما علم المسكين أن أهلية الفتوى لها شروط كثيرة، من لم يحصلها لم يحل له أن يفتي أو يصدر الأحكام.


وهذا إمام السنة أحمد بن حنبل يسأله رجل فيقول له : إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً ؟ قال: لا. قال :فمائتي ألف ؟ قال: لا. قال : فثلاثمائة ألف ؟ قال: لا. قال : فأربعمائة ألف ؟ قال: بيده هكذا وحرك يده. يعني له إذا حفظ هذا المقدار الكبير من الأحاديث مع العلم بالعربية والأصول وأقوال من سبقه، لعله بعد هذا كله يكون أهلاً أن يفتي الناس بقوله واجتهاده. انظر إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله تعالى (1/45).

وقد قيل للإمام الحنبلي الكبير ابن شاقلا : فأنت تحفظها ؟ فقال: إن لم أحفظها فإني أفتي بقول من يحفظها وأكثر منه.

يقصد أنه يقلد في الفتوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.

وابن شاقلا رحمه الله هو الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/292): شيخ الحنابلة أبو إسحاق ... كان رأسا في الأصول والفروع.اهـ

وهذا الإمام الكبير ابن وهب رحمه الله يقول: اقتدينا في العلم بأربعة اثنان بمصر، واثنان بالمدينة، الليث بن سعد وعمرو بن الحارث بمصر، ومالك بن أنس وعبد العزيز الماجشون بالمدينة، لولا هؤلاء لكنا ضالين. انظر تاريخ دمشق (45/464) .
وقال الإمام ابن وهب : لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت.
فقيل له : كيف ذلك ؟
فقال: أكثرت من الحديث فحيرني ، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا، ودع هذا. انظر ترتيب المدارك (2/427) والديباج المذهب (1/133).

وابن وهب هذا هو الذي يقول الذهبي في ترجمته كما في سير أعلام النبلاء (9/223) : عبد الله بن وهب ... الإمام شيخ الإسلام ... الحافظ ... كان من أوعية العلم ومن كنوز العمل ... وعن سحنون الفقيه قال: كان ابن وهب قد قسم دهره أثلاثا، ثلثا في الرباط وثلثا يعلم الناس بمصر، وثلثا في الحج، وذكر أنه حج ستا وثلاثين حجة.اهـ

وذكر الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/158) عن الإمام أبي العباس بن عقدة أن رجلا سأله عن حديث ، فقال: أقلوا من هذه الأحاديث، فإنها لا تصلح إلا لمن علم تأويلها.

وقال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله : كثير من هذه الأحاديث ضلالة، لقد خرجت مني أحاديث لوددت إني ضربت بكل حديث منها سوطين وإني لم أحدث به، ولعله يطول عمره، فتنزل به نازلة في دينه، يحتاج أن يسأل عنها فقيه وقته، وعسى أن يكون الفقيه حديث السن فيستحي.اهـ ذكر ذلك الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/158).

قال الإمام الحاكم: فمالك بن أنس على تحرجه وقلة حديثه يتقى الحديث هذه التقية فكيف بغيره ممن يحدث بالطم والرم.اهـ انظر معرفة علوم الحديث للخطيب البغدادي (ص61).

وكان الإمام مالك وهو من هو يحث أقرب الناس له على الإقلال من الحديث والسعي في طلب فقهه ، فقد قال لابني أخته أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس : أراكما تحبان هذا الشأن – جمع الحديث وسماعه – وتطلبانه.
قالا : نعم . قال : إن أحببتما أن تنتفعا به ، وينفع الله بكما ، فأقلا منه ، وتفقهاً. انظر الفقيه والمتفقه (2/159).


وهذا الإمام الفضل بن دُكَين شيخ الإمام البخاري يقول: كنت أمرُّ على زفر وهو محتب بثوب ، فيقول: يا أحول، تعال حتى أغربل لك أحاديثك. فأريه ما قد سمعت، فيقول: هذا يؤخذ به، وهذا لا يُؤخذ به، وهذا ناسخ، وهذا منسوخ.اهـ انظر الفقيه والمتفقه (2/163).


وجالس الإمام أحمد كثيرا من المحدثين ، وأخذ عنهم وانتفع بهم ، ولكن كان لفقه الشافعي أعظم الأثر في نفسه، حتى قال : هذا الذي ترون، كله أو عامته من الشافعي، وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا ادعوا الله للشافعي، واستغفر له.

وقال الإمام أحمد رحمه الله : ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته.

وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قليل الطلب للحديث.

وقال الإمام المحدث ابن معين لصالح بن أحمد بن حنبل : ما يستحي أبوك !! رأيته مع الشافعي ، والشافعي راكب وهو راجل، ورأيته وقد أخذ بركابه، قال صالح : فقلت لأبي. فقال لي : قل له : إن أردت أن تتفقه فخذ بركابه الآخر.

قال الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/159): وليعلم أن الإكثار من كَتْبِ الحديث وروايته لا يصير بها الرجلُ فقيهاً، إنما يتفقه باستنباط معانيه، وإنعام التفكر فيه.اهـ
 
المقدمة الثالثة : الفرق بين التمذهب والتعصب.

التمذهب هو أن يقلد العامي مذهبَ إمامٍ مجتهدٍ، سواء التزم مذهب إمام واحدٍ، أم تنقل بين المذاهب.
والمقصود بالعامي في كلامنا السابق ، كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وهذا هو مصطلح الأصوليين، فهم يطلقون العامي على غير المجتهد.
وعليه فقد يكون العامي ممن له اشتغال بالفقه، أو بعلوم اللغة، أو له اشتغال بطلب الحديث وتعلم أسانيده، وحفظها، ومعرفة الرجال، وغير ذلك، ولكنه لم يبلغ درجة الاجتهاد والنظر في نصوص الشرع، فهو في اصطلاح الفقهاء والأصوليين عاميٌّ، فلا يقبل قوله في الفقهِ، وتخريجِ الأحكامِ .

قال الإمام السرخسي الحنفي في كتاب الأصول (1/312) : وكذلك من يكون محدثاً لا بصر له في وجوه الرأي، وطرق المقاييس الشرعية، لا يعتد بقوله في الإجماع، لأن هذا فيما يبني عليه حكمَ الشرعِ بمنزلةِ العاميِّ، ولا يُعتدُّ بقول العامي في إجماع علماء العصر، لأنه لا هداية له في الحكم المُحْتَاجِ إلى معرفته.اهـ


وقال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في الفتاوى الفقهية الكبرى (2/251) : والمراد بالعامي في عرف الأصوليين غير المجتهد المطلق، فالمقلدون كلهم عوام عندهم، وإن جلت مراتبهم وفي عرف الفقهاء من يعرف الظاهر من الأحكام الغالبة بين الناس دون الأحكام الخفية ودقائقها والأحكام النادرة.اهـ


تعريف المذهب لغةً واصطلاحاً :المذهب لغة : اسم لمكان الذهاب.
واصطلاحاً : حقيقة عرفية تطلق على الأحكام التي استخرجها إمام مجتهدٌ أو خرجت على قواعده وأصوله من قِبَلِ أصحابه المجتهدين التابعين لأصوله في التخريج.

والتمذهب بهذا المعنى، جادةٌ مسلوكةٌ، وطريقٌ سابلةٌ، سار عليها العلماء ، من المحدثين والفقهاء والمفسرين واللغويين، ولم ينكرها أحدٌ ممن يعتد به، فتجد العلماء كلٌ يعمل بالمذهب الذي ارتضاه لنفسه، ويفتي به الناس ويقضي.

قال العلامة محمد الخضر الشنقيطي في "قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في تقليد أئمة الاجتهاد"
(ص75) : وأما وجوب التقليد من العامي للعالم فعليه الكتاب والسنة، وإجماع أهل القرون الثلاثة المشهود لهم من الصادق المصدوق بالخيرية، وإجماع من بعدهم، إلا ما شذَّ من خلاف معتزلة بغداد.اهـ


وقد كان التقليد معروفاً في زمن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ولم ينكره أحدُ منهم، فهذا الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني يذكر لنا في الإصابة في تمييز الصحابة (4/148) عن طاووس رحمه الله أنه قال: رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا تدارءوا في أمرٍ صاروا إلى قول بن عباس رضي الله عنه .

فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إلى تقليد ابن عباس فيما لا يعلمونه من أحكام الشرع.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون على مائة ألف، بينما ( الذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفسا ) كما ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين (1/10).


وهذا إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، يقلِّدُ الشافعيَ رحمه الله، أورد ذلك الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق (51/351)، والحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (9/25) عن حميد بن أحمد البصري، قال: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة. فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث، فقال : إن لم يصح فيه حديث، ففيه قول الشافعي، وحجته أثبت شيء فيه.


وعلى هذا المنوال سار العلماء قاطبة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وليس في هذا ما ينكر، وإليك نبذاً من ذلك .

من أعلام المذهب الحنفي :وقد كان العلماء صغارهم وكبارهم متمذهبين بمذاهب أهل السنة التي حفظت، فالإمام أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وعبد الله بن المبارك وزفر والطحاوي والسرخسي والنسفي و أحمد بن محمد البخاري والزيلعي وابن الهمام وابن نجيم وابن عابدين وألوفٌ غيرهم ممن ضمتهم كتب التراجم الخاصة بطبقات الحنفية، ومعظم علماء بلاد الهند والسند وأفغانستان وبلاد الشام على مذهب الإمام أبي حنيفة.

من أعلام المذهب المالكي :
والإمام ابن القاسم وأشهب وسحنون وأسد بن الفرات وأصبغ وابن عبد البر والقاضي عياض وابن العربي وأبو بكر الطرطوشي وابن الحاجب وابن المنير وابن رشد والباقلاني والباجي والقرطبي والقرافي والشاطبي وابن خلدون وألوفٌ ممن ضمتهم كتب التراجم الخاصة بطبقات المالكية ، هم على مذهب الإمام مالك رحمه الله ، ولك أن تقول إن كل أو معظم علماء بلاد المغرب من القرن الثالث الهجري وإلى يومنا هذا مالكية.

من أعلام المذهب الشافعي :
والإمام المزني والبويطي وابن المنذر ومحمد بن جرير الطبري وابن سريج وابن خزيمة والقفال والبيهقي والخطابي وأبو إسحاق الإسفرايني وأبو إسحاق الشيرازي والماوردي وأبو الطيب الصعلوكي وأبو بكر الإسماعلي وإمام الحرمين الجويني وحجة الإسلام الغزالي والبغوي والرافعي وأبو شامة وابن الرفعة وابن الصلاح والنووي وابن دقيق العيد والمزي وتقي الدين السبكي والذهبي والعراقي والزركشي وابن حجر العسقلاني والسيوطي وزكريا الأنصاري وألوفٌ غيرهم ممن عجزت الكتب أن تستوعب أسماءهم، كلهم شافعية، والذين في كتاب طبقات الشافعية فقط ألف وأربع مائة وتسعة عشر إماماً شافعياً .

من أعلام المذهب الحنبلي :
والآجري وأبو الخطاب الكلوذاني وأبو بكر النجار وأبو يعلى والأثرم وابن أبي موسى وابن الصيرفي وابن هبيرة وابن الجوزي وابن تيمية وابن رجب وابن رزين وغيرهم كثير ، والذين في المقصد الأرشد فقط ألف وثلاث مائة وخمسة عشر إماماً حنبلياً.

وقد أطبقت أمة الإسلام قرناً بعد قرن، وأمةً بعد أمة على تقليد أئمة الاجتهاد، وليس في هذا تعصب ولا تحزُّبٌ، بل كانت أخوة الدين تجمعهم، وحِلَقٌ العلم تضمهم، يتعلم بعضهم من بعض، ويثني بعضهم على بعض، ولا تكاد تطالع ترجمة إمام حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي إلا وتجد أنه قد تتلمذ ودرس على علماء غير مذهبه.


فإذا كان مجردُ سَيْرِ المسلم على مذهبٍ ، يُعَدُّ تعصباً، فهو تعصبٌ محمود لا مذموم.

قال العلامة الشيخ سعيد حوى في كتابه النافع "جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما" (ص119) : وأما التعصب لهم – أئمة الاجتهاد – أو لمذاهبهم فنقول فيه:
التعصب المذهبي إن كان كأثر عن قناعة مطلقة في قضية بأنها الحق، وبالتالي أن يتمسك بها صاحبها قولاً وعملاً، ويدافع عنها بمنطق الحق والعدل، لا بمنطق الهوى، وبمنطق الإخلاص لا بدافع دنيوي، وبروح الأخوة الإسلامية لا بروح الفرقة الكافرة، فذلك لا حرج فيه، بل ذلك الذي عليه الصحابة، ولكن أن يضيِّق الإنسان واسعاً؛ بأن يسفه من ليس على رأيه، ويضللهم ، ويجهلهم في قضيةٍ للاجتهاد فيها محل، فذلك الخطأ كل الخطأ، فإن الشافعي قال: أجمع العلماء على أن الله لا يعذب فيما اختلف فيه العلماء.
والتعصب للمذهب كأثر من آثار الثقةِ بعلمائه، وقواعده في الاستنباط، وكأثر من آثار الثقة بهذه الأمة التي أجمعت خلال العصور على احترام المذاهب الأربعة، واحترام أئمتها، هذا التعصب الذي لا يرافقه كراهية لمذهب آخر، ولا سوء أدبٍ معه، بل الاحترام والتقدير، لا حرج فيه.
وأن يأخذ الإنسان بوجهة نظر لغير مذهبه كأثر من آثار تحقيقه هو، أو تحقيق من يثق به، فهذا كذلك لا حرج فيه.اهـ


وأما التعصب المذموم فهو أن يعتقد المسلم أن المذهب الذي سلكه هو المذهب الحق، وأن المذاهب الأخرى باطلة، وهذا التعصب هو الذي ذمه العلماء من المذاهب الأربعة كلها، وقرروا أن المذاهب السُّنيَّة الأربعة كلها على هدى.

فهذا إمام الشافعية في القرن العاشر العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله يقول كما في الفتوى الفقهية الكبرى (4/326) : الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم، فجزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله، وحشرنا في زمرتهم. وإذا كانوا كلهم على هدى من الله سبحانه وتعالى، فلا حرج على من أرشد غيره إلى التمسك بأي مذهب من المذاهب الأربعة وإن خالف مذهبه واعتقاده، لأنه أرشده إلى حق وهدى.اهـ
 
المقدمة الرابعة : لماذا انحصر التقليد في المذاهب الأربعة.

مما لا يخفى أن المجتهدين في هذه الأمة المباركة عدد لا يحصى، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلماذا ساد في الأمة تقليد هذه المذاهب الأربعة فقط ؟نترك الإمام ابن رجب الحنبلي يجيبنا عن هذا السؤال، قال رحمه الله كما في رسالته الموسموة بـ ( الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة ) (ص33) :
فإن قيل : نحن نسلِّم منع عموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد؛ لما يفضي ذلك إلى أعظم الفساد. لكن لا نسلم منع تقليد إمام متبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين .

قيل : قد نبهنا على علة المنع من ذلك، وهو أن مذاهب غير هؤلاءلم تشتهر ولم تنضبط، فربما نسب إليهم ما لم يقولوه أو فهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذب عنها وينبه على ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة.اهـ
وما بيَّنَهُ الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله واضح، لأنه لا يمكن لأحد أن يعرف مذهب الصحابة، ولو في كبريات المسائل، فالصلاة مثلاً التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، لا يمكن لأحد أن يميز بين ما هو فرض وما هو سنة ناسباً ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وكذا بقية الصحابة رضي الله عنهم .
ولهذه العلة – أعني عدم حفظ مذاهبهم - وجدنا من الأئمة الكبار من يمنع تقليد الصحابة رضي الله عنهم ، بل ويحكي إجماع المحققين على ذلك، فهذا إمام الحرمين الجويني المولود سنة (417هـ) والمتوفى سنة (478هـ) يقول كما في كتابه البرهان
(2/744) : أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين، والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين؛ فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد، وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال، ومن خَلْفَهُم مِنْ أئمةِ الفقهِ كَفَوا مَنْ بَعْدَهُمُ النظرَ في مذاهبِ الصحابةِ، فكان العاميُ مأموراً باتباعِ مذاهبِ السابرين. اهـ


وقد زاد الأمر وضوحاً الإمامُ المحدث ابن الصلاح، قال الإمام ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى (8/340): وأما ابن الصلاح فجزم في كتاب الفتيا بما قاله الإمام – أي إمام الحرمين - وزاد أنه لا يُقَلِّدَ التابعينَ أيضاً، ولا مَنْ لم يُدوَّن مذهبه، وإنما يقلد الذين دُوِّنَتْ مذاهبهم وانتشرت، حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها، بخلاف غيرهم فإنه نقلت عنهم الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا، لو انبسط كلام قائله لظهر خلاف ما يبدو منه، فامتنع التقليد إذاً لتعذرِ الوقوفِ على حقيقة مذاهبهم. اهـ

وظاهرٌ من كلام الأئمة رحمهم الله أنَّ علة المنع من تقليد غير الأربعة هو عدم الثقة بمذاهبهم، فإذا أمِنَّا هذا الجانب، جاز تقليد المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم، ولكن هذا في عمل النفس، لا في الإفتاء والقضاء، أما المفتي والقاضي فلا يخرجان عن المذاهب الأربعة، وهذا أمر واضحٌ مقرَّرٌ ، أجمعت عليه الأمة عملاً، فإن جميع بلدان الإسلام كانت تقيم القضاء على مذهب من المذاهب الأربعة، ويتولى الإفتاء فيها أئمة من المذاهب الأربعة.

تقليد غير المذاهب الأربعة
وتقليد المسلم في حق نفسه لمذهبٍ غير المذاهب الأربعة، يشترط له شروط:

أولها : أن يكون المذهب الذي يريد تقليده مما يجوز تقليده، فلا يصح له أن يقلد المذهب الشيعي أو الإباضي مثلاً.

ثانيها : أن يكون عارفاً بمذهب الإمام الذي سيقلده، كمن أراد أن يقلد مذهب صحابيٍ أو تابعيٍ، أو أراد أن يقلد إمام أهل السنة بالشام الإمام الأوزاعي، أو الثوري أو أبو ثور أو سفيان ابن عيينة، ونحو هؤلاء.

ثالثها : أن يكون المذهب الذي يريد تقليده منقولاً عن طريق العدول الضابطين.

رابعها : أن يكون عارفاً بتفاصيل تلك المسألة أو المسائل التي يريد أن يقلد فيها، وما يتعلق بها على مذهب ذلك المقلد.

خامسها : إذا أراد أن يقلد أكثر من إمام ، فيشترط حينئذٍ أن لا يلفق قولاً لم يسبق إليه، ومثالُ ذلك : من أراد أن يقلد الإمام مالك رحمه الله في عدم نجاسة الكلب ويقلد الشافعي رحمه الله في الاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء، فهذه الصورة من التقليد ممنوعة اتفاقا ، وقيل إجماعا ، لأنه إذا صلى في هذه الحالة، فإن كلاً من الإمامين سيحكم على صلاته بالبطلان، أما الإمام مالك رحمه الله فسيحكم على صلاته بالبطلان لأنه مسح شعرتين أو ثلاث، ولم يعم الرأس بالمسح، وأما الإمام الشافعي رحمه الله فسيحكم على صلاته بالبطلان، لأنه متلبس بنجاسة الكلب في ثوبه أو بدنه.


فإذا وجدت هذه الشروط الخمسة فعبادات المقلد ومعاملته المشتملة على ذلك التلفيق صحيحة ، وإن اختلت هذه الشروط أو بعضها فعبادته غير صحيحة، ويلزمه القضاء فورا.


فإذا أحببتَ أن تقلد إماماً من خارج المذاهب الأربعة، وقد توفرت الشروط السابقة، فلا يشترط ما يلي:
أولاً : لا يشترط أن يكون قول الإمام الذي تقلده موافقاً لأحد المذاهب الأربعة.
ثانياً : ولا يشترط أن يكون مذهب ذلك الإمام منقولا بالتواتر ، بل يكفي أن يكون منقولاً بنقل العدول ، ولو آحاداً.
ثالثاً : ولا يشترط أن يكون مذهب ذلك الإمام قد دون في كتب مستقلة ، بل يكفي أخذه من كتب الموثوقة التي تعتني بذكر أقوال العلماء.
وكل هذا الذي ذكرته، أشار إليه العلماء في كتب الأصول، وأحسن من جمع ذلك الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في الفتاوى الفقهية الكبرى(4/326).​
 
المقدمة الخامسة : هل المذاهب الأربعة عامل وحدة أم فرقة ؟

يقول بعض الناس : إن هذه المذاهب الأربعة سبب فرقة وشتات، فإنها قد مزقت الناس إلى أربع فرق، حتى أصبحت كلُ فرقة تقول: كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا ومذهبهم ومذهبنا، فكيف يجوز أن تكون هناك أربعة مذاهب ونبينا واحد وقرآننا واحد وديننا واحد، ويقول هؤلاء أيضاً :إن أقل الناس اختلافاً هم أهل والحديث.
ولا شك أن هذا الكلام لا يطابق الواقع ، بل الواقع يشهد بخلافه تماماً، فإن كل منصف يعلم أن كثرة الاختلاف ليس بسبب التقليد، بل إن التقليد موجب لاجتماع الكلمة دون تفرقها، فأنت ترى بلداً كبيرا كالهند يسير على مذهب الإمام أبي حنيفة، لا اختلاف بينهم ولا تفرق، وتجد المغرب والجزائر وتونس تسير على مذهب الإمام مالك ولا اختلاف بينهم ولا تفرق، وإنما نشأ الاختلاف من كثرة الاجتهادات، واختلاف الآراء، وإذا صار كل واحد مجتهداً عاملاً بما يرى ويفهم من القرآن والحديث، فإنك لن ترى شخصين مجتمعين أبداً، ولذا تجد أن الذين يحاربون المذاهب هم أشد الناس فرقةً، وكل يوم وهم في انشقاقات، وتحزُّبات.
ثم إن الاختلاف الكثير الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا) ، إنما سببه إعجاب كل ذي رأي برأيه.
ولا يمكن أن يكون تقليد أئمة الهدى من أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد من تفريق الدين وجعل أهله شيعاً ، لأن من اتبع المهتدي فهو مهتدٍ.

والقول بأن اتباع أئمة الهدى تفريق للدين، هو طعنٌ في أئمة الدين والصحابة والتابعين، لأنهم هم الذين اختلفوا على أقوال، وأما المقلدون فلم يفعلوا شيئاً، ولم يحدثوا قولاً، غير أنهم تبعوا أئمة الهدى في ذلك، وأخذوا بأقوالهم، وهذا الكلام لا يخفى على منصف، نبذ التعصب.


والمقلدون لأئمة الهدى، لا يدَّعون أن مذهبهم حقٌ مطلق، ومذهب غيرهم مذموم، بل يرون مذهب كل مجتهد قابلاً للاتباع.


قال العلامة الشيخ سعيد حوى رحمه الله في كتابه "جولات في الفقهين" (ص126): وأما الذين يحاربون المذهبية بحجة الوحدة الإسلامية، فهؤلاء نقول لهم: إن المذهبية نفسها لا تفرق، ولكن التطبيق الخاطئ للمذهبية هو الذي يفرق، وهذا ليس حله بالإلغاء، ولكن حله بالتوعية والتعليم والتربية، ونقول: إن وحدة الأمة الإسلامية التشريعية موجودة في حال قيام الحكم الإسلامي؛ لأن الإمام أو نائبه يستطيع أن يتبنى قانوناً موحَّدا لِقُطْرٍ أو لمجموعة الأقطار، ويفرضه على الأمة، ثم إنَّ ما وصلت إليه الأمة من اعتماد المذاهب الأربعة، هو أضيق صور التشتت، وبدون ذلك يكون عندنا ملايين المذاهب، وهو موضوع تحدثت عنه من قبل.
وبإنصاف وتجرد وعرضٍ للواقع كما هو نقول : الملاحظ أن هؤلاء الذين يحملون على مذاهب الأئمة المجتهدين، وعلى من يأخذ بها ويفتي على تحقيقات أهلها ، يسلبون أمثال أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد حق الاجتهاد، ويعطونه للعامة، ولو أن أحداً من الناس استفتى أمثالهم وأمثال أتباعهم وأجابوه لم يروا في ذلك نكراً، ويقيمون النكير على من استفتى أبا حنيفة أو الشافعي أو مالكاً أو أحمد، أوَليس هذا غلطاً كبيراً !! ؟.اهـ

والواقع يشهد أن التفرق والتمزق والانقسامات التنظيمية في صفوف التيارات الإسلامية غير المتمذهبة أشد وأنكى وأكثر مما هو في صفوص أتباع الأئمة .

ووجود أخطاء في التطبيق عند المذهبيين لا يجعل هذا هو الشعار والمظهر العام.
 
المقدمة السادسة : مراتب العلماء.

مما يسلم به العقلاء قاطبة أن العلماء ليسوا على مرتبة واحدة، بل هم مراتب ومنازل، ومن المهم لطالب العلم أن يعرف منازل العلماء وطبقاتهم، حتى يقدم قول من يستحق التقديم ، ويؤخر قول من يستحق التأخير .

ولذا قال الإمام المحدث الفقيه الخطيب البغدادي رحمه الله في الفقيه والمتفقه (2/139) : يستحب للفقيه أن ينبه على مراتب أصحابه في العلم ، ويذكر فضلهم ويبين مقاديرهم ليفزع الناس في النوازل بعده إليهم ، ويأخذوا عنهم . اهـ

واستدل الخطيب على ذلك بأحاديث منها حديث ( إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر ) وهو حديث رواه الطبراني في مسند الشاميين وفي معجمه الكبير وابن أبي شيبة في مصنفه . واستدل بأحاديث أخرى .

وقد بين العلماء في كتب أصول الفقه وفي كتب الفقه أيضاً مراتب العلماء، وممن بيَّن ووضح مراتب العلماء الإمام المحدث أبو عمرو بن الصلاح والإمام النووي وابن حمدان الحنبلي وابن تيمية رحمهم الله ، وغيرهم كثير.

وخلاصة ما أوردوه ما يلي :


أن العلماء على قسمين :
القسم الأول : مجتهد مستقل، وسمي بذلك لأنه يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية، من غير تقليد لأحد من العلماء، ولا تقُّيد بأصول إمام سبقه، وهذا القــسم لا بد أن يتصف بصفات تؤهله لهذا المنصف الرفيع.

ولذا قال علماؤنا رحمهم الله: يشترط في هذا الصنف :
1- أن يكون قيماً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس،‏ وما التحق بها على التفصيل.
2- وأن يكون عالماً بما يشترط في الأدلة،‏ ووجوه دلالتها،‏ وبكيفية اقتباس الأحكام منها،‏ وهذا يستفاد من أصول الفقه.
3- عارفاً من علوم القرآن،‏ والحديث،‏ والناسخ والمنسوخ،‏ والنحو واللغة والتصريف،‏ واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها.
4- ذا دربةٍ وارتياض في استعمال ذلك.
5- عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه.
فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل،‏ الذي يتأدى به فرض الكفاية.


وممن اتفق العلماء على بلوغهم هذه مجتهدوا الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ومعاذ وغيرهم.
وكذا فقهاء المدينة السبعة من التابعين، وممن بعد التابعين سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك والليث بن سعد والشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كثير.

القسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل،‏ بل يتبع إماماً من الأئمة المستقلين، وينسب إلى مذهبه، وهذا القسم على مراتب:

المرتبة الأولى : ( أصحاب الوجوه ) ، وهم الذين بلغوا في العلم غاية كبيرة، وتوفرت فيهم الشروط والصفات والمؤهلات المطلوبة في المجتهد المستقل، وإنما ينسب الواحد منهم إلى الإمام الذي تبعه لسلوكه طريقه في الاجتهاد، مع أنه في الحقيقة ليس مقلداً لإمامه،‏ لا في المذهب ولا في دليله،‏ وفتوى أصحاب هذه المرتبة كفتوى المجتهد المستقل من حيث صحة العمل بها،‏ والاعتداد بها في الإجماع والخلاف ، وممن بلغ هذه المرتبة الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وابن القاسم وابن وهب وأشهب من المالكية، والمزني والبويطي وابن المنذر وابن جرير الطبري من الشافعية، وأبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة.


المرتبة الثانية : مجتهد الفتوى ، وصاحب هذه المرتبة لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيهُ النفسِ، حافظٌ مذهبَ إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصور ويحرر، ويقرر ويمهد، ويزيف ويرجح، لكنه قصر عن أصحاب الوجوه لقصوره عنهم في حفظ المذهب أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم .


وممن بلغ هذه المرتبة الطحاوي والكرخي والسرخسي من الحنفية، والمازري والقاضي عبد الوهاب والقاضي عياض من المالكية، والإمام الغزالي والرافعي والنووي من الشافعية، والإمام ابن قدامة المقدسي وشيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة.


المرتبة الثالثة : أصحاب الترجيح في المذهب، وهؤلاء لا يقدرون على الاجتهاد، لكنَّهم لإحاطتهم بالأصول، وضبطهم للمآخذ، يقدرون على تفصيل قولٍ مجملٍ ذي وجهين، وحكم مبهمٍ محتملٍ لأمرين منقولٍ عن صاحب المذهب، أو أحد أصحابه.


وممن بلغ هذه المرتبة صاحبُ الهداية من الحنفية والحطاب من المالكية والإسنوى من الشافعية وابن مفلح من الحنبلية.


المرتبة الرابعة: ( حَفَظَةُ المذْهَبِ ) ، وصفة هؤلاء‏ أن يقوم الواحد منهم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات،‏ ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته، وتحرير أقيسته،‏ فهذا الصنف يُعْتَمَدُ نَقْلُه وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه،‏ من نصوص إمامه،‏ وتفريع المجتهدين في مذهبه، وما لا يجده منقولاً إن وجد في المنقول معناه،‏ بحيث يدرك بغير كبير فكر أنَّه لا فرق بينهما،‏ جاز إلحاقه به والفتوى به،‏ وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب،‏ وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه.


والمقصود بحفظ المذهب: أن يكون معظم المذهب على ذهنه،‏ ويتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب.
وممن بلغ هذه المرتبة الإمام ابن نجيم وابن عابدين من الحنفية، والدسوقي والصاوي من الماليكة، والإمامان ابن حجر الهيتمي والرملي من الشافعية، والإمامان المرداوي والبهوتي من الحنابلة.

المرتبة الخامسة : المشتغل بالمذهب، ولا يُسْتَحَقُ هذا الوصف إلا بثلاثةِ أمورٍ:
أولها : أن يكون عارفاً بمسألة التمذهب حقيقةً وحكماً.
ثانيها : أن يكون عارفاً بقواعد الوقوف على معتمد مذهبه.
ثالثها : أن يكون عنده ممارسة يستطيع من خلالها أن يعرف ثلاثة أشياء :
1. لغة المذهب – أي مصطلحاته – كـ( الوجه والرواية والمعتمد والمشهور والظاهر ...).
2. المعرفة بأحكام المذهب، وتعرف من مصدرين :
المصدر الأول : القواعد والأصول، ومحلها علم أصول الفقه .
المصدر الثاني : الجانب التطبيقي، ويعرف من علم الفروع ( علم الفقه ) .
3. أن يكون عارفاً بمواضع بحث المسائل، فإذا أراد أن يبحث مسألة العورة مثلاً، فإن المكان المعتاد أنْ تذْكَرَ فيه، وأن يبين حكمها، هو كتاب الصلاة، في فصل الشروط، في مسألة شرط ستر العورة، وتبحث مسألة العورة أيضاً في كتاب النكاح، باب ما يجوز أن ينظره الخاطب من المخطوبة.
 
المقدمة السابعة : نبذة مختصرة عن المذاهب :
من المهم أن يكون عند طالب العلم ثقافة عامة عن المذاهب السُّنيَّة، عن تاريخ نشأتها، وأماكن انتشارها، وكبار رجالاتها، ونُفْسِحُ المجال للإمام الكبير القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي ليحدثنا عن ذلك.

قال رحمه الله كما في ترتيب المدارك وتقريب المسالك (17/1) : وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإقتداء بالخلفاء بعده وأصحابه، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الناس ليفقهوهم في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، وإذا كان هذا الأمر لازماً لا بد منه، فكان أولى من قلده العامي الجاهل، والمبتدئ المتعبد، والطالب المسترشد، والمتفقه في دين الله تعالى، وأحق بذلك فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا عنه العلم، وعلموا أسباب نزول الأوآمر والنواهي، ووظائف الشرائع، ومخارج كلامه عليه السلام، وشاهدوا قرائن ذلك، وثاقبوا في أكثرها النبي صلى الله عليه وسلم واستفسروه عنها، مع ما كانوا عليه من سعة العلم، ومعرفة معاني الكلام، وتنوير القلوب، وانشراح الصدور، فكانوا أعلم الأمة بلا مرية وأولاهم بالتقليد، لكنهم لم يتكلموا من النوازل إلا في اليسير مما وقع، ولا تفرعت عنهم المسائل، ولا تكلموا من الشرع إلا في قواعد ووقائع، وكان أكثر اشتغالهم بالعمل مما علموا، والذبّ عن حوزة الدين، وتوكيد شريعة المسلمين.

ثم بينهم من الاختلاف في بعض ما تكلموا فيه ما يبقي المقلد في حيرة، ويحوجه إلى نظر وتوقف، وإنما جاء التفريع والتنتيج وبسط الكلام فيما يتوقع وقوعه بعدهم، فجاء التابعون فنظروا في اختلافهم، وبنوا على أصولهم، ثم جاء مِنْ بَعْدِهم العلماء من أتباع التابعين، والوقائع قد كثرت، والنوازل قد حدثت، والفتاوى في ذلك قد تشعبت، فجمعوا أقاويل الجميع، وحفظوا فقههم، وبحثوا عن اختلافهم واتفاقهم، وحذروا انتشار الأمر، وخروج الخلاف عن الضبط، فاجتهدوا في جمع السنن، وضبط الأصول، وسألوا فأجابوا، وبنوا القواعد ومهَّدوا الأصول، وفرعوا عليها النوازل، ووضعوا في ذلك للناس التصانيف وبوبّوها، وعمل كل واحد منهم بحسب ما فتح عليه ووفق له.

فانتهى إليهم علم الأصول والفروع والاختلاف والاتفاق، وقاسوا على ما بلغهم ما يدل عليه ويشبه، رضي الله عن جميعهم، ووفاهم أجر اجتهادهم، فالمتعين على المقلد العامي وطالب العلم المبتدئ أن يرجع في التقليد لهؤلاء، لنصوص نوازله، والرجوع فيما أشكل من ذلك إليهم، ولاستغراق علم الشريعة ودورها عليهم، وإحكامهم النظر في مذاهب من تقدمهم، وكفايتهم ذلك لمن جاء بعدهم، لكن تقليد جميعهم لا يتفق في أكثر النوازل، وجمهور المسائل، لاختلافهم باختلاف الأصول التي بنوا عليها، ولا يصلح أن يقلد المقلد من شاء منهم على الشهوة... فحظه هنا من الاجتهاد النظر في أعلمهم ...، ويعرف الأولى بالتقليد من جملتهم، حتى يركن العامي في أعماله إلى فتواه، ... إذ لو ابتدأ الطالب في كل مسألة فطلب الوقاف على الحق منها بطريق الاجتهاد عسر عليه ذلك، إذ لا يتفق له إلا بعد جمع خصاله وتناهي كماله، وإذا كان بهذا السبيل استغنى عن تقليد أرباب المذاهب، وكان من المجتهدين لنفسه فسبيله أن يقلِّد من يعرِّفُهُ أنَّ هذا هو الحق، حتى إذا أدرك من العلم ما قيض له، وحصل منه ما قسم الله تعالى له، وأفلح وكان فيه عمل للنظر والاجتهاد انتقل إلى ذلك وأدركه، فإذا تقررت هذه المقدمة فنقول :


قد وقع إجماع المسلمين في أقطار الأرض على تقليد هذا النمط واتباعهم ودرس مذاهبهم دون من قبلهم، ومع الاعتراف بفضل من قبلهم وسبقه ومزيد علمه، لكن للعلل التي ذكرنا وكفاية ما نحلوه وانتقوه من ذلك كما قدمنا ... فكان المقلَّدون المُقْتَدَى بمذاهبهم أصحاب الأَتْبَاعِ في سائر الأقطار والبقاع كثرة قبل مالك بن أنس بالمدينة، وأبو حنيفة والثوري بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة على ما تقدم منه، والأوزاعي بالشام، والشافعي بمصر، وأحمد بن حنبل بعده ببغداد وكان لأبي ثور هناك أيضاً أتباعٌ.

ثم نشأ ببغداد أبو جعفر الطبري، وداود الأصبهاني، فألفا الكُتُب واختارا في المذاهب على آراء أهل الحديث، واطَّرَحَ داودُ منها القياسَ، وكان لكل واحد منهما أتْبَاعٌ، وسَرَتْ جميعُ هذه المذاهب في الآفاق، فغلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى، إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا، وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً وضعف بها بعد أربعمائة سنة، وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة، وغلب من بلاد خراسان على قزوين وأبهر وظهر بنيسابور، وكان بها وبغيرها أئمة ومدرسون ... وكان ببلاد فارس وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام.


وغلب مذهب أبي حنيفة على الكوفة والعراق وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان إلى وقتنا، وظهر بإفريقية ظهوراً كثيراً إلى قريب من أربعمائة عام فانقطع منها، ودخل منه شيءٌ ما وراءها من المغرب قديماً بجزيرة الأندلس، وبمدينة فاس.

وغلب مذهب الأوزاعي على الشام وعلى جزيرة الأندلس أولاً إلى أن غلب عليها مذهب مالك بعد المائتين فانقطع.
وأما مذهب الحسن والثوري فلم يكثر أتْبَاعُهُما، ولم يطل تقليدهما وانقطع مذهبهما عن قريب.

وأما الشافعي فكثر أتباعه وظهر مذهبه ظهور مذهبي مالك وأبي حنيفة قبله، وكان أول ظهوره بمصر وكثر أصحابه بها مع المالكية وبالعراق وبغداد، وغلب عليها وعلى كثير من بلاد خراسان والشام واليمن إلى وقتنا أتباعهم والاقتداء بمذاهبهم ودَرْسِ كُتُبِهم، والتفقه على مآخذهم، والبناء على قواعدهم، والتفريع على أصولهم دون غيرهم ممن تقدمهم أو عاصرهم، للعلل التي ذكرناها، وصار الناس اليوم في أقطار الدنيا إلى خمسة مذاهب: مالكية وحنفية وشافعية وحنفية وحنبلية وداودية وهم المعرفون بالظاهرية.اهـ
 
عودة
أعلى