مقالي ... ( ما أصعب الكتابة ! )

أبو مالك العوضي

فريق إشراف الملتقى المفتوح
إنضم
12/08/2006
المشاركات
737
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
مقالي ( ما أصعب الكتابة ! )

ما أصعب الكتابة! - فن الكتابة - موقع حضارة الكلمة - شبكة الألوكة

ما أصعبَ الكتابةَ إذا لم تكن نابعةً من أعماقِ نفسك، وخطَراتِ فِكرك! فإن الذي يريد أن يَقْسِر قلمَه على الكتابة كمَن يبتغي للسيارة أن تعمل بغير وقود.

وليس لهذا الأمرِ تعلُّقٌ بنقص أدوات الكتابة ومَلَكاتها عند الكاتب؛ والدليل على ذلك ما يُروى كثيرًا عن الشعراء والأدباء والكُتَّاب - الذين لا يَختلف اثنان على تبوُّئِهم قممَ البيان في عصورهم - أنهم أحيانًا يتوقفُ منهم اللسانُ فلا يستطيع أن يأتي بجملة، ويتوقف القلمُ فلا يستطيع أن يكتب سطرًا؛ بل يتوقفُ العقل فلا يستطيع أن يَنْظِم فكرةً أو يُبدع رأيًا!

وإذا كان مَا مضى عجيبًا مع كونه حقًّا، فإن أعجبَ منه - عند العقلاء - أنْ يَكثرَ كلامُ مَن لا يُحسِن الكلامَ، ويَكثر شِعرُ مَن لا يحسن الشِّعر، وتَكثرَ تصانيفُ من لا يحسن التصنيف.

وقد زَعموا أنَّ كاتبًا مشهورًا مِن هذه الطائفة، قد جاء يومًا حزينًا إلى مساعده، فسأله المساعد عما يُسْلِمُه إلى هذا الحزن العميق، والأسى العظيم؟ فقال له: تخيَّلْ - يا صديقي - أنني بعد عشْرِ سنواتٍ مِن الكتابة، قد تَيقَّنْتُ أنَّني لا أصلُحُ للكتابة على الإطلاق؟!

فقال له المساعد حينئذٍ: وهل تَنوي التوقف عن الكتابة؟
فقال الكاتب: كيف وقد صِرْتُ مشهورًا كما ترى؟

وعلى العكس مِمَّا سَبق، فما أصْعَبَ تَرْكَ الكتابَةِ لِمَنْ تلَجْلَجَتْ في صدرِه الأفكارُ، وتزاحَمت في عقله لَمَحاتُ الأنوار! لا سيما فيما يجيء مِن الومضات التي تذَهب وتَضِيع إن لم تُقَيَّدْ في الأوراق والأسفار، والدليلُ على ذلك - أيضًا - ما يَحكونه عن بعض الشعراء إذ يَمرضون إذا مُنعوا مِن قول الشعر، وما قولُهم: "حالَ الجريضُ دُون القريض" عنكم ببعيد.

هذا، فضلاً عما يَحْكونه عن تأسُّفِ كثيرٍ مِن العلماء على ضَياع بعض الأفكار العظيمة التي تَأتيهم وَقتَ الصفاء والتأمُّل، كما ذَكر ابنُ الجوزي وابنُ جني وغيرُهُما.

ومِن الطرائف في هذا الباب ما حكاه (إبراهيم عبدالقادر المازني) عن نفْسِه أنه لا يَستطِيع الجمْعَ بين القراءة والكتابة؛ بل إنه أحيانًا يَشعر بالجوع إلى القراءة، فيذهب إلى المكتبة، ويشتري بكل ما معه من مالٍ كتبًا، ثم يَظلُّ يقرأ ويقرأ، حتى يَشعر بما يُشبِه التُّخمة، ثُم يَشعر حِينَها أنَّه في حاجةٍ للكتابةِ، فيَظل يكتب ويكتب؛ حتى يُفرغَ شحْنةَ الأفكار التي خَزنها.

فهل شعرتَ يومًا أنك بحاجة إلى أنْ تكتب؟
هل شَعرت أنَّك بحاجةٍ إلى أَنْ تُمْسِك بالقلم، فتُفرغَ في سطوره ما يعْتَلِج في قلبِك مِن لوامِعِ الأفكار، وخيوطِ نَسيج الأنوار، حتى تَضيق بكلِّ مَن حولَك، وتوَدُّ لو كنتَ وحْدَك مع القَلم والقِرْطاس تبُثُّه شَجَنَك وحنينَك، وتُفْضِي إليه بأسرارك ومكنونِ أفكارك، حتى تُزيحَ عن كاهلِك عناءَ هذه الأثقال مِن الأفكار التي ضِقْتَ ذَرْعًا بحملها وحدك!

ألا تعجبُ - يا أخي - إذا سمعت الشعراء يشترطون في الشاعر الجيِّد أن يَنسى ما كان يحفظُه مِن الشعر مِن قبل! مع أنَّ أصحاب كلِّ صناعة يَعرفون أهمية الحِفْظ في صناعاتهم؛ حتى لا يُعدَّ فقيهًا عندهم مَن لم يكن له محفوظٌ مِن الفقه، ولا يُعدَّ محدِّثًا مَن ليس عنده رصيد من الحديث، ولا يعدَّ لغويًّا مَن لم يكن لديه قدْرٌ مِن حفْظٍ لِلُّغة!

فما بالهم في الشعر خالفوا هذا المَهْيَع، وتنَكَّبوا ذلك الطريق؟!

الحقيقة أنهم ما خالفوا ولا تنكَّبوا؛ بل بَالغوا وطلبوا درجةً أعلى، ومرتبةً أسمى، هي مرتبةُ الإبداع والابتكار؛ لأنَّ الملَكاتِ لا تزول بزوال مفرداتها؛ إذِ الملَكةُ صِفَةٌ راسخة في النفس، لا يمكن زوالها، فالفصيح الذي لديه ملَكة الفصاحة، والبليغ الذي لديه ملكة البلاغة، لا يمكن أن يُقال: إنه فَقد جزءًا مِن هذه الملكة بنسيان شيء مِن محفوظاته.

وهكذا الفقيهُ، إذا كان راسخَ الملكة، لا نَرفع عنه اسمَ الفقه وإن نَسِيَ بعضَ المتون؛ لأنه يَستطيع تحصيلَ المسائل عن قريب بهذه الملكة الراسخة في نفسه.

وهكذا المحدِّثُ، ألا تراه يُقْسِم بالله العظيم أنَّ هذا الحديثَ خطأ، وأنَّ ذاك مقلوب، وأنَّ هذا صحيح، وأن ذاك باطِل، مع أنه ربما لم يسمع به مِن قبْلُ قطُّ، ولا تَرى حُكْمَه هذا يتَأثَّر بنسيان بعض ما كان يحفظه، إذا كانت الملكَةُ راسخةً عنده.

وقد تعَرَّض الشاطبِيُّ في "الموافقات" لشيءٍ قريب مِن هذا، فذَكر أنَّ العالِم إذا كان تامَّ العلم لا يُمكنه أنْ يخالف عِلْمَه؛ لأنَّ هذا العلمَ إذا كان ملكةً راسخةً، فهو - لا بُدَّ - حاملٌ صاحبَه على العمل، وإلا لم يكن مَلكةً حقيقيَّةً، ومِثْل ذلك الأعرابيُّ الفصيحُ الذي لا يَستطيع أن يَحملَ لسانَه على اللحن أصلاً؛ لأن الإعرابَ لديه سليقة.

ولعلَّ هذا هو السرُّ الكامن وراءَ قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم – ((يُلهَمُون التَّسبيحَ كما يُلهَمون النفَس))؛ رواه مسلم؛ إشارةً إلى بلوغِهم أعلى درجاتِ العبادة، وهي الملكة الراسخة.

هذه الملكةُ التي نتكلمُ عنها، هي الغاية التي ينبغي أن يسعى طالبُ العلم إليها؛ فلا الحِفْظُ المجرَّدُ، ولا الفهم المجرد هو الغاية، ولا كثرةُ القراءة والمطالعة هي الغاية، ولا حتَّى استحضارُ المسائل والدلائل هي الغاية.

بل كلُّ ما سبق وسائلُ وآلاتٌ يُقصَد بها الوصولُ إلى هذه الملَكة، وبيانُ ذلك أنَّ هذه كلَّها أعراضٌ يمكن زوالُها، فإذا زالَتْ زال الوصف المتعلِّق بها عن صاحبها، أما الملَكات فهي أمورٌ ثابتةٌ في النفس لا يمكن زوالها.

ويمكِنُنا أن نشبِّه هذه الملكةَ بخاصيةِ الجذب في (البوصلة)؛ أتعرف كيف تُصنَع البوصلةُ يدويًّا؟ كانوا يَعمدون إلى حديدةٍ ومغناطيس، ثم يحكُّون المغناطيس بالحديدة في اتجاه واحد مِرارًا وتَكرارًا، إلى أنْ تنتقِلَ خاصية الجذب إلى الحديدة، وبعد ذلك تُعَلَّق الحديدةُ مِن منتصفِها، فتتجه إلى الشمال والجنوب مباشرة.

فالمغناطيس يشبه مصدر العلم، كالمعلِّم مثلاً أو الكِتَاب، والحديدة تشبه المتعلم، وعدد مرات الاحتكاك تشبه المسائل التي تُعْرَض على المتعلِّم ليقبلها، ومِن الواضح - هنا - أنَّ وجود القابلية عند المتعلم شرطٌ أساسي.

والإشارة إلى الاتجاه الصحيح تُشبه الإصابة في الرأي ومعرفة الحق.

وكلما زادَتْ مراتُ الاحتكاك، ازدادَتْ قابليةُ الجذب، وزادت دقةُ الإشارة.

ومِن الواضح أنَّ مرَّاتِ الاحتكاكِ نفسَها لا تَعرفُها الحديدةُ، ولا يضرُّها ذلك؛ لأنها احتفظتْ بالمطلوب، وهو خاصية الجذب التي تشبه هذه الملكة الراسخة.

وهذا المثال لعله يوضِّح السِّرَّ الكامنَ وَراء ما يُنسب لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: العلم نقطة وسَّعها الجاهلون.

وهذه الملَكة هي - أيضًا - الأمر الواجب توَفُّرُه في المجتهد، والدليل على ذلك أنه ما من شرط يُشترط في المجتهد إلا ويُمكن تخلُّفُه - أو تخلف جزء منه - عن بعض المجتهدين في بعض الأحيان، ومع ذلك لا يُسلَب عنهم وصفُ الاجتهاد اتفاقًا، فما مِن آية من كتاب الله إلا ويُتصوَّر خلوُّ المجتهد عن معرفتها بعينها، وإن كان عارفًا بباقي القرآن، وما مِن حديث إلا ويُتصور خلوُّ المجتهد مِن معرفته، وإن كان عارفًا بباقي السنة، وهكذا في جميع مسائل العلوم.

ولكن ينبغي أن يفرَّق بين غياب نصٍّ معيَّن، وغياب معنًى كليٍّ، فإن المجتهد قد يَخفى عليه حديثُ الأعمال بالنيات مع شهرته، ولكن لا يمكن أن يخفى عليه أن النية أصلٌ مِن أصول الشريعة؛ لأن هذا الأصل ثَبَت معناه في كثير مِن النصوص، فغيابُ كلِّ هذه النصوص عن المجتهد يَقدح في بلوغه رتبةَ الاجتهاد، أما غيابُ نصٍّ واحدٍ منها فلا يَقدح.

فالحاصل أنَّ الأصولَ الشرعية المعلومةَ ثبَتت في عشرات النصوص، وغِيَاب بعضِ أفرادِ هذه النصوص عن المجتهد لا يَمنع من بلوغ باقيها إليه، ومن ثَم وقوفُه على الأصول الشرعية الثابتة، فإذا عرَف المجتهدُ الأصلَ الشرعي، وصار ملكةً راسخةً لديه، فلا يَعيبه - بعد ذلك - أن يغيب عنه بعضُ النصوص التي تدل على هذا الأصل.

والذين لم يَعتدُّوا بخلاف أهل الرأي بنَوْا قولَهم على أنهم جَهِلوا جمهرة السنة، فلا ينبغي أن يُعتدَّ بأصولهم؛ لأنها مبنيةٌ على استقراء ضعيف.

وكذلك الظاهرية، ذهب بعض العلماء إلى عدم الاعتداد بخلافهم؛ لغياب بعض الأصول الثابتة شرعًا عنهم في وسائل الفهم والاستنباط.

والإمامية والزيدية طَعنوا في الأصول المعلومة لتلقِّي الأخبار، فسدُّوا - بذلك - الطريقَ على أنفسهم في معرفة هذه الأصول المعلومة؛ فلذلك لا جرم لم يَعتد بخلافهم بعضُ العلماء.

والذين أنكروا التواتُرَ المعنويَّ - أيضًا - سدُّوا على أنفسهم باب العلم؛ لأن التواتر اللفظي لا يكاد يوجد إلا في القرآن، وإن وُجد فالفائدة إنما تحصل منه إن عرف معناه، ومعرفة معناه لا سبيل إليها بغير التواتر المعنوي.

وهذه الملكة الراسخة السابق ذكْرُها هي التي جعلتْ بعضَ المحدِّثين يقولون: إعلالُنا الحديثَ عند الجُهَّال كَهَانة، وبعضهم قال: الدليل على صحة قولي أن تسألني وتسأل فلانًا وفلانًا مِن أهل الحديث، فإن اتفقنا فذاك، فأحال على اتفاقهم.

وهذه الملَكة هي التي جعلت الشافعيَّ يقول عن إحدى المسائل: أجد بيانَها في قلبي، ولكن لا ينطق به لساني.

وهي التي جعلت أهلَ الاستحسان يقولون: الاستحسان دليلٌ يَرِد على خاطر المجتهد، ولا يستطيع التعبيرَ عنه.

وهي التي تجعل كثيرًا منا يجزم بالقول في كثير من الأمور، مع أنه لا يستطيع إقامة الدليل عليه، ولا دفع الشبهات عنه.

وكثير من المتأخرين غفل عن هذه الملكة وأهميتِها البالغة، فصار يكثر من الشروط الواجبِ توافرُها في المجتهد؛ ظنًّا منه أنَّ الإكثار مِن هذه الشروط يسدُّ الباب على العابثين والجاهلين؛ لئلا يدخلَ في العلم مَن لا يعلم، وغفلوا - أولَ الأمر - أن هذه الشروط تجعلُ مِن المحال أن يتحقق ذلك في أي إنسان؛ لأنها شروط خيالية لم يَستَقْرُوها مِن عالَم الواقع، ثم طال عليهم الأمَدُ، فالتزموا لوازمَ ذلك - ولم يكن لهم بدٌّ - فزعموا أنَّ باب الاجتهاد قد أُغلق، ولم يَعُد هناك مجتهِدٌ على الإطلاق، بل لا يمكن وجودُه بعد ذلك!

فنصيحتي لك يا طالب العلم: أن تحرص على تحصيل هذه الملكة، ودَعْك مِن إرجاف المرجفين!

ومِن أهم فوائد هذه الملكات العلمية الراسخة في النفس، أنها لا يمكن أن تصاب بالمرض العصْري الشهير الذي يدعونه: (المراجعات الفكرية)!

ويزعمون أنه أمر إيجابي ومهِمٌّ جدًّا لكل عالم وباحث ومفكِّر، وهذا خطأ فاحش، وغلَطٌ عظيم جِدًّا؛ لأن العالِم لا يمكن أن يكون عالمًا إلا إذا كان لديه علم، وهذه بَدَهِية لا تحتاج إلى مناقشة، فإذا كان كل شيء يعرفه يحتَمِل الخطَأَ، ويحتمل المراجعةَ الفكرية، ويحتمل، ويحتمل، فمعنى هذا أنْ ليس لديك شيءٌ موثوق به على الإطلاق، فأي علم لديك إذًا؟!

غير أنه مِن المهم أنْ نعْلم أن حصولَ ملكة العلم في النفس لا يَستلزم القدرةَ على تبليغه، أو التأليف فيه، أو إقامة الحجة عليه، أو إزالة الشبهات عنه.

فهذه ملكاتٌ أخرى مهمةٌ لطالب العلم حتى يكون لعلمه قَبولٌ ولكلامه شأن؛ ولأنَّ العلم إذا لم يُبَلَّغْ للناس كانت جدواه مقصورةً على صاحبه، ولا شك أن الأمر المتعدِّي أعظم نفعًا وأوسَعُ عائدةً مِن الأمر القاصر، وهذا هو السببُ في أهمية علوم البيان وملَكة الكلام لطالب العلم؛ بل إنَّ النظر والتأمل في التاريخ يدُلُّنا على أنَّ أكثر الناس تأثيرًا وأوسعَهم انتشارًا، كانوا مِن ذوي اللسان البارع والبيان الساطع، بحقٍّ كان ذلك أو بباطل.

ومِن المهِمِّ - كذلك - أن نعلم أنَّ حصولَ ملكَةِ العلم يَستلزم التفريقَ بين المعلوم والمظنون، وبين ما يَحتمل الخلاف وما لا يحتمله، فالعالم هو الذي يَعرف متى يَسُوغ الخلافُ ومتى لا يسوغ، أما ضِيقُ العَطَن وضَعْفُ الاطلاع فهو داءُ العصر؛ بل داء كل عصر، يَحمِل صاحبَه على إتيان الجهالات، والوقوع في المهلكات، وما ظنُّك بمن لا يجد عذرًا لمستحق العذر؟ وما ظنك بقاضٍ يَحكم بالإعدام على رجل بريء؟!

وها هنا أُمْسِكُ عن الإتمام؛ لأنَّ القلم صار ثقيلاً، والكتابة صارت صعبةً!

فإلى لقاء آخر.

ما أصعب الكتابة! - فن الكتابة - موقع حضارة الكلمة - شبكة الألوكة
 
عنوان مقالك الذي وصفتَه بالأخير ـ بينما أنتَ تقصد أنه من آخر مقالاتك التي كتبتَ ـ ألقى بظلال قاتمة متوجسة على نفس قارئك وهو بعد لم يلج إلى المقال ولم يبحر فيه.
هذا ما حدث معي..
وحين بدأتُ أخطو على شاطئ مقالك ميممة وجهي نحو عمقه, تعجبتُ أكثر وأكثر فقلتُ في نفسي: أَوَ مثل هذا القلم السيال (ماشاء الله) يعتزل الكتابة فيسمي مقاله هذا بالمقال الأخير؟؟ ثم ماباله يحسن المقال في الوقت الذي يريد أن يقنعنا فيه بصعوبة الكتابة ؟؟!!
فلما بعد الشاطئ وارتفعت الأمواج تجلتْ معانيك وبرزت مقاصدك من المقال فزالتْ تلك الظلال القاتمة وتبدد معها التوجس وعلمتُ أنني أنا التي أخطأتُ فهم العنوان.
أخي الكريم... مقالك رائع وشامل يعكس ثقافة أدبية ودينية وفكرية عميقة, وكنتُ أرى أنه عبارة عن مجموعة من المقالات التي تستحق أن تنفصل عن بعضها البعض لأجل أن يُخدم كل موضوع على حدى لأهميته. برغم أنني أتفهم كونك جعلتها في مقال واحد لأن الفكرة العامة واحدة. لكنني كلما انسجمتُ مع جزئية منه رأيتُكَ انتقلتَ بنا إلى غيرها.
وأخيرا.. أمتعتنا حقا بمقالك فجزاك الله خيرا وبارك فيك.
واسمح لي أن أشير إلى بعض ما أعجبني في مقالك هذا:
ما أصْعَبَ تَرْكَ الكتابَةِ لِمَنْ تلَجْلَجَتْ في صدرِه الأفكارُ، وتزاحَمت في عقله لَمَحاتُ الأنوار! لا سيما فيما يجيء مِن الومضات التي تذَهب وتَضِيع إن لم تُقَيَّدْ في الأوراق والأسفار.
*****
فهل شعرتَ يومًا أنك بحاجة إلى أنْ تكتب؟
هل شَعرت أنَّك بحاجةٍ إلى أَنْ تُمْسِك بالقلم، فتُفرغَ في سطوره ما يعْتَلِج في قلبِك مِن لوامِعِ الأفكار، وخيوطِ نَسيج الأنوار، حتى تَضيق بكلِّ مَن حولَك، وتوَدُّ لو كنتَ وحْدَك مع القَلم والقِرْطاس تبُثُّه شَجَنَك وحنينَك، وتُفْضِي إليه بأسرارك ومكنونِ أفكارك، حتى تُزيحَ عن كاهلِك عناءَ هذه الأثقال مِن الأفكار التي ضِقْتَ ذَرْعًا بحملها وحدك!
*****
ألا تعجبُ - يا أخي - إذا سمعت الشعراء يشترطون في الشاعر الجيِّد أن يَنسى ما كان يحفظُه مِن الشعر مِن قبل! مع أنَّ أصحاب كلِّ صناعة يَعرفون أهمية الحِفْظ في صناعاتهم؛ حتى لا يُعدَّ فقيهًا عندهم مَن لم يكن له محفوظٌ مِن الفقه، ولا يُعدَّ محدِّثًا مَن ليس عنده رصيد من الحديث، ولا يعدَّ لغويًّا مَن لم يكن لديه قدْرٌ مِن حفْظٍ لِلُّغة!
فما بالهم في الشعر خالفوا هذا المَهْيَع، وتنَكَّبوا ذلك الطريق؟!
الحقيقة أنهم ما خالفوا ولا تنكَّبوا؛ بل بَالغوا وطلبوا درجةً أعلى، ومرتبةً أسمى، هي مرتبةُ الإبداع والابتكار؛ لأنَّ الملَكاتِ لا تزول بزوال مفرداتها؛ إذِ الملَكةُ صِفَةٌ راسخة في النفس، لا يمكن زوالها، فالفصيح الذي لديه ملَكة الفصاحة، والبليغ الذي لديه ملكة البلاغة، لا يمكن أن يُقال: إنه فَقد جزءًا مِن هذه الملكة بنسيان شيء مِن محفوظاته.
*****
وقد تعَرَّض الشاطبِيُّ في "الموافقات" لشيءٍ قريب مِن هذا، فذَكر أنَّ العالِم إذا كان تامَّ العلم لا يُمكنه أنْ يخالف عِلْمَه؛ لأنَّ هذا العلمَ إذا كان ملكةً راسخةً، فهو - لا بُدَّ - حاملٌ صاحبَه على العمل، وإلا لم يكن مَلكةً حقيقيَّةً، ومِثْل ذلك الأعرابيُّ الفصيحُ الذي لا يَستطيع أن يَحملَ لسانَه على اللحن أصلاً؛ لأن الإعرابَ لديه سليقة.
ولعلَّ هذا هو السرُّ الكامن وراءَ قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم – ((يُلهَمُون التَّسبيحَ كما يُلهَمون النفَس))؛ رواه مسلم؛ إشارةً إلى بلوغِهم أعلى درجاتِ العبادة، وهي الملكة الراسخة.
هذه الملكةُ التي نتكلمُ عنها، هي الغاية التي ينبغي أن يسعى طالبُ العلم إليها؛ فلا الحِفْظُ المجرَّدُ، ولا الفهم المجرد هو الغاية، ولا كثرةُ القراءة والمطالعة هي الغاية، ولا حتَّى استحضارُ المسائل والدلائل هي الغاية.
بل كلُّ ما سبق وسائلُ وآلاتٌ يُقصَد بها الوصولُ إلى هذه الملَكة، وبيانُ ذلك أنَّ هذه كلَّها أعراضٌ يمكن زوالُها، فإذا زالَتْ زال الوصف المتعلِّق بها عن صاحبها، أما الملَكات فهي أمورٌ ثابتةٌ في النفس لا يمكن زوالها.
*****
فالحاصل أنَّ الأصولَ الشرعية المعلومةَ ثبَتت في عشرات النصوص، وغِيَاب بعضِ أفرادِ هذه النصوص عن المجتهد لا يَمنع من بلوغ باقيها إليه، ومن ثَم وقوفُه على الأصول الشرعية الثابتة، فإذا عرَف المجتهدُ الأصلَ الشرعي، وصار ملكةً راسخةً لديه، فلا يَعيبه - بعد ذلك - أن يغيب عنه بعضُ النصوص التي تدل على هذا الأصل.
*****
وهذه الملَكة هي التي جعلت الشافعيَّ يقول عن إحدى المسائل: أجد بيانَها في قلبي، ولكن لا ينطق به لساني.
وهي التي جعلت أهلَ الاستحسان يقولون: الاستحسان دليلٌ يَرِد على خاطر المجتهد، ولا يستطيع التعبيرَ عنه.
وهي التي تجعل كثيرًا منا يجزم بالقول في كثير من الأمور، مع أنه لا يستطيع إقامة الدليل عليه، ولا دفع الشبهات عنه.
*****
ومِن أهم فوائد هذه الملكات العلمية الراسخة في النفس، أنها لا يمكن أن تصاب بالمرض العصْري الشهير الذي يدعونه: (المراجعات الفكرية)!
ويزعمون أنه أمر إيجابي ومهِمٌّ جدًّا لكل عالم وباحث ومفكِّر، وهذا خطأ فاحش، وغلَطٌ عظيم جِدًّا؛ لأن العالِم لا يمكن أن يكون عالمًا إلا إذا كان لديه علم، وهذه بَدَهِية لا تحتاج إلى مناقشة، فإذا كان كل شيء يعرفه يحتَمِل الخطَأَ، ويحتمل المراجعةَ الفكرية، ويحتمل، ويحتمل، فمعنى هذا أنْ ليس لديك شيءٌ موثوق به على الإطلاق، فأي علم لديك إذًا؟!
*****

غير أنه مِن المهم أنْ نعْلم أن حصولَ ملكة العلم في النفس لا يَستلزم القدرةَ على تبليغه، أو التأليف فيه، أو إقامة الحجة عليه، أو إزالة الشبهات عنه.
 
وها هنا أُمْسِكُ عن الإتمام؛ لأنَّ القلم صار ثقيلاً، والكتابة صارت صعبةً!

فإلى لقاء آخر.

( ابتسامة )

جزاك الله خيراً ياشيخ فقد تنبهتُ لأمر عظيم وأنا في بداية الطلب
 
آمين وإياك يا أخي الكريم

بل إنَّ النظر والتأمل في التاريخ يدُلُّنا على أنَّ أكثر الناس تأثيرًا وأوسعَهم انتشارًا، كانوا مِن ذوي اللسان البارع والبيان الساطع، بحقٍّ كان ذلك أو بباطل.

ينظر هنا للفائدة:
شبكة الألوكة
 
كنتُ سألتُ الكاتبَ وفقه الله ــ في المجلس العلمي ــ سؤالًا ورد على ذهني
إبان قراءة المقال فأحالني على مقالٍ نافعٍ له فإليكم السؤال ورابط المقال :



هذه الملكةُ التي نتكلمُ عنها، هي الغاية التي ينبغي أن يسعى طالبُ العلم إليها؛ فلا الحِفْظُ المجرَّدُ، ولا الفهم المجرد هو الغاية، ولا كثرةُ القراءة والمطالعة هي الغاية، ولا حتَّى استحضارُ المسائل والدلائل هي الغاية.
بل كلُّ ما سبق وسائلُ وآلاتٌ يُقصَد بها الوصولُ إلى هذه الملَكة، وبيانُ ذلك أنَّ هذه كلَّها أعراضٌ يمكن زوالُها، فإذا زالَتْ زال الوصف المتعلِّق بها عن صاحبها، أما الملَكات فهي أمورٌ ثابتةٌ في النفس لا يمكن زوالها.

كيف يعلمُ طالبُ العلمِ بوجودِ تلكَ المَلكةِ لديهِ ؟
وما السبيلُ إليها ؟ أهو ماذكرتم من حفظٍ وفهمٍ ومطالعةٍ وغيرها ؟


 
تنبيه:
بعض القراء ظن أن موضوع المقال عن ( صعوبة الكتابة ) !
وليس هذا هو المقصود، وإنما جعلته مدخلا للمقصود ؛ وهو تحصيل الملكة في العلم.
 
عودة
أعلى