أبو زارع المدني
New member
- إنضم
- 28/10/2007
- المشاركات
- 564
- مستوى التفاعل
- 4
- النقاط
- 18
- الإقامة
- المملكة العربية
- الموقع الالكتروني
- www.ahlalhdeeth.com
.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد كنتُ قبل أيام في مجلس فاضل مع بعض الأصدقاء، وتحدث أحدهم عن مركزية الإيمانيات في المنظومة التربوية، وأفاض في ذلك، وأوضح كيف كانت حال كثير من التجمعات الشبابية الطيبة تضع تزكية النفس في أول لائحة الاهتمامات، فتجد جدول أعمال المجموعة مليء بألوان التطوعات من قيام الليل، وصيام النوافل، وزيارة المقابر، واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وأضراب هذه التعبدات التي تثمر في النفس أجلّ المعاني القلبية الشريفة، من صدق التأله، ودوام المراقبة، وتوحيد القصد، وكمال الخشوع، كما تعين على ضبط الجوارح وفق المراد الإلهي، ونحو ذلك.
ثم تحدّث صديق آخر عن بعض التغيّر الذي دخل على بعض المحاضن التربوية، والتجمعات الشبابية؛ فانصرفت جزئياً عن مثل هذا الأعمال، وقفزت إلى قائمة الاهتمام لديها مشاريع علمية وثقافية وإعلامية نافعة إن شاء الله، لكن كان ينبغي أن تكون الصدارة لغيرها، والأولوية لسواها.
ودار الحديث عن ذكريات روحانية عطرة في تلك المجالس الإيمانية التي كنا يعقدها أولئك الشبيبة حول آية من كتاب الله، أو مجلس ذكر يتذاكرون فيه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضنا: إن لأذكر أحدنا كان يقوم ما شاء الله له أن يقوم من الليل وهو لم يبلغ العشرين، ثم ما أن يفرغ حتى تراه يسابق المؤذن لصلاة الفجر، وآخر لا يملك دموعه في وسط مجلس الوعظ الذي أعده أحدنا، ثم ذهب أكثر ذلك، وإن كان المرء من أولئك لا يزال على خير إن شاء الله، إلا أن القلب جفَّ ماؤه أو كاد، والروح قد اشتد يبوسها، والعين تشكو جفاف القحط.
ثم وقفتُ على حديث لطيف للعلامة العذب الشمس ابن القيم رحمه الله يحكي فيه عن حال السالك إلى الله تعالى حين يأخذ في مطالعة بدايات سلوكه واستقامته على الطريق، وما يجده من الاشتياق إلى حلاوة تلك الأحوال الروحية العالية، فينطلق لسانه ليعبّر عن مكنون شعوره الجارف للحنين إلى منازل القُرْب، فيقول كما قال الجنيد رحمه الله :"واشوقاه إلى أوقات البداية!".
وينقل عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- أنه مرّ على رجلٍ وهو يبكي من خشية الله فقال: "هكذا كنا حتى قست قلوبنا"، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه –كما يقول الآلوسي- أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس، ولم يتأسوا بالسابقين، وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس [الآلوسي، روح المعاني (4/180)].
ويتابع ابن القيم رحمه الله:"فالطالب الجاد لا بد أن تعرض له فترة، فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد، فتخلل الفترات للسالكين أمرٌ لازمٌ لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرّم، رُجي له أن يعود خيراً ممّا كان، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض".
وأشرف من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: «إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك» [أخرجه البيهقي في الشعب، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (رقم 2152)].
ثم يبيّن ابن القيم رحمه الله تعالى ما في هذه الفترات والغفلات الطارئة على سالك طريق الله من الحكم الإلهية: "وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله، وبها يتبين الصّادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه"؛ فإن الدين عزيز، والطريق عسيرة، فإن لم يجمع له المرء الصبر، ويتدرّع بالمجاهدة، ويتزود بالقصد الخالص، انقطع في أوله.
وبعض الناس يندفع مع طبعه فإذا خفّ إلى الطاعة فعلها أو بالغ فيها وربما جاوز القدر المشروع، وقد يقع له تلذذ خالص ببعض التعبدات، ثم إنه يكلّ أو يملّ أو يكسل أو يدخل قصده ما يفسد تلذذه، فيضعف عن ما كان عليه، ويزيد في الاسترسال مع دواعي الطبع وما يهوى حتى يجرّه ذلك إلى مواقعة المساخط، أو ما دون ذلك أو ما هو أعظم، فإن أراد العودة إلى حاله الأولى امتنعت عليه نفسه، وصعب انقيادها.
وصنف آخر من الناس لا يزال على حاله الأولى أو قريباً منها، إلا أنه فقد بعض ما يجد من حلاوة التعبد، ولذة الطاعة، والناس في هذا على مراتب لا يحصيها إلا الله، ولذلك يجب على السالك أن ينظر في هذه المعاني، ويصلح نفسه ويسوسها بحسب إقبالها وإدبارها.
فإن قلتَ: وأنا والله كمثل ما وصفت، وكنت على حال طيبة من الذكر والتعبد وسائر موجبات الصلاح، ففقدت بعضها أو أكثرها، وإني لأجد لذلك بين ضلوعي حسرة تكاد تمزقني، فما العمل؟
أجبتُ: قد رأيت جواباً فاضلاً للشيخ أبي محمد الحافظ عبدالغني المقدسي (570ه) صاحب العمدة، والحافظ عبدالغني من أفذاذ أهل العلم الذي جمعوا بين العلم والعمل والتعبد، وكان رحمه اللَّه لا يكاد يضيع شَيْئًا من زمانه بلا فائدة؛ فكان يصلي الفجر، ويلقن النَّاس الْقُرْآن، وربما أقرأ شَيْئًا من الْحَدِيث، ثُمَّ يقوم يتوضأ، فيصلي ما شاء الله أن يصلي إِلَى قبل وقت الظهر، ثُمَّ ينام نومة يسيرة إِلَى وقت الظهر، ويشتغل إِمَّا للتسميع بالحَدِيث، أَوْ بالنسخ إِلَى المغرب، فَإِن كَانَ صائماً أفطر بَعْد المغرب، وإن كَانَ مفطراً صلَى من المغرب إِلَى عشاء الآخرة، فَإِذَا صلَّى العشاء الآخرة، نام إِلَى نصف الليل أَوْ بعده، ثُمَّ قام كأن إِنْسَانا يوقظه، فيتوضأ ويصلَّي زمناً، ثُمَّ يتوضأ ويصلَّي كَذَلِكَ، ثُمَّ يتوضأ ويصلَّي إِلَى قرب الفجر، وربما توضأ فِي الليل سبع مرات أَوْ ثمانية، أَوْ أَكْثَر فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "مَا تطيب لي الصلاة إلا مَا دامت أعضائي رطبة"، ثُمَّ ينام نومة يسيرة إِلَى الفجر، وَهَذَا دأبه رحمة الله عليه. وله ترجمة حافلة ترق لها النفس في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب [3/1، تحقيق العثيمين، طبعة العبيكان]. واستطردتُ في ذكر بعض سيرته لتتهيأ نفسك للجواب، فإن الحافظ أجاب حين أجاب وهو خبيرٌ بمسالك النفس، مجربٌ لدرب السلوك، عارفٌ بدقائق الطريق.
وقد سُئل رحمه الله (عمن كَانَ فِي زيادة من أحواله، فحصل لَهُ نقص؟) وهذا سؤال مقتضب كما ترى.
فأجاب بتواضع العابد وعلم الراسخ: "أما هَذَا، فيريد المجيب عَنْهُ أَن يَكُون من أرباب الأحوال وأَصْحَاب المعاملة، وأنا أشكو إِلَى اللَّه تقصيري وفتوري عَن هَذَا وأمثاله من أبواب الخير.
وأقول: وبالله التوفيق: إِن من رزقه اللَّه خيرا من عمل أَوْ نورِ قلب، أَوْ حالة مرضية فِي جوارحه وبدنه، فليحمد اللَّه عَلَيْهَا، وليجتهد فِي تقييدها بكمالها، وشكر اللَّه عَلَيْهَا، والحذر من زوالها بزلة أَوْ عثرة. ومن فقدها فليكثر من الاسترجاع، ويفزع إِلَى الاستغفار والاستقالة، والحزن عَلَى مَا فاته، والتضرع إِلَى ربه، والرغبة إِلَيْهِ فِي عودها إِلَيْهَا، فَإِن عادت، وإلا عاد إِلَيْهِ ثوابها وفضلها إِن شاء اللَّه تَعَالَى".
ولعلّ السائل لم يظهر له معنى الجواب، وأشكل عليه قوله (فَإِن عادت، وإلا عاد إِلَيْهِ ثوابها وفضلها)، فاستفسر مرةً ثانية، فأجاب الحافظ عبدالغني بقوله:"أما فقدان ما نجده من الحلاوة واللذة، فلا يَكُون دليلاً على عدم القبول، فإن المبتدىء يجد مَا لا يجد المنتهي، فَإِنَّهُ ربما مَلَّت النفس وسئمت لتطاول الزمان، وكثرة العبادة.
وَقَدْ رَوَى عَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ ينهي عَن كثرة العبادة والإِفراط فِيهَا، ويأمر بالاقتصاد، خوفا من الملَل.
وَقَدْ رَوَى" أَن أهل اليمن لما قدموا المدينة جعلوا يبكون، فَقَالَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هكذا كنا حَتَّى قست القلوب"[ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة، (3/54)، تحقيق العثيمين، طبعة العبيكان].
ثم تأمل في كلام الشمس ابن القيم إذ يقول لك وأنت في مثل هذه الحالة:"والصّادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله، ويلقي نفسه بالباب طريحاً ذليلاً مسكيناً مستكيناً، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتة.. فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك، ويملأ إناءك، فإن وضعتَ القلب في غير هذا الموضع؛ فاعلم أنه قلب مضيّع، فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردّه عليك ويجمع شملك به". [مدارج السالكين (3/85-86)، تحقيق بشير عيون، طبعة دار البيان]
وحاصل الجواب التمسك بلب العبودية وخلاصة العمل من التضرع واللجوء إلى مصرف القلوب ومثبت البصائر، وهكذا –إن وُفّقتَ- فإنك واجد في كل تصاريف الدهر، وعِبر الليالي والأيام، وتقلب الدهور والأعوام ما يقودك إلى أعتاب التضرع، ومعارج الانطراح بين يدي الله تعالى، وتكميل مقتضيات الخضوع والتذلل للرب جل جلاله، والأمر كما يقول ابن بدران رحمه الله "من طرح نفسه بباب رب الأرباب، لم يحتج إلى زمن طويل في فتح الأبواب".
والله المسؤول أن يجمع قلوبنا على مراضيه، ويصرف عنا مساخطه وسائر معاصيه، وأن يردنا إليه رداً جميلاً.
ونسأله تعالى أن يرضى عنا، ويرزقنا الفردوس والنظر إلى وجهه الكريم؛ وهذه الثلاثة الأخيرة هي "أبلغ مَا سأل العبد ربه"، كما يقول الحافظ عبدالغني رحمه الله.
___
(وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
.
واشوقاه إلى أوقات البداية !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد كنتُ قبل أيام في مجلس فاضل مع بعض الأصدقاء، وتحدث أحدهم عن مركزية الإيمانيات في المنظومة التربوية، وأفاض في ذلك، وأوضح كيف كانت حال كثير من التجمعات الشبابية الطيبة تضع تزكية النفس في أول لائحة الاهتمامات، فتجد جدول أعمال المجموعة مليء بألوان التطوعات من قيام الليل، وصيام النوافل، وزيارة المقابر، واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وأضراب هذه التعبدات التي تثمر في النفس أجلّ المعاني القلبية الشريفة، من صدق التأله، ودوام المراقبة، وتوحيد القصد، وكمال الخشوع، كما تعين على ضبط الجوارح وفق المراد الإلهي، ونحو ذلك.
ثم تحدّث صديق آخر عن بعض التغيّر الذي دخل على بعض المحاضن التربوية، والتجمعات الشبابية؛ فانصرفت جزئياً عن مثل هذا الأعمال، وقفزت إلى قائمة الاهتمام لديها مشاريع علمية وثقافية وإعلامية نافعة إن شاء الله، لكن كان ينبغي أن تكون الصدارة لغيرها، والأولوية لسواها.
ودار الحديث عن ذكريات روحانية عطرة في تلك المجالس الإيمانية التي كنا يعقدها أولئك الشبيبة حول آية من كتاب الله، أو مجلس ذكر يتذاكرون فيه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضنا: إن لأذكر أحدنا كان يقوم ما شاء الله له أن يقوم من الليل وهو لم يبلغ العشرين، ثم ما أن يفرغ حتى تراه يسابق المؤذن لصلاة الفجر، وآخر لا يملك دموعه في وسط مجلس الوعظ الذي أعده أحدنا، ثم ذهب أكثر ذلك، وإن كان المرء من أولئك لا يزال على خير إن شاء الله، إلا أن القلب جفَّ ماؤه أو كاد، والروح قد اشتد يبوسها، والعين تشكو جفاف القحط.
ثم وقفتُ على حديث لطيف للعلامة العذب الشمس ابن القيم رحمه الله يحكي فيه عن حال السالك إلى الله تعالى حين يأخذ في مطالعة بدايات سلوكه واستقامته على الطريق، وما يجده من الاشتياق إلى حلاوة تلك الأحوال الروحية العالية، فينطلق لسانه ليعبّر عن مكنون شعوره الجارف للحنين إلى منازل القُرْب، فيقول كما قال الجنيد رحمه الله :"واشوقاه إلى أوقات البداية!".
وينقل عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- أنه مرّ على رجلٍ وهو يبكي من خشية الله فقال: "هكذا كنا حتى قست قلوبنا"، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه –كما يقول الآلوسي- أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس، ولم يتأسوا بالسابقين، وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس [الآلوسي، روح المعاني (4/180)].
ويتابع ابن القيم رحمه الله:"فالطالب الجاد لا بد أن تعرض له فترة، فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد، فتخلل الفترات للسالكين أمرٌ لازمٌ لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرّم، رُجي له أن يعود خيراً ممّا كان، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض".
وأشرف من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: «إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك» [أخرجه البيهقي في الشعب، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (رقم 2152)].
ثم يبيّن ابن القيم رحمه الله تعالى ما في هذه الفترات والغفلات الطارئة على سالك طريق الله من الحكم الإلهية: "وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله، وبها يتبين الصّادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه"؛ فإن الدين عزيز، والطريق عسيرة، فإن لم يجمع له المرء الصبر، ويتدرّع بالمجاهدة، ويتزود بالقصد الخالص، انقطع في أوله.
وبعض الناس يندفع مع طبعه فإذا خفّ إلى الطاعة فعلها أو بالغ فيها وربما جاوز القدر المشروع، وقد يقع له تلذذ خالص ببعض التعبدات، ثم إنه يكلّ أو يملّ أو يكسل أو يدخل قصده ما يفسد تلذذه، فيضعف عن ما كان عليه، ويزيد في الاسترسال مع دواعي الطبع وما يهوى حتى يجرّه ذلك إلى مواقعة المساخط، أو ما دون ذلك أو ما هو أعظم، فإن أراد العودة إلى حاله الأولى امتنعت عليه نفسه، وصعب انقيادها.
وصنف آخر من الناس لا يزال على حاله الأولى أو قريباً منها، إلا أنه فقد بعض ما يجد من حلاوة التعبد، ولذة الطاعة، والناس في هذا على مراتب لا يحصيها إلا الله، ولذلك يجب على السالك أن ينظر في هذه المعاني، ويصلح نفسه ويسوسها بحسب إقبالها وإدبارها.
فإن قلتَ: وأنا والله كمثل ما وصفت، وكنت على حال طيبة من الذكر والتعبد وسائر موجبات الصلاح، ففقدت بعضها أو أكثرها، وإني لأجد لذلك بين ضلوعي حسرة تكاد تمزقني، فما العمل؟
أجبتُ: قد رأيت جواباً فاضلاً للشيخ أبي محمد الحافظ عبدالغني المقدسي (570ه) صاحب العمدة، والحافظ عبدالغني من أفذاذ أهل العلم الذي جمعوا بين العلم والعمل والتعبد، وكان رحمه اللَّه لا يكاد يضيع شَيْئًا من زمانه بلا فائدة؛ فكان يصلي الفجر، ويلقن النَّاس الْقُرْآن، وربما أقرأ شَيْئًا من الْحَدِيث، ثُمَّ يقوم يتوضأ، فيصلي ما شاء الله أن يصلي إِلَى قبل وقت الظهر، ثُمَّ ينام نومة يسيرة إِلَى وقت الظهر، ويشتغل إِمَّا للتسميع بالحَدِيث، أَوْ بالنسخ إِلَى المغرب، فَإِن كَانَ صائماً أفطر بَعْد المغرب، وإن كَانَ مفطراً صلَى من المغرب إِلَى عشاء الآخرة، فَإِذَا صلَّى العشاء الآخرة، نام إِلَى نصف الليل أَوْ بعده، ثُمَّ قام كأن إِنْسَانا يوقظه، فيتوضأ ويصلَّي زمناً، ثُمَّ يتوضأ ويصلَّي كَذَلِكَ، ثُمَّ يتوضأ ويصلَّي إِلَى قرب الفجر، وربما توضأ فِي الليل سبع مرات أَوْ ثمانية، أَوْ أَكْثَر فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: "مَا تطيب لي الصلاة إلا مَا دامت أعضائي رطبة"، ثُمَّ ينام نومة يسيرة إِلَى الفجر، وَهَذَا دأبه رحمة الله عليه. وله ترجمة حافلة ترق لها النفس في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب [3/1، تحقيق العثيمين، طبعة العبيكان]. واستطردتُ في ذكر بعض سيرته لتتهيأ نفسك للجواب، فإن الحافظ أجاب حين أجاب وهو خبيرٌ بمسالك النفس، مجربٌ لدرب السلوك، عارفٌ بدقائق الطريق.
وقد سُئل رحمه الله (عمن كَانَ فِي زيادة من أحواله، فحصل لَهُ نقص؟) وهذا سؤال مقتضب كما ترى.
فأجاب بتواضع العابد وعلم الراسخ: "أما هَذَا، فيريد المجيب عَنْهُ أَن يَكُون من أرباب الأحوال وأَصْحَاب المعاملة، وأنا أشكو إِلَى اللَّه تقصيري وفتوري عَن هَذَا وأمثاله من أبواب الخير.
وأقول: وبالله التوفيق: إِن من رزقه اللَّه خيرا من عمل أَوْ نورِ قلب، أَوْ حالة مرضية فِي جوارحه وبدنه، فليحمد اللَّه عَلَيْهَا، وليجتهد فِي تقييدها بكمالها، وشكر اللَّه عَلَيْهَا، والحذر من زوالها بزلة أَوْ عثرة. ومن فقدها فليكثر من الاسترجاع، ويفزع إِلَى الاستغفار والاستقالة، والحزن عَلَى مَا فاته، والتضرع إِلَى ربه، والرغبة إِلَيْهِ فِي عودها إِلَيْهَا، فَإِن عادت، وإلا عاد إِلَيْهِ ثوابها وفضلها إِن شاء اللَّه تَعَالَى".
ولعلّ السائل لم يظهر له معنى الجواب، وأشكل عليه قوله (فَإِن عادت، وإلا عاد إِلَيْهِ ثوابها وفضلها)، فاستفسر مرةً ثانية، فأجاب الحافظ عبدالغني بقوله:"أما فقدان ما نجده من الحلاوة واللذة، فلا يَكُون دليلاً على عدم القبول، فإن المبتدىء يجد مَا لا يجد المنتهي، فَإِنَّهُ ربما مَلَّت النفس وسئمت لتطاول الزمان، وكثرة العبادة.
وَقَدْ رَوَى عَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ ينهي عَن كثرة العبادة والإِفراط فِيهَا، ويأمر بالاقتصاد، خوفا من الملَل.
وَقَدْ رَوَى" أَن أهل اليمن لما قدموا المدينة جعلوا يبكون، فَقَالَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هكذا كنا حَتَّى قست القلوب"[ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة، (3/54)، تحقيق العثيمين، طبعة العبيكان].
ثم تأمل في كلام الشمس ابن القيم إذ يقول لك وأنت في مثل هذه الحالة:"والصّادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله، ويلقي نفسه بالباب طريحاً ذليلاً مسكيناً مستكيناً، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتة.. فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك، ويملأ إناءك، فإن وضعتَ القلب في غير هذا الموضع؛ فاعلم أنه قلب مضيّع، فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردّه عليك ويجمع شملك به". [مدارج السالكين (3/85-86)، تحقيق بشير عيون، طبعة دار البيان]
وحاصل الجواب التمسك بلب العبودية وخلاصة العمل من التضرع واللجوء إلى مصرف القلوب ومثبت البصائر، وهكذا –إن وُفّقتَ- فإنك واجد في كل تصاريف الدهر، وعِبر الليالي والأيام، وتقلب الدهور والأعوام ما يقودك إلى أعتاب التضرع، ومعارج الانطراح بين يدي الله تعالى، وتكميل مقتضيات الخضوع والتذلل للرب جل جلاله، والأمر كما يقول ابن بدران رحمه الله "من طرح نفسه بباب رب الأرباب، لم يحتج إلى زمن طويل في فتح الأبواب".
والله المسؤول أن يجمع قلوبنا على مراضيه، ويصرف عنا مساخطه وسائر معاصيه، وأن يردنا إليه رداً جميلاً.
ونسأله تعالى أن يرضى عنا، ويرزقنا الفردوس والنظر إلى وجهه الكريم؛ وهذه الثلاثة الأخيرة هي "أبلغ مَا سأل العبد ربه"، كما يقول الحافظ عبدالغني رحمه الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبدالله بن عبدالرحمن الوهيبي
18 رجب 1435هـ
18 رجب 1435هـ
___
(وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
.