طلال بن صالح النفيعي
New member
مقال الشيخ د / ذياب بن سعد الغامدي "أقوال السلف في وجوب السكوت عما شجر بين الصحابة".
لمَّا عَلِمَ عُلَمَاءُ المُسْلِمِيْنَ أنَّ الحَدِيْثَ والكَلامَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم سَبَبٌ لِلْفِتْنَةِ، والتَّنَقُّصِ، والنَّيْلِ مِنْهُم ممَّا يُخَالِفُ النُّصُوْصَ الشَّرْعِيَّةَ، والآثَارَ السَّلَفِيَّةَ، قَامُوا مُجْتَهِدِيْنَ على قَدَمٍ وسَاقٍ إلى قَفْلِ هَذَا البَابِ، وسَدِّ ثُغُوْرِهِ ما أمْكَنَ إلى ذَلِكَ سَبِيْلًا؛ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْمُسْلِمِ دِيْنُهُ، وسَلامَةُ صَدْرِهِ، وحِفْظُ لِسَانِهِ؛ لِذَا نَرَاهُم قَدْ أجْمَعُوا قَاطِبَةً على : السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم!
فَكَانَ الوَاجِبُ على المُسْلِمِ أنْ يَسْلُكَ في اعْتِقَادِهِ فِيْمَا حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مَسْلَكَ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، وهُوَ الإمْسَاكُ عَمَّا حَصَلَ بَيْنَهُم .
وكُتُبُ أهْلِ السُّنَّةِ مَمْلُوْءَةٌ بِبَيَانِ عَقِيْدَتِهِم الصَّافِيَةِ في حَقِّ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وقَدْ حَدَّدُوا مَوْقِفَهُم مِنْ تِلْكَ الفِتْنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُم في أقْوَالِهِمُ الصَّرِيْحَةِ الحَسَنَةِ الَّتِي مِنْهَا :
قَالَ الإمَامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ : «مَنِ اسْتَخَفَّ بالعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ»([1]) .
وقَالَ الإمَامُ الطَحَاوِيُّ : «وعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِيْنَ ومَنْ بَعْدَهُم مِنَ التَّابِعِيْنَ أهْلُ الخَيْرِ والأثَرِ، وأهْلُ الفِقْهِ والنَّظَرِ ـ لا يُذْكَرُوْنَ إلَّا بالجَمِيْلِ، ومَنْ ذَكَرَهُم بِسُوْءٍ فَهُوَ على غَيْرِ سَبِيْلٍ»([2]) .
وقَالَ الحَافِظُ ابنُ عَسَاكِرَ في «تَبْيِيْنِ كَذِبِ المُفْتَرِي» (49) : «واعْلَمْ يا أخِي وفَّقَنَا اللهُ وإيَّاكَ لِمَرْضَاتِهِ وجَعَلَنَا ممَّنْ يَخْشَاهُ ويَتَّقِيْهِ حَقَّ تُقَاتِهِ : أنَّ لُحُوْمَ العُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِم مَسْمُوْمَةٌ، وعَادَةَ اللهِ في هَتْكِ أسْتَارِ مُنَتَقِصِيْهِم مَعْلُوْمَةٌ؛ لأنَّ الوَقِيْعَةَ فِيْهِم بِمَا هُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ أمْرٌ عَظِيْمٌ، والتَّنَاوُلَ لأعْرَاضِهِم بالزُّوْرِ والافْتِرَاءِ مَرْتَعٌ وَخِيمٌ، والاخْتِلاقَ على مَنِ اخْتَارَ اللهُ مِنْهُم لِنَعْشِ العِلْمِ خُلُقٌ ذَمِيْمٌ» .
وأكْبَرُ ظُلْمًا وأسْوَأُ حَالًا مِنْ هَذِهِ البَلِيَّةِ العَظِيْمَةِ احْتِرَافُ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ في الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وإطْلاقُ العَنَانِ لِلِّسَانِ يَفْرِي في أعْرَاضِهِم وعَدَالَتِهِم، والتَّنْقِيْبُ عَنْ مَسَاوِئِهِم، وبَثُّها بَيْنَ النَّاسِ!
وقَدْ عَدَّ أهْلُ العِلْمِ الطَّعْنَ في الصَّحَابَةِ زَنْدَقَةٌ مَفْضُوْحَةٌ، وقَرَّرُوا أنَّهُ: «لا يَبْسُطُ لِسَانَهُ فِيْهِم إلَّا مَنْ سَاءَتْ طَوِيَّتُهُ في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وصَحَابَتِهِ، والإسْلامِ، والمُسْلِمِيْنَ»([3]) .
وقَالَ آخَرُ : «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (البقرة: 134)([5]) .
وسُئِلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَمَّا حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ : «قِتَالٌ شَهِدَهُ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وغِبْنَا، وعَلِمُوا وجَهِلْنَا، واجْتَمَعُوا فاتَّبَعْنا، واخْتَلَفُوا فَوَقَفْنا» .
ومَعْنَى كَلامِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ هَذَا : «أنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أعْلَمَ بِمَا دَخَلُوا فِيْهِ مِنَّا، وما عَلَيْنَا إلَّا إنْ نَتَّبعَهُم فِيْمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، ونَقِفَ عِنْدَ ما اخْتَلَفُوا فِيْهِ، ولا نَبْتَدِعُ رَأيًا مِنَّا، ونَعْلَمُ أنَّهُم اجْتَهَدُوا وأرَادُوا اللهََ عَزَّ وجَلَّ إذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِيْنَ في الدِّيْنِ»([6]) .
وقَالَ ابنُ أبي زَيْدٍ القَيْرَوَانِيُّ في صَدَدِ بَيَانِ ما يَجِبُ أنْ يَعْتَقِدَهُ المُسْلِمُ في أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ e وما يَنْبَغِي أن يُذْكَرُوا بِهِ فَقَالَ : «وأنْ لا يُذْكَرَ أحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُوْلِ إلَّا بأحْسَنِ ذِكْرٍ، والإمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، وأنَّهُم أحَقُّ النَّاسِ أنْ يُلْتَمَسَ لَهُم أحْسَنَ المَخَارِجِ، ويُظَنُّ بِهِم أحْسَنَ المَذَاهِبِ»([8]) .
وقَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ بنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «الإبَانَةِ عَلى أُصُوْلِ السُّنةِ والدِّيانَةِ» (268) عِنْدَ عَرْضِهِ لِعَقِيْدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ : «ومِنْ بَعْدِ ذَلِكَ نَكُفُّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ e وقَدْ شَهِدُوا المَشَاهِدَ مَعَهُ، وسَبَقُوا النَّاسَ بالفَضْلِ فَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُم، وأمَرَكَ بالاسْتِغْفَارِ لَهُم، والتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَحبَّتِهِم، وفَرَضَ ذَلِكَ على لِسَانِ نَبِيِّهِ وهُوَ يَعْلَمُ ما سَيَكُونُ مِنْهُم أنَّهُم سَيَقْتَتِلُوْنَ، وإنِّمَا فُضِّلُوا على سَائِرِ الخَلْقِ لأنَّ الخَطَأ العَمْدَ قَدْ وُضِعَ عَنْهُم، وكُلُّ ما شَجَرَ بَيْنَهُم مَغْفُوْرٌ لَهُم» .
وقَالَ أبُو عُثَمَانَ الصَّابُوْنِيُّ في صَدَدِ بَيَانِ عَقِيْدَةِ السَّلَفِ وأصْحَابِ الحَدِيْثِ : «ويَرَوْنَ الكَفَّ عمَّا شَجَرَ بَيْنَ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتَطْهِيْرَ الألْسِنَةِ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَضَمَّنُ عَيْبًا لَهُم ونَقْصًا فِيْهِم، ويَرَوْنَ التَّرَحُّمَ على جَمِيْعِهِم، والمُوَالاةَ لِكَافَّتِهِم» .
وقَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «الجَامِعِ لأحْكَامِ القُرْآنِ» (16/321) : «لا يَجُوزُ أنْ يُنْسَبَ إلى أحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خَطأٌ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ إذْ كَانُوا كُلُّهُم اجْتَهَدُوا فِيْما فَعَلُوْهُ، وأرَادُوا اللهََ عَزَّ وجَلَّ، وهُم كُلُّهُم لَنَا أئِمَّةٌ .
وقَدْ تُعِبِّدْنا بالكَفِّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، وإلَّا نَذْكُرُهُم إلَّا بأحْسَنِ الذِّكْرِ لِحُرْمَةِ الصُّحْبَةِ، ولِنَهْي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبِّهِم، وأنَّ اللهَ غَفَرَ لَهُم، وأخْبَرَ بالرِّضَى عَنْهُم ...» .
قَالَ يَحْيَ بنُ أبي بَكْرٍ العَامِرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (893) : «ويَنْبَغِي لِكُلِّ صَيِّنٍ مُتَدَيِّنٍ مُسَامَحَةُ الصَّحَابَةِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم مِنَ التَّشَاجُرِ، والاعْتِذَارُ عَنْ مُخْطِئِهِم، وطَلَبُ المَخَارِجِ الحَسَنةِ لَهُم، وتَسْلِيْمُ صِحَّةِ إجْمَاعِ ما أجْمَعُوا عَلَيْهِ على ما عَلِمُوْهُ فَهُمْ أعْلَمُ بالْحَالِ، والحَاضِرُ يَرَى ما لا يَرَى الغَائِبُ، وطَرِيْقَةُ العَارِفِيْنَ الاعْتِذَارُ عَنِ المَعَائِبِ، وطَرِيْقَةُ المُنَافِقِيْنَ تَتَبُّعُ المَثَالِبِ .
وإذَا كَانَ اللأزِمُ مِنْ طَرِيْقَةِ الدِّيْنِ سِتْرَ عَوْرَاتِ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ، فَكَيْفَ الظَنُّ بِصَحَابَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّيِنَ؟! مَعَ اعْتِبَارِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا أحَدًا مِنْ أصْحَابِي»([9])، وقَوْلِهِ : «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيْهِ» هَذِهِ طَرِيْقَةُ صُلَحَاءِ السَّلَفِ، وما سِوَاهَا مَهَاوٍ وتَلَفٌ»([10]) .
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَةَ أيْضًا في «مِنْهَاجِ السُّنةِ» (6/305) : «وإذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُوْلُ : ما عُلِمَ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والنَّقْلِ المُتَوَاتِرِ، مِنْ مَحَاسِنِ الصَّحَابَةِ وفَضَائِلِهِم، لا يَجُوْزُ أنْ يُدْفَعَ بِنُقُوْلٍ بَعْضُهَا مُنْقَطِعٌ، وبَعْضُهَا مُحَرَّفٌ، وبَعْضُهَا لا يَقْدَحُ فِيْمَا عُلِمَ، فإنَّ اليَقِيْنَ لا يَزُوْلُ بالشَّكِّ، ونَحْنُ قَدْ تَيَقَنَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ وإجْمَاعُ السَّلَفِ قَبْلَنَا، وما يُصَدِّقُ ذَلِكَ مِنَ المنْقُوْلاتِ المُتَوَاتِرَةِ مِنْ أدِلَّةِ العَقْلِ، مِنْ أنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أفْضَلُ الخَلْقِ بَعْدَ الأنْبِيَاءِ، فَلا يَقْدَحُ في هَذَا أُمُوْرٌ مَشْكُوْكٌ فِيْهَا، فَكَيْفَ إذا عُلِمَ بُطْلانُهَا؟!» انْتَهَى .
وقَدُ شَرَحَ شَيْخُنَا ابنُ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ كَلامَ ابنَ تَيْمِيَةَ هَذَا في «شَرْحِ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ» (617) بِقَوُلِهِ : «وهَذَا الَّذِي حَصَلَ ـ أي بَيْنَ الصَّحَابَةِ ـ مَوْقِفُنَا نَحْنُ مِنْهُ لَهُ جِهَتَانِ :
الجِهَةُ الأوْلَى : الحُكْمُ على الفَاعِلِ .
والجِهَةُ الثَّانِيَةُ : مَوْقِفُنَا مِنْ الفَاعِلِ .
أمَّا الحُكْمُ على الفَاعِلِ فَقَدْ سَبَقَ، و(هُوَ) أنَّ مَا نَدِيْنُ اللهَ بِهِ، أنَّ ما جَرَى بَيْنَهُم فَهُوَ صَادِرٌ عَنِ اجْتِهَادٍ، والاجْتِهَادُ إذَا وَقَعَ فِيْهِ الخَطَأُ فَصَاحِبُهُ مَعْذُوْرٌ مَغْفُوْرٌ لَهُ .
وأمَّا مَوْقِفُنَا مِنَ الفَاعِلِ، فالوَاجِبُ عَلَيْنَا الإمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، لِمَاذَا نَتَّخِذُ مِنْ فِعْلِ هَؤُلاءِ مَجَالًا لِلْسَّبِ والشَّتْمِ والوَقِيْعَةِ فِيْهِم، والبَغْضَاءِ بَيْنَنَا؟ ونَحْنُ في فِعْلِنَا هَذَا إمَّا آثِمُوْنَ، وإمَّا سَالِمُوْنَ، ولَسْنَا غَانِمِيْنَ أبَدًا .
فالوَاجِبُ عَلَيْنَا تُجَاهَ هَذِهِ الأمُوْرِ أنْ نَسْكُتَ عَمَّا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وأنْ لا نُطَالِعَ الأخْبَارَ أوِ التَّارِيْخَ في هَذِهِ الأمُوْرِ؛ إلَّا المُرَاجَعَةَ لِلْضَّرُوْرَةِ». وانْظُرْ ما ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَبْدُ اللهِ الجَبْرِيْنُ عِنْدَ شَرْحِهِ لِكَلامِ ابنِ تَيْمِيَةَ هَذَا في كِتَابِهِ «التَعْلِيْقَاتِ الزَّكِيَّةِ» (2/239) .
ونَقَلَ ابنُ حَجَرٍ عَنْ أبِي المُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (489) أنَّهُ قَالَ في كِتَابِهِ «الاصْطِلامِ» : «التَّعُرُّضُ إلى جَانِبِ الصَّحَابَةِ عَلامَةٌ على خُذْلانِ فَاعِلِهِ؛ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ وضَلالَةٌ»([12]) .
وإنَّ الأخْبَارَ المَرْوِيَّةَ في ذَلِكَ مِنْهَا ما هُوَ كَذِبٌ، ومِنْهَا ما قَدْ زِيْدَ فِيْهَ، أو نُقِصَ مِنْهُ حَتَّى تَحَرَّفَ عَنْ أصْلِهِ وتَشَوَّهَ، كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ النُّقُوْلِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا أنَّ عَقِيْدَةَ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم هُوَ : الإمْسَاكُ عَنْهُ لَفْظًا وخَطًّا .
فإمَّا مَعْنَى السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم : فَهُوَ عَدَمُ الخَوْضِ فِيْمَا وَقَعَ بَيْنَهُم مِنَ الحُرُوبِ والخِلافَاتِ على سَبِيْلِ التَّوَسُّعِ وتَتَبُّعِ التَّفْصِيْلاتِ، ونَشْرِهَا بَيْنَ العَامَّةِ بِطَرِيْقٍ أوْ آخَرَ([13]) .
وفِيْهِ قَالَ النَبِيُّ ﷺ: «إذا ذُكِرَ أصْحَابِي فأمْسِكُوا، وإذَا ذُكِرَتِ النُّجُوْمُ فأمْسِكُوا، وإذَا ذُكِرَ القَّدَرُ فأمْسِكُوا» أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ في «المُعْجَمِ الكَبِيْرِ» (1427)، وفِيْهِ يَزِيْدُ بنُ رَبِيْعَةَ، وهُوَ ضَعِيْفٌ، وقَدْ صَحَّحَ الحَدِيْثَ الألْبانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، انْظُرْ «السِّلْسَلَةَ الصَّحَيْحَةَ» (34) .
ولِلْحَدِيْثِ هَذَا مَعْنَيَانِ : بَاطِلٌ، وحَقٌّ :
الأوَّلُ : هُوَ عَدَمُ ذِكْرِ فَضَائِلِهِم، ومَحَاسِنِهِم، وسِيَرِهِم ... وهَذَا المَعْنَى غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لإجْمَاعِ الأمَّةِ القَاطِعِ بِذِكْرِ فَضَائِلِهِم ومَحَاسِنِهِم .
الثَّانِي : هُوَ عَدَمُ ذِكْرِ ما شَجَرَ بَيْنَهُم، أوِ التَّنْقِيْبِ عَنْ مَسَاوِئِهِم... وهَذَا المَعْنَى مُرَادٌ قَطْعًا، كَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ السَّلَفِ والخَلَفِ مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ!
وهَذَا الكَلامُ مِنَ الحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ هُوَ واللهِ الكَلامُ القَوِيْمُ، والسَّبِيْلُ المُسْتَقِيْمُ؛ فَدْونَكَ إيَّاهُ أخِي المُسْلِمُ!
قَدْ أنْكَرَ الإمَامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ على مَنْ جَمَعَ الأخْبَارَ الَّتِي فِيْهَا طَعْنٌ على بَعْضِ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ e، وغَضِبَ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيْدًا وقَالَ : «لَوْ كَانَ هَذَا في أفْنَاءِ النَّاسِ لأنْكَرْتُهُ، فَكَيْفَ في أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم » . وقَالَ : «أنَا لَمْ أكْتُبْ هَذِهِ الأحَادِيْثَ!» .
قَال المَرْوَزِيُّ : «قُلْتُ لأبي عَبْدِ اللهِ : فَمَنْ عَرَفْتُهُ يَكْتُبُ هَذِهِ الأحَادِيْثَ الرَّدِيْئَةَ ويَجْمَعُهَا أيُهْجَرُ؟ قَالَ : نَعَمْ، يَسْتَأهِلُ صَاحِبُ هَذِهِ الأحَادِيْثِ الرَّدِيْئَةِ الرَّجْمُ!»([14]) .
نَعَم؛ إنَّ لَها مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ الَّتِي لا يُحْمَدُ عُقْبَاهَا ـ ما تَنُوْءُ بِهِ أُلُوا القُّوَّةِ ـ فَمِنْ ذَلِكَ :
ـ أنَّها تُوْقِفُ المُسْلِمِيْنَ على ما لا يَنْبَغِي لَهُم أنْ يَقِفُوا عَلَيْهِ شَرْعًا .
ـ أنَّ بَثَّهَا والحَدِيْثَ عَنْهَا عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ .
ـ أنَّهَا تُفْسِدُ على المُسْلِمِيْن سَلامَةَ صُدُوْرِهِم، وصَفَاءَ قُلُوْبِهِم على الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ولا يُخَالِفُ في ذَلِكَ إلا مُكَابِرٌ أو جَاهِلٌ!
ـ أنَّها تُثِيْرُ بَيْنَ النَّاسِ الشُّبُهَاتِ، وتُضَاعِفُ لَدِيْهِمُ الأوْهَامَ حَوْلَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؛ ومِنْهُ تُزَعْزَعُ الثِّقَةُ بالصَّحَابَةِ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ .
ـ أنَّ في نَشْرِهَا بَيْنَ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ خِلافًا لِلْحِكْمَةِ الدّْعَوِيَّةِ، والطُّرُقِ التَّعْلِيْمِيَّةِ .
كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُوْنَ أتُحِبُّوْنَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!» أخْرَجَهُ البُخَارِيِّ .
وكَذَا قُوْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : «مَا أنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً« أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وهذا مقال مستل من كتاب
تسديد الإصابة فيما
شجر بين الصحابة
ص 178-193
للشيخ الدكتور/ ذياب بن سعد الغامدي
([1]) «سِيَرُ أعْلامِ النُّبَلاءِ» للذَّهَبِيِّ ( 8/408)، (17/251) .
([2]) «شَرْحُ الطَّحَاوِيَّةِ» لابنِ أبي العِزِّ (2/748) .
([3]) «الإمَامَةُ» لأبي نُعِيْمٍ الأصْبَهانِيِّ (376) .
([4]) «مَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ» للرَّازِيِّ (136)، و«الطَّبَقاتُ» لابنِ سَعَدٍ (5/394)، و«الجَامِعُ لأحْكَامِ القُرْآنِ» للقُرْطُبِيِّ (16/122)، و«الإنْصَافُ» للبَاقِلأنِيِّ (69) .
([5]) انْظُرْ : «مِنْهَاجَ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (6/254) .
([6]) «الجَامِعُ لأحْكَامِ القُرْآنِ» للقُرْطُبِيِّ (16/332) .
([7]) «مَنَاقِبُ الإمَامِ أحْمَدَ» لابنِ الجَوْزِيِّ (146) .
([8]) «رِسَالَةُ القَيْرَوانِيِّ مَعَ شَرْحِها الثَّمَرِ الدَّانِي في تَقْرِيْبِ المَعَانِي» لصَالِحِ الأزْهَرِيِّ (23) .
([9]) أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
([10]) «الرِّياضُ المُسْتَطَابَةُ في جُمْلَةِ مَنْ رَوَى في الصَّحِيْحَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ» (300) .
([11]) «العَقِيْدَةُ الوَاسِطِيَّةُ» مَعَ شَرْحِها لمُحَمَّدٍ هَرَّاسٍ (173) .
([12]) «فَتْحُ البَارِي» لابنِ حَجَرٍ (4/365) .
([13]) انْظُرْ : «عَقِيْدَةَ أهْلِ السُّنةِ والجَماعَةِ في الصَّحابَةِ» لناصِرٍ الشَّيْخِ (2/740) بتَصَرُّفٍ .
([14]) «السُّنةُ» للخَلألِ (3/501)، و«الشَّرْحُ والإبانَةُ» لابنِ بَطَّةَ (2689)، و«شَرْحُ أُصُوْلِ اعْتِقَادِ أهْلِ السُّنةِ والجَمَاعَةِ» للالْكائِيِّ (7/1241– 1270)، و«الصَّارِمُ المَسْلُوْلُ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (3/1085) .
أقْوَالُ السَّلَفِ في وُجُوبِ السُّكُوْتِ
عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم
عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم
لمَّا عَلِمَ عُلَمَاءُ المُسْلِمِيْنَ أنَّ الحَدِيْثَ والكَلامَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم سَبَبٌ لِلْفِتْنَةِ، والتَّنَقُّصِ، والنَّيْلِ مِنْهُم ممَّا يُخَالِفُ النُّصُوْصَ الشَّرْعِيَّةَ، والآثَارَ السَّلَفِيَّةَ، قَامُوا مُجْتَهِدِيْنَ على قَدَمٍ وسَاقٍ إلى قَفْلِ هَذَا البَابِ، وسَدِّ ثُغُوْرِهِ ما أمْكَنَ إلى ذَلِكَ سَبِيْلًا؛ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْمُسْلِمِ دِيْنُهُ، وسَلامَةُ صَدْرِهِ، وحِفْظُ لِسَانِهِ؛ لِذَا نَرَاهُم قَدْ أجْمَعُوا قَاطِبَةً على : السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم!
فَكَانَ الوَاجِبُ على المُسْلِمِ أنْ يَسْلُكَ في اعْتِقَادِهِ فِيْمَا حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مَسْلَكَ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، وهُوَ الإمْسَاكُ عَمَّا حَصَلَ بَيْنَهُم .
وكُتُبُ أهْلِ السُّنَّةِ مَمْلُوْءَةٌ بِبَيَانِ عَقِيْدَتِهِم الصَّافِيَةِ في حَقِّ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وقَدْ حَدَّدُوا مَوْقِفَهُم مِنْ تِلْكَ الفِتْنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُم في أقْوَالِهِمُ الصَّرِيْحَةِ الحَسَنَةِ الَّتِي مِنْهَا :
قَالَ الإمَامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ : «مَنِ اسْتَخَفَّ بالعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ»([1]) .
وقَالَ الإمَامُ الطَحَاوِيُّ : «وعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِيْنَ ومَنْ بَعْدَهُم مِنَ التَّابِعِيْنَ أهْلُ الخَيْرِ والأثَرِ، وأهْلُ الفِقْهِ والنَّظَرِ ـ لا يُذْكَرُوْنَ إلَّا بالجَمِيْلِ، ومَنْ ذَكَرَهُم بِسُوْءٍ فَهُوَ على غَيْرِ سَبِيْلٍ»([2]) .
وقَالَ الحَافِظُ ابنُ عَسَاكِرَ في «تَبْيِيْنِ كَذِبِ المُفْتَرِي» (49) : «واعْلَمْ يا أخِي وفَّقَنَا اللهُ وإيَّاكَ لِمَرْضَاتِهِ وجَعَلَنَا ممَّنْ يَخْشَاهُ ويَتَّقِيْهِ حَقَّ تُقَاتِهِ : أنَّ لُحُوْمَ العُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِم مَسْمُوْمَةٌ، وعَادَةَ اللهِ في هَتْكِ أسْتَارِ مُنَتَقِصِيْهِم مَعْلُوْمَةٌ؛ لأنَّ الوَقِيْعَةَ فِيْهِم بِمَا هُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ أمْرٌ عَظِيْمٌ، والتَّنَاوُلَ لأعْرَاضِهِم بالزُّوْرِ والافْتِرَاءِ مَرْتَعٌ وَخِيمٌ، والاخْتِلاقَ على مَنِ اخْتَارَ اللهُ مِنْهُم لِنَعْشِ العِلْمِ خُلُقٌ ذَمِيْمٌ» .
وأكْبَرُ ظُلْمًا وأسْوَأُ حَالًا مِنْ هَذِهِ البَلِيَّةِ العَظِيْمَةِ احْتِرَافُ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ في الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وإطْلاقُ العَنَانِ لِلِّسَانِ يَفْرِي في أعْرَاضِهِم وعَدَالَتِهِم، والتَّنْقِيْبُ عَنْ مَسَاوِئِهِم، وبَثُّها بَيْنَ النَّاسِ!
وقَدْ عَدَّ أهْلُ العِلْمِ الطَّعْنَ في الصَّحَابَةِ زَنْدَقَةٌ مَفْضُوْحَةٌ، وقَرَّرُوا أنَّهُ: «لا يَبْسُطُ لِسَانَهُ فِيْهِم إلَّا مَنْ سَاءَتْ طَوِيَّتُهُ في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وصَحَابَتِهِ، والإسْلامِ، والمُسْلِمِيْنَ»([3]) .
* * *
وهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ رَحِمَهُ اللهُ حِيْنَ سُئِلَ عَنِ القِتَالِ الَّذي حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ : «تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ الله يَدِي مِنْهَا؛ أفَلا أُطَهِّرُ مِنْهَا لِسَانِي؟ مَثَلُ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلُ العُيُوْنِ، ودَوَاءُ العُيُوْنِ تَرْكُ مَسِّهَا»([4]). وقَالَ بِنَحْوِهِ أيْضًا : «تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللهُ مِنْهَا يَدِي، فَلا أُحِبُّ أنْ أُخَضِّبَ بِهَا لِسَانِي» .وقَالَ آخَرُ : «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (البقرة: 134)([5]) .
وسُئِلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَمَّا حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ : «قِتَالٌ شَهِدَهُ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وغِبْنَا، وعَلِمُوا وجَهِلْنَا، واجْتَمَعُوا فاتَّبَعْنا، واخْتَلَفُوا فَوَقَفْنا» .
ومَعْنَى كَلامِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ هَذَا : «أنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أعْلَمَ بِمَا دَخَلُوا فِيْهِ مِنَّا، وما عَلَيْنَا إلَّا إنْ نَتَّبعَهُم فِيْمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، ونَقِفَ عِنْدَ ما اخْتَلَفُوا فِيْهِ، ولا نَبْتَدِعُ رَأيًا مِنَّا، ونَعْلَمُ أنَّهُم اجْتَهَدُوا وأرَادُوا اللهََ عَزَّ وجَلَّ إذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِيْنَ في الدِّيْنِ»([6]) .
* * *
وقَالَ الإمَامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ أنْ قِيْلَ لَهُ : ما تَقُوْلُ فِيْمَا كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ ومُعَاوِيَةَ؟ قَالَ : «ما أقُولُ فِيْهِم إلَّا الحُسْنَى»([7]) .وقَالَ ابنُ أبي زَيْدٍ القَيْرَوَانِيُّ في صَدَدِ بَيَانِ ما يَجِبُ أنْ يَعْتَقِدَهُ المُسْلِمُ في أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ e وما يَنْبَغِي أن يُذْكَرُوا بِهِ فَقَالَ : «وأنْ لا يُذْكَرَ أحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُوْلِ إلَّا بأحْسَنِ ذِكْرٍ، والإمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، وأنَّهُم أحَقُّ النَّاسِ أنْ يُلْتَمَسَ لَهُم أحْسَنَ المَخَارِجِ، ويُظَنُّ بِهِم أحْسَنَ المَذَاهِبِ»([8]) .
وقَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ بنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في «الإبَانَةِ عَلى أُصُوْلِ السُّنةِ والدِّيانَةِ» (268) عِنْدَ عَرْضِهِ لِعَقِيْدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ : «ومِنْ بَعْدِ ذَلِكَ نَكُفُّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ e وقَدْ شَهِدُوا المَشَاهِدَ مَعَهُ، وسَبَقُوا النَّاسَ بالفَضْلِ فَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُم، وأمَرَكَ بالاسْتِغْفَارِ لَهُم، والتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَحبَّتِهِم، وفَرَضَ ذَلِكَ على لِسَانِ نَبِيِّهِ وهُوَ يَعْلَمُ ما سَيَكُونُ مِنْهُم أنَّهُم سَيَقْتَتِلُوْنَ، وإنِّمَا فُضِّلُوا على سَائِرِ الخَلْقِ لأنَّ الخَطَأ العَمْدَ قَدْ وُضِعَ عَنْهُم، وكُلُّ ما شَجَرَ بَيْنَهُم مَغْفُوْرٌ لَهُم» .
وقَالَ أبُو عُثَمَانَ الصَّابُوْنِيُّ في صَدَدِ بَيَانِ عَقِيْدَةِ السَّلَفِ وأصْحَابِ الحَدِيْثِ : «ويَرَوْنَ الكَفَّ عمَّا شَجَرَ بَيْنَ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتَطْهِيْرَ الألْسِنَةِ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَضَمَّنُ عَيْبًا لَهُم ونَقْصًا فِيْهِم، ويَرَوْنَ التَّرَحُّمَ على جَمِيْعِهِم، والمُوَالاةَ لِكَافَّتِهِم» .
وقَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «الجَامِعِ لأحْكَامِ القُرْآنِ» (16/321) : «لا يَجُوزُ أنْ يُنْسَبَ إلى أحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خَطأٌ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ إذْ كَانُوا كُلُّهُم اجْتَهَدُوا فِيْما فَعَلُوْهُ، وأرَادُوا اللهََ عَزَّ وجَلَّ، وهُم كُلُّهُم لَنَا أئِمَّةٌ .
وقَدْ تُعِبِّدْنا بالكَفِّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، وإلَّا نَذْكُرُهُم إلَّا بأحْسَنِ الذِّكْرِ لِحُرْمَةِ الصُّحْبَةِ، ولِنَهْي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبِّهِم، وأنَّ اللهَ غَفَرَ لَهُم، وأخْبَرَ بالرِّضَى عَنْهُم ...» .
قَالَ يَحْيَ بنُ أبي بَكْرٍ العَامِرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ (893) : «ويَنْبَغِي لِكُلِّ صَيِّنٍ مُتَدَيِّنٍ مُسَامَحَةُ الصَّحَابَةِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم مِنَ التَّشَاجُرِ، والاعْتِذَارُ عَنْ مُخْطِئِهِم، وطَلَبُ المَخَارِجِ الحَسَنةِ لَهُم، وتَسْلِيْمُ صِحَّةِ إجْمَاعِ ما أجْمَعُوا عَلَيْهِ على ما عَلِمُوْهُ فَهُمْ أعْلَمُ بالْحَالِ، والحَاضِرُ يَرَى ما لا يَرَى الغَائِبُ، وطَرِيْقَةُ العَارِفِيْنَ الاعْتِذَارُ عَنِ المَعَائِبِ، وطَرِيْقَةُ المُنَافِقِيْنَ تَتَبُّعُ المَثَالِبِ .
وإذَا كَانَ اللأزِمُ مِنْ طَرِيْقَةِ الدِّيْنِ سِتْرَ عَوْرَاتِ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ، فَكَيْفَ الظَنُّ بِصَحَابَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّيِنَ؟! مَعَ اعْتِبَارِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا أحَدًا مِنْ أصْحَابِي»([9])، وقَوْلِهِ : «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيْهِ» هَذِهِ طَرِيْقَةُ صُلَحَاءِ السَّلَفِ، وما سِوَاهَا مَهَاوٍ وتَلَفٌ»([10]) .
* * *
وقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ في عَرْضِهِ لِعَقِيْدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم : «ويُمْسِكُوْنَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، ويَقُوْلُوْنَ : إنَّ هَذِهِ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ في مَسَاوِيْهِم مِنْهَا ما هُوَ كَذِبٌ، ومِنْهَا ما قَدْ زِيْدَ فِيْهِ ونُقِصَ وغُيِّرَ عَن وَجْهِهِ، والصَّحِيْحُ مِنْهُ هُمْ فِيْهِ مَعْذُوْرُوْنَ، إمَّا مُجْتَهِدُوْنَ مُصِيْبُوْنَ، وإمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُوْنَ»([11]).وقَالَ ابنُ تَيْمِيَةَ أيْضًا في «مِنْهَاجِ السُّنةِ» (6/305) : «وإذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُوْلُ : ما عُلِمَ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والنَّقْلِ المُتَوَاتِرِ، مِنْ مَحَاسِنِ الصَّحَابَةِ وفَضَائِلِهِم، لا يَجُوْزُ أنْ يُدْفَعَ بِنُقُوْلٍ بَعْضُهَا مُنْقَطِعٌ، وبَعْضُهَا مُحَرَّفٌ، وبَعْضُهَا لا يَقْدَحُ فِيْمَا عُلِمَ، فإنَّ اليَقِيْنَ لا يَزُوْلُ بالشَّكِّ، ونَحْنُ قَدْ تَيَقَنَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ وإجْمَاعُ السَّلَفِ قَبْلَنَا، وما يُصَدِّقُ ذَلِكَ مِنَ المنْقُوْلاتِ المُتَوَاتِرَةِ مِنْ أدِلَّةِ العَقْلِ، مِنْ أنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أفْضَلُ الخَلْقِ بَعْدَ الأنْبِيَاءِ، فَلا يَقْدَحُ في هَذَا أُمُوْرٌ مَشْكُوْكٌ فِيْهَا، فَكَيْفَ إذا عُلِمَ بُطْلانُهَا؟!» انْتَهَى .
وقَدُ شَرَحَ شَيْخُنَا ابنُ عُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ اللهُ كَلامَ ابنَ تَيْمِيَةَ هَذَا في «شَرْحِ العَقِيْدَةِ الوَاسِطِيَّةِ» (617) بِقَوُلِهِ : «وهَذَا الَّذِي حَصَلَ ـ أي بَيْنَ الصَّحَابَةِ ـ مَوْقِفُنَا نَحْنُ مِنْهُ لَهُ جِهَتَانِ :
الجِهَةُ الأوْلَى : الحُكْمُ على الفَاعِلِ .
والجِهَةُ الثَّانِيَةُ : مَوْقِفُنَا مِنْ الفَاعِلِ .
أمَّا الحُكْمُ على الفَاعِلِ فَقَدْ سَبَقَ، و(هُوَ) أنَّ مَا نَدِيْنُ اللهَ بِهِ، أنَّ ما جَرَى بَيْنَهُم فَهُوَ صَادِرٌ عَنِ اجْتِهَادٍ، والاجْتِهَادُ إذَا وَقَعَ فِيْهِ الخَطَأُ فَصَاحِبُهُ مَعْذُوْرٌ مَغْفُوْرٌ لَهُ .
وأمَّا مَوْقِفُنَا مِنَ الفَاعِلِ، فالوَاجِبُ عَلَيْنَا الإمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم، لِمَاذَا نَتَّخِذُ مِنْ فِعْلِ هَؤُلاءِ مَجَالًا لِلْسَّبِ والشَّتْمِ والوَقِيْعَةِ فِيْهِم، والبَغْضَاءِ بَيْنَنَا؟ ونَحْنُ في فِعْلِنَا هَذَا إمَّا آثِمُوْنَ، وإمَّا سَالِمُوْنَ، ولَسْنَا غَانِمِيْنَ أبَدًا .
فالوَاجِبُ عَلَيْنَا تُجَاهَ هَذِهِ الأمُوْرِ أنْ نَسْكُتَ عَمَّا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وأنْ لا نُطَالِعَ الأخْبَارَ أوِ التَّارِيْخَ في هَذِهِ الأمُوْرِ؛ إلَّا المُرَاجَعَةَ لِلْضَّرُوْرَةِ». وانْظُرْ ما ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَبْدُ اللهِ الجَبْرِيْنُ عِنْدَ شَرْحِهِ لِكَلامِ ابنِ تَيْمِيَةَ هَذَا في كِتَابِهِ «التَعْلِيْقَاتِ الزَّكِيَّةِ» (2/239) .
ونَقَلَ ابنُ حَجَرٍ عَنْ أبِي المُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ (489) أنَّهُ قَالَ في كِتَابِهِ «الاصْطِلامِ» : «التَّعُرُّضُ إلى جَانِبِ الصَّحَابَةِ عَلامَةٌ على خُذْلانِ فَاعِلِهِ؛ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ وضَلالَةٌ»([12]) .
* * *
فَهَذِهِ طَائِفَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ كَلامِ أكَابِرِ عُلَمَاءِ الإسْلامِ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الأمَّةِ وخَلَفِهَا؛ تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ خِلالِهَا : المَوْقِفُ الوَاجِبُ على المُسْلِمِ أنْ يَقِفَهُ تُجَاهَ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجْمَعِيْنَ مِنْ شِجَارٍ وخِلافٍ، خَاصَّةً في حَرْبِ (الجَمَلِ وصِفِّيْنَ)، وهُوَ : صِيَانَةُ القَلَمِ واللِّسَانِ عَنْ ذِكْرِ ما لا يَلِيْقُ بِهِم، وإحْسَانُ الظَّنِّ بِهِم، والتَّرَضِّي عَنْهُم أجْمَعِيْنَ، ومَعْرِفَةُ حَقِّهِم ومَنْزِلَتِهِم، والْتِمَاسُ أحْسَنِ المَخَارِجِ لِمَا ثَبَتَ صُدُوْرُهُ مِنْ بَعْضِهِم، والاعْتِقَادُ بأنَّهُم مُجْتَهِدُوْنَ، والمُجْتَهِدُ مَغْفُوْرٌ لَهُ خَطَؤُهُ إنْ أخْطَأ .وإنَّ الأخْبَارَ المَرْوِيَّةَ في ذَلِكَ مِنْهَا ما هُوَ كَذِبٌ، ومِنْهَا ما قَدْ زِيْدَ فِيْهَ، أو نُقِصَ مِنْهُ حَتَّى تَحَرَّفَ عَنْ أصْلِهِ وتَشَوَّهَ، كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ النُّقُوْلِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا أنَّ عَقِيْدَةَ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم هُوَ : الإمْسَاكُ عَنْهُ لَفْظًا وخَطًّا .
* * *
فإذا تَبَيَّنَ لَنَا أنَّ الإجْمَاعَ قَدْ وَقَعَ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِيْنَ على السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وعَدَمِ التَّنْقِيْبِ أو التَّنْقِيْرِ عَمَّا حَصَل بَيْنَهُم مِنْ حُرُوْبٍ وقِتَالٍ؛ ولَو حَسُنَتْ نِيَّةُ المُتَكَلِّمِ أو السَّامِعِ ـ كَانَ مِنَ المُنَاسِبِ أنْ نَعْرِفَ مَعْنَى السُّكُوْتِ نَحْوَهُم .فإمَّا مَعْنَى السُّكُوْتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم : فَهُوَ عَدَمُ الخَوْضِ فِيْمَا وَقَعَ بَيْنَهُم مِنَ الحُرُوبِ والخِلافَاتِ على سَبِيْلِ التَّوَسُّعِ وتَتَبُّعِ التَّفْصِيْلاتِ، ونَشْرِهَا بَيْنَ العَامَّةِ بِطَرِيْقٍ أوْ آخَرَ([13]) .
وفِيْهِ قَالَ النَبِيُّ ﷺ: «إذا ذُكِرَ أصْحَابِي فأمْسِكُوا، وإذَا ذُكِرَتِ النُّجُوْمُ فأمْسِكُوا، وإذَا ذُكِرَ القَّدَرُ فأمْسِكُوا» أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ في «المُعْجَمِ الكَبِيْرِ» (1427)، وفِيْهِ يَزِيْدُ بنُ رَبِيْعَةَ، وهُوَ ضَعِيْفٌ، وقَدْ صَحَّحَ الحَدِيْثَ الألْبانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، انْظُرْ «السِّلْسَلَةَ الصَّحَيْحَةَ» (34) .
ولِلْحَدِيْثِ هَذَا مَعْنَيَانِ : بَاطِلٌ، وحَقٌّ :
الأوَّلُ : هُوَ عَدَمُ ذِكْرِ فَضَائِلِهِم، ومَحَاسِنِهِم، وسِيَرِهِم ... وهَذَا المَعْنَى غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لإجْمَاعِ الأمَّةِ القَاطِعِ بِذِكْرِ فَضَائِلِهِم ومَحَاسِنِهِم .
الثَّانِي : هُوَ عَدَمُ ذِكْرِ ما شَجَرَ بَيْنَهُم، أوِ التَّنْقِيْبِ عَنْ مَسَاوِئِهِم... وهَذَا المَعْنَى مُرَادٌ قَطْعًا، كَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ السَّلَفِ والخَلَفِ مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ!
* * *
وهَذَا الإمَامُ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يُحَقِّقُ لَنَا مَعْنَى السُّكُوْتِ في «سِيَرِ أعْلامِ النُّبَلاءِ» (10/92) قَائِلًا : «... بأنَّ كَثِيْرًا ممَّا حَدَثَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنْ شِجَارٍ وخِلافٍ يَنْبَغِي طَيَّهُ وإخْفَاؤُهُ؛ بَلْ إعْدَامُهُ، وأنَّ كِتْمَانَ ذَلِكَ مُتَعيِّنٌ على العَامَّةِ؛ بَلْ آحَادِ العُلَمَاءِ، وقَدْ يُرَخَّصُ في مُطَالَعَةِ ذَلِكَ خَلْوَةً لِلْعَالِمِ المُنْصِفِ العَرِيِّ مِنَ الهَوَى، بِشَرْطِ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُم كَمَا عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالى حَيْثُ يَقُوْلُ : «وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ أمَنُوا» (الحشر: 10) فَالقَوْمُ لَهُم سَوَابِقُ وأعْمَالٌ مُكَفِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُم، وجِهَادٌ مَحَّاءٌ، وعِبَادَةٌ مُمَحِّصَةٌ» انْتَهَى .وهَذَا الكَلامُ مِنَ الحَافِظِ الذَّهَبِيِّ؛ هُوَ واللهِ الكَلامُ القَوِيْمُ، والسَّبِيْلُ المُسْتَقِيْمُ؛ فَدْونَكَ إيَّاهُ أخِي المُسْلِمُ!
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ
الآثَارُ السَّيِّئَة من نشر ما حصل بَيْنَ الصَّحَابَةِ في الفتنة
الآثَارُ السَّيِّئَة من نشر ما حصل بَيْنَ الصَّحَابَةِ في الفتنة
قَدْ أنْكَرَ الإمَامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ على مَنْ جَمَعَ الأخْبَارَ الَّتِي فِيْهَا طَعْنٌ على بَعْضِ أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ e، وغَضِبَ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيْدًا وقَالَ : «لَوْ كَانَ هَذَا في أفْنَاءِ النَّاسِ لأنْكَرْتُهُ، فَكَيْفَ في أصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم » . وقَالَ : «أنَا لَمْ أكْتُبْ هَذِهِ الأحَادِيْثَ!» .
قَال المَرْوَزِيُّ : «قُلْتُ لأبي عَبْدِ اللهِ : فَمَنْ عَرَفْتُهُ يَكْتُبُ هَذِهِ الأحَادِيْثَ الرَّدِيْئَةَ ويَجْمَعُهَا أيُهْجَرُ؟ قَالَ : نَعَمْ، يَسْتَأهِلُ صَاحِبُ هَذِهِ الأحَادِيْثِ الرَّدِيْئَةِ الرَّجْمُ!»([14]) .
* * *
قُلْتُ : لا شَكَّ أنَّ نَشْرَ وذِكْرَ ما حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مِنْ شِجَارٍ وخِلافٍ لَهُو الشَّرُّ المُسْتَطِيْرُ، والفَسَادُ الكَبِيْرُ!نَعَم؛ إنَّ لَها مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ الَّتِي لا يُحْمَدُ عُقْبَاهَا ـ ما تَنُوْءُ بِهِ أُلُوا القُّوَّةِ ـ فَمِنْ ذَلِكَ :
ـ أنَّها تُوْقِفُ المُسْلِمِيْنَ على ما لا يَنْبَغِي لَهُم أنْ يَقِفُوا عَلَيْهِ شَرْعًا .
ـ أنَّ بَثَّهَا والحَدِيْثَ عَنْهَا عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ .
ـ أنَّهَا تُفْسِدُ على المُسْلِمِيْن سَلامَةَ صُدُوْرِهِم، وصَفَاءَ قُلُوْبِهِم على الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ولا يُخَالِفُ في ذَلِكَ إلا مُكَابِرٌ أو جَاهِلٌ!
ـ أنَّها تُثِيْرُ بَيْنَ النَّاسِ الشُّبُهَاتِ، وتُضَاعِفُ لَدِيْهِمُ الأوْهَامَ حَوْلَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؛ ومِنْهُ تُزَعْزَعُ الثِّقَةُ بالصَّحَابَةِ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ .
ـ أنَّ في نَشْرِهَا بَيْنَ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ خِلافًا لِلْحِكْمَةِ الدّْعَوِيَّةِ، والطُّرُقِ التَّعْلِيْمِيَّةِ .
كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُوْنَ أتُحِبُّوْنَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!» أخْرَجَهُ البُخَارِيِّ .
وكَذَا قُوْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : «مَا أنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً« أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وهذا مقال مستل من كتاب
تسديد الإصابة فيما
شجر بين الصحابة
ص 178-193
للشيخ الدكتور/ ذياب بن سعد الغامدي
([1]) «سِيَرُ أعْلامِ النُّبَلاءِ» للذَّهَبِيِّ ( 8/408)، (17/251) .
([2]) «شَرْحُ الطَّحَاوِيَّةِ» لابنِ أبي العِزِّ (2/748) .
([3]) «الإمَامَةُ» لأبي نُعِيْمٍ الأصْبَهانِيِّ (376) .
([4]) «مَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ» للرَّازِيِّ (136)، و«الطَّبَقاتُ» لابنِ سَعَدٍ (5/394)، و«الجَامِعُ لأحْكَامِ القُرْآنِ» للقُرْطُبِيِّ (16/122)، و«الإنْصَافُ» للبَاقِلأنِيِّ (69) .
([5]) انْظُرْ : «مِنْهَاجَ السُّنةِ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (6/254) .
([6]) «الجَامِعُ لأحْكَامِ القُرْآنِ» للقُرْطُبِيِّ (16/332) .
([7]) «مَنَاقِبُ الإمَامِ أحْمَدَ» لابنِ الجَوْزِيِّ (146) .
([8]) «رِسَالَةُ القَيْرَوانِيِّ مَعَ شَرْحِها الثَّمَرِ الدَّانِي في تَقْرِيْبِ المَعَانِي» لصَالِحِ الأزْهَرِيِّ (23) .
([9]) أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
([10]) «الرِّياضُ المُسْتَطَابَةُ في جُمْلَةِ مَنْ رَوَى في الصَّحِيْحَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ» (300) .
([11]) «العَقِيْدَةُ الوَاسِطِيَّةُ» مَعَ شَرْحِها لمُحَمَّدٍ هَرَّاسٍ (173) .
([12]) «فَتْحُ البَارِي» لابنِ حَجَرٍ (4/365) .
([13]) انْظُرْ : «عَقِيْدَةَ أهْلِ السُّنةِ والجَماعَةِ في الصَّحابَةِ» لناصِرٍ الشَّيْخِ (2/740) بتَصَرُّفٍ .
([14]) «السُّنةُ» للخَلألِ (3/501)، و«الشَّرْحُ والإبانَةُ» لابنِ بَطَّةَ (2689)، و«شَرْحُ أُصُوْلِ اعْتِقَادِ أهْلِ السُّنةِ والجَمَاعَةِ» للالْكائِيِّ (7/1241– 1270)، و«الصَّارِمُ المَسْلُوْلُ» لابنِ تَيْمِيَّةَ (3/1085) .