مقالات الأستاذ الجابري في (تاريخ تدوين القرآن)

إنضم
27/04/2006
المشاركات
751
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
مكة المكرمة


وعد الأستاذ حفظه الله تعالى وأمتعنا بعلمه أن يُصدِر كتاباً عما قليل بعنوان (دراسات في القرآن) وقد قام بنشر بعضه على موقعه الرسمي (منبر الدكتور محمد عابد الجابري) ، وها هي ذي :


http://www.aljabriabed.net/textes.htm


ويلاحظ أن القضية لا تمسُّ الكفر والإيمان بل تمسُّ التاريخ ، فالشك في تاريخ القرآن إذا كان شكّا علميا يقوم على نقد قدرات التاريخ على التدوين وعلى حفظ الوثائق لا يُعّدُّ كفرا بل ولا ذنباً ولكن -والحق يقال- أنه من خاص العلم فينبغي حصره في دائرة (الدراسات العليا) في تاريخ تدوين المصحف. لكن لما كنا في عصر ثورة الاتصالات لم يمكن حصر المعارف بمتلقين معينين كما تقتضي الحكمة.

ولا نتحكم في فهم القارئ وذوقه ولكن هذه المقالات لمن شاء أن ينتقدها نقدا علميا
فقديما قال فيلسوف التنوير عمانوئيل كانط (والحكمة ضالة المؤمن) قال: أنا لا أخشى أن أُفَنَّد بقدر ما أخشى أن يُساء فهمي.
ولا شكَّ أن الأستاذ الجابري قد يُساء فهمه رغم أنه يبدأ مع متلقيه من الصفر فيما يكتب إلا أن بعض منتقديه يتسلق على أكتاف اسمه ليتبجح بنقده.
ولا أقصد أحدا معينا
ولكن الأستاذ رجل علم فعلى منتقديه أولا أن لا يعرضوا آراءه من خلال فهوم الآخرين له ، بل من خلال موقعه الرسمي الذي يمثله . ثمّ مراسلته شخصيا على بريده الالكتروني لمن لم يستطع فهم مقصده وبعد ذلك نقده.
والرجل معروف بتواضعه الجم الذي يلمسه معاشروه
والخير أردت وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون​
 
ما أعرفه عن الجابري أنه لم يتعرض في كتبه الأولى تكوين العقل وبنية العقل لموضوع جمع القرآن الكريم ولم يدخل في هذا الموضوع وظل مسلماً بسلامة النص القرآني وحفظه حتى أن علي حرب انتقده لذلك وكذلك جورج طرابيشي عد الجابري أنه قد فوّت على نفسه ولادة فولتير عربي جديد لأنه لم يتعرض لواقعة المصحفة أي تشكل المصحف ...
وإلى الآن أظن أن الجابري يعلم أن التشكيك في القرآن الكريم وحفظه يخرجه من دائرة القبول في الوسط الإسلامي فهو إلى هذه اللحظة - بنظري - يعد من العلمانيين المعتدلين الذين لم يجازفوا كما فعل أركون وغيره بالعمل على هدم اليقين الإسلامي بموثوقية القرآن الكريم ..
ولم يتسن لي الاطلاع على البحوث الجديدة التي كتبها الجابري فيما يتصل بجمع القرآن الكريم ..
أما الروايات التي يمكن أن توظف في هذا السبيل التشكيكي فهي روايات وأخبار لا بد من ملاحظة التراكم التاريخي فيها يعني تكونها عبر سنوات مديدة بعد لحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وهو ما يجب أن نلاحظ فيه أن الصحابة بشر ليسوا معصومين من الخطأ فما يتكلم به أحاد الصحابة ينظر إليه من زاوية // مبلغ علم الراوي // كما هو معلوم في علوم الحديث ومن هنا لا ترقى هذه الروايات إلى مصادمة المتواتر وهي فكرة بدهية // اناس كثيرين جداً لا يمكن تواطؤهم على الكذب نقلوا لنا المصحف مشافهة وكتابة إلى جانب ذلك هناك روايات آحادية تتناقض مع النقل الجمعي المتواتر فعلى أيهما نعتمد بميزان العقل والمنهج العلمي الصحيح ؟
هذه الحجة التي يذكر بها دائماً علماء المسلمين ولا أدري لماذا يصر الآخرون على عدم الفهم أو إرادة عدم الفهم ويظلون يلوكون ويكررون ما قد مجته الأسماع وقرفته الطباع ....

وأشكر الأخ الفاضل الدكتور عبد الرحن الصالح لإرشادنا إلى بحوث الجابري عبر النت
والسلام عليكم ورحمة الله
 
الأخ الأستاذ أحمد الطعان
أرجو أن تقرأ ما نشر ذلك العلماني المعتدل!!!! في صحيفة الإتحاد الإماراتية العدد الصادر بتاريخ 26-9-2006 عن نقص القرآن لتعلم أنه ليس كذلك
أما الأخ الصالح فأرجو أن يمتعك الله بعلم الصالحين من المسلمين ومن تدعو له ليس منهم بإجماع المسلمين وأظنك تعرف حكم علماء الإسلام فيمن قال بنقص القرآن أو تحريفه
 
الأخ الاستاذ عبدالرحمن الصالح:
لا أحد يستطيع أن ينكر الانحراف و الضلال الذي يقع فيه الجابري إلا أحد شخصين:
1- شخص لم يقرأ مشروعه الفكري الضخم و الذي محصلته القطيعة المعرفية مع تراث الأمة إستنادا على آليات متعددة منبثقة من العقل الغربي خاصة الآليات الإجرائية - كما يسميها - المتخذة من البنيوية و الماركسية و مدرسة التحليل النفسي...... لتسليطها على ( النص ) - صرح بذلك في مقدمة كتابه: ( الخطاب العربي المعاصر ) الذي يعد مقدمة مشروعه الرباعي ( نقد العقل العربي).
2- شخص ولع بحب الرجل و يريد غض الطرف عن مرامي مشروعه الهدمي لتراث الأمة وفعل هذا لايجوز لمن عنده غيرة على دين الله بل هذا أبسط ما نقدمه ديانة أن نغار أما أن ندافع عن الرجل مع علمنا بالخلل العقدي و الفكري و المنهجي في مشروعه فهذا لا يمكن تقبله بأي حال من الأحوال فإننا أحيانا يصيبنا الإنبهار بكتابة هؤلاء فالمخطئ مخطئ و إن علا شأنه و على كل فمشروعه يحتاج لقلم مسدد يميط اللثام عن ثغرات تكتنفه.
و أخيرا فالرجل لاشك في موسوعيته و عمقه فيما يطرح و إن شذ به فكره في رؤيته الفكرية و الفلسفية الملتبسة.
 
أرجو من الإخوة الذين يحبون أن يعرفوا الجابري جيداً أن يقرؤا ما كتبه عنه جورج طرابيشي في موسوعته النقدية له
نظرية العقل - وإشكاليات العقل العربي ...
فقد فضحه شر فضيحة ...
وكذلك لمن يحب أن يتعرف على حسن حنفي فليقرأ للطرابيشي كتابه // المثقفون العرب والتراث //
لقد قام الرجل بواجبه كباحث وناقد في كشف الزيف الذي يتستر به الرجلان ...
 
مشروع الجابري ( نقد العقل العربي ) ساهم بشكل أصيل في ظهور مشروع جورج طرابيشي ( نقد نقد العقل العربي ) و على جودة نقده للجابري في اشكاليات جوهرية إلا أنه يعترف هو غيره ممن نقدوا الجابري بعمقه فمن ذلك قول طرابيشي في جـ1 - نظرية العقل - ص8 : ( فالجابري قد نجح - لنعترف له بذلك - في إغلاق أبواب التأويل و الاجتهاد ...........)
و قال في نفس الصفحة : ( فلقد كنت ، بعد أشهر ثلاثة من صدور تكوين العقل العربي ، كتبت في العدد الأول من مجلة الوحدة تعليقا مطولا ثمنت فيه الكتاب تثمينا عاليا باعتباره"اطروحة عن العقل وفي سبيل العقل ". و على الرغم مما أبديته في حينه من انتقادات و اعتراضات جزئية، فقد ختمت التعليق بالقول : " إن الذهن بعد مطالعة تكون العقل العربي لا يبقي كما كان قبلها. فنحن أمام اطروحة تغير ، وليس أطروحة تثقف")
و قال ص9 : ( و لست أملك سوى ان اعترف له مرة أخرى بأن قرأة " تكوين العقل العربي " قد غيرتني فعلا .
فلولاه لما كنت عاودت ، خلال الثماني سنوات التي تصرمت ، بناء ثقافتي الفلسفية و التراثية. )
و قال في جـ2- اشكاليات العقل العربي - ص8 : ( إن قارئي هو في نهاية المطاف قارئ الجابري. )
فالجابري ساهم في بناء جورج طرابيشي و جورج طرابيشي ساهم في إ كمال و إتمام الجابري و ليس فضحا له ، كما زعم الدكتور الطعان - حفظه المولى -
 
الأخ أبو زيد إن ما تنقله من استشهادات لا يمكن أن تكون ملخصاً لبحث يزيد على 1500 صفحة وخصوصاً إذا علمنا أن أي باحث حين يريد أن ينقد وخصوصاً إذا كان حصيفاً لا يمكن أن ينكر الإيجابيات الموجودة فيما ينقده ...
ونحن نعترف للجابري بعمق دراساته وبحوثه في كتابيه تكوين العقل وبنية العقل وكونها عميقة يعني أن فيها جهداً متميزاً وخبرة بأصول البحث ومنهجيته ولكن هذا لا يعني أنه مصيب في نتائجه وأننا نتفق في مضمون أفكاره ...
والطرابيش ينتقد الجابري من هذه الوجهة ... ولا شك أن الجابري استطاع ان يؤثر على قارئه بشكل واضح جداً
لكن الطرابيشي بين ما يخفيه الجابري من مصادر وما يتكتم عليه من مصادر استفاد منها وهي مصادر أوربية .. وأبرزها موسوعة لالاند الفلسفية ...
والفضح الذي أعنيه لا يعني - وخصوصاً من كاتب لا ديني - أن يكون موافقاً لما نريد وملبياً لما نعتقد وإنما من وجهة نظر منهجية على الأقل ..
وشكرا لكم
 
الشيخ الفاضل الطعان حفظه المولى:
1 - كل المشاريع الناقدة للجابري ذاتها تحتاج لنقد و هدم و إعادة بناء و أن تقيم تقيما صحيحا و عادلا ومن ذلك ( نقد نقد العقل العربي ) لجورج طرابيشي ، ونقد محمد يحي و نقد طيب تيزيني و نقد طه عبدالرحمن.........الخ.
فمن الوجهة النظر الإسلامية الناقدة لهذه المشاريع نجد أن الجابري أصاب في أمور فلا يوافق طربيشي في نقده له فيها و كذا أمور يوافق طرابيشي في نقده للجابري فيها و من ذلك:
*** الجابري نقد رسائل إخوان الصفا و ندد ( بدو رهم في تعميق الاتجاه اللاعقلاني في الثقافة العربية الإسلامية ) فيأتي طرابيشي ليقول ( و هأنذا أكتب مئة صفحة و نيفا لأرد إليهم اعتبارهم الفكري بوصفهم بناة أول "يوطوبيا" في الثقافة العربية الإسلامية )جـ4 /ص10 وهذا على على سبيل المثال في إحقية الجابري في نقده الإخوان الصفا و خطأ جورج طرابيشي في ذلك.
***و كذا نقد جورج طرابيشي الجابري في ( الإبستمولوجيا الجغرافية) فقال طرابيشي مثلا بهذا الصدد:( لا يمثل الغرب و الشرق في مشروع الجابري مقولتين جغرافيتين، بل هما مرفوعتان عنده إلى مقولتين إبسمولوجيتين ، أي مقولتين تحددان النظام المعرفي للعقل بما هو كذلك.) جـ4 العقل المستقيل في الإسلام؟ فطرابيشي محق في نقده للجابري في ذلك.
2- أتوقع أن ما نقوله من نقد على سبيل العجلة لهذه المشاريع لا يعد إنصافا فإذا كان الجابري قضى في تأليف مشروعه ما يقارب 25 سنة و طرابيشي إلى الآن 15سنة فلا يمكن أن نعطى خلاصة دقيقة و محكمة و منصفة في مثل هذه المشاريع إلا ببذل وقت طويل لنقدها نقدا نزيها و أمينا.
2- الجابري على إتقانه و تميزه في أصول البحث فلا شك أنه قد أصاب في بعض النتائج و أخطأ في بعض فمما إصاب في نقده مثلا نقده - للعرفان كما يسميه أحد نظم المعرفة في الثقافة العربية عنده هو - المتمثل في :
أ - العرفانية الإسماعيلية
ب- العرفانية الصوفية
جـ - العرفانية الإثني عشرية
فقد صوب لها نقدا يوافق عليه.
3- وعلى كل إن ما أقصده من النقول التي نقلتها إلا للبرهنة على أن بعضهم يكمل بعضا و إن نقدوا بعض و كشفوا بعض و فككوا بعض فهي مشاريع تهدف إلى غايات موحدة و تنطلق من مرجعية واحدة.
4- ما مدى مصداقية طرابيشي في نقده للجابري في إخفاء بعض المصادر الفلسفية الأوروبية فقد يكون مصيرنا مع طربيشي مثل مصيرنا مع الجابري إن صح نقد طرابيشي له في هذه الحيثية -إخفاء المصادر -
5 - إذن الآليات التي نستخدمها ناقصة من ذلك قراءة المصادر الأوروبية بلغتها الأم بدلا من المصادر المترجمة فهذه من الإشكاليات التي تواجه مفكري الصحوة .
و لكم جزيل الشكر.
 
الغرور العقلي.. والانتكاس الفكري

الغرور العقلي.. والانتكاس الفكري

هذا مقال للكاتب عبد الله بن محمد السعوي نشر في مجلة البيان العدد 229 وله صلة بهذا الموضوع ، وخطر (القراءة المكثفة في كتب أهل الأهواء مع ضآلة العلم الشرعي في منحاه العقدي خاصة) والذي أعتقده أن محمد عابد الجابري من كبار أهل الأهواء في هذا الزمان فإلى المقال ..
[line]
لو ألقينا نظرة تأمُّلية تبحث عن العوامل الفعّالة التي تقف خلف كثير من التحولات الفكرية الحادة عند بعض النماذج والتي تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على نحو يستعصي معه الفهم والتحليل؛ لألفينا أنها لم تنبثق من فراغ بقدر ما هي أثر حتميّ أفرزته بواعث متنوعة بينها تسلسل سببي وروابط عليّة متبادلة ومتفاعلة أسجّل باعثين هنا منها على سبيل الإجمال، مقتصداً جهد الطاقة حتى لا أثقل على ذاكرة القارئ الكريم:

أولاً: القراءة المكثفة في كتب أهل الأهواء مع ضآلة العلم الشرعي في منحاه العقدي خاصة:

إن الفضول المعرفي بطبيعته يدفع إلى مزيد من النّهم القرائي اللامنضبط ـ أحياناً ـ مما يدفع بالفرد إلى قراءة كل ما يقع في متناول يديه من أطروحات فكرية قراءةً غير موجهة بحكم عدم استنادها إلى قدرات علمية عليا، ولذا فهي تولد الاتجاه السلبي أكثر مما تعزّز التوجه السلفي كإفراز حتميّ ناشئ عن ضمور مكتسبه المعرفي في جانبه العقدي على وجه الخصوص.

إن هشاشة الوعي ومحدودية القدرات العلمية تجعل من البنية الذهنية أرضاً خصبة مهيّئة لاستقطاب الأبنية المفاهيمية والمعاني المزيفة والرُّؤى الممعنة في التضليل باعتبارها أفقاً للوعي لا يسع المرء إلا الامتياح منه والتماهي مع معطياته.

إن إثارة الشبهات والتشكيك في العقائد والإطاحة بالتصورات الإيجابية هو الهدف المحوري الذي تتغيّاه كتب ومقالات أهل الأهواء، الشأن الذي جعل رسول الله # يتمعّر وجهه عندما شاهد صحيفة من صحف أهل الكتاب مع عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو الفاروق المبشَّر بالجنة، ونهاه عن قراءتها. ولقد كان سلفنا الأفاضل يحرِّمون علم الكلام ويشدّدون في عدم السماع من أهل الأهواء أو النظر في مؤلفاتهم حتى ولو احتوت على شيء من الحق؛ لأن هذه الأطروحات تورّث شُبهاً تضلّل المتلقِّي وتستهويه وتؤثِّر على قناعاته، وهذا التأثير عائدٌ ـ في تصوّري ـ لعاملين:

أحدهما: أنها تعتمد في بنائها التعبيري والفكري آليات فلسفية ترتكز على الفذلكة الكلامية والحذاقة اللفظية لتستهوي الفكر وتأخذ بلباب العقل وتلبس عليه وتسيطر على مساربه فيتلقف بعض الشبهات دون وعي، يتلقاها بلا غربلة ولا تمحيص، تتلبّسه الفكرة ويتلبّس بها، ترتسم في عقله ويتفاعل مع أدقِّ تفاصيلها ويغنى بها عن غيرها، تكبِّله بقيودها وتحجبه عن معاينة ما باينها، وتزجُّ به في دائرة مغلقة خانقة فيسيطر عليه شعور بصوابية ما يعتنقه بل يعتبره هو الحق المطلق، ومن ثم تتعسر عليه المراجعة، وتحت هذا الضغط النفسي الشديد تستبدُّ به الفكرة فـلا يـرى إلا ما يتقاطع معها، فيندفع للعمل بمقتضاها دون وعي، إنه يعيش في غيبوبة أفضت به إلى عزلة لا مادية خانقة نائية به عن مدِّ جسور التواصل والتماس والتفاعل الحيوي مع الأفكار المغايرة لها، قد ملكت عليه لُبّه ووجدانه على نحوٍ بات معه مفتقداً للرؤية الموضوعية النافذة مثله كما المحاط بألسنة اللهب، فرؤيته محدودة محصورة في ذاته وما يحيط بها من دخان كثيف.

العامل الثاني: أنها تملك مهارات عالية وكفاءة بارعة في تمرير مشروعها الفكري، وذلك من خلال ضخِّ المعاني ذات الطابع المادي التي تدغدغ حوائج الناس وتستجيب لعواطفهم، ومن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة التي تتظاهر بالعلمية وتدّعي الموضوعية، الشأن الذي يهدينا إلى تبيّن السر الكامن خلف اتِّساع القاعدة الجماهيرية المتناغمة مع أهل الأهواء، حتى صاروا بجملتهم أكثر كمية من أهل السُّنّة والجماعة، وهذا مؤشر يبرهن ـ بجلاء ـ على أن التماهي الوجداني مع المضامين الدلالية لهذا الخطاب ليس حقيقة شعورية منبعثة من رؤية منهجية وصياغة فكرية صائبة بقدر ما هي نتيجة للانسياق للمحركات الوجدانية.

إن القارئ المتسطح الذي يعاني من الهزال في بنيته المعرفية يتعسّر عليه ـ إن لم يتعذّر ـ أن يقرأ بروح تمحيصية ناقدة، فهو لا يملك القدرة على سبر أغوار الروح العامة وتفكيك البنية الشاملة التي ينهض عليها هذا الخطاب، ولذا يقع فريسة سهلة للأفكار السالبة بكافة ضروبها، ويسيطر عليه ما يشبه عمى الألوان، فيتجاوب مع المادة المطروحة، ويتذوّقها، وتنطبع لديه في أعماق الضمير، والمصيبة الأعظم تكمن في عدم شعوره بما ينطوي عليه من إشكال معرفي حادّ سهّلَ من اختطاف عقله ومن ثم مصادرته في بُعْده الإنساني.

إن قـصـور الاستعـدادات المعرفيـة لـدى المتـلقّـي يفـضـي ـ بالضرورة ـ إلى إضعاف شخصيته الثقافية، ولذا؛ فإنه بمجرد اطِّلاعه على مجموعة مقالات أو بضعة كتب من الكتب الفارغة إلا من الغُثَاء التراكمي فإنها كفيلة بإحداث هزّة عنيفة في كيانه تعصف بما تأصّل لديه من قناعات على نحو يجعله يتنكّر لما نشأ عليه من قيم، ولا ريب أن هذا يبرهن ـ بجلاء ـ على عمق الانفصال بينه وبين الفقه العقدي من جهة، وعلى أساليب الطرح الماكرة القادرة على التسلل بسهولة إلى التركيبة الذهنية للمتلقِّي من جهة أخرى.

تُعدّ العزلة الشعورية، والنَّأْي عن النهل من العلم المؤطر بالمنهج الرباني، وعدم التفاعل المثمر مع قادة الفكر وأرباب المعرفة وذوي الحسّ الحي في الأمة، والتجافي عن المصادر المعتبرة التي تشكل الفكر الموضوعي؛ من أكبر العوامل الموهنة للتماسك العقدي والمؤسسة لتداعي المسلَّمات القطعية، والتي تحيل الفرد إلى هدف سهل المنال لمختلف الوافدات والمؤثرات الثقافية المناهضة لمكوّناته الأساسية، والمناقضة للسلّم القيمي الذي تشكّل وفق دلالاته، والمخالفة للأدوات المعيارية التي على ضوئها يقيم أحداث الحياة. هذه البواعث تعرِّض كثيراً من الأسس المفاهيمية إلى التزعزع والتآكل الداخلي.

إن هذا المتلقِّي بفعل ما يحتوي عليه من فقر علمي وجهل عميق لديه ضرب من السلوك الازدواجي الذي يتجلَّى على نحو واضح في تباين تعاطيه مع الأفكار المجسّدة والمجرّدة وتباين مواقفه إزاء كل منها، مما يشي بإمَّعية فكرية ضُربت بعمق في أعماق أغواره فأضعفت عناصر المقاومة في ذهنه فضلَّ عن الحق وتاهَ في بَيْداء الوهم والخيال كأثر حتمي لتزاوج الهوى الحاجب لصفاء الحقيقة والجهل اللامحدود الذي بفعله باتت رؤيته سطحية هامشية فاقدة للرؤية النقدية التي تعتمد التجرد والموضوعية أبرز أدواتها.

إن مما يبعث الأسى هو أن المتلقّي السالف الذِّكْر قد يكون أحياناً ممن يساهمون ـ في تصوّره ـ بإثراء الحركة العقلية ودفعها ـ لا لتأهيله لذلك، وإنما لاحتلاله مكاناً أكبر بكثير من مقاساته المعرفية والعقلية ـ وهنا تعظم المأساة، حيث إن جملة الأفكار التي تسرّبت إلى جنانه واستقرت في حسِّه وتراكمت في عقله الباطن هو الآن يتبنّى العمل على تصديرها وإنتاجها يستهدف بها متلقّياً ـ هو الآخر بالمواصفات ذاتها ـ يستلهمها فتعانق وعيه وتكتسح لُبَّه فيتقولب بمضامينها التي تتغلغل فتلامس كل جزئية من وجدانه، وهكذا تجري عملية التسويق عن طريق الاجترار بتبادل الأدوار على نحو يثير الشعور بالأسى والشّجن.

إن هذا الطرح ذا النزعة الليبرالية يعكس ـ بنقاء كامل ـ الصورة عن عقول مصادرة تتظاهر بالتحرّر والانـفتاح الـذي لا يتحقق ـ من وجهة نظرها ـ إلا بالخروج عن منطق التجانس الجمعي، واستفزاز الساكن، ومخالفة السائد، وتحريك الراكد، واختراق (التابو)، والتمرد على المقاييس والأعراف المعتبرة، واستدبار النصوص، وإسقاط مكانة العلماء، والتقليل من خصوصية المجتمع، والمبالغة في السقوط الأخلاقي بحجة التطوير والتجديد.

إن الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا دائماً هي أن التجديد لا يكمن في الإقصاء لأخلاقٍ واستدعاءِ أخرى على الضدِّ منها، وإنما يتم التجديد من خلال توسيع مدى الأبعاد الدلالية لبعض الأبنية المفاهيمية الأخلاقية، وابتكار الآليات الفعّالة لعولمتها وجمهرة ممارستها وتكثيف الدعاية لها والإعلاء من قيمتها في النَّسَق الأخلاقي العام ودفعها نحو نقلة ارتقائية تحتلُّ جراءها موقعاً أعلى في درجات السلّم القيمي.

إن ثمَّة ثلة من الكُتّاب لديهم تصور ذاتي وهمي، فهم يرون ذواتهم أنهم طليعة هذه الأمة والناطق بلسانها والمعبِّر عن آلامها وآمالها، وهم فقط الذين يملكون عناصر الترشيد الضرورية للنسيج الاجتماعي الذي استقرَّ في وعيهم أنه بخاصته ودَهْمَائه(1) وبسُراته وبُسطائه وبتنويعاته وتعبيراته وبمكوّناته وقياداته الدينية وبفعالياته الثقافية وبرموزه العلمية؛ عبارة عن قطيع غوغائي ومزيج نَتِنٍ من الإمَّعات والسطحيين الذين يعيشون في واقع استاتيكي سكوني يغلب عليه طابع النمطية والاطّراد العشوائي على نحو يدفع هؤلاء الكُتّاب ـ من وجهة نظرهم ـ إلى الاشتغال على تهيئة بنية هذا المجتمع لخصائص جديدة، وذلك من خلال تطوير أنماط سلوكهم وتوسيع آفاقهم بعَصْرنة مفاهيمهم ولَبْرلة توجّهاتهم.

الفلسفة التي يصدر عنها الطرح الليبرالي تكمن في اختزاله كافة أشكال الرقي في البُعْد المادي المحض، وتتجلّى في طبيعته الموضوية الرافضة للماضوي والعاملة على تجسيد القطيعة المعرفية معه تمهيداً لمحوه من الأذهان ومن ثم تهميشه في عالم الواقع الفعلي، وفي سبيل هــذه الغــايــة فإنـه يلـحُّ ـ وعلى نحو مستمر ـ على جملة معانٍ محددة يتغيّا استقطابها لإذاعتها وجمهرتها على أرض الواقع العملي.

تحرير المرأة، إلغاء تعدد الزوجات، الحرية المطلقة، الثورة على التراث السلفي، تحرير العقل من سلطة النقل..إلخ؛ كلها مفردات تكتظُّ بها هذه الأطروحات على تباين جليٍّ في مستوى شفافيتها وتغاير واضح في القوالب المستخدمة لتسويق تلك الرُّؤى على نحو يضمن لها القبول والانتشار والتمدد.

إذا تبلور ما سلف وصلنا إلى نتيجة راسخة مفادُها أن رفع منسوب العلم الشرعي ـ وفي بُعْده العقدي خاصة بوصفه هو الذي يهندس الشخصية الإسلامية ويوجِّه طاقاتها ويرشد حركة معرفتها ـ شرطٌ موضوعي يلزم توفّره في كل فرد بحسبه.

وتتأكد أهمية توفّره في كل من ينزع إلى التواصل القرائي مع مختلف الأطروحات المنتمية إلى منظومات فكرية مغايرة أخرى؛ لأن العلم الشرعي بحسبه يمثِّل بنية معرفية عميقة بالنسبة للعلوم الأخرى هو الذي يكسب حامله حسَّاً نقدياً ورؤية نافذة قادرة على إزاحة الستار وإدراك ما يحتجب خلفه من منطلقات وما يكمن من خيوط دقيقة ضامرة في أعمق أغواره.

إن الإلمام بالعلم الشرعي والتشبّع بالفقه العقدي وفق منهج سلفي مطلبٌ جوهري في غاية الأهمية والإلحاح، مطلبٌ يمنح صاحبه حصانة فكرية، ويزوِّده بمناعة نفسية، ويورِّثه عزّةً وقناعة تامة بصوابية توجّهه، ويمدّه بحيوية ذهنية وقدرة فذّة على القراءة النقدية التي تضعه أمام الحقيقة الموضوعية لهذه الأفكار الوضعية التي تغذِّي أخيلة مستهلكيها بالمفاهيم الكاسدة والمتشابكة مع أسسنا الفكرية لسلّمنا القيمي المستوحى من نصوص الوحيين.

إن العمق المعرفي الشرعي هو الذي يمنح المتلقِّي عقلاً متحرّراً من علائق التبعية لكل فكر متوتر معزول عن وحي السماء، ويمكِّنه من الصيرورة إلى تملّك أفق شمولي واسع يمنحه أعظم صور البلورة النقيّة التي توقفه على حقيقة مقروئه فيعرِّي سوأته ويجلي ثغراته ويعي مدى ما تولّده من مفاسد في البنية العقلية وحجم ما تقرّه من خلل في الكينونة الثقافية.

إن التأهيل وبقدر كافٍ للذات ـ من خلال توثيق الاتصال الفعّال بمنابع الثقافة الإسلامية ـ شرطٌ يجب استدعاؤه لاستثمار معطياته بحسبانها هي من يزوّد الفرد بالنظرة العميقة المخترقة لحدود الإدراك الظاهر والسابرة لأغوار المقروء وغربلته، ومن ثم مواراة الأفكار المولدة للتصورات المغلوطة في الزوايا المظلمة من الذاكرة ليجري استحضارها في الظرف الملائم، وذلك عند إرادة تجلية مساحات التفوق وإظهار القيم الجمالية وإبراز خطوط التميّز في الفكر السلفي، والذي تتجلّى روعته الأخّاذة عند مقارنته بضدِّه، وكما قال الأول: وبضدِّها تتميّز الأشياءُ.

ثانياً: المبالغة في إيراد الأسئلة والاستفهامات على العقل وتحميله ما لا يحتمل بجعله الإطار المرجعي الأول بعيداً عن النص:

إن الحضور الفعّال للبُعْد التساؤلي في حسِّ الفرد يُعدّ من أهمِّ الشروط اللازمة لتفتيح ملكاته الفطرية ونموّ كينونته المعرفية وتكوين نظرته الشمولية. ولذا؛ فإن تطلّع الفرد إلى استكناه المجهول وإيراده للتساؤلات الهادفة ـ التي تطرح أبعاداً غائبة لم تُمنح ما تستحقه من عناية ـ وتشوّفه إلى معرفة الخيوط التي نُسج منها الواقع، وبحثه عن إجابات تمكّنه من فرز التباسات الآني المعقد وتبيّن تشابكاته وتداعياته ومن ثم تحسس المسارات الآمنة ينمّ عن عمق في الوعي، واستنارة في العقل، وتحسّن في مستوى الإدراك، وانعتاق من قيـود النمـطية والتقلـيد، وثمّـة بَوْنٌ ذهني لصالحه يكشـف المسـاحة الشــاسعة بينه وبين الأذهان الببغاوية التي لا تتقن سوى التقليد والمسكونة بكافة ضروب البلادة والتسطح لما تنطوي عليه من افتقار مطلق للبعد العقلاني المرتكز على العلم الموسوعي والتفكير الإبداعي الجادّ، والذي توفّره مربوط إلى حدٍّ كبير بوجود التساؤلات بكثافتها الكمِّية من ناحية، وبطبيعتها النوعية من ناحية أخرى، وقديماً أجاب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عندما سُئل عن السرّ الكامن خلف ما يتوفر عليه من رصيد علمي هائل بقوله: (.. بقلب عقول ولسان سؤول).

إذاً؛ فثقافة التساؤل من حيث المبدأ هي ثقافة ينبغي تفعيلها وإشاعتها، ولكن ثمَّة ملحظ يجب استحضاره في هذا السياق، مؤدّاه أن الأسئلة تتباين باعتبار طبيعتها الماهية، فثمَّة أسئلة لها عوائد إيجابية وثمَّة استفهامات لها مردودها المكتظّ بالسلبية، كما هو الحال في الاستفسارات ذات النزعة الفلسفية المتمحورة حول ذات الخالق ـ جلَّ وعلا ـ وأسمائه وصفاته وأفعاله.

إن ثمَّة أموراً يجب أن يقف عندها العقل موقف التسليم والخضوع أُشير إلى جزء منها على نحو مجمل كما يلي:

أولاً: القدر، فهو سرّ الله في خلقـه، والـرب ـ تبارك وتعالى ـ يعلم الأصلح للخلق الذين لم يتعبَّدوا بالبحث عنه، وإنما تعبَّدوا بالرضى الوجداني والتسليم المطلق والامتثال اللامشروط، ولقد كان سلفنا الأوائل نموذجاً مثالياً يجدر الاحتذاء به في هذا الشأن، وكانت مواقفهم حازمة إزاء من يتمادى في إثارة الأسئلة والإشكالات في القدر، كما نرى في موقف الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تجاه بعض أهل الذمة؛ كـ (قسطنطين) الذي سلَّم مفاتيح بيت المقدس لعمر ـ رضي الله عنه ـ وقد أفصح عن شعور يخالجه بالاعتراض على القدر، فتوعّده عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى فاء إلى الحق. وكذلك قصة ذلك الشاب الذي أفرط في التفاعل مع الخواطر العارضة التي ترد على ذهنه، فجاء به والده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فزوّده بجرعات تعليمية حتى آبَ إلى النهج السوي، وكذلك أيضاً قصة (صبيغ التميمي) وهي مشهورة في هذا السياق.

ثانياً: الغيبيات عموماً سواء منها ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله بكيفياتها، أو ما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى كأحوال الآخرة أو عالم الشهادة الذي ليس بمقدور مداركنا تناوله، فهذا كله يجب الكف عنه وتجنّب البحث في تفاصيله.

ثالثاً: بعض حِكَم التشريع؛ لأن حِكَم التشريع متباينة، فثمَّة جملـة منها قد يُدرك من قِبَل عامة الناس، وجزء آخر قد لا يدركه إلا العلماء، وهناك جزء يختص الخالق ـ جلَّ وعلا ـ بمعرفته، وهو سرٌّ من أسراره الخفية المغيبة عن البشر.

إن الإفراط في طرح المزيد من التساؤلات سلوك له إفرازاته السلبية؛ لأن للسؤال قدرة هائلة على التشعب والتكاثر والسير في كل اتجاه، فالسؤال السابق يفضي إلى السؤال اللاحق الذي بدوره يستدعي إجابة تكتظ بمواطن الأسئلة اللامتناهية، وهكذا تتواصل الأسئلة على نحو توالدي يعي العقل ويرفعه إلى مشارف الهاوية، فتتنازعه مشاعر متناقضة تعصف به وتحيطه بدائرة من الكآبة المقلقة والتوترات النفسية المرشحة للتفاقم والاستفحال.

إن ضغط الأسئلة اللامشروعة على الطاقة الذهنية هو في حقيقته ليس إعمالاً للعقل بقدر ما هو إهمال له وشرعة لاغتياله. تفعيل العقل يكمن في عقلنته بالدلالات المضمونية للنصوص الشرعية، لا بالقفز على هذا البُعْد الشرعي بالاعتماد على الرُّؤى المشوَّهة والطرح الـمُرْبك للوعي الإنساني.

إن الذي أوجد العقل حدّد له دائرة عمله، ووضع له الأُطر التي يجب أن لا يتجاوزها، وجعل منه قاعدة ينطلق منها الفرد في وعيه عن الله وأحكامه ومراده ومرامي تشريعاته، وهو بتآزره مع النص يشكل تصورات الفرد لأهداف الحياة والغاية من الوجود الإنساني.

لقد ضلَّت طوائف شتَّى بفعل جهلهم بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحامه في غير ميدانه، كما نلحظ ذلك جليّاً عند الفلاسفة، حيث أنفقوا طاقاتهم العقلية في سبيل أن يدرك المحدودُ غيرَ المحدود، فتاهوا في محيط من الجدل المتناقض الذي لا يركن إلى قرار، وقالوا: إن وجود الخالق وجود مطلق بشرط الإطلاق، فجرّدوه من الوجود الذاتي، وحصروه في الوجود الذهني الذي لا حقيقة له في الخارج، والمعتزلة قدّسوا العقل وجعلوا النص يدور في فلكه، فأدَّى بهم ذلك إلى القول بخلق القرآن، وقال بعضهم: بمنع التسلسل في صفات الخالق جلَّ شأنه، وأوجبوا عليه فعل الأصلح، والصوفية بفعل انحسار دور النص قالوا: بوحدة الوجود، واعتمد بعضهم على (حدّثني قلبي عن ربي)، والجهمية منحوا العقل مكانة لم يُؤهل لها، ونقلوا قدراته من النسبي إلى المطلق، فقالوا: بنفي النقيضين عن الله، ومنهم من قال: بالحلول، ومنهم من قال: بالاتحاد، وجملة منهم حصروا الإيمان بالمعرفة المجردة فحسب، والقدرية جعلوا للعقل الهيمنة الكاملة والمرجعية المطلقة، فقالوا: بأن العبد خالق أفعاله وأن الله لم يقدّرها، والمرجئة جعلوا السيادة للعقل وعملوا على إقصاء النقل فقالوا: بنفي الكفر عمن تلبّس به والتاث بسلوكياته.

والثنوية ألّهوا العقل وخرجوا به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم، فقالوا: بوجود خالقين لهذا العالم، والخوارج وسّعوا دائرة صلاحيات العقل وأَعْلوا من وظائفه فرَمَوا بالكفر من هو منه بَراءٌ، وسلكوا منهج العنف ذي الطابع الراديكالي، والدهرية جعلوا العقل هو الصانع المنتج للوعي والمحدد لإطاره فأنكروا وجود الخالق جلَّ في علاه، والأشاعرة والماتريدية جعلوا العقل هو الركيزة الأساسية التي يصدرون عنها، فقالوا: بظنّية الدلالات الشرعية ويقينية القواطع العقلية، ووصفوا الخالق بالنقص عندما قالوا بعدم ظهور آثار أسماء الخالق وصفاته إلا بعد أن خلق هذا العالم المنظور، والقرآنيون أطلقوا العنان للعقل فذبلت في حسّهم مدلولات النص القرآني وأبعاده الحقيقية فأفضى بهم ذلك إلى تهميش السُّنة وحجب أبعادها الدلالية الملزمة، وهكذا تيارات متعددة تاهتْ عن الطريق الفطري الميسر بفعل تجاوزها لحدود الإدراك الإنساني ولإنفاقها للطاقة العقلية سفهاً في غير مجالها المأمون.

إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه ليس ثمَّة تعارض بين العقل الصريح الخالي من الشبهات والنقل الصحيح، بل التوافق بينهما هو الحقيقة الجلية التي لا تخطئها عينُ منصف، والشريعة لا تأتي بمحالات العقول بل بمحاراتها، وتأمَّل معي هذا الكلام الـقيم لابن تيمـية في كتـابه الموسـوم بـ (درء تعارض العقل والنقل) ـ هذا السِّفر الذي يُعدّ عملاً علمياً فذّاً لا يضارعه إلا القلة النادرة ـ حيث يقول: «إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض بـه لا عقل ولا شرع» 1/194، إذاً؛ فتوهّم التعارض بين العقل والنص الصحيح آية على ارتباك العقل وفساده. ويقول في موضع آخر من درء التعارض: «إن النصوص الثابتة عن الرسول # لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شُبَهٌ وخيالات مبناها على معانٍ متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شُبَهٌ سفسطائية لا براهين عقلية» 1/155، 156، ويقول أيضاً في الدّرء: «والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول # هو الحق الموافق لصريح المعقول» 3/87.

إن كل رؤية عقلية لها حظ من البُعْد الموضوعي وتصح من الناحية الاستدلالية يقول بها أهل الأهواء فإن لها ما يعضدها في المصادر التشريعية، يقول ابن تيمية: «فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يـذكر أحد منـهم في مسألة ما دليلاً صحيحاً يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقِدَم العالم كـ (أرسطو) وأتباعه ما يذكرونه من دليل صحيح عقلـي فــإنه لا يخالـف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه» درء التعارض 1/133، إن الاجتراء الصارخ على قدسية النص ـ إما بإقصائه، وإما باستقطاب الترجمة المشوهة غير الأمينة التي لا تعكس حقيقته ـ ممارسة عبثية لا علمية تشتغل على تهميش العقل الذي تحتِّم مقتضياته أن يكون النص الشرعي هو الضابط لإيقاعه والمحدِّد لمساره والموجِّه لتطلُّعاته، يقول صاحب الدّرء: «إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دلّ على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول #، فلو أبطلنا النقل لكنّا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقــديمه، فلا يجوز تقديمه وهذا بيّن واضح، فإن العقل هو الذي دلَّ على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يُقدَّم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه على النقل، وهو المطلوب» 1/170، 171.

إنه ليس من العقل تحكيم العقل؛ لأن العقول مضطربة ومتباينة وليس ثمَّة ما يسمّى بـالعقل البشري كمدلول مطلق يكون مرجعاً يُحتكم إلى معطياته وعنصراً حاسماً يضع الأمور في نصابها، يقول صاحب الدّرء: «والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا، بل كل من العقلاء يقول: إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر: إن العقل نفاه أو أحاله أو منع منه بل قد آلَ الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلوم بالضرورة العقلية» 1/144، 145.

ويقول في موضع آخر من الكتاب ذاته: «فلو قيل بتقديم العقل على الشرع ـ وليست العقول شيئاً واحداً بيِّناً بنفسه ولا عليه دلـيل معلوم للناس بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب ـ لوجبَ أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته ولا اتفاق للناس عليه» 1/46.

إن الشارع حكم بتحديد مجال النظر العقلي وصيانة الطاقة العقلية أن تتبدّد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها وإنما يخضع ويذعن، والعقل التسليمي هو الأمر الذي كان الإسلام ـ بوصفه النَّسَق الذي يشكل الإطار المفاهيمي الموضوعي ـ يحث على الصيرورة إليه بعيداً عن العقل الشكي الديكارتي التائه في أودية الخيال. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه الصواعق المرسلة: «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورُسُله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحكِ الله ـ سبحانه ـ عن أمّة نبي صدّقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيّها، بل انقادت وسلّمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: «يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بِمَ أمر ربنا؟»، ولهذا كانت هذه الأمة ـ التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً ـ لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدَّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام» 4/1560، 1561.

وجماع القول أن إشكالية التحولات الفكرية إشكالية تطرح نفسها على الوسط الفكري بإلحاح يستدعي معاينتها وفق رؤية شمولية تتغيّا الاتجاه إلى العوامل الباعثة لها للعمل على تجفيف منابعها، وهذا لا يعني أن ثمَّة كثافة كمّية مقلقة في هذا السياق ـ كما أسلفت آنفاً ـ ولكن كضرب من الفعل الوقائي الذي يعصم من إفراز إرهاصات بدأت نذرها بالتشكل على نحو قد يلامس حدود التأسيس لظاهرة باعثة على القلق في هذا المقطع الزمني المتّسم بتداخل الثقافات وثورة المعلومات وكونية التفاعل الثقافي، وفي هذا الراهن الآني الذي استحال فيه العالم إلى غرفة إلكترونية محدودة المساحة الشأن الذي يجد فيه كلُّ معنيٍّ بالهمِّ الدعوي نفسه ملزماً أمام ضميره الخاص بتوظيف خبراته المتراكمة لإبداع الأُطر التي تعينه على رفع درجة الوعي لدى العقل الجمعي، وتبصيره بأن التقدم إلى الأمام مرهون بالعودة إلى الخلق المتمثل في القرن الهجري الأول، الذي تبوَّأ فيه المسلمون القمة السامقة في سلك التطور الارتقائي.

وصفوة القول أنه لا مناص من تسليط أشعة النقد على كل فكر ملوّث وكشف تناقضاته الفجّة؛ لإيقاف مفعول الشحنة السلبية التي تستهدف مجتمعاً يسعى لاستئناف مسيرته الحضارية ولإعادة هذا الفكر الظلامي ـ الذي تشكل النزعة الطوباوية أحد أبرز ملامحه ـ إلى مكانته الطبيعية التي هو قمين بها، ليظل قابعاً في أزقة الحضارة وموارياً في مزابل التاريخ.

المصدر
 
الأخ الكشاف جزاكم الله خيراً على هذا المقال القيم وبارك الله في صاحبه لقد كفى ووفى وأبدع ...
 
بل صدرت تلك المقالات في كتاب بعنوان ( مدخل إلى القرآن الكريم ) الجزء الأول : في التعريف بالقرآن
نشر : مركز درسات الوحدة العربية.
 
الكتاب صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت كما تفضل أخي أبو زيد وفقه الله ، وقد بلغ عدد صفحاته 456 صفحة من القطع العادي .
[align=center]
madkhaljabri.jpg
[/align]
وقد قسم المؤلف كتابه إلى جزأين ، طبع الأول منهما ، وهو هذا .
وقد قسم المؤلف الجزء الأول من كتابه إلى ثلاثة أقسام :
الأول : خصصه (لاستكناه وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث) كما يقول .
الثاني : تتبع فيه المؤلف (مسار الكون والتكوين للقرآن الكريم) على حد تعبيره .
الثالث : حلل فيه المؤلف القصص القرآني بحسب ترتيب نزوله .

والكتاب في حاجة إلى قراءة متأنية لم تتيسر لي بعدُ ، وأرجو أن يوفق الباحثون لعرض هذا الكتاب عرضاً موضوعياً يبين ما للكتاب وما عليه ، وقد ذكر المؤلف أن دافعه إلى تأليف الكتاب كان ما تلى أحداث 11 سبتمبر 2001 من أحداث ، ورغبته في التعريف بالقرآن الكريم للمسلمين وغيرهم . فهل وفق المؤلف يا ترى في غايته التي قصدها أم لا ؟
 
وجدت هذه المشاركة حول الكتاب انقلها للفائدة
حيث كتبت في جريدة السفير

مدخل الى القرآن الكريم» لمحمد عابد الجابري الأشياء تتفسر بنفسها والقضية تجتمع بنقيضها
17/01/2007 عدد القراء: 190



تتنوع فصول كتاب الجابري الأخير فتتشعب إلى دراسة وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث، والدعوة المحمدية وعلاقاتها مع ما يحيط بها من حضارات، لتصل إلى دراسة الوحي والنبوة والقرآن وقراءاته وترتيبه وتجميعه كي تختم بالقصــص القـرآني وعلاقة النبي بالقرآن. لكنه كتاب رافض للمنطق، ونتائجه معروفة سَلفا لدى المسلم المؤمن. فمثلا إحدى نتائج الجابري هي التالية: «ومن هنا يمكن القول إن القرآن ذو ماهية مزدوجة، عربية اللسان، إلهية المضمون» (محمد عابد الجابري: مدخل إلى القـرآن الكريم. .2006 مركز دراسات الوحدة العربية. ص 197 ). هذا معروف و معترف به لدى المســلم المؤمن . أما مثل آخر على نتائجه التقليدية المعروفة فهو استنتاجه بعد دراسته للقصص القرآني بأن «القصص القرآني ليس مجرد حكاية أخبار، بل هو بيان و برهان: وسيلة في الإقناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيدا عن أساليب اللاعقل» (ص 425). فما فائدة البحث إذن ما دامت النتائج معترفاً بها أصلاً لدى المسلمين؟ لا فائدة من الكتابة إن لم تقدِّم جديداً. وكتاب الجابري بعيد كل البعد عن أي جديد.
كما يتميز كتابه برفض المنطق. فمثلاً يقول الجابري: «ونحن نقصد بـ«الظاهرة القرآنية» ليس فقط «القرآن» كما يتحدث عن نفسه... بل ندرج فيها أيضاً مختلف الموضوعات التي تطرق إليها المسلمون وأنواع الفهم والتصورات «العالمة» التي شيدوها لأنفسهم قصد الاقتراب من مضامينه ومقاصده» (ص 23). هكذا عَرَّف «الظاهرة القرآنية» من خلال القرآن وأتباعه، وبذلك عرَّف الشيء بالشيء نفسه فوقع تحليله في الدور. لذا تعريفه كتعريف الماء بالماء. والدور مرفوض منطقــيا لأنه لا يقدِّم شيئا؛ فبمجرد أن تعرِّف الماء بالماء فأنت لا تعرِّف شيئا بل تبقي المجهول مجهولاً. ثم يُحلـِّـل القرآن على أنه تنــزيل من عند الله بلسان عربي وأنه قائم في الكتــب الســماوية السابقة (ص 23). لكن يعـاني هذا التعريف من مشكلتين أساسيتين: أولا، إذا عرّفنا القرآن بأنه تنزيل، فما هو تعريف التنزيل؟ إذا لم نعرِّف ما هو التنزيل، لن نكون قد قدّمنا أي تعريف لمفهوم القرآن. ثانياً، إذا عرّفنا القرآن على أنه الموجود في الكتب الســماوية السابقة كما يفعل الجابري، إذن نفشل في تمييز القرآن عن الكتب السماوية الأخرى. لكن وظيفة التحليل كامنة في تقديم الشروط الضرورية والكافية لتحقق الشيء المُشار إليه بالمفهوم المُراد تحليله كي نميِّز بين هذا الشيء والأشياء الأخرى. هذا ما لم يقم به الجابري من خلال تعريفه للقرآن على أنه الموجود في الكتب السماوية السابقة. وبذلك يفشل تحليله.
تناقضات
كما أن الجابري يغرق في الغيب، حيث يؤكد على أن الظاهرة الدينية هي تجربة روحية، وأن التجرية الروحية معاناة مع المطلق تقع وراء الحس والمحسوس والعقل والمعقول (ص 26). مشكلتنا مع هذا التحليل أنه فارغ المضمون لافتقاره إلى تحديد المفاهيم والمفردات المُستخدَمة في تعريف الظاهرة الدينية. فلقد عرَّف الظاهرة الدينية من خلال مفهومي الروح و المطلق. لكنه لم يُقدِّم تعريفا للروح وتعريفا للمطلق، وبذلك أصبح تعريفه فارغا من أي محتوى.
لا يكتفي الجابري بذلك بل يمضي في تناقضات عديدة ومختلفة. فمثلا يُعبِّر عن منهجه قائلاً: «...السبب في مثل هذا الاضطراب إن لم نقل «التخبط» في تفسير كثير من الآيات القرآنية يرجع في الغالب... إلى عدم اعتبار مسألة منهجية أساسية، وهي النظر إلى كل آية داخل السياق الذي وردت فيه وتجنب اقتطاعها منه والتعامل معها كنص مستقل بذاته «(ص 89). وهو بذلك يلتزم بمبدأ «القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً» (ص 90). لكنه يناقض موقفه المنهجي هذا بقوله: «وهذه الخاصية البيانية جعلت النص القرآني منفتحاً بحيث يمكن فهمه وتفسيره من دون التقيد بتسلسل معين، فكل سورة فيه يمكن أن تكون موضوعاً لتفسير خاص بها أو نقطة انطلاق لتفسير الكل، فالمفسِّر ـ ومثله المترجم ـ لا يفسر نصا مبنيا جامدا في قالب، وإنما يفسر نصوصا محدودة (مسورة في سور) أغلبها مستقل بنفسه (مجموعة آيات)» (ص 243ـ 244). لكن إذا كان القرآن يفســر بعضه بعــضاً، إذن يستــحيل أن تكون أغلــب الآيــات القــرآنية مســتقلة بنفســها وأن تكون كل سورة موضوعــا لتفــسير خاص أو انطــلاقا لتفسير الكل. هكذا يقع الجابري في التناقض؛ فقوله بأن القرآن يفسِّر بعضه بعضا يناقض قوله بأن أغلب الآيات مستقلة بنفسها وأن كل سورة قابلة لتفسير خاص.
يستمر الجابري في عرض تناقضاته. يقول: «لقد أكدنا مرارا أننا لا نعتــبر القــرآن جزءا من التراث. وهذا شيء نؤكده هنـا من جديد، وفي نفس الوقت نؤكد أيضا ما سبـــق أن قلناه في مناسبات سابقة من أننا نعتبر جــميع أنواع الفــهم التي شيدها علــماء المــسلمين لأنفسهم حول القرآن، ســواء كظــاهرة بالمعنى الذي حددنــاه هنا، أو كأخــبار وأوامر ونواه، هي كلها تراث، لأنــها تنــتمي إلى ما هو بشري» (ص 26). هذا يعني أن القرآن لــيس جزءا من التراث لأنه ليس بشريا. لكنه يناقض موقــفه هذا بالــذات حين يقول: «فالظــاهرة القرآنية... ظاهرة عربية» (ص 27). فبما أن الظاهــرة القــرآنية ظاهرة عربية، إذن القرآن جزء من التراث. وبذلك يقـر بأن القــرآن جزء من التــراث وبأنه ليس كذلك في آن معاً، وهذا تناقض قاتل.
يقع الجابري في تناقض آخر. يقول: «وهذا يعني أن العرب قبل الإســلام لم يــكن لديهم أي تصور للنبوة، إلا بمعنى الرفــعة والشــرف، أما أن يتلقى الواحد من البشـر الوحي من الله فذلك ما كان غائباً عن معهودهم» (ص 112). لكن موقفه هذا يناقض قوله بأن الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت تشــهد حــركة دينية واســعة تنتظر ظهور نبي جديد وبذلك تؤمــن بالنبــوة. يقــول: «في هذا الإطــار، إذاً، تقع تلك الروايات المتعددة التي تنقل إلــينا أخبارا وتفاصيل عن تصريحات كثير من الرهبان «النصارى» بقرب ظهور نبي جديد! وفي هذا الإطار نفسه يجـب أن نضع تلك الحركة الواسعة التي انتشـرت في جميع أجزاء الجزيرة العربية ـ تقريبا ـ والتي كانت تبــحث عن «الدين الحق»، دين إبراهيم، والتي عرف أصحابها باسم «الحنفاء»... وقد التقــى النبي مع بعضهم وســئل عن آخرين فامتدحهم جميعا وقال عن بعضهم إنهم أنبياء أضـاعهم أقوامهــم» (ص74). هكذا يؤكد الجــابري على القضية ونقيـضها وعلى الأمر ونقـيضه فيقع في التناقض. فالقول بوجود حركة دينية واسعة تنتظر نبوة جديدة وبذلك تـؤمن بالنـبوة، ونفي وجودها في آن معا هو تناقض فاضح.
رفض الآخرين
يضيف الجابري تناقضاً آخر حين يقول: «القصص القرآني ليس مجــرد حكاية أخبار، بل هو بيان وبرهـان: وسيــلة في الإقــناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيدا عن أساليب اللاعقل!» (ص425). ويؤكد على عقــلانية القرآن قائلاً: «القرآن يدعو إلى دين العقل، أعني إلى الدين الذي يقوم فيــه الاعتــقاد على أساس استعمال العقل، انطلاقا من الاعتقاد في وجود اللــه إلى ما يرتــبط بذلك من عقائد وشرائــع» (ص429). لكــن الجابري يناقض موقفــه القائل بعقلانية القرآن حين يقول عنه: «إنه نص بياني من نتاج الوحي لا من إنتاج المنــطق» (243). هـكذا غدونا خارج الحضارة برفضـنا للمنطق و العقل.
يختم الجابري كتابه بنقد الأديان الأخرى والتأكيد على تفوق الإســلام. يقول: «أما المسيح فقد ظــهر ثم غــاب! كالــشرارة التي ما إن يأخذ الرائي في تحــديد مكانها فوق الموقد حتى تختفي!» (ص 432). هذا كلام غير علمي وغير موضوعي؛ فالمسيــحية ما زالت حية والمسيح بالنسبة إلى المسيــحيين حي يهــدي الــناس كما يفـعل الله وســائر الأنبياء تماماً بالنسبة إلى المسلـــمين. هكذا يقــع الجــابري أيضاً في رفـــض الآخرين مما يزيدنا تخلفاً ويزيده رفضاً للموضوعية ولأصول البحث العلمي.

جريدة السفير
 
الدكتور الجيوسي.. ما قصدك سامحك الله؟

الدكتور الجيوسي.. ما قصدك سامحك الله؟

[align=justify]

بسم الله والصلاة على رسول الله وعلى آله ومن اهتدى بهداه وبعد:

الدكتور الجيوسي أورد مقالاً كتبه شخص نصراني أو كما كما يدعون أنفسهم مما نقبله تجوزاً (مسيحي) يريد صاحبه من الأستاذ الجابري أن يكتشف أن القرآن ليس كلام الله تعالى ليعدّ كلامه علمياً؟!! وينتقد تصريح الجابري بأن كون القرآن كلام الله تعالى وأنه كتاب غايته الهداية وتوجيه العقل أمرٌ مسلمٌ به معروف لكل مسلم بأنه عيب كبير في فكر الجابري لأنه يقدم النتيجة سلفاً؟!
وهذا ليس غريباً عن كاتب نصراني شرقي يريد أن يماحك القراء المسلمين أو يستثير القراء النصارى من أمثاله. لكن ما لم أجد له تفسيرا إيراد الدكتور الجيوسي لهذا المقال هنا!!!!!!!!!!!!!!!
فهل المطلوب أن نورد كل ردّ حتى وإن كان عدائياً ومهلهلاً كهذا المقال؟
أم أن الوقت لم يسمح للأخ الجيوسي أن يقرأ المقال أصلاً بل حسبه من باب الرأي الآخر لأن الأستاذ الجابري أو كتاباته قد أصبحت تتلقى النقد ممن هب ودب لأنه أوهم القارئ بطريقته التبسيطية أنه بسيط وسهل الخوض في مناقشة أفكاره.؟ أم أن الأستاذ الجيوسي أراد اختبار عقلية رواد الملتقى هنا فيورد مقالا مسفاً وسطحياً ليمتحن عدالتهم ومبادئهم ، هل امتثلوا قول ابن قتيبة : ونحن نعوذ بالله أن يطلع ذو النهى منا على ظلم لخصم أو إيثار لهوى أو تعمُّدٍ لتمويه. أم أنهم اقتدوا بـ بابان بفوله (إن الذين يتفقون معي هم طيبون والذين يخالفونني هم بالضرورة محتالون ودجالون!!)


ما علينا إلا أن نضرب في أرض الخيال بحثاً عن الاحتمال

وبالله نعتصم ونسأله العصمة مما يصم
[/align]
 
فما رأي الدكتور الصالح فيما جاء في هذا الرابط، وبالتحديد فيما جاء تحت عنوان: حول ما قيل إنه سقط من القرآن
و "التحريف" مصطلح له معنى خاص .
 
محمد عابد الجابري: قارئاً للقرآن


سامر رشواني
كاتب سوري


لا يسع قارئ الجابري أن يطالع له كتابا جديدا دون أن يربطه بمشروعه الفكري في قراءة التراث العربي. ولكن الجابري في كتابه الجديد (مدخل إلى القرآن الكريم:في التعريف بالقرآن) يحب أن يجعل القارئ حرا (أو حائرا) في رسم الإطار الذي يمكن أن ينتسب إليه كتابه هذا، من جهة صلته بالسيرورة الفكرية له. ولعله أميل إلى إخراجه عن إطار مشروعه السابق من جهات عديدة، فهو مبدئيا ينفي أن يكون القرآن مما يصدق عليه مصطلح التراث فهو النص المؤسس للتراث، وعنه وحوله نشأ هذا التراث. ومن جهة أخرى، لا يرى الجابري أن مشروعه الفكري يمتلك خطا أو مسلكا محددا مسبقا بل هو آفاق تتوسع باتساع المعرفة والبحث.
يحاول الجابري أن يضع كتابه هذا في سياق التداعيات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول وما تبعها من هجوم على الإسلام، فألف كتابه هذا "مدفوعا برغبة عميقة في التعريف به للقرّاء العرب والمسلمين وأيضا للقرّاء الأجانب، تعريفا ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين ممن قد يصدق فيهم القول المأثور «الإنسان عدو ما يجهل»، على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع، بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل" (ص 14).
ولكن هذا لا يمنعنا من أن نضع هذا الكتاب ضمن سياق المشروع الجابري أو سيرته الفكرية، فبعد إنجازه مشروع قراءة التراث الفكري العربي في أنساقه المختلفة، انتقل الجابري إلى قراءة الأساس والأصل الذي قام عليه هذا التراث، محاولا تطبيق نفس المبدأ الذي اعتمده في تناول التراث ألا وهو: «جعل المقروء معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في الآن نفسه».
أما معاصرة النص لنفسه فتتم من خلال تطبيق المبدأ الذي نادى به كثير من علماء المسلمين، من المفسرين وغيرهم، وهو أن «القرآن يشرح بعضه بعضا»، وذلك دون إقصاء الروايات والمأثور، على أن يشهد القرآن لهذه الروايات بالصحة، ولا تقع في تصادم معه. والجابري في اعتماده هذا المبدأ لا يبتغي بعمله هذا أن يدون تفسير للقرآن، بل يقتصر هدفه على التعريف به، ولكن هذا التعريف قد يدعوه إلى قراءة القرآن نفسه، وتفسير بعض نصوصه. وأما معاصرة النص لنا، فإنما تتم ـ كما يرى الجابري ـ على صعيد الفهم والمعقولية لهذا النص، هذا فضلا عن صعيد التجربة الدينية المتحققة دوما.
وقد سمّى الجابري كتابه هذا مدخلا وتعريفا بالقرآن، إذ أراد من خلاله أن يكتب سيرة للقرآن، يرى أنها ضرورية جداً لفهمه، وضرورية لجعله معاصراً لنفسه. من أجل هذا جعل كتابه على ثلاثة أقسام: عرض في القسم الأول منها لقضايا تنتمي إلى التاريخ السابق على القرآن، بما هو رسالة إلهية موحاة، ودعوة نبوية جديدة.
من هذه القضايا مسألة التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الديني السابق على الإسلام، وهي قضية لم تزل مثارا للجدل بين المسلمين وأهل الكتاب من يهود ونصارى منكرين وجود مثل هذه البشارة (1) وقد أوضح الجابري أن المسألة لم تكن مجرد تبشير ب«الأمي» الذي اسمه أحمد أو محمد، على النحو الذي فهمه كثير من المفسرين، وحاولوا بناء عليه التنقيب في كتب اليهود والنصارى على دليل عليه ـ بل مسألة التبشير مرتبطة بوجود تيار ديني توحيدي قام في وجه نظرية التثليث التي رسمتها المجامع الكنسية برعاية الإمبراطورية البيزنطية. ولعل أبرز من يمثل هذا التيار هو آريوس الذي قام بثورته في القرن الرابع الميلادي متبعا عقيدة «النصارى» الموحدين ـ أو من أطلق عليهم أصحاب التثليث لقب «الأبيونيين» أي الفقراء نظريا وفكريا ـ وعمل على نشرها في أنحاء عديدة من الإمبراطورية البيزنطية. ولكن المجامع المسكونية الرسمية قابلت مذهب آريوس بالرفض وبدَّعت كل من يرفض فكرة التثليث، فما كان من هؤلاء ـ بحسب رأي الجابري ـ إلا أن طرحوا فكرة النبي «المنتظر» الذي بشرت به نصوص بعض الأناجيل تصريحا أو تلميحا، أو على سبيل التأويل. وفي هذا الإطار يمكن فهم ما جاءنا من أخبار عن كثير من الرهبان يصرحون بقرب ظهور نبي جديد، وكذلك نفهم ظاهرة «الحنفاء» الباحثين عن الدين الحق، التي انتشرت في أرجاء جزيرة العرب.
وقد حاول الجابري أن يؤكد على أن العلاقة التي تحكم الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية هي علاقة تحكمها شجرة نسب واحدة، جذعها المشترك هو إبراهيم شيخ الأنبياء. وهذا كلام لا إشكال فيه، لولا أن السياق يقتضي التفريق بين اليهودية (2) ـ أو المسيحية ـ الأصلية الحقة وبين اليهودية التاريخية أو المسيحية البيزنطية التي انحرفت وانجرفت بعيدا عن أصل التوحيد الإبراهيمي. والكلام الذي أسلفه المؤلف يقتضي هذه التفرقة أصلا.
يطرح الجابري بعد هذا مسألة «النبي الأمي» ومفهوم «الأمية» على بساط البحث والنظر، وهي مسألة كثيرا ما طرحت في العصر الحديث، وقد وافق فيها الجابري آراء كثير من المعاصرين من المستشرقين والمسلمين. حيث ذهب إلى أن المعنى الذي ألصق بكلمة «الأمي» وأنه من يقرأ ولا يكتب، معنى لا يسنده أصل لغوي سليم، ولا استعمال عربي معهود، ولا واقع تاريخي صحيح. فهذا اللفظ «الأمي أو الأمية» لم يستعمله العرب قبل الإسلام، بل هو معرَّب، ومأخوذ عن اليهود الذين كانوا يطلقون على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل لفظ «الأمم»، وعليه فإن «الأمي» مشتق من «الأمة » ـ كما يقول الفراء ـ وليس من «الأم» كما يقول الزجاج وغيره من المتأخرين. كما أن كثيرا من الدلائل تشير إلى معرفة العرب بالكتابة والقراءة، فضلا عن إلمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها.
وعليه فإن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في أنه قد جاءهم بكتاب، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، بل المعجزة ـ أو فلنقل المنة ـ كانت في إنزال كتاب سماوي على رجل أمي من أمة أمية لم يسبق لهم علم بكتاب سماوي، فأصبح العرب بهذه المعجزة «القرآن» أمة من أهل الكتاب، بعد أن كانت أمة أمية لا كتاب لها.
ثم تطرق الجابري لحدث الوحي، ومفهومه، وللاتهامات التي وجهتها قريش لدعوى الوحي، إذ لم يكن مفهوم الوحي، بالمعنى القرآني، معروفا في معهود العرب اللغوي والثقافي، بل إن مفهوم النبوة أيضا لم يكن من معهودهم، فهذه المفاهيم مما نشأ مع الإسلام، وقد استطرد الجابري بعد ذلك في عرض نظرية النبوة ومفهومها عند المسلمين من المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة والمتصوفة والشيعة، كما تعرض لمفهوم الوحي في اليهودية والمسيحية، مبينا تميز مفهومه في الإسلام عنهما.
السيرة التكوينية للقرآن
أما القسم الثاني من كتابه، فقد خصصه الجابري لبحث مسارات الكون والتكوين للقرآن. واعتمد في بنائه، وفي تخطيط ما سيليه من بحثه على المفاهيم التي عبَّر بها القرآن عن نفسه، مع ملاحظة السياق التاريخي الذي جاءت فيه.
فقد لاحظ الجابري أن القرآن أولَ ما نزل، عبَّر عن نفسه بلفظ «الذكر» ولفظ «الحديث»، حينها لم يكن قد نزل من القرآن إلا سور معدودة قصيرة، ومع انتقال الدعوة إلى المرحلة العلنية، وبدء المواجهة مع المشركين، وتكاثر السور حتى بلغت نحو ثلاثين سورة، ظهر لفظ «القرآن»، ليشير إلى أنه كلام تقوم طريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغمة، تقرر وجودا يحمل معه برهانه، فيستغني عن برهان العقل: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر:21، وقد استقر هذا الاسم علما على الوحي المحمدي، وأصبح «الذكر» و«الحديث» أوصافا للقرآن، وعلى نحو أدق أصبح المراد بالذكر جزءا مخصوصا من القرآن، وهو آيات القصص، والوعد والوعيد.
أما لفظ الكتاب فقد بدأ مع سورة الأعراف {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف:2، التي تستحق أن توصف بأنها كتاب بحد ذاتها، فهي أطول سورة نزلت بمكة، وإطلاق اسم «الكتاب» على القرآن عملية ذات مغزى، فهي أول إشارة إلى انتقال العرب من وضع أمة أميَّة لا كتاب لها إلى وضع أمة لها كتاب، وفي الوقت نفسه تضع حدا لاحتكار اليهود والنصارى للقب «أهل الكتاب»، وسورة الأعراف على وجه الخصوص، تضع بين ناظري العرب تاريخهم الخاص على مسرح النبوة والرسالات السماوية، أي أنبياء العرب «البائدة» عاد وثمود ومدين وغيرهم.
هذه هي اللحظات الثلاث في سيرة القرآن، لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، ولحظة القرآن/الذكر:القص، ثم لحظة القرآن/الكتاب: عقيدة وشريعة وأخلاق. وقد عرض الجابري في كتابه هذا اللحظتين الأوليين وترك اللحظة الثالثة للجزء الثاني الذي وعد به القراء.
أما لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، فقد عرض فيها لمسألة الأحرف السبعة والقراءات، وجمع القرآن، وما أثير حوله من القول بالزيادة والنقصان، وترتيب المصحف، وترتيب النزول. وقد مسَّ الجابري هذه المسائل المشكلة مسَّا خفيفا، فلم يحلَّ إشكالاتها، ولم يأت بما يشفي الغليل، بل اكتفى بسرد بعض الآراء التي ذكرت في كتب علوم القرآن حول هذه المسائل، مع الميل إلى المشهور ـ وما عليه الجمهور ـ من هذه الآراء (3).
وكان من الواضح أنه يريد بإيراده هذه المسائل تقرير بعض الأسس التي سيستند إليها في فهمه للقرآن، لاسيما التسليم بصحة المصحف العثماني وما ثبت من القراءات المتواترة، كما انتهى إلى أن ما ينسب إلى المصادر الشيعية من القول بنقصان شيء من القرآن فهو ليس إلا انعكاسا لموقف سياسي احتجاجي.
أما فيما يتصل بترتيب النزول (4) فقد اهتم الجابري بهذه المسألة اهتماما بالغا، إذ إن هذا الترتيب لا بد منه لرسم المسار التكويني للنص القرآني. وقد لاحظ الجابري التقارب والتشابه بين لوائح ترتيب السور التي نقلتها كتب علوم القرآن عن ابن عباس وجابر بن زيد وغيرهما. كما عرض لاجتهادات المستشرقين في ترتيب السور. وخلص إلى القول بأن "القرآن كتاب مفتوح، يتألف من سور مستقلة تكونت مع تدرج الوحي، والسور نفسها مكونة من آيات مرتبطة ـ في كثير من الحالات ـ بوقائع منفصلة هي أسباب النزول. من أجل ذلك كان من غير الممكن التعامل مع القرآن كنص معماري مهيكل حسب ترتيب ما" (ص243).
ولكن من أجل بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنص القرآني، تصور يكون قريبا من الواقع التاريخي، فإن ترتيب النزول المعتمد حاليا (من قبل الأزهر وغيره من الهيئات الإسلامية) ضروري ولكنه لا يكفي. "ضروري لأنه لا يمكن بناء تاريخ من غير مواد تاريخية"، أما أنه لا يكفي فلئن المرويات لا تفي بالغرض المرجو. فلا بد إذن من توظيف المنطق في عملية استثمار المواد التي يقدمها المأثور، "وفي هذه الحالة قد تدعو الحاجة إلى التصرف في ترتيب النزول المعتمد اليوم، بوصفه نتيجة اجتهاد مبني على الظن والترجيح، وذلك من خلال المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية والمسار التكويني للقرآن" (ص 244-245).
على هذا الأساس قدم الجابري تحقيبا للمرحلة المكية من نزول القرآن في مخطط مساوق لمسار السيرة النبوية فجعلها على خمسة مراحل: مرحلة الدعوة السرية، ثم الدعوة جهرا والتعرض للأصنام وبداية الصراع مع قريش، وهذه المرحلة تبدأ مع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة النجم في الكعبة. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة اضطهاد قريش للمسلمين ومحاولتهم إغراء النبي للتخلي عن مهاجمة أصنامهم، وهجرة المسلمين إلى الحبشة جراء ذلك، تليها مرحلة حصار النبي وأهله في شعب أبي طالب ـ وقد أوضح الجابري صعوبة تعيين السور التي نزلت في هذه المرحلة-، وتأتي أخيراً مرحلة فك الحصار وعرض النبي نفسه على القبائل، ومن السور التي توفرت على إشارات إلى هذه المرحلة : الطارق، الجن، القمر، ص، الأعراف، الإسراء... الخ.
أما فيما يخص إعجاز القرآن، فقد عرض الجابري باقتضاب لبعض نظريات الإعجاز القرآني ولم يتوقف عندها طويلا، ولكنه انتقل للبرهنة على أن القرآن هو المعجزة الكبرى والوحيدة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ونفى أن يكون انشقاق القمر، أو الإسراء والمعراج معجزات حقيقية أصلا. ومن هنا انتقل إلى الدفاع عن صحة الوحي المحمدي وأنه لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب. ثم استطرد في هذا إلى الحديث عن تطور العلاقة مع أهل الكتاب في القرآن المكي، وقد كانت علاقة هامشية، ثم في القرآن المدني، إذ ابتدأ الجدل مع اليهود في المدينة قبل أن يتحول الجدل إلى صراع فجلاء لليهود عن المدينة، وحدث بعدها الجدال مع النصارى «وفد نجران».
القصص القرآني وتطور الدعوة المحمدية
أما القسم الثالث من الكتاب فمداره القصص القرآني أو القرآن/الذكر، وليس مقصود الجابري من هذا القسم ما قد يتبادر من عنوانه، أي سرد قصص الأنبياء كما جاءت في القرآن، بل مراده وغايته أن يتعرف على الدعوة المحمدية من خلال القصص القرآني، فهذا القصص"نافذة واسعة تمكننا من الإطلالة على جانب مهم من محيط الدعوة المحمدية.. نقصد علاقتها بتجارب الأنبياء السابقين مع أقوامهم، وهو من جهة أخرى خطاب جعل منه القرآن مسرحا لخطاب جدلي أبدي موجه إلى خصومه يطلب منهم استخلاص العبرة من تلك التجارب، وبالتالي فهو مكون أساسي من مكونات مساره التكويني" (ص257).
وقد اعتمد الجابري للوصول إلى غايته هذه عددا من القواعد: أولها: النظر إلى القصص القرآني باعتباره نوعا من ضرب المثل، والاقتصار على المادة التي يعطيها القرآن وحده، بغض النظر عن مسألة الحقيقة التاريخية؛ فبما أن الهدف الأوحد للقصص هو العبرة فلا معنى للبحث عن الصحة التاريخية لها. وآخر القواعد هو تتبع القصص القرآني حسب ترتيب النزول، وليس حسب ترتيب المصحف، وهذا التتبع لا يعنيه التسلسل الزمني لوقائع القصة، بل يعنى بعرض القصص كما تناولها القرآن منذ أولى السور التي تعرضت للقصص، ذلك أن القرآن "ليس كتاب قصص، بل كتاب دعوة يستعمل القص لأهداف الدعوة" (ص260).
ويمكن تصنيف القصص القرآني بحسب أغراضها وتبعا لترتيب نزولها في ثلاثة أصناف:
أ‌. صنف يتوخى توجيه الاهتمام إلى المصير الذي آلت إليه الأقوام التي كذبت رسلها. والمخاطب فيها هم خصوم الدعوة المحمدية من قريش، والمقصد الأساس من هذا الصنف هو تخويف هؤلاء وتحذيرهم من أن يلاقوا نفس المصير الذي لقيه أولئك الأقوام. ومعظم هذا الصنف يعرض لقصص «أهل القرى» ـ أي عاد وثمود ومدين وغيرهم ـ مع أنبيائهم.
ب‌. وصنف يهتم بالثناء على الأنبياء والتنويه بهم، وإبراز ما خص الله به كلاً منهم من آيات مبينة، والهدف إثبات صدق نبواتهم ورسالاتهم.
ت‌. أما الصنف الثالث فتختص به المرحلة المدنية، ويتميز بالجدل مع اليهود والنصارى حول تصورهم لله عز وجل، وإبراز عقوقهم وانحرافهم عن دين إبراهيم. هذا من حيث أغراض القصص القرآني، أما من حيث ترتيب النزول فيمكن التمييز بين ثلاث مراحل: مرحلتان مكيتان والثالثة مدنية.
المرحلة الأولى: تمتد من سورة الفجر وترتيبها 10 إلى سورة القمر وترتيبها 37، حسب الترتيب المعتمد لدى الأزهر وغيره. ويمكن التمييز في هذه المرحلة (5) بين قسمين: أحدهما يندرج تحت الصنف الأول وفيه ذكر قصص «أهل القرى» بإيجاز والتحذير من مصيرهم الذي آلوا إليه، والقسم الثاني يندرج تحت الصنف الثاني: أي التنويه بالأنبياء السابقين وما أوتوه من آيات ومعجزات.
المرحلة الثانية: وتمتد من سورة ص ورتبتها 38 إلى سورة العنكبوت وترتيبها 85 وهي آخر سورة مكية ورد فيها قصص. وعلى الرغم من أن هذه المرحلة تمتد من سورة ص فإن الجابري يتجاوزها إلى سورة الأعراف وترتيبها 39، حيث يرى أن سورة الأعراف قد شكلت نقلة نوعية على مستوى القص؛"ذلك أن القص المفصَّل، المستوفي لعناصره إنما يبدأ معها. فكثير من القصص التي سترد في السور اللاحقة هي إما تفصيل لبعض الجوانب المذكورة في هذه السورة، وإما صياغة لها جديدة حسب ما يقتضيه المقام. ففي هذه السورة نجد أنفسنا إزاء ما يشبه أن يكون مخططا لقسم كبير من القصص القرآني، يشمل قصص الأنبياء الذي لم يرد لهم ذكر في التوراة، كما يعرض لمعظم أنبياء التوراة" (ص291) وقد عرضت سورة الأعراف لأنبياء العرب البائدة ضمن سلسلة الأنبياء المذكورين في التوراة، متقيدة بالترتيب الزمني، انطلاقا من قصة آدم وإبليس وقصة نوح والطوفان، فعاد وثمود، ثم لوط وإبراهيم وشعيب، ثم قصة موسى مع فرعون، ومنها تخلص السورة إلى عرض مباشر لصراع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مع مشركي قريش.
ويُلحق بهذه المرحلة مجموعة قصص مستقلة نزلت جميعها بعد سورة الأعراف، ومعظمها لم يذكر إلا مرة واحدة في سورة بعينها من القرآن المكي، وبعضها عرض مجددا في القرآن المدني ولكن في سياق مختلف. وسياق هذه القصص جميعها يرتبط بذكر ما خص الله به أنبياءه من أمور خارقة للعادة، وأنها دلالة على قدرة الله على الإتيان بالآيات المعجزات، وأن الله خص محمدا بمعجزة تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين هي القرآن، وذلك ردا على خصوم الدعوة المحمدية، الذين كانوا يطالبون النبي بمعجزات من جنس خرق العادة. فمن هذه القصص: قصة زكريا الطاعن في السن وامرأته العاقر إذ ينجبان، وقصة مريم إذ تحمل من دون أن يمسسها رجل (في سورة مريم)، ثم قصة يوسف، وقصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين في سورة الكهف.
أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة المدنية جملة. وفيها اتخذ القص القرآني شكلا جديدا ساد فيه الجدل مع أهل الكتاب. وقد ابتدأ الجدل مع أهل الكتاب في القرآن المدني مع اليهود، حتى إذا هجروا المدينة، انصرف القرآن إلى محاجة النصارى، خصوصا في مسألة التثليث. ولا بد من الإشارة إلى أن قصص القرآن المدني قد أصبحت أقل سردية من القصص المكي وساد فيها الخطاب الجدلي الذي يستعمل عناصر من القصص المكي، إضافة إلى قصص أخرى أو عناصر جديدة في قصص سابقة.
كما لاحظ الجابري أن لهجة هذا الخطاب قد اختلفت باختلاف الظروف والمناسبات، فقد بدأ الخطاب لينا وفاقا مع قوله تعالى في سورة العنكبوت عندما كان النبي بمكة يتهيأ للهجرة: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }العنكبوت: 46. ولكن عندما أخذ اليهود يستفزون المسلمين ويتحرشون بهم أخذت لهجة الخطاب تتدرج نحو الشدة والتعنيف، حتى انتهى الأمر بقيام صدام بين الطرفين انتهى بإجلاء اليهود عن المدينة نهائيا.
في النهاية، يمكننا القول بأن الجابري قد قدم في القسم الثالث من هذا العمل محاولة تستحق التأمل والنظر، إذ على الرغم من أنه قد سُبق من محمد عزة دروزة في محاولة فهم القرآن وتفسيره من خلال ترتيب نزوله، إلا أنه استطاع أن يوظف هذا الترتيب في تكوين صورة يمكن الاستفادة منها والبناء عليها في فهم الرسالة القرآنية كما تطورت ونمت خلال العقدين ونيف من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الجابري قد نجح نسبيا في جعل النص القرآني معاصرا لنفسه، من خلال تتبعه للقصص القرآني، فإن هذا لا يعني أنه قد نجح تماما في جعله معاصرا لنا، إذ لا يكفي لتحقيق ذلك ـ برأيي ـ أن نفهم السيرة القرآنية، والمقاصد القرآنية في عصر الرسالة، بل ما يعنينا ـ ربما بالدرجة الأولى ـ الرسالة الأبدية والدعوة العالمية التي يحملها القرآن في طياته، والتي ينبغي أن نجدَّ في اكتشافها وفهمها، من أجل تحقيق الطابع العالمي والمطلق للقرآن الكريم.
ـــــــــــــــــــــــــ
مدخل إلى القرآن الكريم: الجزء الأول في التعريف بالقرآن
محمد عابد الجابري
مركز دراسات الوحدة العربية، 2006
ــــــــــــــــــــــــ
* مراجعة أعدت لموقع "ببليوإسلام"
[1] وقد تورط الجابري أيضا في هذا الجدل مع بعض الكتابات والمقالات التي تنشر على الانترنت، بل لقد استقى عددا من معلوماته في هذا القسم عن مصادر غير موثوقة ولا دقيقة نشرت في الانترنت (مثل موقع المتنصرين) ونمت عن ضحالة معرفته بتاريخ الجدل بين المسلمين والنصارى، انظر مثلا هوامش ص 33. بل إن أهم نقيصة اعتورت عمله هذا هي فقره من جهة التوثيق، فمن ذلك أنه كثيرا ما استخدم عبارة «مصادرنا» من غير سابق إشارة إلى هذه المصادر أو تعريف بها.
[2] أهمل الجابري الحديث عن الوجود اليهودي قبل الإسلام في جزيرة العرب.
[3] على الرغم مما يكتنف بعض هذه الآراء من إشكالات، كالذي ذهب إليه من تخمينات تخص السور التي قيل أنه قد نسخت منها أيات كثيرة مثل سورة التوبة والأحزاب. (229-232)
[4] أما ترتيب المصحف فقد ذهب إلى أنه أمر اجتهادي قام به الصحابة متبعين معيار الطول والقصر في ترتيب السور، وهو رأي بحاجة إلى نظر ومناقشة، ليس هذا محله.
[5] يبدو أن خللا مطبعيا قد وقع في المطبوع فنسب هذا التقسيم إلى المرحلة الثانية والواضح من خلال الكتاب أن هذا التقسيم خاص بالمرحلة المكية الأولى.

هذا البحث نقلاً عن الملتقى الفكري للإبداع
 
الحمد لله

خرج علينا هذا الرجل بكتاب كله وساوس وشبهات يقذف بها و يبثها في المسلمين الذين لم يتلقوا حظا وافرا

من العلم....كقوله ان القرآن بهذا الترتيب مقلوب وتكلم في النسخ ..وفرح بكتابه و طبل له العلمانيون الذين يكنون

العداء للاسلام..ولااشك في ضلاله ومخالفته منهج اهل السنة و الجماعة.
 
نَقْلُ الرقاعِ التي كُتِبَ فيها القرآنُ الكريم من مكة إلى المدينة

نَقْلُ الرقاعِ التي كُتِبَ فيها القرآنُ الكريم من مكة إلى المدينة

نَقْلُ الرقاعِ التي كُتِبَ فيها القرآنُ الكريم من مكة إلى المدينة - الأستاذ غانم قدوري الحمد*

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحابته أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد

فإن الأخبار عن كتابة القرآن الكريم في مكة في صدر البعثة النبوية وقبل الهجرة شحيحة جداً ، بعكس ما كانت عليه في المدينة بعد الهجرة ، وعلى الرغم من اتفاق جمهور المؤرخين والعلماء بالقرآن من المسلمين على أن القرآن الكريم كُتِبَ كله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، مفرقاً في الرقاع ، فإن أخبار كتابته في مكة ظلت قاصرة عن الإجابة عن عدد من الأسئلة المتعلقة بالموضوع ، وفي مقدمتها : هل نُقِلَتِ الرقاع التي كُتِبَ عليها القرآن في مكة إلى المدينة حين هاجر إليها النبي – صلى الله عليه وسلم – ؟

وتخلو كتب علوم القرآن الكريم القديمة والمعاصرة من أي نص يحمل الإجابة على ذلك السؤال الذي لا يبرح عقول الباحثين في تاريخ كتابة القرآن الكريم في العصر النبوي بعامة ، وتاريخ كتابته قبل البعثة بخاصة ، وقد عثرتُ على رواية تشير إلى نقل الرقاع التي كُتِبَ عليها القرآن الكريم في مكة قبل الهجرة إلى المدينة ، ونظراً لأهمية هذه الرواية وتَطَلُّعِ الباحثين إلى ما يلقي الضوء على هذا الموضوع كتبتُ هذا المقالة لعرض تلك الرواية ، والوقوف على دلالاتها ، حتى تكتمل معالم تاريخ كتابة القرآن الكريم في هذه الحقبة.

وجاءت تلك الرواية في الترجمة التي كتبها ابن حجر العسقلاني للصحابي رافع بن مالك الزُرَقِيِّ ، رضي الله عنه ، في كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة) ، وسوف أنقل نص الرواية أولاً ، ثم أحاول الوقوف عند مضامينها ، وهي ( 2/ 369 ) : « رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيْقٍ ، الأنصاريُّ الزُّرَقِيُّ شَهِدَ العقبة، وكان أحد النقباء … وكان أول مَن أسلم من الخزرج …

وحكى ابن إسحاق أن رافع بن مالك أول مَن قدم المدينة بسورة يوسف.

وروى الزُّبير بن بكَّار في أخبار المدينة عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زُرَيْقٍ أولُ مسجد قُرِئَ فيه القرآن، وأنَّ رافع بن مالك لَمَّا لَقِيَ رسول اللَّهِ – صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم – بالعقبة أعطاه ما أُنْزِلَ عليه في العشر سنين التي خَلَتْ، فَقَدِمَ به رافعٌ المدينة، ثم جَمَعَ قومه فَقَرَأَ عليهم في مَوضِعَه».

وجاءت في المصادر الأخرى معلومات توضح بعض جوانب شخصية رافع ، من المفيد اقتطاف بعض النصوص منها ، قبل الوقوف عند خبر نقل الرقاع إلى المدينة ، من ذلك ما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 218 ) : « أن رافع بن مالك الزرقي ومعاذ بن عفراء خَرَجَا إلى مكة معتمرين، فَذُكِرَ لهما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيَاهُ ، فعرض عليهما الإسلام فأسلما، فكانا أَوَّلَ من أسلم، وقَدِمَا المدينة، فأول مسجد قُرِئَ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زُرَيْقٍ».

وقال ابن سعد أيضاً (3/ 596):” وكان رافع بن مالك أحد النقباء الاثني عشر، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار..”.

وجاء في تاريخ مكة المشرفة ، لابن الضياء العمري المتوفى سنة 854هـ عند الحديث عن بعض مساجد المدينة (ص 306) : «مسجد بني زريق من الخزرج، وهو أول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رافع بن مالك الزرقي رضي الله عنه لمَّا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة أعطاه ما نزل عليه من القرآن بمكة إلى ليلة العقبة».

وذكر ابن شبة في تاريخ المدينة (ص 130): أن رافع بن مالك الزرقي قُتِلَ بأحد، فَدُفِنَ في بني زريق، وقيل: إن موضع قبره في دار آل نوفل بن مساحق التي في بني زريق التي في كُتَّاب عروة ، وذلك قبل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى أحد حيث قتلوا. وذَكَرَ (ص 253) أن كُتَّاب عروة كان في بني زريق ، وعروة هذا رجل من اليمن، كان يُعَلِّمُ، وفي كُتَّاب عروة مسجد بني زريق، وعنده دار رفاعة بن رافع.

وقال السمهودي (1/ 163) : «وكان يقال لرافع بن مالك (الكامل)، لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون لمن كان كاتباً شاعراً الكامل».

ويطول الحديث بتقصي أخبار رافع بن مالك الزرقي ، وأخبار أولاده : رِفَاعة ، وخَلَّاد ، بما لا يتناسب وطبيعة هذه المقالة ، وسوف أكتفي بما نقلته من أخباره ، ويمكن أن نستخلص منها مجموعة أمور ، منها :
1. كان رافع بن مالك الزرقي أحد السبعين الذين شهدوا بيعة العقبة ، وكان أحد النقباء الاثني عشر ، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل عليه من القرآن في مكة ، لينقله إلى المدينة ، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا مكتوباً، وخصه رسول الله بذلك لكونه كان كاتباً.

2. بَنَى رافع عند عودته إلى المدينة مسجداً في منازل قومه بني زريق ، كان يُعَلِّمُ فيه القرآن ، وهو أول مسجد قرئ فيه القرآن في المدينة ، كما يقول ابن إسحاق.

3. لم يكن لرافع دَوْرٌ واضح في كتابة القرآن الكريم في المدينة ، ولم يُذْكَرْ ضمن كتبة الوحي ، لسببين : لتطرف منزله في المدينة ، ولاستشهاده المبكر في معركة أحد ، ولولا ذلك لكان له شأن في تدوين القرآن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّر موهبته في الكتابة ، وحمَّله أمانة إيصال الرقاع إلى المدينة.

4. يبدو أن مسجد بني زريق الذي جلس فيه رافع يُعَلِّمُ القرآن بعد عودته من بيعة العقبة قد تأسست فيه وحوله مدرسة للتعليم ، خلفه فيها رجل من أهل اليمن ، يقال له عروة ، اشتهر بالتعليم ، حتى عُرِفَ المكان باسمه ، فكان يقال له كُتَّاب عروة.

5. في قصة نقل رافع للرقاع من مكة إلى المدينة دلالة واضحة على أن القرآن الكريم كُتِبَ في مكة ، وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان حريصاً على المحافظة على الرقاع التي كُتِبَ فيها القرآن ، فقام بتسليمها ليلة العقبة إلى رافع الزرقي لينقلها إلى المدينة.

6. كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتعاهد الرقاع التي كُتِبَ فيها القرآن وهو في المدينة ، كما يدل على ذلك حديث زيد بن ثابت – رضي الله عنه – : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نُؤَلِّفَ القرآن من الرِّقَاع (أخرجه الحاكم)، ولعل الرقاع التي نقلها رافع من مكة إلى المدينة كانت من ضمنها ، ولعلها كانت أيضاً عند زيد بن ثابت حين جمع القرآن في خلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -.

وأكتفي بهذا القدر من التعليق على قصة نقل الرقاع التي كُتِبَ فيها القرآن الكريم من مكة إلى المدينة ، والموضوع يستحق بحثاً مستقلاً ، ولكني أحببت أن أُعَجِّلَ بنقل هذا الخبر إلى المهتمين بتاريخ كتابة القرآن الكريم.

وقد أحسن الباحث عبد الرحمن عمر محمد اسبينداري عندما ذكر رواية نقل رافع للرقاع (ص 99) في بحثه (كتابة القرآن الكريم في العهد المكي) ، لكنه لم يُطِلِ الوقوف عندها ، وله فضل السبق في الاستدلال بها في موضوع كتابة القرآن الكريم في مكة ، وكنتُ لفرحي بالوقوف على الرواية أُحَدِّثُ أخي الدكتور سالم قدوري عنها ، فذكر لي أنه وقف عليها من قبل في كتاب اسبينداري ، فرجعتُ إليه واطلعتُ عليها فيه ، والحمد لله رب العالمين ، وعيدكم مبارك ، وكل عام وأنتم بخير.

* http://www.dr-ghanim.com/نَقْلُ-الرقاعِ-التي-كُتِبَ-فيها-القرآ/

 
شكر

شكر

والله خبر طريف ورائع أشكر الأخ شايب على إيراده
وتحيتي للدكتور غانم قدوري الذي أرجو أن يكون بخير وبصحة جيدة فقد مرض ولم أتمكن من عيادته ولا الحديث إليه.
ولله درُّه حيث نسب فضل الاطلاع في "الإصابة" على خبر رافع بن مالك الزرقي شهيد أحد وأنه حمل القرآن المكي من العقبة إلى المدينة (نسب ذلك) إلى عبد الرحمن عمر محمد اسبينداري في كتاب له عن القرآن المكي.
ورأيي أن هذا الخبر مهم جداً في تاريخ كتابة القرآن في العهد المكي ولكنه كلام من قول الراوي لا من قول رافع نفسه ولا من قول من رآى رافعاً، فقد يكون النبي إنما أعطاه بعض السور التي كانت معه في لقاء العقبة لا كل القرآن المكي الذي لا بد أن يكون من حفاظه ابن مسعود فقد روي عنه أخذت من في رسول الله سبعين سورة وإن زيدا لفي صلب رجل كافر.
لكن الاستشهاد بهذا الخبر على وقوع التدوين في العهد المكي استشهاد في محله، وثمة نصوص أخرى كالنص الوارد في قصة إسلام عمر عن صحيفة فيها أول سورة طه وغيره، غير أن الجميل الطريف في هذا الخبر هو قول عمر بن حنظلة الذي رواه أيضا دون عزو إليه ابن الضياء العمري المتوفى سنة 854هـ عند الحديث عن بعض مساجد المدينة : «مسجد بني زريق من الخزرج...وأن رافع بن مالك الزرقي لمَّا لقي رسول الله في العقبة أعطاه ما نزل عليه من القرآن بمكة إلى ليلة العقبة" فهذا على ما يبدو ظن ظنه عمر بن حنظلة وهو من رجال القرن الثاني الهجري توفي بحدود الـ١٥٠هـ وهو شيعي قد يكون ثقة لكن قوله هذا قد يكون رأيا رآه لا خبرا رواه. وظن الأستاذ غانم قدوري أن هذه الصحف التي نقلها الزرقي الى المدينة قد تكون من مصادر زيد بن ثابت لا يبعد لأنه مؤسس على افتراض صحة الأثر الذي قد يكون رأيا رآه عمر بن حنظلة لا خبرا رواه كما تقدم.
وما زال البحث في هذا الأمر بعينه ممكناً وفيه مجال للنقد والتعليق والله أعلم
 
عودة
أعلى