محمد بن جماعة
New member
- إنضم
- 23/01/2007
- المشاركات
- 1,211
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 38
- الإقامة
- كندا
- الموقع الالكتروني
- www.muslimdiversity.net
هذا المقال مركّز ومفيد إن شاء الله.
وأهل التفسير أولى بالاستفادة منه :)
===
الكلمة بوّابة الحوار فالنهوض (1)
بقلم - نبيل شبيب
المصدر: إسلام أونلاين
في مقدمة معضلات النقلة الضرورية ما بين الكلام عن النهوض والتقدم وبين سلوك طريقه:
أن النهوض قضية جماعية، وما نزال نتعامل معها من منطلقات منظور التجزئة بمختلف أشكالها، تيارات، وأحزاب، ودول، فلا نصل إلى أرضية الانطلاقة الأولى.
بناء المستقبل لا يتحقق إلا جماعيا، فلا مستقبل لفئة، أو تيار، أو طائفة، أو تنظيم، أو فرد من الأفراد، أو بلد، بمعزل عن مستقبل سائر الفئات والتيارات والطوائف والتنظيمات والأفراد والبلدان الأخرى. وقد يختلف العاملون وهم يعملون فيتحقق الإنجاز ويكمل بعضه بعضا، ويقع الخطأ ويجد التصحيح، إنما يستحيل العمل عند انتظار الشروع فيه إلى ما بعد تجاوز الاختلافات، فتغييبها هو المستحيل.
إنما يتطلب العمل الجماعي -رغم الاختلاف- أرضية مشتركة تَضبط بقواعد مشتركة المنطلقات والمسيرة والأهداف، والتعامل من وراء الاختلاف بتلك القواعد.
وليس من سبيل للوصول إلى ذلك دون حوار وتفاهم، وبالتالي لا مندوحة عن تثبيت قاعدة أولى بسيطة وبالغة الأهمية، أن تُفهم الكلمة عند سامعها أو قارئها على نحو مطابق لمقصد قائلها أو كاتبها، سواء اتفق الطرفان على تأييد مضمونها أم اختلفا.
وإذ نتوجه إلى جيل المستقبل ليتابع الطريق، يجب أن نتساءل: أي طريق؟
إن نظرة واحدة إلى المصطلحات التي نرددها له باستمرار وبكثافة، عبر الدعوات في كل اتجاه، لاسيما الأخذ بما أخذ به التنوير الأوروبي وبالحداثة، تكفي للقول إننا أمام عدد كبير من الطرق المتشعبة، التي يصل التناقض والتضارب فيما بينها إلى درجة تستحيل معها رؤية طريق ما، أي طريق، توصل إلى هدف ما، أي هدف.
وإذا كان الحوار بين أصحاب تلك الطرق المتعددة عسيرا وكان الحوار بين التيارات المتعددة متعثرا أو متعذرا، فكيف يُنتظر من جيل المستقبل أن يجد لنفسه طريقا للخروج من الواقع الذي صنعناه له، وهو واقع التخلف على كل صعيد؟!
إذا كان الحرف صوتا منطوقا، واللفظة مجموعة حروف، والكلمة لفظة مفهومة، فالمصطلح مفهوم محدد، وضوابط التحديد شرط ليكون لبنة في صرح العلم والمعرفة.
وإن الكلمة التي تُقال أو تُكتب فتُفهم كما يعنيها صاحبها كانت وما تزال هي الأساس الأول ليحقق أي حوار أو تفاهم أو تعاون أهدافه؛ ولهذا فإن الخروج من دوامة المصطلحات هو من بين الشروط الأولية للنهوض وبناء المستقبل.
دوّامة المصطلحات وإشكاليات النهوض
ومن أخطر ما يصنعه جيلنا المعاصر أنه لا يورث جيل المستقبل -وهو مناط بناء المستقبل.. وليس نحن- عواقبَ ما صنعناه من كوارث ونكبات فحسب، بل يورثه أيضا دوامة المصطلحات التي إن سقط فيها كما سقطنا بقي غارقا في الخلاف حول الكلمات كما غرقنا، وهيهات أن يتحقق هدف النهوض دون أن تتركز من أجله الجهود -وليس الكلمات- عملا وإنجازا.
ولا نكتشف جديدا عندما نكرر التأكيد أن الكلام وحده لا يصنع النهوض، ويمكن أن يعيقه؛ بأن يشغل عن العطاء والإنجاز التراكمي المطلوب بلا انقطاع.
صحيحٌ أن مشكلة فوضى المصطلحات لا تخص الناطقين بالعربية فقط، ولكنها ترتبط لديهم في الوقت الحاضر بمشكلات ما قبل النهوض وبافتقاد مرجعيات معتبرة وموثوقة عموما لكل باب من أبواب البحث، علاوة على إضعاف مفعول الارتباط بمعطيات ذاتية، قيمية وموضوعية، كان من شأنها في الأصل أن تزيد الحرصَ الذاتي على ضبط المصطلحات والالتزام بقواعد منهجية في استخدامها.
والمصطلح هو ما اصطلح على دلالته المتخصصون في باب من أبواب التخصص، فيسري مفعوله نتيجةَ منهجيةِ تثبيتِ المفهوم لمضمونه، ووضوح دلالته، والالتزام به، وذاك ما كان عليه الأقدمون من هذه الأمة، عند مطلع نهضتها الأولى، وطوال مراحل تلك النهضة من بعد، وكانوا يطلقون كلمة المواضعة على ما نسميه المصطلح، فهو ما تواضع عليه الحكماء، كما وصفوا المتخصصين في كل باب من أبواب العلم والمعرفة.
هذا ما نشأت عليه العلوم الإسلامية الأولى، وتابعت خطاه سائر العلوم من بعد، كالطب والفلك والفيزياء والرياضيات، وما تزال المصطلحات التي ثبتوا دلالاتها آنذاك سارية المفعول إجمالا حتى اليوم.
ومن فضل القول التنويه هنا بأن المقصود بهذا الحديث ليس البحث في مصطلحات العلوم الطبيعية والتقنية، وهي قليلا ما تتعرض للاختلاف والتزييف، بل مصطلحات ما يُسمى العلوم الإنسانية، كالفلسفة والفنون والآداب والثقافات والأفكار والسياسة والاقتصاد وغيرها.
المقصود ما يُؤثر في الإنسان نفسه وفي تصوراته ومناهجه وقيمه وثقافته وأذواقه وأخلاقه وأساليب عمله وتعامله مع سواه، وذاك ما يفتح طريق النهوض فيصنعه الإنسان المؤهل للنهوض، إن توافرت له أسبابه الأخرى، وذاك ما نحتاج إليه أمس الحاجة في المرحلة الراهنة.
سبل ردم الفجوة بين النخب والجماهير
وإن من أهم جوانب استيعاب المرحلة التاريخية المعاصرة والتعامل مع معطياتها العملَ على رَدْم الفجوة الكبيرة بين ما يُسمى النخب وبين جماهير الأمة، لاسيما جيل المستقبل منها.
ومن الواضح أن ما يُطرح في الساحة الفكرية والأدبية والثقافية في الآونة الأخيرة بدأ يتجاوز حقبة الصراع المطلق لتتداخل فيه محاور متعددة للحوار والبحث عن إمكانات التلاقي، وهو ما تختلف أساليبه وتتفاوت حدة الاختلافات فيه والمساعي المبذولة لتجاوزها، ولكن تبقى الصورة بمجموعها مؤشرا إيجابيا في اتجاه صحيح.
رغم ذلك يبدو أن الحوار يجري بين فئات محدودة العدد، بمعزل عن عامة الشعوب، لاسيما جيل الشبيبة الذي يمثل النسبة الأكبر من السكان، والذي يحمل على عاتقه مسئولية بناء المستقبل.
وليس صحيحا تعليل هذه الفجوة بتعميم الاتهام القائل إن العزوف عن القراءة والمتابعة الجادة هو جوهر مشكلة عزلة النخب جماهيريا؛ إن عزلة النُخب لا ينبغي اختزالها بتحميل المسئولية للجماهير، بل توجد عوامل عديدة أخرى ليست موضع الحديث هنا، إنما يبقى العنصر الحاسم هو أن مسئولية الوصول بأفكار مَن ينتسب إلى تلك النخب أو ينسب نفسه إليها بإبداع أدبي وعطاء ثقافي وطرح فكري هي مسئوليته التي تفرض عليه هو أن يراعي واقع القارئ المستهلك واحتياجاته، في مضمون إنتاجه وأسلوب تعبيره.
ومن المغالطات الخادعة للنفس الزعم القائل إن هذا يهبط بمستوى الإنتاج، فقيمة الإبداع أو الفكرة أو الطرح الجديد ليست قيمة ذاتية بمعزل عن الوسط الذي ينتمي القلم إليه ويستهدفه، بل تعلو تلك القيمة بمقدار ما يتمكن صاحب القلم من الوصول بأرقى ما يستطيع عطاءه إلى أوسع قطاع ممكن من الوسط الاجتماعي الذي يحتضنه ويعتبر نفسه فيه من النخبة.
إن النماذج المعروفة من الإبداع العالمي التي تجاوزت الحدود وانتشرت في القارات الخمس ترجمةً وتفاعلا، لم تصل إلى هذا المستوى العالمي عبر مضامين وأساليب متميزة بخصوصيتها فحسب، بل من خلال قدرة أصحابها على الجمع بين الإبداعِ مضمونًا يمس احتياجات إنسانية جامعة، والعطاءِ أسلوبًا تستوعبه وتتفاعل معه أعداد كبيرة من أبناء الأسرة البشرية.
وإن تقديم الأفكار -بغض النظر عن قيمتها الذاتية- في قوالب تعبير مستعصية على الفهم إلا عند قطاع محدود من النخب نفسها، يساهم في بقاء تلك النخب وعطاءاتها فيما تسميه -وهما- برجها العاجي، بعيدة عن الشعوب وهمومها وتطلعاتها المستقبلية.
ومَن يتابع ما يُطرح حديثا من كتابات تحت عناوين متعددة للحوار الفكري الإيجابي المنبعث مجددا في هذه المرحلة، يمكن أن يرجح بقاء قسط كبير منه في واد، وجيل المستقبل في واد آخر، والمفروض أن يدرك الكتاب الذين يرون أنفسهم في موقع النخبة، أن القارئ ليس من نخبتهم بالضرورة، أم أنهم لا يكتبون إلا لها؟!
تساهم في هذه الظاهرة كثرةُ استخدام بعضِ الكتب الفكرية المنشورة حديثًا مفرداتٍ من قبيل: "ميتافيزيقي- أنثروبولوجي- إبستمولوجي- بروميثيوثي- كوسموبوليتي- هرمينوطيقا- سيميوطيقا.."، أو من قبيل "عضواني- مواطنوي- طوباوي- دولتانية- تاريخاني- قيامي- جنساني.."، والقائمة طويلة.
ويشير سياق الكلام أن الكاتب ينطلق غالبا من أن القارئ، الذي قد يعلم بوجود تلك الكلمات، لكثرة تداولها بمعانيها السطحية أو الشائعة، يجب أيضا أن يكون عارفا بخلفياتها الفلسفية، وربما بتناقض استخداماتها بين الكتاب أنفسهم، ثم عليه التسليم بما يقصده هو من معانيها، هي وأمثالها، وأمثالُها كثير، وإلا فكيف ينتظر من القارئ أن يتفاعل معها وفق استخدام الكاتب لها؟!
وليست المشكلة محصورة في مفردات أجنبية تُكتب بحروف عربية، بدلا من استخدام ما يغني عنها لغويا أو اشتقاق ما يقابلها من مفردات مبتكرة يأنس اللسان العربي لها، وتستحسنها النفس لسهولة انسيابها في نسيج اللغة الذاتية.
ويستحيل على أي حالٍ تعريبُ مصطلح أجنبي تعريبا قويما بمجرد كتابة اللفظة الأجنبية أو نطقها بحروف عربية.
كما لا تنحصر المشكلة في استخدام اشتقاقات قد يصلح القليل منها ولا يصلح الكثير، مما لم يعرفه الأقدمون ولا ابتكره المعاصرون ابتكارا سويا، إنما هي -في جوانبها الأخرى- مشكلة أن الكاتب ينتظر من عامة القراء أن يحمل كل منهم تحت إبطه عدة معاجم وقواميس؛ من أجل أن يفهم ما يخاطبهم به، أو أنه لا يخاطب عامة القراء أصلا، وذاك أدهى، والأمرّ منه أن من الكتاب من يريد أن ينسلخ القارئ العربي من جلده ليستوعب -عبر المستهجَن من الألفاظ والغريب من المصطلحات- ما يراد صبه صبًّا في عقله وقلبه!
ثم إذا بصاحب تلك المفردات والأساليب يشكو من غربة أفكاره جماهيريا، فيتهم الجماهير بالعزوف عن القراءة أو انخفاض مستوى الوعي أو الانغلاق تجاه أفكار "إنسانية عالمية" أو ما شابه ذلك.
ونتجنب في هذا المقام الإطالة بالوقوف عند اعتبارات أخرى مما يتصل بوجود مَن ينقل مصطلحات ومقولات أجنبية دون استيعابها إلا استيعابا سطحيا، وما يتصل بالعمل قصدا على التغريب اللغوي والفكري عموما، وجميع ذلك يجعل مَن يعزلون أنفسهم بالإصرار عليه يعجزون عن الوصول إلى أمةٍ لسانها عربي، ومكونات فكرها وتاريخها وأحاسيسها وأذواقها هي مكونات المنطقة الحضارية الإسلامية، الشاملةُ بتأثيرها جميعَ سكانها، على اختلاف انتماءاتهم العقدية والقومية.
ليس القارئ هو المسئول الأول عن ضمان شروط فَهْمِ ما يُطرح فكرا وأدبا وثقافة حوله، بل بداية المسئولية عند صاحب القلم، أن يوجد الشروط التي توصله إلى القارئ كما هو في واقعه الآني؛ ليؤثر عليه بقدر ما يتأثر هو بواقعه واحتياجاته، وهذا ما يسري على كل عطاء قولي وعملي.
ولدينا في ذلك على سبيل المثال ما قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ((حدثوا الناس بما يعرفون))(1)، وما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((ما أنت محدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)).(2)
وتُنسب إلى الفيلسوف الألماني شوبنهاور كلماتٌ مفيدة بشأن أسلوب الخطاب والكتابة:
"إذا أردت إلقاء خطبة ناجحة استخدم كلمات مألوفة لقول الأشياء غير المألوفة".
"الذكي في المحادثة من يفكر بمن يتحدث إليهم أكثر من تفكيره بما يتحدث عنه، فإن صنع ذلك تأكد له أنه لن يقول ما يندم عليه لاحقا".
"كثرة الاستشهادات تزيد حق الكاتب أن يُنظر إليه أنه امرؤ واسع الاطلاع، ولكنها تُنقص نسبة أصالة عطائه.. وما قيمة الاطلاع دون عطاء ذاتي"!
"الذين يؤلفون خطبا صعبة، مظلمة، معقدة، مزدوجة المعنى، لا يعلمون على التحقيق كيف يقولون ما يريدون قوله، إنما لديهم وعي ضبابي يصارع حول فكرة ما، ولكن كثيرا ما يريدون أن يواروا عن أنفسهم وعن الآخرين عدمَ وجود شيء لديهم ليقولوه".
ولكن لعل مِن الكتاب مَن يريد فعلا استثارة إعجابٍ مصطنع لدى القارئ، ممزوجٍ بالرهبة تجاه علو كعب(!) صاحب القلم، المبدع في عالم اللغة والتعبير، وسعة أفقه في عوالم الفلسفة والثقافة.
قد يوجد مَن يظن حقيقةً أن هذا الانطباع المصطنع يوصل إلى الاقتناع تسليما بالمضمون دون استيعابه، لا أن يشكل النص حاجزا بين كاتبه وقارئه.
هذا ناهيك عن سبك العبارات سبكا يتفنن صاحبه في التصنع والتنطع والتعقيد فيه، كما تغتال صياغتُه تواضعَ العلم اغتيالا، بسكين تعالي معلمٍ شاخَ وشاخ علمه على تلاميذ صغار بين يديه، وبخنجر التكبر اعتدادا بالنفس وتعصبا.
إن النخب لا تصنع نفسها بنفسها، ناهيك عن أن تصنع التغيير بتبادل الأفكار فيما بينها، سواء اختلفت عليها أو توافقت، إنما يبدأ التغيير بأفكار نخب تنبثق عن الشعوب، فتعود بأفكارها إليها لتصنع هي التغيير في نهاية المطاف، والكلمة هي بوابة الحوار على هذا الصعيد.
* نبيل شبيب: كاتب فلسطيني المولد (عكا) سوري الأصل، من مواليد 1947 م، ومقيم في ألمانيا منذ عام 1965م.
(1)- صحيح البخاري/ كتاب العلم .
(2)- صحيح مسلم/ المقدّمة .
وأهل التفسير أولى بالاستفادة منه :)
===
الكلمة بوّابة الحوار فالنهوض (1)
بقلم - نبيل شبيب
المصدر: إسلام أونلاين
في مقدمة معضلات النقلة الضرورية ما بين الكلام عن النهوض والتقدم وبين سلوك طريقه:
أن النهوض قضية جماعية، وما نزال نتعامل معها من منطلقات منظور التجزئة بمختلف أشكالها، تيارات، وأحزاب، ودول، فلا نصل إلى أرضية الانطلاقة الأولى.
بناء المستقبل لا يتحقق إلا جماعيا، فلا مستقبل لفئة، أو تيار، أو طائفة، أو تنظيم، أو فرد من الأفراد، أو بلد، بمعزل عن مستقبل سائر الفئات والتيارات والطوائف والتنظيمات والأفراد والبلدان الأخرى. وقد يختلف العاملون وهم يعملون فيتحقق الإنجاز ويكمل بعضه بعضا، ويقع الخطأ ويجد التصحيح، إنما يستحيل العمل عند انتظار الشروع فيه إلى ما بعد تجاوز الاختلافات، فتغييبها هو المستحيل.
إنما يتطلب العمل الجماعي -رغم الاختلاف- أرضية مشتركة تَضبط بقواعد مشتركة المنطلقات والمسيرة والأهداف، والتعامل من وراء الاختلاف بتلك القواعد.
وليس من سبيل للوصول إلى ذلك دون حوار وتفاهم، وبالتالي لا مندوحة عن تثبيت قاعدة أولى بسيطة وبالغة الأهمية، أن تُفهم الكلمة عند سامعها أو قارئها على نحو مطابق لمقصد قائلها أو كاتبها، سواء اتفق الطرفان على تأييد مضمونها أم اختلفا.
وإذ نتوجه إلى جيل المستقبل ليتابع الطريق، يجب أن نتساءل: أي طريق؟
إن نظرة واحدة إلى المصطلحات التي نرددها له باستمرار وبكثافة، عبر الدعوات في كل اتجاه، لاسيما الأخذ بما أخذ به التنوير الأوروبي وبالحداثة، تكفي للقول إننا أمام عدد كبير من الطرق المتشعبة، التي يصل التناقض والتضارب فيما بينها إلى درجة تستحيل معها رؤية طريق ما، أي طريق، توصل إلى هدف ما، أي هدف.
وإذا كان الحوار بين أصحاب تلك الطرق المتعددة عسيرا وكان الحوار بين التيارات المتعددة متعثرا أو متعذرا، فكيف يُنتظر من جيل المستقبل أن يجد لنفسه طريقا للخروج من الواقع الذي صنعناه له، وهو واقع التخلف على كل صعيد؟!
إذا كان الحرف صوتا منطوقا، واللفظة مجموعة حروف، والكلمة لفظة مفهومة، فالمصطلح مفهوم محدد، وضوابط التحديد شرط ليكون لبنة في صرح العلم والمعرفة.
وإن الكلمة التي تُقال أو تُكتب فتُفهم كما يعنيها صاحبها كانت وما تزال هي الأساس الأول ليحقق أي حوار أو تفاهم أو تعاون أهدافه؛ ولهذا فإن الخروج من دوامة المصطلحات هو من بين الشروط الأولية للنهوض وبناء المستقبل.
دوّامة المصطلحات وإشكاليات النهوض
ومن أخطر ما يصنعه جيلنا المعاصر أنه لا يورث جيل المستقبل -وهو مناط بناء المستقبل.. وليس نحن- عواقبَ ما صنعناه من كوارث ونكبات فحسب، بل يورثه أيضا دوامة المصطلحات التي إن سقط فيها كما سقطنا بقي غارقا في الخلاف حول الكلمات كما غرقنا، وهيهات أن يتحقق هدف النهوض دون أن تتركز من أجله الجهود -وليس الكلمات- عملا وإنجازا.
ولا نكتشف جديدا عندما نكرر التأكيد أن الكلام وحده لا يصنع النهوض، ويمكن أن يعيقه؛ بأن يشغل عن العطاء والإنجاز التراكمي المطلوب بلا انقطاع.
صحيحٌ أن مشكلة فوضى المصطلحات لا تخص الناطقين بالعربية فقط، ولكنها ترتبط لديهم في الوقت الحاضر بمشكلات ما قبل النهوض وبافتقاد مرجعيات معتبرة وموثوقة عموما لكل باب من أبواب البحث، علاوة على إضعاف مفعول الارتباط بمعطيات ذاتية، قيمية وموضوعية، كان من شأنها في الأصل أن تزيد الحرصَ الذاتي على ضبط المصطلحات والالتزام بقواعد منهجية في استخدامها.
والمصطلح هو ما اصطلح على دلالته المتخصصون في باب من أبواب التخصص، فيسري مفعوله نتيجةَ منهجيةِ تثبيتِ المفهوم لمضمونه، ووضوح دلالته، والالتزام به، وذاك ما كان عليه الأقدمون من هذه الأمة، عند مطلع نهضتها الأولى، وطوال مراحل تلك النهضة من بعد، وكانوا يطلقون كلمة المواضعة على ما نسميه المصطلح، فهو ما تواضع عليه الحكماء، كما وصفوا المتخصصين في كل باب من أبواب العلم والمعرفة.
هذا ما نشأت عليه العلوم الإسلامية الأولى، وتابعت خطاه سائر العلوم من بعد، كالطب والفلك والفيزياء والرياضيات، وما تزال المصطلحات التي ثبتوا دلالاتها آنذاك سارية المفعول إجمالا حتى اليوم.
ومن فضل القول التنويه هنا بأن المقصود بهذا الحديث ليس البحث في مصطلحات العلوم الطبيعية والتقنية، وهي قليلا ما تتعرض للاختلاف والتزييف، بل مصطلحات ما يُسمى العلوم الإنسانية، كالفلسفة والفنون والآداب والثقافات والأفكار والسياسة والاقتصاد وغيرها.
المقصود ما يُؤثر في الإنسان نفسه وفي تصوراته ومناهجه وقيمه وثقافته وأذواقه وأخلاقه وأساليب عمله وتعامله مع سواه، وذاك ما يفتح طريق النهوض فيصنعه الإنسان المؤهل للنهوض، إن توافرت له أسبابه الأخرى، وذاك ما نحتاج إليه أمس الحاجة في المرحلة الراهنة.
سبل ردم الفجوة بين النخب والجماهير
وإن من أهم جوانب استيعاب المرحلة التاريخية المعاصرة والتعامل مع معطياتها العملَ على رَدْم الفجوة الكبيرة بين ما يُسمى النخب وبين جماهير الأمة، لاسيما جيل المستقبل منها.
ومن الواضح أن ما يُطرح في الساحة الفكرية والأدبية والثقافية في الآونة الأخيرة بدأ يتجاوز حقبة الصراع المطلق لتتداخل فيه محاور متعددة للحوار والبحث عن إمكانات التلاقي، وهو ما تختلف أساليبه وتتفاوت حدة الاختلافات فيه والمساعي المبذولة لتجاوزها، ولكن تبقى الصورة بمجموعها مؤشرا إيجابيا في اتجاه صحيح.
رغم ذلك يبدو أن الحوار يجري بين فئات محدودة العدد، بمعزل عن عامة الشعوب، لاسيما جيل الشبيبة الذي يمثل النسبة الأكبر من السكان، والذي يحمل على عاتقه مسئولية بناء المستقبل.
وليس صحيحا تعليل هذه الفجوة بتعميم الاتهام القائل إن العزوف عن القراءة والمتابعة الجادة هو جوهر مشكلة عزلة النخب جماهيريا؛ إن عزلة النُخب لا ينبغي اختزالها بتحميل المسئولية للجماهير، بل توجد عوامل عديدة أخرى ليست موضع الحديث هنا، إنما يبقى العنصر الحاسم هو أن مسئولية الوصول بأفكار مَن ينتسب إلى تلك النخب أو ينسب نفسه إليها بإبداع أدبي وعطاء ثقافي وطرح فكري هي مسئوليته التي تفرض عليه هو أن يراعي واقع القارئ المستهلك واحتياجاته، في مضمون إنتاجه وأسلوب تعبيره.
ومن المغالطات الخادعة للنفس الزعم القائل إن هذا يهبط بمستوى الإنتاج، فقيمة الإبداع أو الفكرة أو الطرح الجديد ليست قيمة ذاتية بمعزل عن الوسط الذي ينتمي القلم إليه ويستهدفه، بل تعلو تلك القيمة بمقدار ما يتمكن صاحب القلم من الوصول بأرقى ما يستطيع عطاءه إلى أوسع قطاع ممكن من الوسط الاجتماعي الذي يحتضنه ويعتبر نفسه فيه من النخبة.
إن النماذج المعروفة من الإبداع العالمي التي تجاوزت الحدود وانتشرت في القارات الخمس ترجمةً وتفاعلا، لم تصل إلى هذا المستوى العالمي عبر مضامين وأساليب متميزة بخصوصيتها فحسب، بل من خلال قدرة أصحابها على الجمع بين الإبداعِ مضمونًا يمس احتياجات إنسانية جامعة، والعطاءِ أسلوبًا تستوعبه وتتفاعل معه أعداد كبيرة من أبناء الأسرة البشرية.
وإن تقديم الأفكار -بغض النظر عن قيمتها الذاتية- في قوالب تعبير مستعصية على الفهم إلا عند قطاع محدود من النخب نفسها، يساهم في بقاء تلك النخب وعطاءاتها فيما تسميه -وهما- برجها العاجي، بعيدة عن الشعوب وهمومها وتطلعاتها المستقبلية.
ومَن يتابع ما يُطرح حديثا من كتابات تحت عناوين متعددة للحوار الفكري الإيجابي المنبعث مجددا في هذه المرحلة، يمكن أن يرجح بقاء قسط كبير منه في واد، وجيل المستقبل في واد آخر، والمفروض أن يدرك الكتاب الذين يرون أنفسهم في موقع النخبة، أن القارئ ليس من نخبتهم بالضرورة، أم أنهم لا يكتبون إلا لها؟!
تساهم في هذه الظاهرة كثرةُ استخدام بعضِ الكتب الفكرية المنشورة حديثًا مفرداتٍ من قبيل: "ميتافيزيقي- أنثروبولوجي- إبستمولوجي- بروميثيوثي- كوسموبوليتي- هرمينوطيقا- سيميوطيقا.."، أو من قبيل "عضواني- مواطنوي- طوباوي- دولتانية- تاريخاني- قيامي- جنساني.."، والقائمة طويلة.
ويشير سياق الكلام أن الكاتب ينطلق غالبا من أن القارئ، الذي قد يعلم بوجود تلك الكلمات، لكثرة تداولها بمعانيها السطحية أو الشائعة، يجب أيضا أن يكون عارفا بخلفياتها الفلسفية، وربما بتناقض استخداماتها بين الكتاب أنفسهم، ثم عليه التسليم بما يقصده هو من معانيها، هي وأمثالها، وأمثالُها كثير، وإلا فكيف ينتظر من القارئ أن يتفاعل معها وفق استخدام الكاتب لها؟!
وليست المشكلة محصورة في مفردات أجنبية تُكتب بحروف عربية، بدلا من استخدام ما يغني عنها لغويا أو اشتقاق ما يقابلها من مفردات مبتكرة يأنس اللسان العربي لها، وتستحسنها النفس لسهولة انسيابها في نسيج اللغة الذاتية.
ويستحيل على أي حالٍ تعريبُ مصطلح أجنبي تعريبا قويما بمجرد كتابة اللفظة الأجنبية أو نطقها بحروف عربية.
كما لا تنحصر المشكلة في استخدام اشتقاقات قد يصلح القليل منها ولا يصلح الكثير، مما لم يعرفه الأقدمون ولا ابتكره المعاصرون ابتكارا سويا، إنما هي -في جوانبها الأخرى- مشكلة أن الكاتب ينتظر من عامة القراء أن يحمل كل منهم تحت إبطه عدة معاجم وقواميس؛ من أجل أن يفهم ما يخاطبهم به، أو أنه لا يخاطب عامة القراء أصلا، وذاك أدهى، والأمرّ منه أن من الكتاب من يريد أن ينسلخ القارئ العربي من جلده ليستوعب -عبر المستهجَن من الألفاظ والغريب من المصطلحات- ما يراد صبه صبًّا في عقله وقلبه!
ثم إذا بصاحب تلك المفردات والأساليب يشكو من غربة أفكاره جماهيريا، فيتهم الجماهير بالعزوف عن القراءة أو انخفاض مستوى الوعي أو الانغلاق تجاه أفكار "إنسانية عالمية" أو ما شابه ذلك.
ونتجنب في هذا المقام الإطالة بالوقوف عند اعتبارات أخرى مما يتصل بوجود مَن ينقل مصطلحات ومقولات أجنبية دون استيعابها إلا استيعابا سطحيا، وما يتصل بالعمل قصدا على التغريب اللغوي والفكري عموما، وجميع ذلك يجعل مَن يعزلون أنفسهم بالإصرار عليه يعجزون عن الوصول إلى أمةٍ لسانها عربي، ومكونات فكرها وتاريخها وأحاسيسها وأذواقها هي مكونات المنطقة الحضارية الإسلامية، الشاملةُ بتأثيرها جميعَ سكانها، على اختلاف انتماءاتهم العقدية والقومية.
ليس القارئ هو المسئول الأول عن ضمان شروط فَهْمِ ما يُطرح فكرا وأدبا وثقافة حوله، بل بداية المسئولية عند صاحب القلم، أن يوجد الشروط التي توصله إلى القارئ كما هو في واقعه الآني؛ ليؤثر عليه بقدر ما يتأثر هو بواقعه واحتياجاته، وهذا ما يسري على كل عطاء قولي وعملي.
ولدينا في ذلك على سبيل المثال ما قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ((حدثوا الناس بما يعرفون))(1)، وما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((ما أنت محدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)).(2)
وتُنسب إلى الفيلسوف الألماني شوبنهاور كلماتٌ مفيدة بشأن أسلوب الخطاب والكتابة:
"إذا أردت إلقاء خطبة ناجحة استخدم كلمات مألوفة لقول الأشياء غير المألوفة".
"الذكي في المحادثة من يفكر بمن يتحدث إليهم أكثر من تفكيره بما يتحدث عنه، فإن صنع ذلك تأكد له أنه لن يقول ما يندم عليه لاحقا".
"كثرة الاستشهادات تزيد حق الكاتب أن يُنظر إليه أنه امرؤ واسع الاطلاع، ولكنها تُنقص نسبة أصالة عطائه.. وما قيمة الاطلاع دون عطاء ذاتي"!
"الذين يؤلفون خطبا صعبة، مظلمة، معقدة، مزدوجة المعنى، لا يعلمون على التحقيق كيف يقولون ما يريدون قوله، إنما لديهم وعي ضبابي يصارع حول فكرة ما، ولكن كثيرا ما يريدون أن يواروا عن أنفسهم وعن الآخرين عدمَ وجود شيء لديهم ليقولوه".
ولكن لعل مِن الكتاب مَن يريد فعلا استثارة إعجابٍ مصطنع لدى القارئ، ممزوجٍ بالرهبة تجاه علو كعب(!) صاحب القلم، المبدع في عالم اللغة والتعبير، وسعة أفقه في عوالم الفلسفة والثقافة.
قد يوجد مَن يظن حقيقةً أن هذا الانطباع المصطنع يوصل إلى الاقتناع تسليما بالمضمون دون استيعابه، لا أن يشكل النص حاجزا بين كاتبه وقارئه.
هذا ناهيك عن سبك العبارات سبكا يتفنن صاحبه في التصنع والتنطع والتعقيد فيه، كما تغتال صياغتُه تواضعَ العلم اغتيالا، بسكين تعالي معلمٍ شاخَ وشاخ علمه على تلاميذ صغار بين يديه، وبخنجر التكبر اعتدادا بالنفس وتعصبا.
إن النخب لا تصنع نفسها بنفسها، ناهيك عن أن تصنع التغيير بتبادل الأفكار فيما بينها، سواء اختلفت عليها أو توافقت، إنما يبدأ التغيير بأفكار نخب تنبثق عن الشعوب، فتعود بأفكارها إليها لتصنع هي التغيير في نهاية المطاف، والكلمة هي بوابة الحوار على هذا الصعيد.
* نبيل شبيب: كاتب فلسطيني المولد (عكا) سوري الأصل، من مواليد 1947 م، ومقيم في ألمانيا منذ عام 1965م.
(1)- صحيح البخاري/ كتاب العلم .
(2)- صحيح مسلم/ المقدّمة .