مقال الشيخ د/ ذياب الغامدي " آداب التعامل مع الكتب "

إنضم
11/08/2014
المشاركات
95
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
المملكه العربية

آدَابُ التَّعَامُلِ مَعَ الكُتُبِ

للكُتُبِ أهَمِّيَّةٌ كَبِيْرَةٌ ومَنْزِلَةٌ عَظِيْمَةٌ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا، ولاسِيَّما الكُتُبُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْهَا؛ حَيْثُ أوْلَوْهَا كَبِيْرَ عِنَايَةٍ وعَظِيْمَ رِعَايَةٍ، لأجْلِ هَذَا وغَيْرِهِ قَامُوا سِرَاعًا في تَقْيِيْدِ كُلَّ مَا مِنْ شَأنِهِ يَحْفَظُ للكِتَابِ مَكَانَتَهُ، ويَرْعَى لَهُ حُرْمَتَهُ، ويَصُوْنَهُ مِنَ التَّلَفِ والتَّمْزِيْقِ والإفْسَادِ وغَيْرِهِ مِنَ العَوَارِضِ؛ فعِنْدَهَا قَامُوا بتَسْطِيْرِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بصِيَانَةِ الكِتَابِ مِنْ آدَابٍ وأحْكَامٍ .
وعلى كَثْرَةِ الكُتُبِ الَّتِي اعْتَنَتْ بذِكْرِ آدَابِ الكِتَابِ؛ إلَّا إنَّ مِنْ أنْفَسِهَا وأجْوَدِهَا : كِتَابَ «تَذْكِرَةِ السَّامِعِ والمُتَكَلِّمِ» لابنِ جَمَاعَةَ، وكِتَابَ «تَعْلِيْمِ المُتَعَلِّمِ طَرِيْقَ التَّعلُّمِ» للزَّرْنُوْجِيِّ، وغَيْرَهُمَا .
ومَهْمَا كُتِبَ عَنْ آدَابِ التَّعَامُلِ مَعَ الكِتَابِ؛ إلَّا إنَّها كَثِيْرَةٌ مَبْثُوْثَةٌ هُنَا وهُنَاكَ، غَيْرَ أنَّني اجْتَهَدْتُ في جَمْعِ بَعْضِهَا مَعَ مَا فَتَحَهُ اللهُ تَعَالى عَليَّ في هَذِهِ العُجَالَةِ، فَكَانَ مِنْ تِلْكُمُ الآدَابِ مَا يَلي :
1ـ ألَّا يَقْرَأ الكِتَابَ أو يَحْمِلَهُ إلَّا على طَهَارَةٍ، تَعْظِيْمًا لمَا فِيْهِ مِنَ النُّصُوْصِ القُرْآنِيَّةِ والنَّبَوِيَّةِ .
جَاءَ في كِتَابِ «تَعْلِيْمِ المُتَعَلِّمِ» (111) للزَّرْنُوجِي رَحِمَهُ اللهُ : «فيَنْبَغِي لطَالِبِ العِلْمِ ألَّا يَأخُذَ الكِتَابَ إلَّا بالطَّهَارَةِ» .
وذَكَرَ أيْضًا عَنْ أحَدِ فُقَهَاءِ الحَنَفِيَّةِ قَوْلَهُ : «إنَّما نِلْتُ هَذَا العِلْمَ بالتَّعْظِيْمِ، فَإنِّي مَا أخَذْتُ الكَاغدَ (أيْ القِرْطَاسَ) إلَّا بالطَّهَارَةِ» .
ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ السِّرَخْسِيِّ الحَنَفِيِّ : «أنَّهُ كَانَ مَبْطُوْنًا (أيْ يَشْتَكِي بَطْنَهُ)، وكَانَ يُكَرِّرُ في لَيْلَةٍ (أيْ : يُرَاجِعُ العِلْمَ ويُذَاكِرَهُ مِنَ الكِتَابِ)؛ فَتَوَضَّأ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ سَبْعَ عَشَرَةَ مَرَّةٍ؛ لأنَّهُ كَانَ لا يُكَرِّرُ إلَّا بالطَّهَارَةِ .
2ـ ألَّا يَجْعَلَ الكِتَابَ خِزَانةً يَضَعُ فِيْهِ الكَرَارِيْسَ ونَحْوَهَا .
3ـ ألَّا يَجْعَلَهُ مَرْوَحَةً، أو مَكْبَسًا، أو مِسْنَدًا، أو مَقْتَلَةً للحَشَرَاتِ وغَيْرِهَا .
4ـ ألَّا يَجْعَلَهُ وِسَادَةً أو مِخَدَّةً، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ خِلافًا في تَوَسَّدِ الكُتُبِ؛ حَيْثُ كَرِهَ الحَنَفِيَّةُ وَضْعَ الكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ تَحْتَ الرَّأسِ للتَّوسُّدِ .
أمَّا المَالِكِيَّةُ والشَّافِعِيَّةُ فيَذْهَبُوْنَ إلى حُرْمَةِ التَّوَسُّدِ .
وأمَّا الحَنَابِلَةُ فعِنْدَهُم تَفْصِيْلٌ، فَهُم يَرَوْنَ حُرْمَةَ التَّوسُّدِ، وكَذَا الوَزْنَ بِهَا، والاتِّكَاءَ عَلَيْهَا إذَا كَانَ فِيْهَا قُرْآنٌ، فَإنْ لم يَكُنْ فِيْهَا ذَلِكَ كُرِهَ .
ولكِنَّ الجَمِيْعَ يَتَّفِقُوْنَ على جَوَازِ التَّوَسُّدِ للحَاجَةِ، كحِفْظِهِ مِنَ سَارِقٍ ونَحْوِهِ .
5ـ ألَّا يَرْمِي بِهِ على الأرْضِ مُبَاشَرَةً، دُوْنَ وَضْعٍ لَهُ برِفْقٍ، خَشْيَةَ التَّمَزُّقِ .
6ـ ألَّا يَضَعَهُ على الأرْضِ مُبَاشَرَةً، لمَا فِيْهِ مِنَ الامْتِهَانِ والابْتِذَالِ؛ إلَّا لمَا لا بُدَّ مِنْهُ، بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأرْضِ حَائِلًا، صِيَانَةً لَهُ عَنِ الرُّطُوْبَةِ وغَيْرِهَا .
7ـ ألَّا يَجْعَلَهُ مَفْرُوْشًا مَنْشُوْرًا على الأرْضِ، سَوَاءٌ عِنْدَ الكِتَابَةِ أو القِرَاءَةِ، بَلْ عَلَيْهِ أنْ يَضَعَهُ على كُرْسِيٍّ خَاصٍّ بِهِ، أو يَضَعَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ؛ كَيْلَا يَسْرِعَ تَقْطِيْعُهُ أو تَمْزِيْقُهُ .
8ـ ألَّا يُلَطِّخَهُ برِيْقِهِ أو ببِزَاقِهِ، كُلَّ ذَلِكَ بغَرَضِ تَقْلِيْبِ صَفَحَاتِهِ؛ خَوْفًا مِنْ إفْسَادِهِ وإتْلافِهِ .
قَالَ في «حَاشِيَةِ الرهُوني» (1/171) : «واشْتَدَّ نَكِيْرُ ابنِ العَربي على مَنْ يُلَطِّخُ أوْرَاقَ المُصْحَفِ، والعِلْمِ بالبزَاقِ؛ ليَسْهُلَ قَلْبُهَا، وجَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الجَهْلِ المؤدِّي للكُفْرِ، ومُرَادُهُ بذَلِكَ المُبَالَغَةُ في الزَّجْرِ لا الحَقِيْقَةَ!» .
9ـ ألَّا يَطْوِي أطْرَافَ أوْرَاقِهِ؛ خَشْيَةَ الإتْلافِ .
10ـ ألَّا يُعَلِّمَ عَلَيْهِ بعُوْدٍ أو بشَيءٍ حَادٍّ جَافٍّ، كُلَّ ذَلِكَ بغَرَضِ الإشْارَةِ والعَلامَةِ على مَوْضِعٍ يُرِيْدُهُ، بَلْ يُعَلِّمُ المَوْضِعَ بوَرَقَةٍ ونَحْوِهَا .
11ـ ألَّا يَضَعَ كَثِيْرًا مِنَ الكُتُبِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ خَشْيَةَ التَّلَفِ والتَّمَزُّقِ .
12ـ ألَّا يَضَعَ كَبِيْرَ الكُتُبِ فَوْقَ صَغِيْرِهَا؛ كَيْلا يَكْثُرَ تَسَاقُطُهَا وتَمْزُّقُهَا.
13ـ ألَّا يَضَعَ الكِتَابَ على وَجْهِهِ، وهُوَ طَرَفُهُ الَّذِي يُفْتَحُ مِنْ عِنْدِهِ؛ خَشْيَةَ الإفْسَادِ والتَّمَزُّقِ والتَّخَلُّعِ .
14ـ ألَّا يَضَعَهُ عُرْضَةً للشَّمْسِ، خَشْيَةَ الإفْسَادِ .
15ـ ألَّا يَضَعَهُ في سَابِلَةِ الطَّرِيْقِ، وهُوَ المَمَرُّ الَّذِي تَطَأهُ الأقْدَامُ .
16ـ ألَّا يُبْقِيْهِ مَفْتُوْحًا، أو مَقْلُوْبًا لفَتْرَةٍ طَوِيْلَةٍ، إلَّا للحَاجَةِ؛ خَشْيَةَ التَّلَفِ .
17ـ ألَّا يَفْتَحَ صَفَحَاتِهِ بقُوَّةٍ وبسُرْعَةٍ، بَلْ بِهُدُوْءٍ ووَقَارٍ، خَشْيَةَ تَمَزُّقِهِ وسُقُوْطِ أوْرَاقِهِ .
18ـ ألَّا يتَخَطَّاهُ برِجْلِهِ .
19ـ ألَّا يَمُدَّ إلَيْهِ رِجْلَهُ .
20ـ ألَّا يَتَّكِئ عَلَيْهِ بحَالٍ، إلَّا إذَا خَافَ سَرِقَتَهُ .
21ـ ألَّا يَضَعَ عَلَيْهِ شَيْئًا ممَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ العِلْمِ وأدَوَاتِ الكُتُبِ، إلَّا مَا تُصَانُ بِهِ كقِمَاشٍ ونَحْوِهِ .
22ـ ألَّا يَضَعَهُ في مَكَانٍ رَطِبٍ؛ كَيْلا يَفْسُدَ وتَسْرِيَ فِيْهِ الأرَضَةُ الأكُوْلَةُ، بَلْ عَلَيْهِ أنْ يَحْتَفِظَ بِهِ في مَكَانٍ هَوَاؤُهُ طَلِقٌ جَافٌّ .
23ـ ألَّا يَضَعَهُ في أرْفُفِ المَكْتَبَةِ عِنْدَ رَصِّهِ مَضْغُوْطًا؛ كَيْلَا يَتَمَزَّقَ .
24ـ ألَّا يَجْعَلَهُ مَائِلًا فَوْقَ أرْفُفِ المَكْتَبَةِ؛ كَيْلَا يَفْسُدَ ويتَمَزَّقَ .
25ـ ألَّا يَسْحَبَهُ مِنَ الأرْفُفِ بأطْرَافِهِ؛ كَيْلَا يَتَمَزَّقَ، لِذَا كَانَ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْ سَلامَتِهِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ وسَحْبِهِ .
26ـ ألَّا يَحْمِلَهُ مِنْ أطْرَافِهِ، كَيْلَا يتَمَزَّقَ، بَلْ يَحْمِلُهُ جُمْلَةً، أو يَحْمِلُهُ مِنْ كَعْبِهِ العَرِيْضِ .
27ـ ألَّا يَجْعَلَهُ عُرْضَةً للغُبَارِ والأتْرِبَةِ .
28ـ ألَّا يَهْجُرَهُ دُوْنَ تَنْظِيْفٍ أو تَصْلِيْحٍ، بَلْ يَتَعَاهَدُهُ بَيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ، احْتِرَامًا لَهُ، وتَعْظِيْمًا لمَا فِيْهِ .
29ـ أن يُحَسِّنَ تَجْلِيْدَهُ وتَغْشِيَتَهُ؛ كَي يَحْفَظَهُ لفَتْرَةٍ طَوِيْلَةٍ مِنَ العَوَامِلِ الجَوِّيَّةِ والزَّمَنِيَّةِ .
30ـ ألَّا يَجْعَلَهُ في مَكَانٍ تُطَالُهُ أيْدِي العَابِثِيْنَ : كالأطْفَالِ أو الجَاهِلِيْنَ، أو غَيْرِهِم، بَلْ يَجْعَلُهُ في حِرْزٍ مَكِيْنٍ، كالأدْرَاجِ المُغْلَقَةِ، أو دَاخِلِ غُرَفٍ مُحْكَمَةٍ .
31ـ ألَّا يَضَعَهُ قَرِيْبًا مِنْ كُلِّ مُفْسِدٍ ومُتْلِفٍ : كالمَاءِ والنَّارِ والفِئْرَانِ ونَحْوِهَا .
32ـ وأخِيْرًا؛ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لهَا بالحِفْظِ والصِّيَانَةِ .
فَهَذِهِ الآدَابُ والأحْكَامُ وغَيْرُهَا؛ لا تَجُوْزُ في حَقِّ الكُتُبِ؛ لمَا فِيْهَا مِنَ الامْتِهَانِ والابْتِذَالِ والإفْسَادِ، ولكَوْنِهَا مُجَانِبَةً لتَعْظِيْمِ شَعَائِرِ الله تَعَالى، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى : «ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّم شَعَائرَ الله فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ» (الحج: 32) .
* * *

ý تَنْبِيْهٌ : اعْلِمْ رَحِمَنِي اللهُ وإيَّاكَ؛ أنَّني مَا تَكَلَّفْتُ شَيْئًا هُنَا مِنْ آدَابِ الكِتَابِ، أو اسْتَكْثَرْتُ مِنْ ذِكْرِهَا؛ إلَّا إنَّني طَالِبُ عِلْمٍ مُغْرَمٌ بالكُتُبِ وعَاشِقٌ لهَا مُنْذُ أنْ صَرَفَ اللهُ قَلْبِي للعِلْمِ، فَلا تَظُنَّ بي غَيْرَ الَّذِي قُلْتُهُ؛ فَوَاللهِ إنَّ لي مَعَ الكِتَابِ حَالًا لا يَعْلَمُهُ إلَّا خَاصَّةُ أهْلي، فَكَيْفَ لَوْ رَأيْتَنِي وقَدْ صُرْتُ وكُتُبِي كالجَسَدِ الوَاحِدِ؛ أتَألَّمُ بآلامِهَا وأُعَاني بمُعَانَاتِهَا، وأفْرَحُ بسَلامَتِهَا، وأحْزَنُ بأعْطَابِهَا ومَضَرَّاتِهَا، ورُبَّما تَأوَّهْتُ مِنْ بَعْضِ مَا بِهَا؛ ورُبَّما وَصَلَ حُبِّي ببَعْضِ كُتُبِي أنَّني أعْرِفُ عَنْهَا أكْثَرَ ممَّا أعْرِفُهُ عَنْ أبْنَائِي؛ أعُرِفُ مِنْهَا المَمْزُوْقَ مِنَ المَفْتُوْقِ، والمُتَخَلِّعَ مِنَ المُتَصَدِّعِ، وأعْرِفُ المَشْتُوْرَ مِنَ المَقْشُوْرِ، وأعْرِفُ مِنْهَا مَا لَحِقَهُ بَيَاضٌ، والَّذِي أصَابَهُ مِقْرَاضٌ!
كَمَا أنَّني أعْرِفُ لكُلِّ كِتَابٍ في مَكْتَبَتِي : رَفَّهُ ومَكَانَهُ، وطَبْعَتَهُ وألْوَانَهُ، وطَابِعَهُ ونَاشِرَهُ، ومُؤلِّفَهُ ومُحَقِّقَهُ، وغَيْرَ ذَلِكَ ممَّا يَعْرِفُهُ الآبَاءُ عَنْ أبْنَائِهِم، ومَا قُلْتُ هَذَا إلَّا تَحْضِيْضًا لطُلَّابِ العِلْمِ إلى مَحَبَّةِ وتَعْظِيْمِ الكِتَابِ الَّذِي يَدْرُسُوْنَ!
ومَا جَاءَ هَذَا التَّنْبِيْهُ مِنَّي، إلَّا مِنْ بَابِ نِعَمِ الله الَّتِي يَسُوْغُ التَّحَدُّثُ عَنْهَا، لا جَرَمَ في مِثْلِ هَذَا المَكَانِ!
وقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَةٌ عِنْدَ أرْبَابِ الإخْلاصِ؛ أنَّ الكَلامَ عَنِ النَّفْسِ غَثٌّ مَمْجُوْجٌ؛ لكِنَّهَا لَوْعَةُ صَدْرِ تَحَشْرَجَتْ في الصُّدُوْرِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ مُدَافَعَتُهَا، ومَا أرَدْتُ مِنْهَا إلَّا التَّذْكِيْرَ، واللهَ أسَألُ لي المَغْفِرَةَ والإخْلاصَ، اللَّهُمَّ آمِيْن!

وهذا مقال مستل من

كتاب صيانة الكتاب ص 277

للشيخ الدكتور / ذياب بن سعد الغامدي


 
عودة
أعلى