عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 136
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
أخبرني الإخوة من إدارة التعليم في مدينة النماص أَنَّ أستاذي النبيل محمد بن علي الهرفلي البكري الشهري سيتقاعد؟ فتساءلت: وهل يتقاعد المعلِّمُ والمُربي ؟! ورجعت بي الذاكرة أربعة وثلاثين عاماً عندما كنت طالباً في الابتدائية ، عندما تولى إدارة المدرسة الأستاذ محمد بن علي الهرفلي خلفاً للأستاذ فراج بن علي العسبلي ، فسعدت بذلك كثيراً ، وزاد من سعادتي أنه كان يقوم خطيباً يوم الجمعة ، فارتبط في ذهني خطيب الجمعة بمدير المدرسة ، حتى ظننتُ أنَّ مديرَ المدرسة لا بُدَّ أن يكون مع ذلك خطيباً للجمعة ! ثم مضت السنوات في المراحل التالية كأحلى ما تكون السنوات ، وكانت حافلةً بِمَعاني التربية الجادة ، والتعليم الصادق ، الذي يُمزَجُ فيه تلقينُ العلمِ وتدريسه ، بالأدب والتربية فلا يطغى أحدهما على الآخر ، فتخرَّجَ على يديهِ ويدي أمثاله من أساتذتنا النبلاء ، ومدرسينا الفضلاء عددٌ كبير من الطلبةِ الذين يَحفظون لهم الجميلَ ، ويذكرون لهم الفضلَ ، ممن سبقوني وممن جاءوا بعدي من الزملاء ، فقد بقي الأستاذ محمد مديراً للمدرسة الخالدية مدةً طويلة.
وكغيري من الطلابِ الذين أحسن إليهم الأستاذ محمد الهرفلي – أحسن الله إليه - أتذكر مواقفَ نَبيلةً ، وأيادٍ بيضاء له عليَّ ، أَعُدُّ منها ولا أُعدِّدُها ، كما قال المتنبي :
لَهُ أَيادٍ إِلَيَّ سابِقَةٌ * أُعَدُّ مِنها وَلا أُعَدِّدُها
وأكتفي بثلاثة مواقف ، لا زالت عالقة في ذاكرتي ، أعدها من أجمل الذكريات التربوية والتعليمية في آن :
الأول: كنت واقفاً في طابور الصباح وأنا في السنة الرابعة ، وانتهينا من أداء التمارين الرياضية ، ثم أنصتنا لاستماع فقرات الإذاعة الصباحية ، والأستاذ محمد يمر بين الصفوف ، ويتفقد الطلاب ، وأنا منشغل بالاستماع للإذاعة ، وإذا بيد الأستاذ محمد الهرفلي تمتد برفق وتسحبني للذهاب إلى مكان الإذاعة ، فخفتُ وتلكأَتُ عن الذهاب خوفاً من العقاب ، وظننت أنني قد أسأت في وقوفي ، أو فعلت ما أستحق عليه العقاب ، حيث لم أعهد مَنْ يُذهَبُ به لذلك المكان إِلا للعقابِ ، وهو –حفظه الله - يضحك ويسحبني ، وأنا أقاومه حتى كاد ثوبي يتقطع من الخوف ، فطمأنني أَنَّه إِنَّمَا يريد أن يُكرِّمَني لِنَظافةِ ثوبي أمام الطلاب ؛ حتى يكون ذلك مكاناً للقدوة والأسوة!
ولا أشك أَنَّ الأستاذ محمد قد نسي هذا الموقف لكثرة ما مر به من المواقف مع طلابه ، وأما أنا فلم أنسه ، ولا زلت أتذكره ، وأدعو له بِخَيرٍ على حرصه على تربيتنا وتعليمنا بكل وسيلةٍ ، وقد وقع مني ذلك الموقف موقعاً ، جعلني أحرص على نظافة ملبسي كلما ذهبت للمدرسة ، في وقتٍ كانَ بقاءُ الثوب نظيفاً من الصعوبة بِمَكانٍ لكثرة المُشاجراتِ بين الطلاب .
الثاني : كعادة الطلاب الصغار ، تشاجرتُ يوماً مع أحد الزملاء في الفصل ، فاحتدم الشجارُ حتى جُرحَ زميلي ، فاضطرب الطلاب ، وعَلَت الأصواتُ ، فبلغ الخَبَرُ للأستاذ محمد الهرفلي مدير المدرسة ، فجاء إلى الفصل ، ولم يكن الأمر بحاجة إلى سؤالٍ عن المخطئ ، فقد كان زميلي يبكي ، وآثارُ الجراح باديةً عليه ، وأنا أترقب العقاب ! فما كان من الأستاذ محمد إلا أَنْ هدَّأَ من روع زميلي ، وأخذنا إلى مكتبه معاً ، ثم نصحنا نصيحة أبوية صادقةً بعدم العودة ، وأن المدرسة ليست للمشاجرات والمخاصمات وإِنَّمَا هي للتعليم والتربية ، وأصلح بيننا فرضي صاحبي ، وظننت أن الأمر قد انتهى فحمدت الله على السلامة ، ولكن الأستاذ محمد ضحك ، وقال بقيت مسألة مهمةٌ ، وهي جزء من الصلحِ بينكما ، ثُمَّ تناول العصا من تحت مكتبه وبدأ بي فأعطاني بِهَا ما فَتَحَ الله عليه به ، حتى ذهبت وساوس الشيطان من صدري. وظنَّ صاحبي أَنَّ العقابَ لي وحدي ، حيث كان هو المتضرر من المشاجرة ، فلم يكترث للأمر ، ولم يكره ما أصابني. فالتفت إليه الأستاذ مُحمد الهرفلي وهو يضحك ، وقال: بقي نصيبُك ! ولم يكن هناك وقت للتملص ، فقد عاجله الأستاذ محمد بما تيسر ، ثم انصرفنا أنا وإياه بأحسن حال ، ولا زلت أتذكر ذلك الموقف حتى اليوم ، وأقول : جزى الله الأستاذ محمد خيراً على حسن تربيته ، فقد أحسن مزج الثواب بالعقاب ، فكان لها أبلغ الأثر في نفوس الطلاب ، فقد كففنا عن المشاجرات بعدها ، وعرفنا أن المدرسة للتربية والتعليم فحسب ، ورحم الله تلك العصا ، فقد كثرت شكوى المعلمين من قلة مبالاة الطلاب ، وعدم اكتراثهم بعد أن رفعت العصا ، ومنع استعمالُها في المدارس ، واستعمال العصا في مكانها من وسائل التربية التي لا غناء عنها ، ولو كَرِهَ ذلك مَنْ كَرِه .
الثالث: جئتُ يوماً إلى أستاذي الكريم أستأذنه أن أخطب بالناس يوم الجمعة بعد أن تخرجت من الثانوية والتحقت بكلية الشريعة، ولم أكن خطبتُ الجمعةَ قبلَها في مسجد جامع، فوافق ولم يردني ، ودعا لي بخير ، وكنت أخشى أن يردني معتذراً بصغر سني ، وقلة خبرتي بمثل هذه المواقف فوطنت نفسي على هذا ، فلما وافق فتح لي باباً لم أعهده ، وهو مواجهة الناس في يوم الجمعة وهو موقف مهيب يعرفه من جربه لأول وهلة ، ولا سيما أنه المسجد الذي يصلي فيه جَميع القبيلة ، فأعددت للأمر عدته ، وتوكلت على الله وخطبت تلك الخطبة ، وتجاوزت تلك الخطبة بسلام ، ولا زلت أجني ثمرة تفضله علي بالموافقة حتى اليوم ولله الحمد ، فلو لم يوافق لربما أعرضت عن الأمر بالكلية ، وحُرِمْتُ من خَيْرٍ عظيمٍ.
** ** **
وأحب أن تبلغوا أستاذي الكريم أبا ظافر أن جهده في تعليمنا لم يذهب سدى ، وأنَّ ما تعب من أجله قد تحقق بتوفيق الله ، ورحم الله شوقي عندما قال :
أَرأَيتَ أَعظمَ أو أَجَلَّ من الذي * يَبْنِي ويُنشئُ أَنفُسَاً وعُقُولاً ؟
ونحن نقول:لم نر أعظمَ وأَجَلَّ منه ، فالمعلِّمُ الموفقُ هو الذي يتخرَّجُ على يديه سواه ، بل حتى المعلِّمُ الناجحُ ثَمرةُ مُعلمٍ ناجحٍ أيضاً ولا تَزِدْ. وما بُعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلا مُعَلِّمَاً للخَيْرِ ، كما قال الله: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾ [البقرة :129] ،ونحوها في آل عمران [164] ، والجمعة [2] ، وهذا فَخْرٌ لكلِّ معلِّمٍ مُحتسبٍ ، يسير على هدى من الله في تعليمه وتربيته ، ودع عنك مَنْ يُهوِّنُ من شأن المعلِّم فينا ، فهو لم يدر ما الخَبَر ، وما أحوجه إلى مُعلِّم ، وما أحوج أمتنا الإسلامية في هذه المرحلة إلى معلِّمٍ صادقٍ يُحسنُ التعليم والتربية كالأستاذ محمد الهرفلي ، فما تأخرت أمتنا في ميادين كثيرة إلا بسبب التأخر في التعليم والتربية ، وما تقدمت الأمم علينا إلا لتقدمها في هذا الأمر ، وفطنة القائمين عليها إلى أهميته ، نسأل الله أن ييسر لأمتنا أمراً رشداً ، وأن يوفق القائمين على التعليم فيها لما ينفعها في الدنيا والآخرة.
بارك الله في الأستاذ محمد الهرفلي ، وفي جميع أساتذتنا الفضلاء ، وجزاهم الله عنا خير الجزاء ، فقد كانوا لنا نعم الأساتذة ، ومن صَنَعَ مثلَ صنيعهم ، وعَلَّمَ مثل تعليمهم ، فما تقاعد ، وإنما يَمتدُّ تعليمه وتربيته في تلاميذه وطلابه الذين سعى في تعليمهم وتربيتهم، ومَنْ كانت هذه حالهُ ، لم يُقَل عنهُ : تقاعدْ.
هذه كلمةٌ صادقةٌ من تلميذٍ مقصر، في حق أستاذه صاحب الفضل ، وهذا شيء من الوفاء بحقه ، وجزاؤه الأكبر مدخر له عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلآ من أتى الله بقلب سليم .