مقال: لا تنحصر مقاصد الحوار في الدعوة (حاتم العوني)

إنضم
23/01/2007
المشاركات
1,211
مستوى التفاعل
2
النقاط
38
الإقامة
كندا
الموقع الالكتروني
www.muslimdiversity.net
لا تنحصر مقاصد الحوار في الدعوة
د.الشريف حاتم بن عارف العوني
المصدر: موقع الإسلام اليوم


لا يختلف اثنان في أن الحوار هو أسلوب التواصل الأمثل مع الموافق والمخالف, وأنه ما ساد الحوار في مجتمعٍ أو أمةٍ إلا دلّ على رُقِيّها العقلي والعلمي والحضاري؛ لأن الحوار هو اللغة الوحيدة التي يفهمها العقل، ويستعملها العلم، وتتداولها الحضارة. ولو تفكّرنا قليلا في البديل عن الحوار: ماذا يمكن أن يكون ؟ لم نجد إلا التسلّط بالقوة. مع أن التسلط ليس أسلوبا للتواصل أصلاً، بل هو منهجٌ للتقاطع والتهاجر، مما لا يؤدي إلى تفاهمٍ ولا دعوةٍ ولا هدايةٍ (وهذه الثلاثة هي مفردات التواصل). فالتسلّطُ لم يكن.. ولن يكون منهجًا للإقناع العقلي، ولا لمحاولة تغيير المعتقدات الباطنة، ولا لتحسين تصوّر الآخرين عنا.
فلا أدري: لماذا يتوجسُ بعضنا خيفةً من الحوار، بل من الدعوة إلى الحوار؟! سواء أكان الحوار مع المخالفين لنا في أصل الدين من الكفار، أو مع المخالفين لنا في بعض (المعتقدات) من المسلمين:
هل هو رفض مبدأ الحوار الذي لا يكون إلا من ضعيف الحجة؟ وهذا ما لا يجوز أن يقع من مسلمٍ عَلِمَ أنّ الله تعالى قد حباه بالدين الحق الذي ليس سواه إلا الباطل؟
أم لأننا أصبحنا نشك في كل دعوة حق، خشيةَ أن تكون حقًّا أُرِيدَ به باطل؟
ولذلك تجد عبارات سوء الظن ظاهرةً في بيان أسباب رفضهم للحوار, من أن الدعاة إلى الحوار سيتخذونه سُلَّما للتنازل عن حقائق الدين، وإلى تمييع الولاء والبراء.. وغير ذلك من التهم!
وهذا التعميم الجائر منهم (في الشكّ)، لا يقع إلا من مسلوبِ الإرادة، أسيرٍ للغلو في فكرة المؤامرة, ولذلك فلا تكاد تجد عند هذا الصنف من الناس إلا النواح والعويل على الحمى المستباح والحق المغصوب, أما إنتاج الإصلاح وبرامج التصحيح فهم عنها بمعزل؛ إلا من الدعوة إلى منهجهم نفسه, لإنتاج نُسَخٍ أخرى لأمثالهم: من مسلوبي الإرادة، وأُسَراء التوجّس الْمُقَيَّدين بسوء الظن!
أم لأن الذين نغلو في تعظيمهم عاجزون عن الحوار، وسيتولّى مَهمّة الحوار حينها الذين كنا نريد أن نَسْلُبَهم كُلَّ فضيلة، وستنكشف بذلك هالةُ التقديس عمن نقدس، وسيظهر فضلٌ ما.. بوجهٍ ما.. في وقتٍ ما.. لمن أردناهم عَرِيِّين عن كل فضل؟! ولكنّ هذا داءٌ لا يصح أن نداويه بداء رفض الحوار!!
بل دواؤه أن نترك الغلو في ذوي الفضل على حسابِ آخرين منهم، وأنْ نعلمَ أنّ كُلًّا ميسّرٌ لما خُلق له.
كما أن بعض هؤلاء الرافضين للحوار يرفضونه من منطلق: أن الحوار المشروع ينحصر في الحوار بغرض الدعوة إلى الله تعالى، ولذلك تراهم يعدّون كلّ حوار بغير غرض الدعوة تضييعًا لحقائق الدين، وإذابةً لعقيدة الولاء والبراء. وينسى هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حاورَ كفارَ مكة في صلح الحديبية، لا لدعوتهم إلى الإسلام، بل حاورهم على ما فيه إرجاءُ دعوتهم إلى عشر سنوات، يتركهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك!
وهذا حُكْمٌ مُحْكَمٌ غير منسوخ؛ ولذلك احتجّ مَنِ احتجّ من العلماء بتحديد وقت الصلح بين المسلمين والكفار بعشر سنوات.
بل لقد تضمّنت شروط صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة : أنّ مَنْ أسلم من أهل مكة، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلمين إعادته إلى المشركين في مكة، وأنّ من ارتدّ عن الإسلام إلى الكفر لا يعيده المشركون إلى المسلمين.
وفي هذا بيان واضح على أن الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة في ذلك الصلح لم يكن بغرض دعوتهم للإسلام حينها، وإلا كيف يُعادُ المسلمُ منهم إليهم، ولا يعيدونَ المرتدَّ من المسلمين إليهم؟!
بل لَمَّا أن رفض مفاوضُ قريشٍ أن يكتبَ في وثيقة الصلح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصْفَه بأنه (رَسُولُ اللَّهِ) وافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع ما تضمّنه هذا الإصرارُ والعنادُ من عدم الاعتراف بالمسلمين الذين ما فارقوا المشركين إلّا لإيمانهم بالرسالة.
بل في هذا الصلح قرّر النبي صلى الله عليه وسلم أحدَ أعظمِ أصول الحوار، وهو استثمار المشترَك بين الفريقين في إنجاح الحوار. ولك أن تقول: وأي مُشْتَرَكٍ بين الإسلام والوثنية؟!! وسيأتيك الجواب في قول النبي صلى الله عليه وسلم، عندما قال: "والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيده، لا يسألوني خطةً يُعَظِّمون فيها حرماتِ الله إلا أعطيتهم إياها".
ولك أن تتخيّل حاكمًا مسلمًا عادلًا قال مثل هذا القول، ألنْ يستنكر ذلك عليه كثيرون، قائلين: أيُّ تعظيمٍ لحرماتِ الله بين موحّدٍ ومشرك؟! وهل تصوُّرُ المشركين عن الإله هو تَصَوُّرُ المسلمين عنه، حتى يكون تعظيمُ المشركين لله تعظيمًا من المسلمين أيضًا لله تعالى ؟!
ولكنّ السؤال المهم هنا: كيف يَصِفُ النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمَ المشركين للحرماتِ أنه تعظيمٌ لله تعالى، وأنه لن يخالفهم في شيء من ذلك؟!! لقد أجاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه التساؤلات بما لا ينبغي بعدَ إجابةِ النبي صلى الله عليه وسلم عنها أن تُطرَح، بل لا يجوز مجرّدُ بقائها تَسَاؤُلًا؛ إلا عند أتباع القائلِ : "اعْدِلْ يا مُحَمَّدُ"، ممن يظنون أنفسهم أغْيَرَ على الدين وأَوْلَى به من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ!!
نعم.. لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه التساؤلات جميعا، مُبَيّنًا إلى أي حدٍّ يمكن استثمار المشترك بين الأديان في تحقيق مصلحة الصلح، الذي وصفه الله تعالى بأنه الفتح المبين: "فتحًا مبينًا"[الفتح:١].
وإن وجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشتركًا بين التوحيدِ والوثنية جعله مُنْطَلقًا للصلح والحوار، كما في هذا الحديث الثابت، فقد شَرَع لنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إيجادَ مُشْتَرَك بيننا وبين كل مخالف، وسيكون المشترَكُ بيننا وبين أهل الكتاب حينئذ أكثرَ من المشترك بيننا وبين الوثنيين.
كما أنّ هذا الموقف النبوي يبيّنُ أنّ الحوار إذا لم يبدأ من المشترك، فإنه سينتهي إلى زيادةِ التباعد والعداوة. فلا ينبغي أن نبدأَ حوارًا إلا بعدَ أن نعرف آخر المشتركات، والتي بدأ بعدها الاختلاف. وهي مشتركاتٌ لن نَعْدِمَها مع كلّ مخالف، ولو كان المخالف مُلْحِدًا، فإننا إذا لم ننطلق معه من دلالاتِ العقل على أنَّ لكل سببٍ مسبِّبًا، ولكل موجودٍ موجِدًا، فمِن ماذا سوف ننطلق معه ؟! وما فائدة النقاش معه؟!
إن المشتركات ـ والتي تبدأ من المشتركات الإنسانية الفطرية ـ هي أساس الحوار الأكبر.
ولكن الذي لا يجوز في هذا الخضمّ: هو أن يؤدي البحث عن المشتركات بين المختلفين إلى إلغاء الفروق الحقيقية (إلغاءً يعارضُ التميّزَ الداعيَ إلى الحوار أصلا)، كما لا يصح أن تكون تلك الفروق مانعًا من استثمار المشترك، الذي لولا وجوده لما كان للحوار مكان.
وبذلك نعلم أنه كما كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلح الحديبية مقاصِدُ سوى دعوةِ قريش للإسلام، يمكن أن تكون لنا مقاصدُ من الحوار غير الدعوة، ويمكن أن تكون مقاصدَ صحيحة مشروعة.
ومن هذه المقاصد :
- أن نَفْهَمَ المخالفين (كفارًا كانوا أو غيرَ كُفَّارٍ) فهمًا عميقًا، وأن نعرف حججهم، ومنطلقاتهم الفكرية، ورواسبهم العقدية، وتصوراتهم، وأساليب إقناعهم. فما نجح الغرب في غزونا الثقافي إلا بعد مئات السنين من الدراسات الاستشراقية، التي عرف معها كيف يؤثر فينا.
أن يفهمنا الآخرون، لكي يحترموا حضارتنا وقيمنا، وإن لم يؤمنوا بديننا. فإننا إذا ما استطعنا بالحوار أن نصحّح تصوراتِهم الفاسدة عنا، خفّتْ عداوتهم لنا، ووسّعنا بيننا دائرة المشتركات الحقيقية (التي لا تُلغي الفروقَ الحقيقية)، مما سينفعنا منافعَ عديدة، حتى في الدعوة إلى الله تعالى.
- الوصول إلى نظامٍ أو قانونٍ يمنع الاعتداء على المقدسات، كما أمر الله تعالى بقوله: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم"[الأنعام: ١٠٨].
- الوصول إلى صُلْحٍ يحفظ الدِّينَ والأعراض والدماء والأموال.
-معرفة الجوانب الإيجابية التي لا تخلو منها حضارةٌ إنسانية باختلاف عقائدها وأديانها، كما قال صلى الله عليه وسلم، مشيرًا إلى كُفَّار العرب: "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق".
فلا تنحصر مقاصد الحوار المشروعة في الدعوة إلى تغيير المعتقدات والأديان، كما لا يجوز أن يُؤَدِّي الحوار إلى تجريمنا، أو منعنا من الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولذلك أعود قائلا مستغربًا: فلا أدري لماذا يتوجسُ بعضُنَا خِيفةً من الحوارِ، بل من الدعوة إلى الحوار؟! ولماذا يَحْصُر آخرون الحوارَ المشروعَ في حوار الدعوةِ إلى تغيير المعتقدات؟!
وما كتبتُ هذا الحوارَ إلا لِأُبَيِّنَ وجهةَ نظر الداعين للحوار المشروعِ، بِسَعَةِ وجوهِ شَرْعِيَّتِه المشروحة آنفا.
والله من وراء القصد.
 
جزي الله الدكتور.الشريف حاتم بن عارف العوني خيرالجزاء علي جهوده المباركة وكتاباته النافعة وجزي الله الاخ محمد بن جماعة خيرا علي هذا النقل المفيد
 
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

مهلا يا شيخ حاتم !

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه ، وبعد :ـ

قسَّم الشيخ حاتم الشريف الرافضين للحوار بين الأديان إلى خائفين منه ورافضين له ـ الحوار أعني ـ إلا أن يقام للدعوة إلى دين الله مبيناً أن هناك أهدافاً أخرى للحوار غير الدعوة إلى الله ، مستدلاً بصلح الحديبية .


واشتد الشيخ حاتم الشريف على المتوجسين خِيفة ـ على حد تعبيره ـ من الحوار مع الكافرين أو المبتدعين ، وراح يصفهم بأنهم بلا إرادة قد سقطوا في ( فكرة المؤامرة ) ، ليس عندهم سوى ( النواح والعويل ) ـ وهي من صفات النساء ، غفر الله له ـ ، وأنْ ليس عندهم إلا الدعوة لمنهجهم والعمل على إيجاد نسخ مماثلة لهم (من مسلوبي الإرادة، وأُسَراء التوجّس الْمُقَيَّدين بسوء الظن ) .. يتكلم عن إخوانه !!

وحقيقة لا أدري عمن يتكلم الشيخ تحديداً، عيني تبصر جيداً ولا أرى من يتكلم عنهم هذا الشريف ، فعلمي أن النواح والعويل من صفات النساء لا الرجال ، ولم أسمع أحداً من الرافضين ـ أو المتوجسين الخائفين ـ للحوار بين الأديان يعوي أو ينوح .!!

وعلمي بأن المتوجسين خيفة من ( الحوار بين الأديان ) هم ممن كانوا ينظرون له ، بل ويمارسونه ، وليسوا ممن لا يحسنون الحوار وبالتالي يخافون أن يتحاوروا فلذا توجسوا وخافوا ومن ثَمَّ أدبروا ، إن الخائفين المتوجسين قد جربوا أو درسوا تجارب مَن جربوا ، وعادوا يشكون من لؤم القوم وخبثهم .
وهي تجربة استمرت لقرنٍ أو يزيد من الزمان ، وعاد من سلك طريقها يقول الطريق مقطوعٌ مسدودٌ . فعلمَ تريد منا أن نسلك طريقاً مقطوعاً .. مسدوداً ؟!
هذا منطقهم ، وقد أصابوا.

وظلماً حصرَ الشيخ حاتم الشريف حجة الرافضين ( للحوار بين الأديان ) في القول بأن الحوار مع ( الآخر ) من الكافرين أو المبتدعين في الدين لا يكون إلا لهدف الدعوة إلى الله ثم حَمَلَ عليهم وراح يردهم عن رأيهم يريد أن يوردهم موائد ( الحوار ) ، واستحضر صلحَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع قريش ، يقول حوار لشيء آخر غير الدعوة .. يقول استثمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشترك بينه وبين قريش ( الكفار ) يومها . . . يقول اتفق معهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تعظيم الحرمات، ويغمز مخالفيه بأنهم من أتباع رأس الخوارج الذي نادى على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعدل . وقبح الله الخوارج . وغفر الله له غمزه إخوانه .


ثم .. راح الشيخ يعرض وجهة نظره والأهداف التي ينبغي علينا أن ننشدها من ( الحوار بين الأديان ) ،
يقول نتحاور لـ(نَفْهَمَ المخالفين فهمًا عميقًا ) ونتحاور ( ليفهمنا الآخرون ) كي يحترموا حضارتنا وقيمنا .!!
وكأن ( الحوار بين الأديان ) ـ بوضعه الحالي ـ مناظرة أو عرضاً للإسلام وعرضاً للكفر ـ أو البدعة ـ وكأنْ لا سبيل لمعرفة الآخر ( من الكافرين أو المبتدعين ) إلا من خلال الحوار ، وكأن من يتحاور يأتينا بقلب صافٍ يعرض ما عنده ويسمع ما عندنا .

يا شيخ !

إنهم الأفاكون ، الذين يعرفون الحق وهم له منكرون ، إنهم الذين يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون ،إنهم الملأ ، لم يأتوك ولن يأتوك ليعرفوا ما عندك ، لم يجهلوا دينك ولذا جاءوا يتعلموا ، ولا أنك حين تجلس إليهم تتكلم إليهم بدينك أو تناقش دينهم ، إنهم جاءوا للمشترك .. لتعديل الثوابت ومِن ثم الالتقاء عليها ، أو قل لتوسيع المشترك . فالحوارات لا تعقد لشرح الإسلام وبيان فساد غيره من ( الأديان ) ، ومادة الحوارات هي ثوابت الإسلام ( الجهاد ) ( المرأة ) ( أهل الذمة ) ( الخلافة ) ( الحاكمية ) .. الخ .

إن معرفة الآخر يا شيخ لا تأتي من موائد الحوار ، وإنما دونك حديثهم لأقوامهم ولمن ( يبشرونهم ) بدينهم عن دينك وجَدِّكَ ـ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، يقولون ما كان نبياً ، ويقولون زنا ، ويقولون حملت به آمنة من الزنا ، وليس قول السفهاء بل قول المقدمين فيهم . . أهل ( العلم ) و ( الورع ) !
فجدك جدُّك .. ويدنك دينك .
ويقول الشيخ نتحاور ( للوصول إلى صلح يحفظ الدين والأعراض والأموال ) ، إي والله هكذا يقول !!
استحضر يوم الحديبية وصوَّر له الخيال أن حالنا على موائد ( الحوار ) كحال جده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية ، ويوم الحديبية شاعَ .. شاعَ ... ، فقط شاعَ أن رجلاً واحداً من ( المستضعفين ) ( المحرمين ) الذين لم يأتوا لقتال ولم يستعدوا للقتال ، وقد بعدوا عن ديارهم وباتوا في ديار عدوهم في قلب كنانة وقيس ـ نصف مليون من الأعداء تقريباً ـ وكانوا بالأمس على أبواب المدينة يريدون الدعوة كلها .. حين شاعَ أن رجلا ممن هذا حالهم قتل ، هبُّوا وبايعوا على القتال حتى يأخذوا ثأر صاحبهم . وقبل يوم الحديبة هم بأنفسهم الذين خفُّوا لبني قينقاع حين كشفوا سوءة امرأة لحظة من الزمن . فدعك من يوم الحديبية لا تستشهد به . لا حالنا حالهم ، ولا نجرأ أن نقول بقولهم ، ولا أن نفعل فعالهم . إن أعراضنا في كل مكان تنتهك ودمائنا في كل مكان تسفك ، وعدونا في عقر دارنا ، ولا تستطيع ولا أستطيع أن ندفع عنهم ، دعك من يوم الحديبية . لا شأن ليوم الحديبية بالحوار بين الأديان . إن أنسب مثالٍ للحوار بين الأديان الذي ندعى إليه هو مفاوضات قريش في مكة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي قال عنها الله ( ودوا لو تدهنوا فيدهنون ) .

إن كل متدبر لحال الكفر مع الإيمان يجد أن أهل الكفر يسلكون طريقين لصد الناس عن دين الله ، طريق الجدال وطريق القتال ، وهذا قول الله تعالى { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ }[ غافر : من الآية 5] . يجادلون وفي ذات الوقت يقاتلون .

الجدال للتمويه وللتشويش على الغافلين والمغفلين ودوامة للاستقطاب جهد المخلصين الطيبين ، والقتال وسيلة الجاهلية للاستئصال الحق ، كذا كانت قريش { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }[ الأنعام : من الآية 121] ، تجادل في ذات الوقت الذي تفتن فيه المؤمنين ، والحال اليوم كما كان بالأمس الساحة جدالٌ وقتال .
فلن يعطيك هؤلاء صلحاً إلا أن يرون منك بأساً ، وكذا كانت قريش يوم الحديبية ، لم تجلس للصلح إلا بعد أسر الثلاثين من فرسانها ، وخيبة فارسها ـ خالد بن الوليد يومها ـ في الغدر بالمسلمين وهم يصلون .
ـ إنهم الكافرون يقاتلون ويجادلون . فيسعنا أن نسكت ، أم أن نجتزئ الواقع ونقرأه قراءة خاطئة فلا . ولا .

ـ أرتاب من تلك المصطلحات ( الإصلاح ) فعند العارفين أن دعوى ( الإصلاح ) في القديم والحديث مرتبطة بالنفاق ، ولا أرمي الشيخ بالنفاق أعوذ بالله من ذلك ولكن أتكلم عن دعوى ( الإصلاح ) ، مرتبطة من يوم ظهرت بالنفاق ، قال الله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }[ البقرة : 11 ] والسياق عن المنافقين . وحديثاً رفع أتاتورك شعار ( الإصلاح ) ، ورفع محمد عبده ( الإصلاح ) فكان ثمرة ( إصلاحه ) جامعة القاهرة وسعد زغلول وزوجة سعد زغلول ومن دخل عليها سعد زغلول وكشف غطاء وجهها ، ولطفي السيد ... الخ .
وأرتاب من ( حضارتنا ) و ( ثقافتنا ) و ( المقدسات ) و ( الاحترام ) كلها من بضاعة غيرنا ، وقد جاءنا بها نبينا بيضاء ناصعة لا حاجة لنا في سواها .
وإن الخوارج هم الذين يشتدون على أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان من عباد البقر والشجر والصلبان . وليس هذا حال من يرفض الحوار بعد أن جربناه سنين طويلة .

محمد جلال القصاص
ليلة الثلاثاء / 12 /6/ 1429هـ
الموافق / 16 / 6 / 2008
 
الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فقد مرت بالأمة منذ فجر تاريخها أوقات بلغت فيها القوة .. ومرت بها كذلك أوقات بلغت قاع الضعف ، هذا في الجملة .
ومع ذلك فإننا لم نعلم أنّ أئمة السلف تداعوا للحوار مع المخالفين والجلوس معهم والتصافي وإشاعة أجواء الألفة والمحبة معم .. سواء في ذلك المخالفون من المنتسبين للإسلام و الكفار .
و أمّا الآن فأصبح الحوار والتنادي له وبه (موضة) عصرية كما يُقال ..
وأصبحت أخبار مؤتمرات الحوار تتصدر عناوين الصحف ..
وكنت لا آبه كثيراً لها لأني على يقين أنّها لن تتعدى الشكليات ..
وكنت أظن فيما سبق أن المشاركين في تلك المؤتمرات إنما يشاركون درءاً لمفسدة الخلاف وامتثالاً لرغبة ولي الأمر ومبالغة في استقصاء إقامة الحجة ، هذا مقصد شريف يُعذر له صاحبه ..
لكني لم أتوقع أن يصل الأمر بكثير منهم إلى قناعات بل وتأصيل لهذه القناعات بل ومهاجمة المخالفين ورميهم بألفاظ لا يجرؤ الواحد من هؤلاء أن يتلفظ بها للمخالفين الذين يكدّ ويكدح للحوار معهم ..فيا لله العجب !
ومن هذا القبيل مقال قرأته للشيخ لدكتور حاتم الشريف وفقه الله ..
فقد كتب مقالاً نشر في موقع (الإسلام اليوم) وهو موقع يرعى مثل هذه التوجهات ويؤصل لها وينافح عنها والشيء من معدنه لا يُستغرب .
وفي مقال الدكتور على قصره مغالطات سأتوقف عندها متأسفاً متألماً لما صدر عنه ، نصرة للحق والله ودفعاً عن حياض أهل العلم الذين ينكرون ويستنكرون كثيراً مما تهدف له هذه المؤتمرات .. والله أسأل أن يهديني والدكتور وجميع المسلمين للصواب من القول والعمل ..
يقول الدكتور:(لا يختلف اثنان في أن الحوار هو أسلوب التواصل الأمثل مع الموافق والمخالف)
أقول : بل اختلفوا ، أعني اختلف أهل السنة مع غيرهم في هذا ، فأئمة السلف منذ القدم ينكرون التواصل مع المخالفين إلا تحت مظلة الدعوة وعرض الحق عليهم ، وهذا منهجهم من قديم ، وإمامهم في هذا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فماذا فعل عمر بصبيغ العراقي ؟
عن السائب بن يزيد وسليمان بن يسار : أنّ رجلاً من بني تميم يقال له : صبيغ بن عسل ، قدم المدينة ، وكانت عنده كتب ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل فقال : اللهم أمكِنّي منه ، فبينا عمر ذات يوم يغدّي الناس ، إذ جاءه رجل عليه ثياب وعمامة ، فتغدى حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين : {والذاريات ذروا}، فقال عمر: أنت هو ؟ ، فقام إليه فحسَر عن ذِرَاعيه ، فلم يزل يجلِده حتّى سقطت عمامته ، (في رواية : ، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين ، فما زال يضربه حتى شجه ، فجعل الدم يسيل على وجهه) ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي، فقال : والّذي نفس عمر بيده ، لو وجدتك محلوقاَ ، لضربت رأسك ، ألبِسوه ثيابَه ، واحتَمِلوه على قتَب ، ثمّ أخرِجوه حتّى تقدُموا بهِ بِلاده ، ثم ليقُم : خطيباً ، ثم ليقُل : إنّ صبيغاً طلبَ العلمَ فأخطأه« ، فلم يزل وَضِيعاً في قومِه حتّى هلَك ، وكان سيّد قومه«.
مع أنّ صبيغاً لم يخالف وإنما أراد فتح باب للخلاف ، فقمعه عمر بالسوط حتى أدمى ظهره .
جاء في السنة للخلال على لسان بعض أئمة السلف : »وليس ينبغي لأهل العلم والمعرفة بالله أن يكونوا كلما تكلم جاهل بجهله أن يجيبوه ويحاجوه ويناظروه فيشركوه في مأثمة ويخوضوا معه في بحر خطاياه ولو شاء عمر ابن الخطاب أن يناظر صبيغ ويجمع له أصحاب رسول الله حتى يناظروه ويحاجوه ويبينوا عليه لفعل ولكنه قمع جهله وأوجع ضربه ونفاه في جلده وتركه يتغصّص بريقه وينقطع قلبه حسرة بين ظهراني مطروداً منفيا مشرداً لا يكلم ولا يجالس ولا يشفا بالحجة والنظر بل تركه يختنق على حسرته ولم يبلعه ريقه ومنع الناس من كلامه ومجالسته فهكذا حكم كل من شرع في دين الله بما لم يأذن به الله أن يخبر أنه على بدعة وضلالة فيحذر منه وينهي عن كلامه ومجالسته«.
هذا مع الفرد ، وأما مع الجماعة فماذا فعل علي رضي الله عنه مع الخوارج ؟
هل جمع لهم علي علماء الصحابة وجلس معهم للحوار ؟ الجواب : لا .
بل أرسل لهم من يناظرهم ويقيم عليهم الحجة ويستنقذ منهم من كتب الله له الهداية ، ثم بعد ذلك كرّ عليهم فأباد خضراءهم .
وبلَغ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ ـ رحِمَه اللهُ ـ أنّ غيلان القدريّ يقولُ في القدَرِ ، فبعثَ إليهِ فحجَبه أياماً ، ثم أدخلَه علَيه ، فقالَ يا غيلان ! ما هَذا الذي بلغَني عنك ؟ قالَ عمرو بن مهاجر : فأشرتُ إليهِ ألاّ يقولَ شَيئاً ، قالَ : فقالَ : نعَم يا أميرَ المؤمنين ، إنّ اللهَ عزّ وجلّ يقولُ: { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا} قال عمرُ: اِقرَأ إلى آخرِ السّورة : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } ثمّ قالَ : ما تقولُ يا غَيلان ؟ قالَ : أقول : قد كُنت أعمَى فبصّرتَني ، وأصمّ فأسمَعتني ، وضالاً فهدَيتني ، فقالَ عمر : اللّهمّ إن كانَ عبدُك غيلانُ صادِقاً وإلاّ فاصلِبه ! قالَ : فأمسكَ عن الكلامِ في القدرِ ، فوَلاّه عمرُ بن عبدِ العزيز دارَ الضّربِ بدِمَشق ، فلمّا ماتَ عمرُ بن عبد العزيز وأفضَت الخلافةُ إلى هشامٍ تكلّمَ في القدرِ ، فبعثَ إليه هشامٌ فقطَعَ يدَه ، فمرّ بهِ رجلٌ والذّباب على يدِه ، فقالَ : يا غيلانُ! هذا قضاءٌ وقدَر ، قال: كذَبتَ ، لعمرُ اللهِ ما هذا قضاءٌ ولا قدَر ، فبعثَ إليهِ هشامٌ فصلَبَه ».
هذا بالنسبة لموقف ولاة الأمر ..
أما العلماء فموقفهم معروف أنقل هنا نتفاً منه :
عن حُمَيد الأعرجِ قال : قدمَ غيلانُ مكّةَ يجاوِرُ بِها ، فأتَى غيلانُ مجاهداً فقالَ : يا أبا الحجّاجِ ، بلَغَني أنّكَ تنهَى النّاسَ عنّي وتذكرني ، وأنّه بلغكَ عنّي شيءٌ لا أقولُه ؟ إنّما أقولُ كذا ، فجاءَ بشيءٍ لا يُنكَر ، فلمّا قامَ قالَ مجاهِد : لا تجالِسُوه ؛ فإنّه قدَرِيّ .
قالَ حُميد : فإنّي لمّا كنتُ ذاتَ يومٍ في الطّوافِ لحِقَني غيلانُ مِن خلفِي يجذِبُ ردائي ، فالتفتُّ فقالَ : كيفَ يقولُ مجاهِد خرفاً كذا وكذا فأخبرتُه ، فمشَى معي ، فبصُر بِي مجاهدٌ معَه ، فأتيتُه فجعلتُ أكلّمُه فلا يردّ عليّ ، وأسألُه فلا يجيبُني .. فغدوتُ إليهِ فوجدتُه على تلكَ الحالِ ، فقلت : يا أبا الحجاج ! أبلغَكَ عنّي شيءٌ ؟ ما أحدثتُ حدَثاً ، ماَ لي ! قال : ألَم أركَ مع غيلانَ ‍! وقد نهيتُكم أَن تكلِّمُوه أو تجالِسُوه ؟ قالَ : قلتُ : يا أبا الحجّاج ما أنكرتُ قولَك ، وما بدأتُه ، وهو بدأني ، قالَ : واللهِ يا حُميد لولاَ أنّك عندي مُصَدّقٌ ما نظرتَ لي في وجهٍ منبسِطٍ ما عِشتُ ، ولئِن عُدتَ لا تنظرُ لي في وجهٍ منبسطٍ ما عِشتُ.
وعن أيّوبَ قالَ : كنتُ يوماً عند محمّدِ بن سيرين إذ جاءَ عمروبنُ عبيد فدخلَ ، فلمّا جلسَ وضعَ محمّد يدَه في بطنِه وقامَ ، فقلتُ لِعَمرو : انطلِق بِنا ، قالَ : فخرَجنا فلمّا مضىَ عمرُو رجعتُ فقلتُ : يا أبَا بكر ؟ قد فطِنتُ إلى ما صنعتَ ، قالَ : أقَد فطِنتَ ؟ قلتُ : نعَم ! قالَ : أما إنّه لم يكن ليضُمّني معَه سقفُ بيتٍ.
وقيلَ : دخلَ ابنُ عبيدٍ دارَ ابنَ عونٍ فسكتَ ابنُ عونٍ لما رآه ، وسكتَ عمرو عنه ، فلَم يسألْهُ عن شيءٍ ، فمكثَ هنيهةً ثمّ قام فخرج ، فقالَ ابنُ عون : بِمَ استحلّ أن دخلَ داري بغيرِ إذْني ؟ ـ مراراً يردّدُها ـ أمَا إنّه لو تكلّم .
وعن مؤمّلِ بنِ إسماعيلَ ، أنه قالَ : قالَ بعضُ أصحابِنا لحمّاد بن زيد: ما لكَ لم ترْوِ عن عبدِ الكريمِ إلاّ حديثاً واحداً ؟ قال : ما أتيتُه إلا مرّةً واحدةً لمساقهِ في هذا الحديثِ ، وما أحبُّ أنّ أيوبَ علِمَ بإتياني إليهِ ، وأنّ لِي كذَا وكذَا ، وإنّي لأظنّه لو علِمَ لكانت الفصيلةَ بيني وبينَه .
وعن حمّادِ بن زيدٍ قالَ : لقِيَني سعيدُ بنُ جبير فقالَ : ألم أركَ مَع طَلق؟ قلتُ : بلَى ! فما لَه ؟ قالَ : لا تجالِسْه فإنّه مرجِئ .
وعن محمّد بن واسِع قال : رأيت صفوانَ بن محرِز رأى قوماً يتجادلُون ، قرِيباً منه ، فقامَ ينفضُ ثيابَه ويقولُ : إنّما أنتُم جُرُب ، مرتين.
وحكَى ابنُ وضاحٍ عن غيرِ واحدٍ : « أنّ أسدَ بن موسى كتبَ إلى أسد بن الفرات : اِعلم يا أخي أنّ ما حملَني على الكَتبِ إليكَ ما أنكرَ أهلُ بلادِكَ من صالِح ما أعطاكَ اللهُ من إنصافِكَ النّاسَ ، وحُسنِ حالِكَ ممّا أظهرتَ من السّنّةِ ، وعيبكَ لأهلِ البِدَعِ ، وكثرةِ ذكرِكَ لهم ، وطعنِكَ عليهِم ، فقمَعَهم اللهُ بِك ، وشدّ بكَ ظهرَ أهلِ السّنّةِ ، وقوّاكَ عليهِم بإظهارِ عيبِهِم ، والطعنِ عليهِم ، وأذلّهم اللهُ بذلكَ وصارُوا بِبِدعتِهم مستَتِرين ، فأبشِرْ يا أخِي بثوابِ الله ، واعتدّ بهِ من أفضلِ حسناتِك ، من الصّلاةِ والصيامِ والحجِّ والجهادِ ، وأينَ تقعُ هذهِ الأعمالُ من إقامةِ كتابِ اللهِ وإحياءِ سنّةِ رسولِ الله ؟! .. فاغتنِم يا أخِي هذا الفضلَ وكُنْ من أهلِه ، فإنّ النبيّ  قالَ لمعاذٍ حين بعثَه إلى اليمنِ فأوصاهُ وقال : « لأن يهدِي الله بكَ رجلاً واحداً خيرٌ لكَ من كذا وكذا » وأعظمَ القولَ فيهِ ، فاغتنِم ذلكَ وادعُ إلى السّنّةِ حتّى يكونَ لكَ في ذلكَ ألفةٌ وجماعةٌ يقومون مقامكَ إن حدثَ بكَ حدَثٌ ، فيكونونَ أئمةً بعدكَ ، فيكونُ لكَ ثوابٌ إلى يومِ القيامةِ ، كما جاء الأثر ، فاعمَلْ علَى بصيرةٍ ، ونيّةٍ حسنةٍ ، فيردّ اللهُ بكَ المبتدعَ والمفتونَ الزائغَ الحائِر ، فتكونُ خلَفاً مِن نبيّكَ  ، فأَحْيِ كتابَ اللهِ وسنةَِ نبيّهِ ، فإنّكَ لن تلقَى اللهَ بعملٍ يشبِهُه ».
وعندما حصر الشاطبي مراتب العلاقة مع المخالفين قال :
أحدها : الإرشادُ والتّعليمُ وإقامةُ الحجّةِ ، كمسألةِ ابنِ عبّاس ـ رضي الله عنه ـ ، حينَ ذهبَ إلى الخوارجِ فكلّمَهم حتّى رجعَ منهُم ألفان ـ أو ثلاثة آلاف .
والثّاني : الهجرانُ وتركُ الكلامِ والسّلامِ ، حسْبما تقدّم عن جملةٍ من السّلفِ في هجرانِهم لِمَن تلبّسَ بِبِدعةٍ ، وما جاءَ عن عمرَ ـ رضي الله عنه ـ من قصّةِ صبيغٍ العراقيّ .
والثّالثُ : كما غرّبَ عمرُ صبيغاً ، ويجري مجراه السّجنُ وهوَ :
الرّابِعُ : كما سجنُوا الحلاّجَ قبلَ قتلِه سنينَ عدِيدة .
والخامس : ذِكْرُهم بما هُم علَيه ، وإشاعةُ بدعتِهم كي يُحذَروا ، ولئلاّ يُغترّ بكلامِهِم ، كما جاءَ عن كثيرٍ من السّلفِ في ذلِك .
السّادسُ : القتلُ إذا ناصبُوا المسلمينَ وخرَجُوا علَيهِم ، كما قاتلَ عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ الخوارِجَ ، وغيرُه من خلفاءِ السّنّة .
والسّابعُ : القتلُ إن لم يرجِعُوا مِن الاستتابةِ ، وهوَ قد أظهرَ بدعتَه ، وأمّا مَن أسرّها وكانَت كُفراً أو ما يرجِعُ إليهِ فالقتلُ بلا استتابةٍ وهوَ :
الثّامن : لأنّه من بابِ النّفاقِ كالزنادِقة .
والتّاسعُ : تكفيرُ مَن دلَّ الدّليلُ على كفرِه ، كما إذا كانَت البدعةُ صريحةً في الكفرِ كالإباحيّةِ ، والقائلينَ بالحلولِ كالباطنيةِ ، أو كانَت المسألةُ في بابِ التكفيرِ بالمآلِ ، فذهبَ المجتهدُ إلى التّكفير .. وينبني على ذلك :
الوجهُ العاشرُ : وذلكَ أنّه لا يرِثهم ورثتُهم مِن المسلمين ولا يرِثُون أحداً مِنهم ، ولا يُغسَلُون إذا ماتوا ، ولا يصلّونَ عليهِم ولا يُدفَنون في مقابرِ المسلمِين ، ما لم يكن المستتِر ، فإنّ المستتِر يُحكَمُ له بحكمِ الظّاهِرِ ، وورثتُه أعرفُ بالنسبةِ إلى الميراثِ .
والحاديَ عشَر : الأمرُ بأن لا يُناكَحُوا ، وهو مِن ناحيةِ الهجران ، وعدمِ المواصلَةِ .
والثّاني عشَر : تجريحُهم على الجملةِ ، فلا تُقبَلُ شهادتُهم ولا روايتُهم، ولا يكونونَ ولاةً ولا قضاةً ، ولا يُنصّبون في مناصبِ العدالةِ من إمامةٍ أو خطابةٍ ، إلاّ أنّه قد ثبتَ عن جملةٍ من السّلفِ روايةُ جماعةٍ منهم ، واختلفُوا في الصّلاةِ خلفَهم من بابِ الأدَبِ ليرجِعُوا عمّا هُم علَيه .
والثّالث عشَر : تركُ عيادةِ مرضاهم ، وهو مِن بابِ الزّجرِ والعقوبةِ .
والرّابع عشَر : تركُ شهودِ جنائِزهم كذلِك .
والخامسَ عشر : الضّربُ ، كما ضربَ عمرُ ـ رضي الله عنه ـ صَبيغاً .
ورُوِيَ عن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ في القائلِ بالمخلوقِ أنه يوجَعُ ضَرباً ويُسجنَ حتّى يموت .
ورأيت في بعضِ تواريخِ بَغداد عن الشّافعيِّ أنّه قالَ : حُكمِي في أصحابِ الكلامِ أن يُضرَبوا بالجرائِدِ ، ويُحمَلوا على الإِبلِ ، ويُطافُ بهِم في العشائِرِ والقبائِلِ ، ويُقال : هذا جزاءُ من تركَ الكتابَ والسّنّةَ ، وأخذَ في الكلامِ ، يعني أهلَ البِدَعِ » .
هذا هو موقف السلف من المخالفين فقارن بين هذا وما يدعو إليه الدكتور ..
يقول الدكتور : (وأنه ما ساد الحوار في مجتمعٍ أو أمةٍ إلا دلّ على رُقِيّها العقلي والعلمي والحضاري)
أقول : هذا فيه تعميم ، فأي حوار تعني ، أهو الحوار العلمي بين أهل السنة فيما يسوغ الخلاف فيه من مسائل العلم ؟
أم تعني الحوار بين أهل الحل والعقد فيما يستجد في الأمة من الحوادث التي تحتاج إلى الرأي والمشورة ؟
أم الحوار بين المتنازعين في أمور الدنيا بما يحقق الصلح والتراضي ؟
فكل هذا طيب مشروع لم ينكره أحد .
وهو دال على ما قلته من رقي علمي وعقلي وحضاري .
أم أنك تعني إقرار حق المخالفين للسنة على تفاوت مراتبهم في المخالفة للشريعة وغض الطرف عن نقاط النزاع والحوار والكلام في المتفق عليه من أمور عامة مشتركة وما يلحق ذلك ويستلزمه – وإن تملص منه البعض – من منع الإنكار عليهم أو التحذير منهم ومن مناهجهم ومذاهبهم ؟
فهذا في الحقيقة لا دلالة فيه على رقي لا عقلي ولا علمي ..
ولو كان فيه خير ورقي عقلي لكان أسبق الناس إليه والعمل به هم سلفنا الصالح والذين كان منهجهم مع المخالفين معروفاً نقلت لك بعضه فيما تقدم ، فهل طريقتهم تلك كانت علامة تخلفهم العقلي والعلمي والحضاري ؟!
يقول الدكتور : (لأن الحوار هو اللغة الوحيدة التي يفهمها العقل، ويستعملها العلم، وتتداولها الحضارة)
أقول :ليس صحيحاً ، بل كثيراً ما كان الزجر والهجر أكثر وضوحاً وتنبيهاً للعقل والضمير ، وفي قصة صبيغ أنه بعد أن ضربه قال : (حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي) .. وكثيراً ما كان الهجر والعزل منبهاً للمخطئ ومعيداً له لى جادة الصواب.
الحوار يكون وسيلة حين يكون سبب المخالفة الجهل البسيط أو التأويل والغلط ممن يبحث عن الحق لأنّ سبب تبني هذا لمخالفته هو ظنها إياها الصواب .. لكن حين يكون الحوار مع طوائف تكن عداءً للسنة وأهلها منطلقاته التعصب وأتباع أديان كذلك فالحوار لن يجدي في هذه الحال إلاّ مزيداً من الضعف للحق وأهله والقوة للباطل وأهله ..
يقول الدكتور : (ولو تفكّرنا قليلا في البديل عن الحوار: ماذا يمكن أن يكون ؟ لم نجد إلا التسلّط بالقوة. مع أن التسلط ليس أسلوبا للتواصل أصلاً، بل هو منهجٌ للتقاطع والتهاجر، مما لا يؤدي إلى تفاهمٍ ولا دعوةٍ ولا هدايةٍ (وهذه الثلاثة هي مفردات التواصل) فالتسلّطُ لم يكن.. ولن يكون منهجًا للإقناع العقلي، ولا لمحاولة تغيير المعتقدات الباطنة.
أقول : ومن قال إن التواصل هدف ومقصد ؟
التواصل في منهج السلف هو اللقاء لبيان الحق وإحقاقه وإبطال الباطل ولأن يُقال للمسيء ما فيه من الإساءة ليعود ويستدرك .. أما غير ذلك فليس فيه إلا مفسدة نشر المخالف لمخالفته وتقريرها وتهوينها في أعين الناس .
ثم إن الدكتور غفل عن أنّ السلف راعوا في هذا الأمر مصلحة الأمة قبل الفرد ، فلئن كان في هجر وزجر الفرد أو الجماعة قطعاً للصلة بهم ففيه تنبيه للأمة بخطرهم وحماية لها منهم ، كالمريض الذي يُحجر عليه ويُترك يقاسي الألم وحده ليس قسوة عليه بل رحمة بمجموع الأمة أن لا تقع في ما وقع فيه بسبب تساهل العلماء في الحوار ومجالسة المخالفين وما يتبع ذلك من التبسط معهم .
يقول الدكتور : (ولا لتحسين تصوّر الآخرين عنا).
أقول : لسنا مكلفين شرعاً أن نكون غير ما نحن عليه ..
تحسين الصورة يريد به كثير من أهل الحداثة والعصرانيين وأهل البدع أن يترك أهل السنة كثيراً من دينهم ليكون مقبولاً حسناً في أعين المخالفين .. ويريد به الكفار أن نترك بعض ديننا أو كله لنكون عندهم مرضيين ..
وهذا لا يقول به من يحترم دينه وعقله ..
ويراد به أن نمتثل حقيقة السنة والإسلام النقي الصافي ، وهذا حق بغض النظر قبله الآخرون أم لا .
فالواجب أن يستجيب المؤمن لله ولرسوله دون النظر لقبول الآخرين له ..
ونحن نعلم أن المخالف لن يرضى عن أهل السنة ويتقبلهم إلا أن يتركوا شطر دينهم ..
كما أن اليهود والنصارى لن ترضى عنا حتى نتبع ملتهم ..
{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}[البقرة:120]
فهذه النغمة يجب أن يكف عنها طلبة العلم والعلماء لأن مدلولاتها غير شرعية في الأغلب .
قال ابن القيّم في سبب تحريف شريعة النصارى : « وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بافر كسيس أن قوماً من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتو أنطاكية وغيرها من الشام ، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصّحيح، فدعوهم إلى العمل بالتوراة ، وتحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان وإقامة السبت، وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة ، فشقّ ذلك على الأمم ، واستثقلوه، فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحبّبوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم، وأكل ذبائحهم، والانحطاط في أهوائهم ، والتخلّق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم ».
يقول الدكتور : (فلا أدري: لماذا يتوجسُ بعضنا خيفةً من الحوار، بل من الدعوة إلى الحوار؟! سواء أكان الحوار مع المخالفين لنا في أصل الدين من الكفار، أو مع المخالفين لنا في بعض (المعتقدات) من المسلمين)
أقول : من العجب أن الدكتور لا يدري لما يتوجس البعض من الحوار !
كل هذا الزخم الإعلامي العالمي الذي ينادي من عقود عدة إلى الحوار بين الأديان والجلوس على موائده من أين صدر ؟
ألم يصدر من جهات غربية كافرة ..
ألا يحق للمسلم أ يتوجس ويخاف من دعوة مصدرها الكفار ؟
دعنا مما يقوله فكر المؤامرة ..
ولنقرأ ماذا قال لنا ربنا تعالى عن المخالفين لنا من الكفار بشتى مللهم : هل يريدون بنا خيراً أم شراً أم لا هذا ولا ذاك ؟
{ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره ان الله على كل شيء قدير}[البقرة:109]
{ما يود الذين كفروا من اهل الكتاب ولا المشركين ان ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[البقرة:105]
{يا ايها الذين امنوا ان تطيعوا الذين كفروا يردوكم على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين}[ال عمران:149]
يقول الدكتور : (هل هو رفض مبدأ الحوار الذي لا يكون إلا من ضعيف الحجة؟ وهذا ما لا يجوز أن يقع من مسلمٍ عَلِمَ أنّ الله تعالى قد حباه بالدين الحق الذي ليس سواه إلا الباطل؟)
أقول : هذه الشنشنة التي يدندن حولها التغريبيون المنادون بالحرية : ألا وهو أنا أصحاب حق وثقافة قوية لا نخشى الانفتاح ولا الحوار مع الآخر ..أتعجب من الدكتور حين يردد ما يردده هؤلاء .
بل والأشد من هذا أن يعتبر رفض الحوار لا يكون إلا من ضعيف الحجة ..
حسناً سأنقل للجميع موقف بعض أئمة السلف التي تُعتبر عند الدكتور دليلاً على ضعف الحجة :
عن أيّوبَ قالَ : دخلَ رجلٌ على ابنِ سيرينَ فقالَ : يا أبا بَكر ! اقرأُ عليكَ آيةً من كتابِ اللهِ لا أزيدُ أن أقرأَها ثمّ أخرُجُ ؟ فوضعَ إصبعَيه في أذنَيهِ ، ثمّ قالَ : أعزِمُ عليكَ إن كنتَ مسلِماً إلاّ خرجتَ من بيتِي ، قالَ : فقالَ : يا أبا بكر ! لا أزيدُ على أَن أقرأَ ( آيةً ) ثم أخرجُ ، فقامَ لإزارِه يشدّه وتهيّأَ للقيامِ ، فأقبلنا على الرّجلِ ، فقلنا : قَد عزمَ عليكَ إلاّ خرجتَ ، أفيَحِلّ لك أن تُخرِجَ رجلاً من بيتهِ ؟ قالَ : فخرجَ ، فقُلنا : يا أبا بكر ! ما عليكَ لو قرأَ آيةً ثمّ خرجَ ؟ قال : إنّي واللهِ لو ظننتُ أن قلبِي يثبتُ على ما هوَ عليهِ ما باليتُ أن يقرأَ ، ولكن خِفتُ أن يلقِيَ في قلبي شيئاً أجهدُ في إخراجهِ من قلبي فلا أستطيع.
عن معن بن عيسى قال : انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يوماً من المسجد ، وهو متّكئ على يدي ، فلحقه رجل يقال له : أبو الجيرية ، كان يُتّهم بالإرجاء ، فقال : يا أبا عبدالله ، اسمع مني شيئاً ، أكلّمك به ، وأحاجّك ، وأخبرك برأيي ، قال : فإن غلبتني ؟ قال : إن غلبتك اتّبعني ، قال : فإن جاء رجل آخر ، فكلمنا فغلَبَنا ؟ قال : نتّبعه ، قال مالك رحمه الله تعالى : »ياعبد الله ، بعث الله تعالى محمّداً  بدين واحد ، وأراك تنتقل من دين إلى دين ، قال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غَرَضاً للخصومات أكثر التنقل«.
عن هشام - يعني ابن حسان - قال : جاء رجل إلى الحسن فقال : يا أبا سعيد ، تعال حتى أخاصمك في الدين ، فقال الحسن : »أما أنا فقد أبصرت ديني ، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه«.
عن سلام بن أبي مطيع : أنّ رجلاً من أصحاب الأهواء قال لأيوب السختياني : يا أبا بكر ؟ أسألُك عن كلمة ، قال : فوَلّى أيوب ، وجعل يشير بإصبعه : ولا نصف كلمة ، ولا نصف كلمة «.
هذا هو موقف هؤلاء الأئمة من الحوار مع المخالف فهل كان هذا نابعاً من ضعف الحجة ؟!
يقول الدكتور : (أم لأننا أصبحنا نشك في كل دعوة حق، خشيةَ أن تكون حقًّا أُرِيدَ به باطل؟ )
أقول : ومن الذي قرّر أن الدعوة للحوار دعوة حق أصلاً حتى نقول إنها حق يُراد به باطل ..
بل نحن نقول إن الحوار لفظ عام يُراد به أمور شتى منها ما هو حق ومنها ما هو باطل ..
وقد ذكر الشيخ الفوزان وفقه الله طرفاً من ذلك :
وأنا على يقين من أن المفردات الباطلة داخلة فيه .. لكن المفردات الشرعية لا نرى لها أثراً ..
وهذا سبب خوفنا على أمتنا وديننا أن تمر بما مرت به الأمم قبلنا مما حذرنا منه الله ورسوله .
يقول الدكتور : (ولذلك تجد عبارات سوء الظن ظاهرةً في بيان أسباب رفضهم للحوار, من أن الدعاة إلى الحوار سيتخذونه سُلَّما للتنازل عن حقائق الدين، وإلى تمييع الولاء والبراء.. وغير ذلك من التهم!
وهذا التعميم الجائر منهم (في الشكّ)، لا يقع إلا من مسلوبِ الإرادة، أسيرٍ للغلو في فكرة المؤامرة)
أقول : كل أمر تفوح منه أسباب سوء الظن فسوء الظن به جدير .. بغض النظر عن بواطن الأمور ..
ونحن لا نقول ن الدعاة سيتخذونه سلماً للتنازل عن حقائق الدين وتمييع الولاء والبراء ..
فهذا لا نقوله ، بل هذا حدث فعلاً .. وأول أماراته هو مقالك هذا يا دكتور .. فقد تم التنازل جهاراً نهاراً عن أصل أصيل من منهج السلف ومن صلب عقائدهم التي سطروها في كتبهم وأصولهم ، ألا وهو الموقف من المخالف ، وهو الموقف الذي لم يتغير منذ قرون ولم يعرف ما يُسمى الآن التعايش والحوار وقبول الآخر وإقرار حرية الفكر ونحو ذلك ..
وقولك : (لا يقع إلا من مسلوبِ الإرادة، أسيرٍ للغلو في فكرة المؤامرة)
فهذا في الحقيقة غير صحيح .والمؤامرة ليست نظرية ولا فكرة بل هي حقيقة قرآنية سطرها الله تعالى في كتابه ..
وليس من الغلو فيها التزام مدلولاتها ومن أهمها الحذر من الكفار ومن أهل البدع وما يصدر منهم من دعوات لا يريدون بها إلا مصالحهم والكيد للسنة وأهلها ..
قال الدكتور : (ولذلك فلا تكاد تجد عند هذا الصنف من الناس إلا النواح والعويل على الحمى المستباح والحق المغصوب, أما إنتاج الإصلاح وبرامج التصحيح فهم عنها بمعزل؛ إلا من الدعوة إلى منهجهم نفسه, لإنتاج نُسَخٍ أخرى لأمثالهم: من مسلوبي الإرادة، وأُسَراء التوجّس الْمُقَيَّدين بسوء الظن! )
أقول : النواح والعويل ممن لا يستطيعون غيره خير من الرضوخ للواقع والتنازل عن المبادئ .
وبرامج التصحيح وإنتاج الإصلاح إن لم تكن على منهج السلف ونور الوحي فلا مرحباً بها .
المعارضون لك يا دكتور ليسوا مسلوبي الإرادة .. بل هم من خيرة علماء الأمة أصحاب الإراة القوية الذين لا تغرهم الأضواء ولا الشعارات .. وأصحاب الثبات على المبادئ هم أصحاب الإرادة القوية أما تجار المؤتمرات وبائعوا الذّمم ومؤجّروا العقول فهم مسلوبوا الإرادة حقاً ..
المخالفون لك يا دكتور ليسوا هم المقيدين بسوء الظن وأسيري التوجس .. بل هذا الوصف أحق الناس به من يسارع إلى كل دعوةٍ لسوء ظنه بربه ودينه .. المؤمنون لا يغيرون مبادئهم .. لأنه يحسنون الظن بربهم ولا يتوجسون مما يصيب الأمة من عنت فيسارعون للتنازل والدعوة لمؤتمرات الكاسب فيها أعداؤنا والخاسر فيها نحن .. ولا أظن عاقلاً يقول إنه لا خاسر فيها ..
يقول الدكتور : (أم لأن الذين نغلو في تعظيمهم عاجزون عن الحوار، وسيتولّى مَهمّة الحوار حينها الذين كنا نريد أن نَسْلُبَهم كُلَّ فضيلة، وستنكشف بذلك هالةُ التقديس عمن نقدس، وسيظهر فضلٌ ما.. بوجهٍ ما.. في وقتٍ ما.. لمن أردناهم عَرِيِّين عن كل فضل؟!)
أقول :انظر لهذا الكلام وما فيه..
فمن الذين نغلوا في تعظيمهم ؟
ثم لماذا يعجزون عن الحوار وأنتم تدّعون أنه حوار في أمور مشتركة ؟ ما هذا التناقض ؟
أهل السنة أقدر الناس على الحوار ن كان المراد به الجدل والمناظرة ..
وإعراضهم عنها دليل قوّة لا ضعف ..
فالمخالفون هم الذين يستجدون الاعتراف بحقهم في مخالفة الوحي .. وهو حق لا يجوز الإقرار لهم به إلاّ وفق ما أتاح القرآن والسنة وبأسلوب ومنهج السلف الصالح ..
لأنهم يراعون الأمة كلها وليس أنفسهم ..ويخشون على الأمة من أمرين أحلاهما مر :
إما لحن المخالف بحجة لا يفقهها أكثر الناس فيلتبس عليهم الحق ..
أو على أقل تقدير نزع هيبة الناس من المخالف وإذابة الحواجز بينهم وبين المخالفين وتهوين أمرهم فتقع الكارثة ..
هذا إن كان المقصود بالحوار المناظرة ..
أما إ كان الحوار في الأمور المشتركة ومن ثم غض الطرف وطي صفحة الخلاف في خصائص المخالفين فهذا شر وشر وهو الذي يُنئي أهل السنة عن هذه الدعوات .
يقول الدكتور : (وينسى هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حاورَ كفارَ مكة في صلح الحديبية، لا لدعوتهم إلى الإسلام، بل حاورهم على ما فيه إرجاءُ دعوتهم إلى عشر سنوات، يتركهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك!)
أقول : ما حصل في صلح الحديبية لم يكن استجابة لدعوة من كفار مكة للحوار ..
بل كان صلحاً تم فيه تأجيل القتال لا الدعوة ..
ولا أدري من أين للدكتور أنه صلى الله عليه وسلم أرجأ دعوتهم ؟!
وكل ما في الأمر أنه يكف عن قتالهم عشر سنوات ..فيما يكفون هم كذلك مما أتاح فرصة كبيرة للدعوة ..
يقول الدكتور : (وفي هذا بيان واضح على أن الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة في ذلك الصلح لم يكن بغرض دعوتهم للإسلام حينها، وإلا كيف يُعادُ المسلمُ منهم إليهم، ولا يعيدونَ المرتدَّ من المسلمين إليهم؟!)
أقول : ومن قال إنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاء لعقد حوار للدعوة أو لغيرها ..
المفاوضات لم تشمل إلا شروط صلح عسكري سياسي لمدة عشر سنوات لم تُطرح فيه الأمور المشتركة ولا المختلفة بين المشركين والمسلمين ..
ثم مما يبين سقوط احتجاج الدكتور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدث بينه وبين الكفار لقاء بعد ذلك إلا تحت بارقة السيوف لما نقض الكفار العهد ..
بينما أصحابنا المتحاورون يلتقون مرات ومرات يتبادلون الكلام والابتسامات والأكل والشرب والإقامة معاً مرة بعد مرة ويعدون فيها الندوات المشتركة المسلم بجوار الكافر والسني بجوار الرافضي فماذا يبقى من الولاء والبراء في قلوب من يرى هذه المناظر تعاد عليه مرة بعد مرة ..
قال الدكتور : (بل في هذا الصلح قرّر النبي صلى الله عليه وسلم أحدَ أعظمِ أصول الحوار، وهو استثمار المشترَك بين الفريقين في إنجاح الحوار. ولك أن تقول: وأي مُشْتَرَكٍ بين الإسلام والوثنية؟!! وسيأتيك الجواب في قول النبي صلى الله عليه وسلم، عندما قال: "والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيده، لا يسألوني خطةً يُعَظِّمون فيها حرماتِ الله إلا أعطيتهم إياها".
ولك أن تتخيّل حاكمًا مسلمًا عادلًا قال مثل هذا القول، ألنْ يستنكر ذلك عليه كثيرون، قائلين: أيُّ تعظيمٍ لحرماتِ الله بين موحّدٍ ومشرك؟! وهل تصوُّرُ المشركين عن الإله هو تَصَوُّرُ المسلمين عنه، حتى يكون تعظيمُ المشركين لله تعظيمًا من المسلمين أيضًا لله تعالى ؟!
ولكنّ السؤال المهم هنا: كيف يَصِفُ النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمَ المشركين للحرماتِ أنه تعظيمٌ لله تعالى، وأنه لن يخالفهم في شيء من ذلك؟!! )
أقول : لا أدري من أين جاء الدكتور بهذا التفسير لتعظيم حرمات الله .. وما دخل تصور المشركين للأله وتصور المسلمين وما هذا الشرود والجري بدلالة القصة ؟!
فالشراح حين تكلموا في معنى هذه العبارة ذكروا أن معناها تعظيمهم للحرم والقتال فيه بمعنى أن أيّ مطلب سيطلبونه فيه الكفار عن القتال تعظيماً لحرمة البيت سأجيبهم إليه .. وبعضهم قال : تعظيماً لصلة الرحم ، وهذا من صلب ديننا شاركنا فيه الآخرون أم لا ..
وقد كان هناك أمور كثيرة مشتركة لم يتكلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم معهم مثل نصرة المظلوم وإسعاف الملهوف وخدمة بيت الله ونحوها لم يتكلم فيها معهم .. وإنما ارتضى أي مطلب منهم يؤدي إلى كف القتال ما دام فيه تعظيم لحرمات الله ..
ثم إن استدلال الدكتور بتنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالنبي وعن وصف الله بالرحمن لا يصح ؛ لأن هذا من خصوصياته كما قال كثير من العلماء بوحي من الله أما غيره فلا يجوز له أن يفعل ذلك ..
والدكتور مع كثير من قومه الكرام لم يتنازلوا عن وصف (الشرف) وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها على الشيخ ابن جبرين لرأي رآه في قضية آل البيت ، ولم يقبل الدكتور وقومه إلا بتراجع الشيخ وبعضهم طالب بالاعتذار .. !
ولم أر الدكتور طالب بحوار حول هذه القضية وفتح باب النظر فيها.. وحتى لو لم يتراجع الشيخ ابن جبرين فهناك أمور مشتركة كثيرة جداً بينه وبينهم فلماذا ر فضوا هذا الرفض وثاروا هذه الثورة وأبوا إلا التراجع عن الفتوى ؟
أما دين الله فلا بأس بالحوار في بعض الأمور ..بل أفهم من استدلال الدكتور بحادثة الحديبية أنه سيقبل يوماً بالغض من قدر نبينا صلى لله عليه وسلم وقبول فكرة حرية نقده من باب الفكر وهذا من أجل مصلحة الحوار ..!
يقول الدكتور : (لقد أجاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه التساؤلات بما لا ينبغي بعدَ إجابةِ النبي صلى الله عليه وسلم عنها أن تُطرَح، بل لا يجوز مجرّدُ بقائها تَسَاؤُلًا؛ إلا عند أتباع القائلِ : "اعْدِلْ يا مُحَمَّدُ"، ممن يظنون أنفسهم أغْيَرَ على الدين وأَوْلَى به من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ!!)
أقول : ليت شعري هل يجرؤ الدكتور أن يقول من جنس هذا الكلام لمحاوريه من المخالفين له في الملة أو السنة ..
يتهم الدكتور مخالفيه أنهم من أتباع الحرورية المعترضين على حكمه صلى الله عليه وسلم .
وهذا منه لما ساء فهمه للنص وفسّره وبنى عليه قصراً من رمل أبيض ..
يقول الدكتور : (وإن وجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشتركًا بين التوحيدِ والوثنية جعله مُنْطَلقًا للصلح والحوار، كما في هذا الحديث الثابت، فقد شَرَع لنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إيجادَ مُشْتَرَك بيننا وبين كل مخالف، وسيكون المشترَكُ بيننا وبين أهل الكتاب حينئذ أكثرَ من المشترك بيننا وبين الوثنيين)
أقول : من أين للدكتور أن النبي صلى الله علي وسلم وجد مشتركاً بين الوثنية والتوحيد !
بالله يا قوم هل يقول بهذا من عقل عن الله ورسوله ؟!
هل هناك شيء مشترك بين التوحيد والوثنية ؟!
والحق أن هناك بقايا من دين إبراهيم تمسك بها العرب أكدها النبي صلى الله عليه وسلم وقبلها وهي من صميم ديننا وجعلها ذريعة لدرء الفتنة وترك القتال .. دون أن يُفهم منه الضعف ..
والدليل على هذا كما قلتُ سابقاً أنه لم يعقب مجلس الصلح أي حوار بين المسلمين والوثنيين بل انطلق النبي صل الله عليه وسلّم في الدعوة واستغل السنوات في نشر الدين في أمان من القتال ووفر الجهد والمال العسكريين في الدعوة إلى الله ..
فأين هذا من ذاك ..
يقول الدكتور : (كما أنّ هذا الموقف النبوي يبيّنُ أنّ الحوار إذا لم يبدأ من المشترك، فإنه سينتهي إلى زيادةِ التباعد والعداوة. فلا ينبغي أن نبدأَ حوارًا إلا بعدَ أن نعرف آخر المشتركات، والتي بدأ بعدها الاختلاف) .
أقول : لننظر في سنة النبي صلى الله لي وسلم هل بدأ حواره بالمشترك المزعوم ، وأنقل ثلاثة مواقف :
الأول رساله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل وفيها : (بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى هرقل عظيم
الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ! فإني أدعوك بدعاية الاسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين ، و (يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله) إلى قوله (فاشهدوا بأنا مسلمون)
والثاني : دعوة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لقومه : عن ابن عباس قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا ، فقال : « يا صباحاه » . قال : فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ قال : « أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم كنتم تصدقوني ؟ » قالوا : نعم ، أو بلى قال : « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد »
الثالث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه فقال : " إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتهم ما أجابوك إليها فآقبل منهم وكف عنهم ، ادعهم إلى الاسلام فإن أجابوك فكف عنهم واقبل منهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين ، وإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن [ أجابوا ] فآقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ".
لا حظ وصيّته صلّى الله عليه وسلّم : (ادعهم) ولم يقل : (حاورهم) ..
يقول الدكتور : (يمكن أن تكون لنا مقاصدُ من الحوار غير الدعوة، ويمكن أن تكون مقاصدَ صحيحة مشروعة.
ومن هذه المقاصد :
- أن نَفْهَمَ المخالفين (كفارًا كانوا أو غيرَ كُفَّارٍ) فهمًا عميقًا، وأن نعرف حججهم، ومنطلقاتهم الفكرية، ورواسبهم العقدية، وتصوراتهم، وأساليب إقناعهم. فما نجح الغرب في غزونا الثقافي إلا بعد مئات السنين من الدراسات الاستشراقية، التي عرف معها كيف يؤثر فينا ) .
أقول : ألا يمكن هذا إلا بالحوار والجلوس معهم ..
هل تعني أنّ كل الذين ردوا على المذاهب الكفرية والمبتدعة لم يفهموها فهماً عميقاً ولم يعرفوا حججهم ومنطلقاتهم ورواسبهم ؟
هل يتحدث الدكتور عن مذاهب أتت من الفضاء لم يسمع بها أحد .. أم عن مذاهب وأديان حدثت منذ قرون عدة كشفها وكشف زيفها أهل الإسلام وبينوا أصولها وباطلها حتى قيل عن شيخ الإسلام رحمه الله إنه يعرف المذاهب الباطلة أكثر مما يعرفها أهلها ..
وحتى المذاهب المعاصرة لها مراجعها التفصيلية ومصادرها التي تعطي المريد أدق التفاصيل عنها ..
وإذا كان الدكتور يستدل بغزو الغرب لنا بالدراسات الاستشراقية التي لم تنتج عن مؤتمرات حوار فما باله يقصر طريقنا لغزو الغرب وفهمه بالحوار والجلوس على مائدته .
وهذا السبب الذي ذكره الدكتور هو الذي جعل بعض العلماء يتهاون في مخالطة أهل الأهواء ومع هذا لم يسلم إذ ظنّ في نفسه من القوة والجسارة والقدرة ما يعصمه من التأثر بثقافة المخالفين ومن أشهرِ الأمثلةِ على ذلكَ ما حصلَ لابنِ عقيل ، وفي قصّتهِ عبرةٌ عظيمةٌ ، ولِمن لا يعرِفُه أنقلُ قولَ الذهبي في أوّلِ ترجمتِه : « الإمامُ العلاّمةُ البحرُ شيخُ الحنابلةِ أبو الوفاءِ عليُّ بنُ عقيل بنُ محمّد بنُ عقيل بنُ عبدِالله البغداديُّ الظفَريُّ الحنبليُّ المتكلِّمُ .. كانَ يتوقّدُ ذكاءً ، وكانَ بحرُ معارفَ ، وكنزُ فضائلَ ، لم يكُن لَه في زمانِه نظيرٌ ، على بدعتِه » .
فقَد كانت فتنةُ ابنِ عقيلٍ حبُّه للعلومِ ، ومجالَسةِ العلماءِ مِن كلِّ مذهَب ، وهو أمرٌ نهىَ عنهُ السّلفُ ، وقد قدّمْتُ لكَ خوفَ الأئمّةِ منهم على أنفسِهم ، وهُم في مقامِ التّعليمِ ، فكيفَ وهُم في مقامِ التعَلُّم ؟
قالَ ابنُ كثيرٍ ـ رحِمَه اللهُ ـ : « وكانَ يجتمِعُ بجميعِ العلماءِ مِن كلِّ مذهبٍ، فربّما لامَه بعضُ أصحابِه فلا يلوِي علَيهِم » .
وقالَ الذّهبي في الميزانِ : « أحدُ الأعلامِ وفردُ زمانِه عِلماً ونقلاً وذكاءً وتفنّناً ، له كتابُ (الفنونِ) في أزيدِ من أربعِ مئةِ مجلداً ، إلاّ أنّه خالفَ السّلفَ ، ووافقَ المعتزلةَ في عدّةِ بِدَعٍ نسألُ الله العفوَ والسّلامةَ ، فإنّ كثرةَ التبحّرِ في الكلامِ ربّما أضرَّ بصاحبِه ، ومن حسنِ إسلامِ المرءِ تركُه مالا يعنِيه ».
ونقلَ الذّهبيُّ عنه قولَه : « وكانَ أصحابُنا الحنابلةُ يريدونَ مِنّي هجرانَ جماعةٍ مِن العلماءِ، وكانَ ذلكَ يحرِمُني عِلماً نافِعاً » ثمّ علّقَ علَيه بقوله : « قلتُ : كانُوا ينهوْنَه عن مجالسةِ المعتزلةِ ويأبَى حتّى وقعَ في حبائِلِهم وتجسّرَ على تأويلِ النّصوصِ ، نسألُ اللهَ السّلامةَ » .
وفي تاريخِ ابنِ الأثيرِ : « كانََ قد اشتغلَ بمذهبِ المعتزلةِ في حداثتِه على ابنِ الوليد فأرادَ الحنابلةُ قتلَه فاستجارَ ببابِ المراتبِ عدّةَ سنين ، ثمّ أظهرَ التّوبةَ » .
فانظُر ـ عافاكَ اللهُ ـ إلى هذا الإمامِ العلَم كيفَ وقعَ في البدعةِ مع ذكائِه وصِدقِه وقدمِه الرّاسخةِ في العِلم ، ولكنّ اللهَ يهدِي من يشاء ، فكيفَ بنا الآنَ مع أقوامٍ جرّؤوا الشبابَ وطلبةَ العلمِ على مخالطةِ المبتدعةِ والأخذِ عنهم من علومٍ شتى ، بدعوَى لقاءِ أهلِ العلمِ والأخذِ منهم ، والاستفادةِ مِمّا برزُوا فيهِ من العلمِ ، أو مخالطةِ أصحابِ البدعِ في أعمالٍ دعويةٍ أو مؤتمراتٍ مع السّكوتِ عنهم وعن باطلِهم ، وما أجملَ مقولة الإمام الذّهبيّ ـ رحِمَه اللهُ ـ في ترجمة ابن الوليد الآنف ذكرُه بعدَ أن ذكرَ براعتَه في المنطِقِ : « وما تنفعُ الآدابُ والبحثُ والذّكاء ، وصاحِبُها هاوٍ بها في جهنّم » فالله المستعان .
يقول الدكتور : (أن يفهمنا الآخرون، لكي يحترموا حضارتنا وقيمنا، وإن لم يؤمنوا بديننا. فإننا إذا ما استطعنا بالحوار أن نصحّح تصوراتِهم الفاسدة عنا، خفّتْ عداوتهم لنا، ووسّعنا بيننا دائرة المشتركات الحقيقية (التي لا تُلغي الفروقَ الحقيقية)، مما سينفعنا منافعَ عديدة، حتى في الدعوة إلى الله تعالى.
أقول :كيف ستصحح تصوراتهم لديننا إلا بالخوض في بيان باطل ما خالفه ، وهذا لن يروق للمحاورين لأنهم جاؤوا كما تقول للحديث عن الأمور المشتركة .. تناقض !
والله سبحانه أخبرنا بديمومة عداوة أهل الكتاب لنا ولم يخبرنا عن وسائل (تخفيف) العداوة وإنما أمرنا بالحذر منهم ومن أي دعوة صادرة عنهم لأنهم إنما يودون لو يردوننا عن ديننا إن استطاعوا ..
يقول الدكتور : (- الوصول إلى نظامٍ أو قانونٍ يمنع الاعتداء على المقدسات، كما أمر الله تعالى بقوله: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم"[الأنعام: ١٠٨].)
أقول : لن تصل إلى قانون مثل هذا بالحوار يا دكتور إلا إذا تصرفت وفق ما يتصرف اليهود حين يتكلم في المحرقة .. ونحن أولى بمثل هذا الموقف مع مقدساتنا ..
ولو ظللت تحاور ألف سنة لن يُسجن شخص واحد أو يجرم ولو بدولار واحد لأن الغرب لن يتخلى عن دينه وحرية أفراده لصالح مجموعة من السذج يجلسون حول مائدة الحوار ..
لن يحترم الغرب أمة لم ينبس أيّ مسؤول فيها ببنت شفة إزاء سب نبيهم ..
لن يحترم الغرب أمة تنهي مقاطعة وتستجيب عواطفها وحميتها لمجموعة من الدعاة الإعلاميين البسطاء الذين تدغدغهم عبارات الثناء والحوار والوسطية والاعتدال التي تُكال لهم بالمجان ليقدموا المزيد !
ولن ينتهي الغرب عن انتهاك مقدساتنا مادام بين أظهرنا من ينتهكها بلا رقيب و لا رادع ..
حين يهب حاكم عربي واحد ليقول للغرب كفى .. هذا فراق بيني وبينكم إن لم توقفوا سب نبينا حين ذلك سيحترم الغرب مقدساتنا بلا حوار ولا خوار ..
يقول الدكتور : (- الوصول إلى صُلْحٍ يحفظ الدِّينَ والأعراض والدماء والأموال)
أقول : الصلح يكون بين متنازعين .. ونحن أمة مهزومة مغلوبة تُفرض عليها أوضاع معينة يُراد منها مسخها وإعادة تشكيلها ..
الذي يحصل ليس صلحاً وإنما استجابة لضغوط قد يرى البعض أن يستجيب لها شكلاً كمناورة سياسية فهذا شأنه لكن لا يجوز له أن يصدّق الموضوع فينطلق في الحوار إلى أبعد مما كان يطمع به المخالفون أنفسهم .
يقول الدكتور : ( فلا تنحصر مقاصد الحوار المشروعة في الدعوة إلى تغيير المعتقدات والأديان، كما لا يجوز أن يُؤَدِّي الحوار إلى تجريمنا، أو منعنا من الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة)
أقول : والله إن لم يكن أهم وأول ما نحاور به الخلق لأجله هو تغيير المتقدات والأديان وإدخال الناس في دين الله فهذه أول هزيمة لنا ومكسب ونصر للمخالفين .. بل إنّ خلوّ الحوار أو لاتصال بالكفرة من وجود مقصد الدعوة يجعل منه نوعاً من الولاء والمخالطة المنهي عنها .. !
وكثيراً ما يسوغ العلماء بعض أنواع الخلطة مع المخالفين إذا كان هدفها الدعوة إلى الله .. بينما يقول الدكتور إنّ مقاصد الحوار لا تنحصر في الدعوة لتغيير المعتقد والدين ..
ثم يتناقض فيقول : (لا يجوز أن يُؤَدِّي الحوار إلى تجريمنا، أو منعنا من الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة) فأي دعوة بالحكمة أو بغير الحكمة وأنت أخليت الحوار أصلاً من هذا المقصد ؟!
وليس المقصود باستنكار الحوار في كثير من صوره وعمومياته تجريم المشاركين .. بل هم شتى .. منهم المتأول المعذور المعروف بصدقه وإخلاصه نحسبه كذلك .. ومنهم من تاريخه يشهد بأنه رائد في تمييع الدين وتحطيم ثوابته وتكسير عظامه وأركانه ، وكلهم موجود في هذه المؤتمرات .. فهذا إجرامه في حق الأمة ليس مقتصراً على مؤتمرات الحوار ..
وأما ولاة الأمور وبعض أهل العلم ممن نحترمهم ونجلهم ممن لهم في هذا تأويل فمن حقهم علينا عذرهم والذب عن أعراضهم ومن حقنا عليهم احترام وجهة نظر المخالفين لهم وإن اشتدت عباراتهم فليسوا مهما بلغ بهم الأمر أسوأ ممن قبلوا أن يحاوروهم وجلسوا معهم ، فهم أولى بالحوار وتقبل مخالفتهم بسعة صدر وتفهم ..
والله من وراء القصد ..

عبدالله أحمد الحسني

منقولان من المجلس العلمي في موقع الألوكة
 
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

مهلا يا شيخ حاتم !

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه ، وبعد :ـ
..

ـ أرتاب من تلك المصطلحات ( الإصلاح ) فعند العارفين أن دعوى ( الإصلاح ) في القديم والحديث مرتبطة بالنفاق ، ولا أرمي الشيخ بالنفاق أعوذ بالله من ذلك ولكن أتكلم عن دعوى ( الإصلاح ) ، مرتبطة من يوم ظهرت بالنفاق ، قال الله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }[ البقرة : 11 ] والسياق عن المنافقين . وحديثاً رفع أتاتورك شعار ( الإصلاح ) ، ورفع محمد عبده ( الإصلاح ) فكان ثمرة ( إصلاحه ) جامعة القاهرة وسعد زغلول وزوجة سعد زغلول ومن دخل عليها سعد زغلول وكشف غطاء وجهها ، ولطفي السيد ... الخ .
..

هذه مغالطة منطقية لا تليق بكاتب متدين. وأعجب لمنطق كهذا أن يجد نصيرا له في صفوف أهل الديانة.
ألم تكن دعوى الإصلاح، دعوى الأنبياء عليهم السلام كما أخبر عنهم القرآن؟

لنفترض (جدلا) أن دعوة الكاتب إلى الريبة في دعوى (الإصلاح) صحيحة منطقيا ولها ما يبررها واقعيا، كيف يسوغ له أن يستدل بهكذا استدلال ظالم؟ ولو كان استشهاده بالواقع فقط دون الآيات القرآنية لربما فرض علينا أن نجد له عذرا. أما أن يسوق آية قرآنية للدلالة على أن الإصلاح دعوى المنافقين، فهذا إما أن يكون دليل كذب ومغالطة، أو دليل جهل بالمفاهيم القرآنية. والأمر في كلتا الحالتين مرفوض تماما.
 
وأعجب لمنطق كهذا أن يجد نصيرا له في صفوف أهل الديانة.
.

لا تعجب فالكتاب نفسه من أهل الديانة والخير، وله كتابات نافعة كثيرة، ولا يلزم أن يفهم غيرك من هذا النص (في سياقه) كفهمك حتى من هذا الفرع، فالرجل قال "أرتاب" وهذه الريبة لا تقع إن جاء بها الأنبياء والصالحون وأهل الخير المعرفين فيه.

سلمنا... = أخطأ الرجل في هذا الكلام ، فهل يحتمل هذا الكلام منك ؟!

لا أقول هذا لأني أوافقه في كل ما كتب... إلا أن هذا النقل من باب "إثراء الموضوع" ففي كل مقال منها شيء مفيد يرد أو يصحح أو... ما في الأصل المنقول هنا.

وليت التعليق حتى يكون منطقيا = تناول المقال كله لا قطعة من آخره فحسب ليست من صلب الموضوع.
 
جزاك الله خيرا أخي عبدالرحمن السديس على هذا النقل المفيد.

وينبغي لمحبي الدكتور العوني أن يتأملوا تعليقك الذي ذكرته لأنه كالقاعدة في باب الردود فإن الرد على جزء من الأصل(وإن كان مطلوبا) لايغني عن الرد على الأصل , فاحذروا أن تكون طريقتكم كطريقة بعض أهل الأهواء(وحاشاكم إن شاء الله من مشابهتم) من التشويش على الأصل (أصل التقرير أو أصل الرد) بهامش من هوامشه.
 
أحسن الله إليك يا شيخ عبدالرحمن ونفع بك وبصاحبي المقالين, فقد ضاقت صدورنا ومرضت قلوبنا من هذا التخاذل والتنازل الذي بدأ يدب في نفوس المسلمين بسبب ما يرونه من ضعف وخور في الخطاب الديني يتساوق مع النبرة نفسها التي في الخطاب السياسي مع أنه من المفترض أن يكون لكل كلمته , فعلماء الشريعة قد أخذ عليهم ربهم الميثاق أن يبينوا للناس دينهم ولا يكتمونه , وهو ميثاق غليظ يجب على من تصدى له الصدع بكلمة الحق نصحا للأمة وإبراء للذمة وإلا فليتق الله ولا يفت في عضد المسلمين ويجعل أهل الإسلام في موقف الضعفاء الأذلاء الذين يبحثون عن رضى الغرب الكافر ويرضون منهم بالدنية في دينهم (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) وكفى بهذا البيان من الرحمن, ولن نرضى بعده بقول أحد كائنا من كان.
 
عودة
أعلى