مقاصد السور القرآنية
للدكتور: محمد الخضيري حفظه الله
اللقاء الثالث
إنَّ الحمدَ لله, نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ, ونعوذُ باللّهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا, مَن يهدِهِ اللّهُ فلا مُضِلَّ له ومَن يُضلل فلا هاديَ له, وأشهدُ أّلا إلَهَ إلّا اللّهَ وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ- صلّى اللّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلّمَ تسليماً كثيراً. أمّا بعدُ:
فهذا هو المجلسُ الثالثُ مِن مجالسِ دروسِ مقاصدِ سورِ القرآنِ, وهذه ليلةُ الثالثِ العشرينَ في شهرِ ذي القعدةِ مِن عامِ ثلاثينَ بعدَ الأربعِمئةِ وألف مِن الهجرةِ النبويّةِ الشريفةِ, وقد تحدّثنا فيما سبق في المجلسين الماضيين عن المقصود في مقاصدِ السور وتأصيلِ هذا المفهوم ومعرفةِ أنّهُ من أعظمُ ما يعينُ الإخوان على معرفةِ كتابِ اللّهِ عزَّ وجلَّ والاهتداءِ به. واليومَ نتحدّثُ في مبحثٍ مستقلٍّ حولَ عنايةِ المفسّرين بمقاصدِ سورِ القرآنِ الكريمِ, والمفسّرونَ في هذا البابِ على أصنافٍ:
الصنف الأول: مِن أهلِ التفسيرِ الّذين أشاروا إلى مقاصدِ السورِ مِن غيرِ أن يُصرّحوا بذلك, وعلى هذا أكثرُ المفسّرين فإنّهم يُشيرونَ إلى مقاصدِ السورِ عَرَضاً لا قصداً, ويمرّون عليها ويذكُرونها في ثنايا كلامِهِم دون أن يقصدوا إلى ذلك ومن هؤلاءِ مثلاً: إمامُ المفسّرين: ابنُ جريرٍ الطبريِّ رحمهُ اللّهُ, وابنُ عطيّةٍ في المحرّرِ الوجيز، وابنُ كثيرٍ في تفسيرِه المشهورِ: تفسيرُ القرآنِ العظيمِ, والقرطبيِّ في جامعِ أحكامِ القرآنِ وغيرِهِم.
• انظروا مثلاً إلى ابنِ جريرٍ وهو يُشيرُ إلى المقصودِ في ثنايا كلامِهِ، عند كلامِهِ على سورةِ آلِ عمران يقولُ ابن جريرٌ رحمهُ اللّهُ: "وقد ذُكِر أنَّ هذه السورةَ ابتدأ اللّهُ بتنزيلِهِ فاتحتَها بالّذي ابتدأ به مِن متنِ الألوهيّةِ أن تكونَ لغيرِهِ ويقصدُ نفسَهُ بمَن وقف هذه في ابتدائها احتجاجاً مِنهُ بذلك على طائفةٍ مِن النصارى قدِموا على رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلّمَ مِن نجران وحاجّوهُ في عيسى صلواتُ اللّهِ وسلامُهُ عليهِ وألحدوا في اللّهِ, فأنزل اللّهُ سبحانهُ وتعالى في أمرِهِم وأمرِ عيسى مِن هذه السورةِ نيفاً وثمانينَ آيةً مِن أوّلِها، احتجاجاً عليهِم وعلى مَن قال مثلَ مقالتِهِم في نبيِّهِ محمّدٍ صلّى اللّهُ عليهِ وسلّمَ". فلاحظوا أنَّ ابنَ جريرٍ رحمهُ اللّهُ يحاولُ أن يُحدّدَ مغزى السورةِ مِن خلالِ سببِ نزولِها ومِن خلالِ المقدّمةِ الّتي افتُتِحت بها هذه السورةُ العظيمةُ وهي سورةُ آلِ عمرانَ, يقولُ اللّهُ عزَّ وجلَّ في أوّلِها: {الم {1} اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ{2}نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ{3}مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} لماذا يذكرُ الألوهيّةَ وتوحيدَها للّهِ عزَّ وجلَّ ويذكرُ إنزالَ هذا الكتابَ وإنزالَ الكتابينِ مِن قبلِهِ، التوراةُ والإنجيلُ؟ لأنّهُ الآن في معرضِ الاحتجاجِ على النصارى الّذين جاءت هذه السورةُ بقرابةِ ثمانين آيةٍ مِنها للاحتجاجِ عليهِم وبيانِ فسادِ مذهبِهِم والتأكيدُ على إنّهم قد ظلّوا عن الطريقِ فزاغوا عن الجادّةِ.
• ابنُ عطيّةٍ -رحمهُ اللّهُ- مثلاً يقولُ في كلامِهِ عن سورةِ القدرِ: "وقال جماعةٌ مِن المتأوّلين معنى قولُهُ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ{1} أي إنّا أنزلنا هذه السورةَ أنزلناهُ أنزلنا هذه السورةَ في شأنِ ليلةِ القدرِ وفي فضلِهِ ". فهو يجعلُ الضميرَ هنا عائداً على السورةَ وليس على القرآنِ.
• القرطبيُّ مثلاً في سورةِ الأنعامِ ينقلُ أقوالَ العلماءِ في تقريرِ الغرضِ مِن هذه السورةِ فماذا يقولُ ؟ "قال العلماءُ: هذه السورةُ أصلٌ في مُحاجّةِ المشركين وغيرِهِم مِن المُتّبعين ومَن كذّب بالبعثِ والنشورِ وهذا يقتضي إنزالَها جملةً واحدةً لأنّها في معنًى واحدٍ مِن الحجّةِ وإن تفرّق ذلك بوجوهٍ كبيرةٍ وعليها بنى المتكلّمون أصولَ الدينِ لأنَّ فيها آياتٍ بيّناتٍ تردُّ على القدرية دون السورَ الّتي تزخرُ إلى آخر كلامِهِ" .
• ونجدُ ابنُ كثيرٍ أيضاً يشيرُ إلى المقاصدِ إشارةً عابرةً في بعضِ المواطنِ, فيقولُ عن سورةِ الكافرون: "هذه سورةُ البراءةِ هذه سورةُ البراءةِ مِن العملِ الّذي يعملُهُ المشركون وهي عامرةٌ بالإخلاصِ فيه" . فهو يحدّدُ المقصودَ مِن سورةِ الكافرون بأنّها سورةُ البراءةِ مِن الشركِ وأهلِهِ وأنّها جاءت لتأمرَ بالإخلاصِ إخلاصِ الدينِ للّهِ عزَّ وجلّ, ولكنَّ هذا الكلامَ لم يأتِ لابنِ كثيرٍ على مذهبٍ مضطردٍ في كلِّ سورةٍ وفي كلِّ موطنٍ يوضّحُ مقصدَ السورةِ ويجتهدُ باستنباطِهِ، ويحاولُ أن يُخرِجَ له مبحثاً كما يُخرِجُ مثلاً لأسبابِ النزولِ أو لفضائلِها أو لتفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ أو تفسيرِ القرآنِ بالسنّةِ. إذاً هذا هو الصنفُ الأوّلُ مِن المفسّرين.
الصِنفُ الثاني مِن المفسّرين: هم المفسّرون الّذين صرّحوا بمقصدِ السورةِ، وكان لهم عنايةٌ بهذا العلمِ مِن غيرِ أن يكونَ لهم منهجٌ مضطردٌ أو عنايةٌ تامّةٌ، فهم فوق الأوّلين يعني أكثرَ مِنهم عنايةً لكن دون أن يكونَ ذلك في منهجٍ مضطردٍ في ثامنِ الكتابِ في أوّلِهِ إلى آخرِهِ وأقابل من هذه القضيّةِ في البحثِ والنظرِ .
ومن هؤلاءِ :
• الزمخشريّ في كتابِهِ المشهورِ "الكُتّاب" لا يخفى عليكم أنَّ الزمخشريَّ آيةٌ في استنباطِ جمالياتِ القرآنِ وكلُّ مَن جاء بعدَه فهو عيالٌ عليه, على ما يؤخذُ عليهِ في بابِ الاعتقادِ فهو مِن أئمّةِ الاعتزالِ.
• وكذلك الرّازيُّ رحمهُ اللّهُ في كتابِهِ "مفاتيحُ الغيبِ" أو ما يُسمّى "بالتفسيرِ الكبيرِ" فهو أيضاً اعتنى بهذا العلم ويحاولُ قدرِ المستطاعِ أن يؤكّدَ على مقصودِ السورةِ وأن يذكرَهُ في بدايتِها, لكن يجوزُ أن يكونَ له منهجٌ أو يقدّمُ ذلك في كلِّ القرآنِ. والرّازيُّ كما لا يخفى عليكم تفسيرُهُ كبيرٌ فعلاً ولكنّهُ حشاهُ بكثيرٍ مِن المباحثِ الكلاميةِ جرياً على مذهبِهِ الأشعريّ إذ يُعدُّ مِن أكبرِ التفاسيرِ الّتي حاولت أن تستدل لهذا المذهبِ مِن خلالِ آياتِ القرآنِ الكريمِ .
• ومِنهم ابنُ الزبيرِ الغرناطيِّ في كتابين له سنذكُرُهُما بعد قليل إن شاء الله
• كذلك الشاطبيُّ رحمهُ اللّهُ في كتابِهِ "الموافقاتُ في الاعتصامِ" والسببُ في اعتناءِ الشاطبيِّ في مقاصدِ السورِ هو أنّهُ كان يعتني بمقاصدِ الشريعةِ ويرى أنّ هذا سببٌ لهذا أو أنَّ بينهما صلةٌ ووفيّةٌ واضحةٌ.
• ومِنهم شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةٍ وتلميذُهُ ابنُ القيِّمِ فإنّ هذين الشيخين كانت لهما عنايةٌ ظاهرةٌ بمقاصدِ سورِ القرآنِ .
• انظر مثلاً الزمخشريّ ماذا يقولُ؟ يقولُ "إنَّ مِن فوائدِ تفصيلِ القرآنِ وتقطيعِهِ سورا, لماذا يُقطّعٌ القرآنُ سوراً؟ يقول: إنَّ مِن فوائدِ تفصيلِ القرآنِ وتقطيعِهِ سوراً أنَّ التفصيلَ سببُ تلاحقِ الأشباهِ والنظائرِ وملائمةِ بعضِها لبعضٍ وبذلك تتلاحظُ المعاني ويتجاوبُ النظمُ" .
• وأمّا الرازيُّ فقد كان أكثرَ عنايةً وتطبيقاً في تفسيرِهِ لهذا الأمرِ وهو مقاصدُ السورِ وبناءِ تشكيلِ السورةِ عليهِ فهو يقولُ في سورةِ مريم: "اعلم أنَّ الغرضَ مِن هذه السورةِ بيانُ التوحيدِ والنبوّةِ والحشرِ والمنكرون للتوحيدِ هم الّذين أثبتوا معبوداً سوى اللّهِ تعالى وهؤلاءِ فريقان: مِنهم مَن أثبت معبوداً غير اللّهِ حيّاً عاقلاً فاهماً وهم النصارى. ومِنهم مَن أثبت معبوداً غيرَ اللّهِ جماداً ليس بحيٍّ ولا عاقلٍ ولا فاهمٍ وهم عبدةُ الأوثانِ. والفريقان وإن اشتركا في الضلالِ إلا أنَّ ضلالَ الفريقِ الثاني أعظمُ, فلمّا بيّنَ تعالى ضلالَ الفريقِ الأوّلِ تكلّمَ في ضلالِ الفريقِ الثاني وهم عبدةُ الأوثانِ". هو يرى مِن وجهةِ نظرِهِ المقصودُ مِن هذه السورةِ الردُّ على الطائفتين, طائفةُ النصارى الّذين أثبتوا معبوداً غيرَ اللّهِ وهو كائنٌ عاقلٌ وهو عيسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ, الطائفةُ الثانيةُ طائفةُ المشركين الّذين أثبتوا معبوداً غيرَ اللّهِ لا يعقِلُ ولا يفهمُ ولا يسمعُ ولا يبصرُ كما في قصّةِ إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ.
• ويقولُ أيضاً في معنى تفصيلٍ لسورةِ يس: "ويمكنُ أن يُقالَ أنَّ هذه السورةَ ليس فيها إلا تقريرُ الأصولِ الثلاثِ بأقوى البراهينِ فابتداؤها بيانُ الرسالةِ وانتهاؤها بيانُ الوحدانيةِ والحشرِ" . الأصولُ الثلاثةُ هذه هي الّتي عليها مدارُ السورِ المكيّةِ، مدارُ السورِ المكيّةِ في التوحيدِ إثباتُ اليومِ الآخرِ إثباتُ الرسالةِ مِن حيثُ الرسول ومِن حيثُ القرآنِ، يعني الرسالةُ والرسولُ, فغالبُ السورِ المكيّةِ تدورُ حولَ هذه الأصولَ الثلاثةَ وهو يقولُ هنا أنَّ هذه السورةَ مثلُ أن يُقالَ أنّها جاءت لإثباتِ هذه الأصولَ الثلاثةَ في أتمِّ ما يُمكِنُ فابتدأت ببيانِ الرسالةِ {يس{1}وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ{2}إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} واختُتِمت ببيانِ التوحيدِ والحشرِ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ{78}قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ{79}الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} يقولُ شيخُنا العلّامةُ ابنُ عُثيمينٍ رحمهُ اللّهُ: "هذه الآياتُ على قِصرِها فيها سبعةُ أدلّةٍ على إثباتِ المعاد" وذكرها تفصيلاً مِن خلالِ آخرِ آياتِ سورةِ يس رحمةُ اللّهِ وتعالى عليهِ.
• يقولُ الرازيُّ أيضاً في سورةِ فُصِّلت: "وقد ظهرَ مِن كلامِهِ في تفسيرِ هذه السورةِ أنَّ المقصودَ مِن هذه السورةِ هو ذكرُ الأجوبةِ عن قولِهِ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}" فتارةً يُنبّهُ على فسادِ هذه الطريقةِ، طريقةُ المشركين في استقبالِ القرآنِ، مرّةً يُنبّهُ على فسادِ هذه الطريقةِ وتارةً يذكرُ الوعدَ والوعيدَ لمَن لم يؤمنُ بهذا القرآنِ ولمَن يُعرضُ عنه. وامتدَّ الكلامُ إلى هذا الموضعِ من أول السورةِ على الترتيبِ الحسنِ والنظمِ الكاملِ إلى آخرِ كلامِهِ رحمهُ اللّهُ.
• ننتقلُ بعدَ ذلك إلى ابنِ الزبيرِ, ابنُ الزبيرِ له كتابان, الكتابُ الأوّلُ: البرهانُ في تناسبِ سورِ القرآنِ، هذا الكتابُ خصّصهُ ابنُ الزبيرِ الغرناطيُّ رحمهُ اللّهُ لبيانِ المناسباتِ بينَ كلِّ سورةٍ والّتي تليها، فهو يذكرُ سورةَ آلِ عمرانَ ويذكرُ ما مناسبتُها للبقرة, سورةُ النّساءِ مناسبتُها لسورة آلِ عمرانَ, المائدةُ مناسبتُها لسورة النّساءِ وهكذا دواليك حتى يأتيَ إلى نهايةِ القرآنِ. وقد اجتهدَ في أن يبنيَ المناسبةَ والعلاقةَ بين السورتين على المقصودِ فيقولُ مقصودُ سورةِ كذا هو كذا ومقصودُ سورةِ كذا هو كذا إذاً والعلاقةَ بينهُما هو كذا. يقولُ في سورةِ النّساءِ يقولُ في بنائها ومقصدِها: "بناءُ هذه السورةِ على التواصلِ والائتلافِ ورعيِ حقوقِ ذوي الأرحامِ يحِقُّ ذلك كلُّهُ إلى حالةِ الموتِ المقصودِ عليهِ" يقولُ هذه السورةُ جاءت بالعنايةِ بالائتلافِ والتوادِّ والتراحمِ وبينَ القراباتِ بشكلٍ خاصًّ ورعايةِ جانبٍ إلى حالةُ الموتِ ولذلك جاءَ فيها آياتُ المواريثِ.
وفي بيانِ مقصدِ سورةِ الفرقانِ يقولُ: "لقد تضمّنت هذه السورةَ مِن النّعيِ على الكفّارِ والتعريفِ بجحدِهِم وسوءِ مُرتكَبِهِم ما لم يتضمّن كثيراً مِن نظائرِها".
• الكتابُ الثاني لابنِ الزبيرِ رحمهُ اللّهُ كتابٌ يسمّى ملاكُ التأويلِ, وهذا الكتابُ خصّصَهُ مؤلّفُهُ في قضيّةٍ دقيقةٍ يأتي للآياتِ المتشابهةِ في الألفاظِ ويذكرُ الفروقَ بينَها، لماذا هذه الآيةِ قُدِّمَ فيها كذا على كذا؟ ولماذا قُدِّمَ في هذه الآيةِ كذا على كذا؟مثالُ ذلك مثلاً {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} فقدّمَ هنا التعليمَ على التزكيةِ، في سورةِ آلِ عمرانَ وفي سورةِ الجُمُعةِ قُدِّمت التزكيةُ على العلمِ، فمثلاً قالَ في سورةِ الجُمُعةِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وفي سورةِ آلِ عمرانَ قال: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {164} فيأتي يُبيِّنُ لماذا قُدِّمَ العلمُ في سورةِ البقرةِ وأُخِّرَ في سورتي آلِ عمرانَ والجُمُعةَ وهلُمَّ جرّاً . في هذا الكتابِ الّذي اسمُهُ ملاكُ التّأويلِ أيضاً اعتنى بهذا العلمِ وذكرَ بعضَ اللّطائفَ فيه.
• أمّا الشّاطبيُّ رحمهُ اللّهُ فقد كانت له عنايةٌ فائقةٌ بذكرِ المقاصدِ خصوصاً وأنّه قد اشتُهِرَ بأنَّهُ أبو المقاصدِ، وهو مِن أعظمِ العلماءِ الّذين أبرزوا علمَ مقاصدِ الشريعةِ واعتنوا به، وكلُّ مَن كتبَ في هذا العلمِ بعدَه عيالٌ عليهِ، يرجعونَ إليهِ ولا بدَّ لأنَّهُ حرّرَ هذا العلمَ وقعَّدَ له وأصّلَ وبيّنَ أهمّيتَه وضرورتَه. يقولُ ظهرت عنايةُ الشّاطبيُّ في مقاصدِ السورِ تبعاً لقولِهِ في مقاصدِ الشريعةِ بل إنّه يجعلُ تدبُّرَ القرآنِ كلَّه راجعٌ إلى المقاصدِ. فيقولُ: وقال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} يقولُ : "التدبُّرُ إنّما يكونُ لمَن التفتَ إلى المقاصدِ " ويقرّرُ هذا العلمَ تقريراً وتأصيلاً وتمثيلاً فيقولُ: "فاعتبارُ جهةِ النّظمِ مثلاً في السورةِ لا يتمُّ به فائدةٌ إلا بعدَ استيفاءِ جميعِها بالنظرِ والاقتصارُ على بعضِها فيه غيرُ مفيدٍ غايةَ المقصودِ كما أنَّ الاقتصارَ على بعضِ الآيةِ باستفادةِ حكمٍ ما لا يفيدُ إلا بعدَ تمامِ النظرِ في جميعِها يقولُ إنّك لن تستطيعَ أن تصلَ إلى المقصودِ مِن خلالِ النظرِ إلى أوّلِ السورةِ أو إلى بعضِ آياتِها بل إنَّ ذلك لا يتِمُّ إلا بعدَ أن تنظرَ نظرةً كلّيّةً إلى السورةِ مِن أوّلِها إلى آخرِها ثمَّ تدخلَ إلى جزئيّاتِها لتحصِّلَ مقصودَ السورةِ الّذي يربطُ بينَ موضوعاتِها. قالَ: "ومَن أرادَ الاختبارَ في سائرِ سورِ القرآنِ فالبابُ مفتوحٌ والتوفيقُ بيدِ اللّهِ". ويُمثِّلُ لهذه القاعدةِ بعدّةِ سورٍ فيقولُ: "فسورةُ البقرةِ مثلاً كلامٌ واحدٌ باعتبارِ النّظمِ، واحتوت على أنواعٍ مِن الكلامِ بحسبِ ما بُثَّ فيها، مِنها ما هو كالمقدّماتِ والتّمهيداتِ بينَ يدَي الأمرِ المطلوبِ، ومِنها ما هو كالمؤكِّدِ والمتمّمِ، ومِنها ما هو المقصودُ في الإنزالِ وذلك تقويمُ الأحكامِ على تفاصيلِ الأبوابِ، ومِنهُ الخواتمُ العائدةِ على ما قبلَها في التأكيدِ والترتيبِ وما أشبه ذلك . فسورةُ الكوثرِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ {1} نازلةٌ في قضيّةٍ واحدةٍ وسورةُ اقرأ نازلةٌ في قضيّتين, الأولى إلى قولِهِ {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} والأخرى ما بقي إلى آخرِ السورةِ ثمَّ ذكرَ سورةَ المؤمنون ".
• ننتقلُ بعدَ هذا إلى شيخِ الإسلامِ ابنُ تيميةٍ رحمهُ اللّهُ فقد كان له فهمٌ ثاقبٌ بعلمِ المقاصدِ عموماً فهو إمام فيه، وقد ألّفَ أحدُ الباحثينَ رسالةً بعنوان مقاصدُ الشريعةِ عندَ شيخِ الإسلامِ ابنُ تيميةٍ هو اسمُ الباحثِ يوسفُ البلوي, يقولُ شيخُ الإسلامِ مثلاً في سورةِ البقرةِ: "وقد ذكرتُ في مواضعَ ما اشتملت عليهِ سورةُ البقرةِ مِن تقريرِ أصولِ العلمِ وقواعدِ الدينِ " ويقولُ في سورةِ براءةٍ: "فأكثرُها في وصفِ المنافقين وذمِّهِم ومِنهم ومِنهم ومِنهم ومِنهم ومِنهم ومِنهم ومِنهم " حتى قالَ ابنُ عبّاسٍ حتى ظننّا ألّا تدعَ مِنهم أحداً أو مِنّا أحداً " ويقولُ شيخُ الإسلامِ في سورةِ القمرِ: "وكان النبيُّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلّمَ "صلّوا على النبيّ يا إخوان. يقرأُ هذه السورةَ يعني سورةُ القمر في المجامعِ الكبارِ مثلُ الجُمَعِ والأعيادِ ليُطلِعَ النّاسَ ما فيها مِن آياتِ النّبوّةِ ودلائلِها والاعتبارَ وكلُّ الناس يُقِرُّ ذلك ولا يُنكِرُهُ. فعُلِم أنَّ انشقاقَ القمرِ كانَ معلوماً عندَ النّاسِ عامّةً ثمَّ ذكرَ حالَ الأنبياءِ ومكذّبيهِم.
• أمّا ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللّهُ فهو أيضاً مبرِّزٌ لهذا الفنِّ ويذكرُ مقاصدَ السورِ ويُنبِّهُ عليها في ثنيّاتِ كلامِه. انظر مثلاً على قولِهِ في سورةِ الكافرون يقولُ: "إنَّ مغزى سورةُ الكافرون ولبها ومقصودُها هو براءتُهُ صلّى اللّهُ عليهِ وسلّمَ مِن دينِهِم ومعبودِهِم " ويقولُ في كلامٍ له على سورةِ المعوّذتين: "تضمّنت هاتان السورتان الاستعاذةَ مِن الشرورِ كلِّها بأوجزِ لفظٍ وأجمعِهِ". وانظر إلى الجمالِ في اختيارِ المقصودِ وبيانه و جمعُ السورةِ مِن أوّلِها إلى آخرِها حتى تكونَ كالحلقةِ الواحدةِ . يقولُ مثلاً في سورةِ العنكبوتِ: "فمضمونُ هذه السورةُ هو سرُّ الخلقِ والأمرِ فإنّها سورةُ الابتلاءِ ولامتحانِ، وبيانِ حالِ أهلِ البلوى في الدنيا والآخرةِ, ومَن تأمّلَ فاتحتَها ووسطَها وخاتمتَها وجد في ضمنِها أنَّ أوّلَ الأمرِ ابتلاءٌ وامتحانٌ، ووسطَهُ صبرٌ وتوكُّلٌ، وآخرَهُ هدايةٌ ونصرٌ واللّهُ المستعانُ " يوضِّحُ قولُهُ ثمَّ يذكرُ, ماذا يذكرُ ؟ انظروا يا إخواني كيفَ نظمَ هذه السورةَ هذا النظمَ العجيبَ, يقولُ: فأوّلُ هذه السورةِ ابتلاءٌ وامتحانٌ ووسطُهُ صبرٌ وتوكُّلٌ وآخرُهُ هدايةٌ ونصرٌ . ماذا قال في أوّلِها: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3}، في آخرِها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} كيف تُجاهِدُ ؟ تُجاهِدُ عندما تصبرُ تتوكّلُ على اللّهِ تصبر أمام المحنِ والفتنِ والبلايا والشدائدِ وتُصابِرُ ثمَّ تأتيكَ مِن بعدِ ذلك الهداياتُ والفتوحُ مِن اللّهِ عزَّ وجلَّ.
هذا هو الصنفُ الثاني مِن المفسِّرين وهم الّذين كانت لهم عنايةٌ وكان لهم اهتمامٌ دون أن يكونَ لهم منهجٌ مضطربٌ في سائرِ التفسيرِ.
الصنفُ الثالثُ مِن المفسِّرين: هم المفسّرون الّذين عنوا بعلمِ المقاصدِ واهتمّوا به غايةَ الاهتمامِ وسلكوا فيه مناهجَ .
لعلّنا نعرضُ لبعضٍ مِنهم:
• فمِنهم الفيروزُ أبادي صاحبُ القاموسِ المحيطِ, هذا له كتابٌ جميلٌ جدّاً ننصحُكُم باقتنائهِ لأنَّهُ مفيدٌ في تقريبِ كثيرٍ مِن المعاني الّتي يحتاجُها مَن يريدُ التعمُّقَ في تفسيرِ القرآنِ الكريمِ وهذا الكتابُ يُقالُ له "بصائرُ ذوي التمييزِ", هذا الكتابُ جعلَهُ مؤلِّفُهُ في أبوابَ وعلومٍ وفنونٍ يحتاجُها المفسِّرُ، مِنها مثلاً علمُ الأشباهِ والنّظائرِ، فيأتي بالكلمةِ الّتي تتعدّدُ معانيها في القرآنِ، فيذكرُ هذه المعاني المتعدّدةِ ويُبيِّنُ عندَ كلِّ معنى ما الآياتُ الّتي وردت في هذا الشأنِ، فمثلاً كلمةُ إيمان تأتي بمنى كذا وذلك في قولِ اللّهِ كذا وفي قولِ اللّهِ كذا وتأتي بمعنى كذا في قولِ اللّهِ كذا وفي قولِ اللّهِ كذا . كلمةُ خيرٍ تأتي بمعنى أفضلَ في قولِهِ وفي قولِهِ, وتأتي بمعنى المال الكثيرِ في قولِهِ وفي قولِهِ, وتأتي بمعنى الإيمانِ في قولِ اللّهِ تعالى وفي قولِ اللّهِ تعالى، وهو ذكر هذا ... . أيضاً مِن ضمنِ ما كان يذكرُهُ موضوعاتُ كلِّ سورةٍ ومقاصدُها, وهو يقولُ مثلاً في سورةِ الأحزابِ: " معظمُ مقصودِ السورةِ الّذي اشتملت عليهِ الأمرُ بالتقوى، وأنَّه ليس في صدرٍ واحدٍ قلبان, وأنَّ المتبنّي ليسَ بمنزلةِ الولدِ ". ثمَّ عدَ أكثرَ مِن ثلاثين موضوعاً.
• الثاني مِن الّذين اهتمّوا بهذا العلمِ وأفردوهُ في البحثِ والنظرِ البقاعيُّ في كتابين له تعتبران مِن أهمِّ الكتبِ في هذا العلمِ, أوّلُ كتابٍ "مصاعدُ النظرِ في الإشرافِ على مقاصدِ السورِ", تأمّلوا اسمَ الكتابِ يا إخوان مصاعدُ النظرِ يعني إن استصعبَ فتنظرَ أينَ هو مقصودُ السورةِ تنظرُ السورةَ مِن أوّلِها إلى آخرِها لتبحثَ عن الرابطةِ بينَ كلِّ موضوعاتِ هذه السورةِ وما يُستفادُ أو ما يجمعُ هذه الموضوعاتِ. فالبقاعيُّ رحمهُ اللّهُ له كاتب آخرٌ وهو نظمُ الدّررِ في تناسبِ الآياتِ والسورِ وهذا الكتابُ يُعتبرُ أبو المناسباتِ. ماذا يعني المناسباتُ يعني المناسبةَ بين المقطعِ والمقطعِ والآيةِ والآيةِ والحكمِ والحكم والقصّةِ والقصّةِ. وهو يبحثُ في ذلك قد بقيَ في هذا الكتابِ أزودُ مِن ثمانيةَ عشرَ عاماً هو يكتبُ فيه. يقولُ: ذكرَ انَّه في سورةِ سبأٍ يعني قد بلغَ السنةَ العاشرةَ وهو يكتبُ في هذا الكتابِ ويُحرِّرُهُ، ولا شكَّ بأنَّه جاءَ بأشياءَ كثيرةٍ جديدةٍ وإن كانَ تكلَّفَ رحمهُ اللّهُ في بعضِ المواطنِ لكنّ هذه عادةُ المجتهدِ أن يتحمَّسَ في إخراجِ شيءٍ معيّنٍ لا بدَّ أن يصيبَهُ شيءٍ مِن التكلُّفِ في بعضِ المواطنِ, ولا بُدَّ أيضاً أن يُخطئَ الصوابَ في مواطنَ أخرى، وهذه سنّةُ اللّهِ عزَّ وجلَّ في خلقِهِ. أمّا كتابُهُ مصاعدُ النظرِ فهو يُعتبرُ مثلُ المقدّمةِ لنظمِ الدّررِ, مصاعدُ النظرِ يقعُ في ثلاثِ مجلّداتٍ ونظمُ الدّررِ ذو الطبعةِ الهنديّةِ يقعُ في أربعةٍ وعشرين مجلّداً، في طبعةٍ لبنانية مضغوطةٍ في ثمانيَ مجلّداتٍ. في مصاعدِ النظرِ يقولُ البقاعيُّ رحمهُ اللّهُ: "هو علمٌ يُعرفُ منه مقاصدُ السورِ -يُعرِّفُ مقاصدُ السورِ- فموضوعُهُ مقاصدُ السورِ كلُّ سورةٍ على حيالِها, وغايتُهُ معرفةُ الحقِّ مِن تفسيرِ كل آيةِ مِن تلكَ السورِ " يعني غايةُ علمِ المقاصدِ هو أن تصلَ إلى الحقِّ في تفسيرِ الآيةِ، ومنفعتُهُ التبحُّرُ في علمِ التفسيرِ فإنّهُ يُثمِرُ التفسير له والتيسير،ِ ونوعُهُ التفسيرُ ورتبتُهُ اوّلُهُ- يعني يُشتغَلُ به قبلَ الشروعِ فيه يعني ينبغي لك أن تعرف مقصودِ السورِ قبلَ أن تشرعَ في تفسيرِ آياتِها آيةً آيةً لأنَّهُ يُعينُكَ على فهمِ الآيةِ ويُيسِّرَ لك الوصولَ إلى مرادِ اللّهِ عزَّ وجلَّ مِنها، فإنَّهُ كالمقدِّمةِ له مِن حيثُ أنّه كالتعريفِ لأنّه معرفةُ تفسيرِ كلِّ سورةٍ إجمالاً, وأقسامُهُ السورُ . هذا الكتابُ كما ذكرنا يُعتبرُ مقدّمةً لتفسيرِ نظمِ الدّرر وهو مِن أهمِّ الكتبِ في معرفةِ مقدّماتِ السورِ وهناكَ فنٌّ يُسمّى عندَ العلماءِ علومُ السورةِ, علومُ السورةِ اشتغلَ فيه البقاعيُّ رحمهُ اللّهُ في كتابِهِ مصاعدُ النظرِ, ما هو علوم السورةِ ؟ البحثُ في اسمِها, عددُ آياتِها, فضلِها, أهمُّ موضوعاتِها, مقصودِها, أسبابُ نزولِها, ونحوِ ذلك. فهذا هو الّذي يُسمّى علومُ السورةِ، وقد بيَّنَ رحمهُ اللّهُ في هذا الكتاب أنَّهُ قد اعتنى في هذا الكتابِ بعددٍ مِن الأشياءِ مِن ضمنِها: مقصودُ السورةِ، وهو في هذا البابِ بالذّاتِ يكادُ يتّفقُ معنا في كتابِهِ نظمُ الدّررِ في تناسبِ الآياتِ والسورِ. امّا كتابُهُ نظمُ الدررِ في تناسبِ الآياتِ والسورِ فهو كتابٌ مفيدٌ في بابَهَ، بل لا لم يوجد مِن كتبِ التفسيرِ كتابٌ اعتنى بالمناسباتِ في كلِّ الآياتِ والمقاطعِ والسورِ مثلَ هذا الكتابِ ويكفي أنّهُ وقعَ في قرابةِ أربعة وعشرين مجلّدٍ . يُحدّدُ البقاعيُّ رحمهُ اللّهُ منهجَهُ في ذلك فيقولُ: "الأمرُ الكليُّ المفيدُ لعرفانِ مناسباتِ الآياتِ في جميعِ القرآنِ هو انّكَ تنظرُ الغرضَ الّذي سيقت له السورةُ وتنظرُ ما يحتاجُ إليهِ ذلك الغرضَ مِن المقدِّماتِ، وتنظرُ إلى مراتبِ تلكَ المقدِماتِ في القربِ والبعدِ مِن المطلوبَ، وتنظرُ عندَ إبرازِ الكلامِ في المقدّماتِ إلى ما يستتبعُهُ مِن استقرارٍ في نفسِ السامعِ إلى الأحكامِ والموازنُ التابعةِ له. هو الآن يُريدُ أن يُبيِّنَ لنا ماذا ؟ أنّكَ إذا أردتَ أن تربط بينَ مقاطعِ السورةِ انظر إلى المقصودِ مِن السورةِ, لماذا جيءَ بهذه السورةِ ؟ ما هو مقصودُها ؟ فإذا عرفتَ مقصودَها فإنّكَ تنظرُ بعدَ ذلك هذا المقصود ماذا يحتاجُ مِن المقدِّماتِ. أكيد إنّه مذكورٌ في هذه السورةِ. إذا نظرتَ إلى هذه المقدّماتِ رتب هذه المقدّماتِ, ما مراتبُ تلك المقدّماتِ في القربِ والبعدِ مِن المطلوبِ ؟ ثمَّ بعد ذلك ماذا يستتبعُه مِن استقرارٍ في نفسِ السامعِ إلى أشياءَ يحتاجُ الإجابةَ عنها ستجدُ أنَّ السورةَ قد جمعت ذلك كلَّه. وقد طبَّقَ هذه القاعدة في كتابِهِ فوجدَ أنّها مطّرِدةٌ, انظروا ماذا يقولُ ؟ وهذا يا إخواني مِن العجائبِ عجائبِ التأمّلِ والتّدبُّرِ العميقِ والنفسِ الدّقيقِ في معرفةِ دقيقِ القرآنِ وأنَّ ترتيبَهُ لا يُمكِنُ إلا أن يكونَ مِن عندِ اللّهِ عزَّ وجلَّ. يقولُ مِن أمثلةِ ذلك ما ذكرَه في سورةِ الحُجُراتِ قال: "ولمّا نوَّهَ سبحانَهُ في القتالِ أي في سورةِ محمّدٍ، وذكرِ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلّمَ ابتدائها باسمِهِ الشريفِ وتمَّ السورةَ به وملأَ سورةَ الفتحِ بتعظيمِهِ وختمَهُ باسمِهِ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ } ومدحَ اتباعَهُ لأجلِهِ افتتحَ هذه أي سورةَ الحُجُراتِ في اشتراطِ الأدبِ معهُ في القولِ والفعلِ للعدِّ مِن حزبِهِ والفوزِ بقربِهِ " أرأيتم كيف ربطَ بينَ هذه السورَ الثلاثةَ الّتي نراها نحنُ منفصلةً تمامَ الانفصالِ عن الثانيةِ . وبالفعلِ سورةُ مُحَمّدٍ قد ذُكِرَ فيها اسمُ النبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلّمَ وبيانِ نصرِ هذا النبيِّ والعنايةِ به ثمَّ جاءَ مِن بعدِها الأمرُ بتعظيمِهِ وتوقيرِهِ واحترامِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، وأنَّ الربَّ سبحانَهُ قد اعتنى به {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ثمَّ قال في آخرِ الوجهِ الأوّلِ ماذا؟ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {8} لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {9} ثمَّ يقولُ في آخرِها {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} إلى آخرِ الآيةِ فإنّهُ لمّا ذكرَ هذا وهذا في هاتين السورتين قال: افتتحَ هذه في اشتراطِ الأدبِ معه في القولِ والفعلِ للعدِّ مِن حزبِهِ والفوزِ بقربِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {1} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ {2} إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ {3} إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ {4} وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } يا الّله يعني هي في كمالِ الأدب مع رسولِ اللّهِ صلّى الّلهُ عليهِ وسلّمَ حتى يحصلَ الإنسانُ القربَ مِن رسولِ الّلهِ،ِ والفوزَ أن يكونَ بأن يكونَ مِن حزبِهِ. يقولُ: "ومدارُ ذلك معاني الأخلاقِ وهي إمّا مع الّلهِ سبحانه وتعالى أو مع رسولِهِ أو مع غيرِهِما, وإن كان كلُّ قسمٍ لا يخلو عن لحظةِ الآخرِ" يعني عن ملاحظةِ القسمِ الآخرِ "وغيرُهُما -غيرُ الّلهِ ورسولِهِ- إمّا ان يكونَ داخلاً مع المؤمنين في رتبةِ الطاعةِ او خارجاً عنها وهو الفاسقُ، والداخلُ في طاعةِ المؤمنين السالكِ لطريقتِهِم إمّا ان يكونَ حاضراً عندَهم أو غائباً عنهم . فهذه خمسةُ أقسامٍ، فصلَ النداءَ بسببِها خمسَ مرّاتٍ-أو فصلَ النداءَ بسببِها خمسَ مرّاتٍ كلُّ مرّةٍ لقسمٍ مِنها وافتتحَ بالّلهِ لأنَّ الأدبَ معه هو الأصلُ الجامعُ للكلِّ والأسُّ الّذي لا يُبنى إلا عليهِ" دعونا يا إخوان نحصي يا أيّها الّذين آمنوا
• {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
• {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}
• {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
• {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} ماذا بعد؟
• {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}
تلاحظُ أنَّ كلَّ واحدةٍ في قسمٍ واحدةٌ مع الّلهِ, واحدةٌ مع الرسولِ, واحدةٌ مع المؤمنِ الفاسقِ, واحدة مع المؤمنِ الحاضرِ, واحدةٌ مع المؤمنِ الغائبِ. انظر كيفَ هذا التقسيمُ وهذا النظرُ الّذي جاءَ به هذا الإمامُ بعدَ طولِ فحصٍ وتدقيقٍ.
ثمَّ نذكرُ بعدّ ذلك المفسّرين المتأخّرين الّذين اعتنوا بذكرِ المقاصدِ لعلَّ مِن أبرزِهِم مِن المعاصرين:
سيِّدُ قطبٍ رحمهُ الّلهُ في كتابِهِ في ظلالِ القرآنِ، بنى كتابَهُ على فكرةٍ وهي أن يبحثَ عن الموضوعِ الّذي تدورُ هذه السورةُ عليه، ثمّ يُقسّمُ السورةَ إلى مقاطعٍ -أو يُقسّمُ مقاطعَ السورةِ - ويُبيِّنُ صلةَ كلِّ مقطعٍ بموضوعِ السورةِ . وقد التزم هذا في كاملِ الكتابِ، ويُعتبرُ أوّلَ مَن بنى كتابَهُ على فكرةٍ مثلِ هذه، ونحنُ نقولُ أنَّ هذا مِنهُ اجتهادٌ، وهذا الاجتهادُ يُخطئُ في كثيرٍ مِن الأحيانِ، وإن كان بعضُهُ قد لا يوافَقُ عليه لأنَّ مثلَ هذه الأشياء مثلُ ما نقولُ مع البقاعيُّ نقولُ أيضاً مع سيِّدِ قطبٍ رحمهم الّلهُ جميعاً في كتابِهِ في ظلالِ القرآنِ، لكنَّهُ اعملَ الذّهنَ إعمالاً شديداً، ولا شكَّ انّهُ اعتنى بقصّةِ المقاصدِ وفهمِ المحورِ الّذي تدورُ عليه السورةُ وهو يُكثرُ مِن كلمةِ المحورِ محورُ هذه السورةِ ثمَّ يذكرُهُ بأسلوبٍ أدبيٍّ راقي جدّاً ويحاولُ بعدَ ذلك أن يربطَ بينَ موضوعاتِ المقاطعِ بموضوعِ السورةِ الّذي نسمّيهِ المحورَ . يقولُ عدنان زرزور الدكتور عدنان زرزور : " لعلَّ سيِّداً أوّلُ مفسّرٍ في تاريخِ القرآنِ أبرزَ الوحدةَ الموضوعيّةَ في السورِ القرآنيّةِ المفردةِ طالت أم قصُرت أبرزَهُ بشكلٍ عمليٍّ مكتوبٍ أو طبّقَهُ أروع تطبيقٍ وأعمقَه في كتابهِ " انظروا مثلا يقولُ سيّدٌ في سورةِ المؤمنون : "سورةُ المؤمنون أو هي سورةُ الإيمانِ بكلِّ قضاياه ودلائلُهُ وصفاتُهُ هو موضوعُ السورةِ ومحورُها الأصيلُ " فهو يرى أنَّ سورةَ المؤمنون هي سورةُ الإيمانِ وأنّها جاءت لتفصِّلَ في الإيمانِ وأهلِهِ وصفاتِ أهلِهِ مِن بدايتِها إلى نهايتِها " في سورةِ النّورِ يقولُ "والمحورُ الّذي تدورُ عليه السورةُ كلُّها هو محورُ التربيةِ الّتي تشتدُّ في وسائلِها إلى درجةِ الحلولِ وترقُّ إلى درجاتِ الّلمساتِ الوجدانيّةِ الرقيقةِ الّتي تصلُ القلبَ بنورِ اللّهِ وبآياتِهِ المبثوثةِ في تضاعيفِ الكونِ وثنايا الحياةِ ". إذاً يرى أنَّ سورةَ النورِ هي سورةُ التربيةِ وأنّها جاءت لتربّيَ المؤمنَ فهو الإنسانُ يعلمُ ذلك بما يكونُ فيه عقوبةٌ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} أو كان ذلك بأشياءَ رقيقةٍ باسطةٍ ماتعةٍ كما يقولُ الّلهُ عزَّ وجلَّ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} إلى أن قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} إلى آخرِ السورةِ .
الكتابُ الثاني مِن الكتبِ المعاصرةِ الّتي عُنيت بمقاصدِ سورِ القرآنِ كتابُ التحريرِ والتنوير الّذي يُعتبرُ لطاهرَ بن عاشورٍ، وهو عالمٌ تونسيٌّ توفيَ في نهايةِ القرنِ الهجريِّ الماضي، وهو مِن ابرزِ مَن عُنِيَ بهذا العلمِ وطبّقَه في تفسيرِهِ الّذي بقيَ في كتابتِهِ قرابةَ أربعين عاماً وهو كتابُ التحريرِ والتنويرِ . وهذا العالمُ ألّفَ كتاباً أيضاً في مقاصدِ الشريعةِ، هاأنتم تلاحظون أنَّ اللي يكتبون في مقاصدِ الشريعةِ تكونُ عندهم نظرةٌ كليّةٌ حتى في تفسيرِ القرآنِ، فيهتمّون في مقاصدِ سورِ القرآنِ، وهو يهتمُّ بمقاصدِ الشريعةِ ويهتمُّ في الوقتِ ذاتِهِ بمقاصدِ سورِ القرآنِ عندما ألّفَ تفسيراً للقرآنِ، لكنَّ منهجَهُ في بيانِ مقاصدِ السورِ ليس على تحديدِ المقصدِ الأساسيُّ في السورةِ وإنّما يعرِضُ في مقدّمةِ كلِّ سورةٍ مجموعةِ أغراضٍ تتضمّنُها السورةُ. وهي في الواقعِ موضوعاتٌ، نحنُ فرّقنا في بدايةِ كلامِنا بينَ الموضوعاتِ وبينَ المقاصدِ فقلنا أنَّ الموضوعاتِ هي القضايا الجزئية الّتي تتطرّقُ لها السورةُ وهي متفرّقةٌ وكثيرةٌ. المقصودُ هو الجامعُ لهذه الموضوعاتِ. فمقصودُ السورةِ هو ما يجمعُ موضوعاتِها
نقولُ مثلاً في سورةِ البقرةِ أو في أغراضِ سورةِ البقرةِ: محتوياتُ هذه السورةِ، هذه السورةُ متراميةٌ أطرافُها وأساليبُها ذاتُ أطنانٍ قد جمعت مِن وسائلِ أغراضِ السورِ ما كان مصداقاً لتلقيبِها فسطاطَ القرآنِ " يعني انَّ هذه السورةَ قد جمعت موضوعاتٌ كثيرةٌ جدّاً ممّا يصدقُ عليهِ ما لُقِّبت به عندَ بعض العلماءِ مِن سلفِ هذه الأمّةِ سمّوها أو قالوا عنها بوصفِها فسطاطَ القرآنِ والفسطاطُ هو المكانُ الواسعِ. قالَ " ومعظمُ اغراضِها تنقسمُ إلى قسمين: قسمٌ يُثبتُ سموَّ هذا الدينِ على ما سبقَه وعلوَّ هديِهِ وأصولَ عقيدِهِ, وقسمٌ يُبيِّنُ شرائعَ هذا الدينِ لأتباعِهِ وإصلاحَ مجتمعِهِ " فهو يقولُ سورةُ البقرةِ مقسّمةٌ إلى قسمين, قسمٌ يُبيِّنُ سموَّ هذا الدينِ والفرقَ بينَه وبينَ الأديانِ السابقةِ والقسمُ الثاني يُبيِّنُ شرائعَ الدينِ وكيفَ يصلُحُ النّاسَ لاتّباعِ هذه الشرائع .
آخرُ ما نريدُ أن نتحدّثَ عنه في هذه المقدّمات والّتي نسألُ الّلهَ تعالى أن ينفعَ بها هو طرقُ الكشفِ عن مقاصدُ السورِ, ولعلّنا نُجمِلُ ذلك إن شاءَ الّله لندخلَ في المقصودِ الأعظمِ وهو ان نتحدّثَ عن مقصودِ كلِّ سورةٍ على حدة على نحوٍ نرجو الّلهَ سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا فيه .
أمّا طرقُ الكشفِ عن مقاصدِ السورِ:
فنقولُ الكشفُ عن مقاصدِ السورةِ والوصولُ إليه مبنيٌّ على الاجتهادِ ودقّةِ الاستنباطِ وإدراكُهُ ممّا تختلفُ فيه العقولُ . وذلك انّهُ مرتبةٌ بعدَ إدراكِ المعنى العامِّ ويتطلّبُ فهمُهُ إشغالاً للذّهنِ وصحّةً للذّوقِ. يعني أنّهُ علمٌ فيه دقّةٌ وفيه نظرٌ ولذلك تلحظونَ في المرّةِ الماضيةِ كيف ذكرنا قصّةَ ابنِ عبّاسٍ مع بقيّةِ الصحابةِ عندما سألَ عمرٌ كبارَ الصحابةِ ما تقولون في قولِ الَّلهِ عزَّ وجلَّ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقالوا: أمرَ الّلهُ نبيَّهُ إذا فتحَ الّلهُ عليه ونصرَهُ ان يُسبِّحَ بحمدِ ربِّهِ ويستغفِره. وهذا الكلامُ مِنه صحيحٌ لكنّهم رضوانَ الّلهِ عنهم ما غاصوا إلى المقصودِ. فقالَ ما تقولُ فيها يا ابنَ عبّاسٍ ؟ قال: هذا أجلُ رسولِ اللّهِ . فابنُ عبّاسٍ غاصَ بفهم دقيقٍ إلى المقصودِ مِن السورةِ وهو أنّها جاءت لتقولَ لرسولِ الّلهِ استعدّ فقد فتح الّلهُ عليك ونصرَك وينبغي لك باستعدادِك للقاءِ الّلهِ أن أن تكثرَ مِن التسبيحَ بحمدِ الّلهِ والاستغفارَ لأنّكَ ينبغي لك أن تلقى الّلهَ طاهراً نظيفاً وعلى أكملِ درجاتِ الاستعدادِ.
يقولُ الفراهيُّ مُبيِّناً هذا الامرَ وهو انَّ استنباطَ المقصودِ يحتاجُ إلى دقّةٍ : "اعلم أنَّ تعيينَ عمودِ السورةِ -يقصدُ بعمودِ السورةِ أي مقصودُ السورةِ -هو أسلوب لمعرفةِ نظامِها ولكنّهُ أصعبُ المعارفِ فيحتاجُ إلى شدّةِ التأمُّلِ والتمحيصِ " ما هي الأمورُ الّتي يحتاجُها الإنسانُ ليكشفَ عن المقصودِ ؟
الأوّلُ : الفهمُ الصحيحُ للمقصدِ وحدِّهِ وضابطِهِ: عندما تعرفُ ما هو المقصودُ وتعرفُ أنّهُ يختلفُ عن الموضوعِ هذا يُعينُكَ على أن تستنبطَ المقصودَ فإنَّ المقصودَ يختلفُ عن الموضوعِ مِن حيثُ أنَّ الموضوعَ هو حديثٌ عن قضيّةٍ معيّنةٍ وغالباً ما تكونُ ظاهرةً. أمّا المقصودُ فلا، غالباً ما يكونُ يُستنبَطُ مِن الكلامِ استنباطاً ويحتاجُ إلى غوصٍ حتى يصلَ الإنسانُ إليه ويحتاجُ إلى دقّةٍ في النظرِ حتى يربط الإنسانُ بينَ موضوعاتِ السورةِ المتفرّقةِ لينظمَ مِنها مقصوداً.
فالغرضُ هو مغزى الكلام وروحُهُ يدني فيه بخفاءٍ فيحتاجُ دقّةِ فهمٍ وإلى نظرٍ ثاقبٍ. امّا الموضوعُ فهو ظاهرٌ في السورةِ الّتي اشتملت عليه وإن كان لا بدَّ من تلازمٍ والاتفاقَ بينَهُما.
فمثلاً في سورةِ البقرةِ نجدُ أنَّ موضوعَها أحكامَ الشريعةِ وهذه ظاهرةٌ ذُكِر فيها الصلاةُ، والزكاة، والصّومُ, والحجُّ, والجهادُ, والعِدد, والطلاق, والمعاملات الماليّة, والإنفاق والربا والمداينات ونحوِ ذلك. هذا موضوعُها ويدلُّ عليه كون السورةِ مدنيّةٍ لكنَّ غرضَها ما هو؟ غرضُها في إعدادِ الأمّةِ في حملِ أمانةِ الدينِ والشريعةِ ونشرِها، ولذلك جاءَ قسمُها الأوّلُ في بيانِ العقيدةِ والإيمانِ وتضمّنَ قسمُها الثاني كلّيّاتِ الشريعةِ، وتضمّنت ذكرَ أحوالِ بني إسرائيلَ إشارةً إلى سلبِ الخلافةِ مِنهم ومنحِه لأمّةِ محمّدٍ صلّى الّلهُ عليهِ وسلّمَ، ولذلك برزت فيها قصّةُ تحويلِ القبلةِ وقد جاءَ فيها تربيةُ الامّةِ على تلقّي أوامر الّلهِ تعالى بإبرازِ قصّةِ البقرةِ مِن سورةٍ إلى حالِ بني إسرائيلَ في تعنّتِهِم في تلقّي أوامر الّلهِ جلَّ وعلا . فانظر مِن خلالِ هذا المثالِ إلى الفرقَ بينَ الغرضَ والمقصودَ وبينَ الموضوعِ .
الثاني يا إخوان: صفاءُ الذّهنِ, ودقّةِ النظرِ, وإدامةُ التامُّلِ في كتابِ الّلهِ عزَّ وجلَّ, وبعدِ الغوصِ فيه, وتكرارِ البحثِ والتّحرّي فيه لطلبِ الغرضِ وتعيينِهِ بقرائنِهِ المختلفةِ.
وهذا يحتاجُ إلى بذلِ مجهودٍ وبه نعلمُ أنَّ المقصودَ لا يبينُ للإنسانِ مِن أوّلِ نظرةٍ، بل يحتاجُ إلى ان تقراَ السورةَ تحاولُ ان تجمعَ موضوعاتِها ثمَّ تفكّرَ في الجامعِ بينَ هذه الموضوعاتِ، وتحاولُ أن تغوصَ إلى الدقائقَ والمقدّماتِ والخوافي والصدورُ حتى تصلَ إلى المقصودِ يقولُ الزركشيُّ " وإنَّ ما يفهمُ بعضَ معانيه ويطّلعُ في أسرارِهِ ومبانيه مَن قويَ نظرُهُ واتسعَ مجالُهُ وتدبُّرُهُ وامتدَّ باعُهُ ورقّت طباعُهُ " ويقولُ الفارابي العلامُ الهنديُّ المعروفُ "لكنّهُ يعني مقصودُ السورةِ أصعبُ المعانيِ فيحتاجُ إلى شدّةِ التأمل والتمحيصِ وتردادِ النظرِ في مسائلِ السورةِ المتماثلةِ والمتجاورةِ حتى يلوحَ كفلقِ الصبحِ فتضيءَ به السورةُ كلُّها ويتبيَّنَ نظامُها وتأخذَ كلَّ آيةٍ محلَّها الخاصّ ويتعيَّنُ مِن التأويلاتِ أرجحَها .
الثالثُ ممّا يُعينُ على الكشفِ عن المقصودِ: صدقُ النّيّةِ في طلبِ فهمِ كلامِ الّلهِ تعالى، وإقبالِ القلبِ عليه، والّلجوءِ إلى الّلهِ وطلبِ توفيقِهِ .
فإنَّ هذا الأمرَ يحتاجُ مِن الإنسانِ أن يصدُقَ مع الّلهِ سبحانَهُ وتعالى للوصول مِن المقصدِ وفهمِهِ.
يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمهُ الّلهُ "حقيقٌ بالمفتي أن يكثرَ الدعاءَ بالحديثِ الصحيحِ "الّلهمَّ ربَّ جِبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ و فاطرَ السّماواتِ والأرضِ و عالمَ الغيبِ والشهادةِ أنت تحكمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيه يختلفون اهدِني لِما اختُلِفَ فيه مِن الحقِّ بإذنِكَ إنّكَ تهدي مَن تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ " وكان شيخُنا –يعني شيخ الإسلام- كثيرَ الدعاءِ بذلك, وكان إذا أشكلت عليه المسائلَ يقولُ "يا معلِّمَ إبراهيمَ علِّمني" ويُكثرُ الاستعانةَ بذلك اقتداءً بمعاذ بنِ جبلٍ رضيَ الّلهُ عنه . وكانَ بعضُ السّلفِ يقولُ عندَ الإفتاءِ "سُبحانَكَ لا علمَ لنا إلا ما علّمتنا إنّكَ أنت العليمُ الحكيمُ " وكانَ بعضُهُم يقرأُ الفاتحةَ وجرّبنا نحنُ لك فرأيناهُ مِن أقوى أسبابِ الإصابةِ والمعوِّلُ في ذلك كلِّهِ على حسنِ النيّةِ وحصول القصدِ وصدقُ التوجُّهِ" .
الرابعُ ممّا يُعينُ على فهمِ المقصودِ: معرفةُ مقدّماتِ السورةِ مِن أحوالِ نزولِها وخصائصِها وفضائلِها كما بيّنت لكم بما يُسمّى بعلومِ السورةِ
فإنّكَ عندما تعرفُ أحوالَ نزولِها أينَ نزلت؟ هل هي مكيّةٌ أم مدنيّةٌ وفي أي شيءٍ نزلت؟ في غزوةِ تبوك ولا في غزوةِ بدرٍ ولا في غزوةِ الأحزابِ وإلا في وقتِ شدّةٍ ولا في وقتِ يسرٍ ولا في قضيّةٍ خاصّةٍ أو عامّةٍ اجتماعيّةٍ أو اقتصاديّةٍ أو غيرَ ذلك . كذلك معرفةُ فضائلِ السورِة وخصائصِها لمّا يُعرفُ أنَّ هذه السورةَ أفضلُ سورِ القرآنِ أعظمُ سورِ القرآنِ تعدلُ ثلثَ القرآنِ، هذا يعني شيء، ويعني أنَّ مقصودَها خيرٌ عظيمٌ يُناسبُ فضيلتَه. لا يمكنُ أن يكونَ أن يكونَ فضيلةَ السورةِ العظيمةِ مقصودها ليس بكبيرٍ. فانظر مثالً على سورةِ الإخلاصِ تعدلُ ثلثَ القرآنِ لماذا يا إخوان ؟ لأنّها تتحدّثُ في أمرٍ ماذا يا إخوان هو أمرُ التوحيدِ ما يمكنُ أن تتحدّثَ في أمرِ الوديعةِ ولا الشفعةِ ولا الغدارةِ ولا أمرَ القصاصِ لا تتحدّثُ في أمر الإخلاصِ في أمرِ التوحيدِ في توجّهَ القلبِ إلى الّلهِ وحدَه وألاٌ يكونَ في قلبِ العبدِ أحدٌ سوى الّلهَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} السيّدُ الّذي بلغَ السؤددَ كمالَ السؤددِ العظيمُ الّذي بلغَ الغايةَ في العِظَمِ سبحانَهُ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4}
أيضاً ممّا يُعرفُ به مقصودَ السورةِ وهو الخامسُ: معرفةُ مقاصدِ القرآنِ العامّةِ والانطلاقَ مِنها لتحديدِ مقصدِ كلِّ سورةٍ .
القرآنُ لأيً شيءٍ نزل؟ ليس يأتي الإنسان في سورةِ النّور ويقولُ هذه السورةُ جاءت مثلاً لبيانِ أنواعِ الدّوابِّ في الأرضِ {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } ليظنَّ أنَّ القرآنَ جاءَ لتقريرِ آياتِ الّلهِ الكونيّةِ فقط كما يريدُ أن يفعلَهُ بعضُ المعاصرين. بل إنَّ بعضَهم قال القرآنُ جاءَ لتقريرِ الحقائقِ الكونيّةِ؛ لأنّها وجدت في القرآن في أكثرِ مِن ألفين آية، ولمّا جاءت بأكثرِ مِن ألفين آية معنى ذلك أن القرآنَ جاءَ لبيانِ الحقائقِ الكونيّةِ. أنت إن تفتح كتابه تجد صورة سحاب وشمس وقمر وبحر وحوت وسمك وسفينة وإلى آخرِهِ . هذه هي الحقائقُ الكونيّةِ عندهم فالقرآنُ جاءَ لبيانِ هذه الحقائقِ الكونيّةِ، ما جاءَ للهدايةِ، ما جاءَ للتوحيدِ، ما جاءَ لإصلاحِ الأمّةِ، لإصلاحِ القلوبَ، لبيانِ الآخرةِ, الجنّةَ, النّارَ, البعثَ, النّشورَ . أهمّ شيء هو كيفَ خُلِقت السماءُ؟ وكيفَ كونت الأرضُ؟ ومتى كُوِّنت؟ ومِن أيِّ شيءٍ تكوّنت؟ كيفَ أُنزِلَ الحديدُ ؟ ما صلتُهُ؟ ما نسبتُهُ لموادِّ الأرض ؟ وكيفَ أُنزِلت سفينةُ الأنعامِ؟ وكيفَ خُلِقَ الإنسانُ؟ وما مراحلُ تطوُّرِ هذا الإنسانِ في خلقِهِ ؟ وأنَّ هذا هو مقصودُ القرآن, لذلك لا بدَّ لمَن أرادَ أن يتحدّثَ في مقاصدِ السورِ أن يكونَ عالماً بمقاصدِ القرآنِ كلِّهِ. وفي تفسيرِ هذا الأمرِ يقولُ شيخُ الإسلامُ ابنُ تيميةٍ رحمهُ الّلهُ "فمَن تدبّرَ القرآنَ وتدبّرَ ما قبلَ الآيةِ وما بعدَها وعرفَ مقصودَ القرآنِ تبيّنَ له المرادَ وعرفَ الهدى والرسالةَ وعرفَ السدادَ مِن الانحرافِ والاعوجاجِ . وأمّا تفسيرُهُ بمجرّدِ ما يحتملُهُ الّلفظُ المجرّدُ عن سائرِ ما يُبيِّنُ معناه . فهذا منشأُ الغلطِ مِن الغالطِين " جميلة هذه الكلمة جدّاً في تحقيقِ المقصودِ وأن فهمَ المقصودِ يُعينُ على فهمِ الآيةِ، ويُعينُ على اتّقاءِ الفهمِ الخاطئِ للآيةِ، وعدمَ الانحرافَ في تفسيرِ القرآنِ .
السادسُ أحبّتي ممّا يُعينُ على فهمِ المقصودِ : النظرُ لاسمِ السورةِ، وما وردَ مِن أسمائها، وإمعانُ النظرُ في الربطِ بينهُما .
انظروا مثلاً كما ذكرنا سورةُ الإخلاصِ لم يُذكَرُ اسمُ الإخلاصِ في سورةِ الإخلاصِ لا في سورةِ الكافرون ولا في سورةِ الصّمدِ ما ذُكِر، ماذا يعني هذا يعني هذا أنَّ هذا الاسمُ أريدَ به المقصودُ فهو الآن جاءَ لتعيينِ المقصودِ، ولذلك إذا كان اسمُ السورةِ قد ثبتَ عن النبيِّ صلّى الّلهُ عليهِ وسلّمَ فإنّهُ ينبغي للإنسانِ أن يعتنيَ بمعرفةِ هذا الاسمِ وبمعرفةِ الرّابطِ بينَ هذا الاسمِ وبينَ المقصودِ. أمّا إن كان وردَ عن العلماءِ مِن الصحابةِ والتابعين ومن جاءَ بعدَهم فإنّهم ما أشاروا إليه أو اختاروهُ اسماً للسورةِ إلا لغرضٍ، فليبحثَ عن الصّلةِ بينَ اسمِ السورةِ وبينَ مقصودِها . فينبغي هنا أن ننتبهَ لأمرٍ مهمٍّ جدّاً ما هو ؟ لا تنظر إلى لفظِ الاسمِ، انظر إلى مدلولِ الاسم، مثلاً سورةُ البقرةِ ليس هناك رابطٌ بين اسمِ البقرةِ وبينَ هذه السورةِ، الرابطُ إنّما هو في قصّةِ البقرةِ, القصّةَ الّتي اختيرَ هذا الاسمِ مِن أجلِ أن يُعبِّرَ عنها وبينَ السورةِ وبينّا ذلك في الدرسِ الماضي فقلنا أنَّ هذه القصّةَ جاءت لتبيِّنَ حالَ اليهودِ في تعاملِهِم مع أنبيائهِم وتباطُئهِم في السمعِ والطاعةِ ومحاولتِهِم اللّفَ والدّورانَ قبلَ الاستجابةِ ولأجل ذلك سلبَ اللّهُ عزَّ وجلَّ مِنهم الخلافةَ، ووضعَها في أمّةِ محمّدٍ فإيّاكم يا أمّةَ محمّدٍ أن تفعلوا فعلَهم فيسلبَكم اللّهُ العزَّ والتمكينَ والتقدُّمَ والخلافةَ في الأرضِ، فمتى فعلتم ذلك حصل لكم مثلَ ما حصلَ لهم, قالَ النبيُّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ: {لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قَبلَكم حَذوَ القُذّةِ بالقُذّةِ حتى لو دخلوا جُحرَ ضبٍّ لدخلتُموه} انظروا يا إخواني نحنُ اليومَ نعيشُ مصداقَ هذا الحديثِ اتّبعنا سننَ مَن كان قبلنا وسلكنا مسالكَهم مع كلِّ أسفٍ، وأصبحنا نقلّدُهُم في كلِّ شيءٍ، فما هناك حقٌّ في الأرضِ إلا وجاءَ مَن يقلّدُه وما هناك عنايةٌ بشيءٍ إلا إذا اعتنوا به. ماذا حصلَ لنا يا إخوان؟ أصبحنا الآنَ في ظلِّ القائدِ وأصبحنا على هامشِ سكّانِ الكرةِ الأرضيّةِ. يقولُ النكتة اللّهُ أعلمُ مِن صحّتِها إن بوش وقفَ بعدَ ما اجتمعَ مع توني بلير في اجتماعٍ خاصٍّ فجاءَ الصحفيّون يقولون: ما هي أهمُّ النتائجِ الّذي خلصتم إليها؟ قال: خلصنا إلى أن أو قررنا أن نقتلَ عشرين مليونَ مسلماً بطبيب أسنان واحد.فقالوا: لماذا طبيب أسنان واحد؟ فقال: إنّهم لا يعتنون بمليون المسلمِ يعتنون بطبيبِ أسنان وواحد. يعني لهوانِ أمّةِ الإسلامِ سواءً صحّت هذه القصّةَ أم لم تصح معناها صحيحٌ وهو أنَّ أهلَ الإسلامِ لا يُشكّلونَ أيَّ قيمةٍ عند هؤلاءِ .
أيضاً ممّا يعينُ على تحقيقِ المقصودِ وفهمِهِ وهو السابعُ, النظرُ في افتتاحيّةِ السورةِ وخاتمتِها والتأمُّلِ في الرابطِ بينهما:
وهذا يا إخواني يكادُ يكونُ كثيراً إن لم يكُن مطّرداً, انظر مثلاً في سورةِ آلِ عمران { الم {1} اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} إذاً فيها قضيّةُ توحيدٍ, وفي آخرِها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {200}
إذاً التوحيدُ يحتاجُ إلى تضحياتٍ وبذلٍ وصبرٍ حتى لو اضطرَّ ذلك الأمرُ الجهادُ في سبيلِ اللّهِ والصبرُ على مرارةِ الجهادِ والقتلِ والقتالِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {200}
في سورةِ النّساءِ الافتتاحيّةُ كانت في أوّلِ السورةِ بذكرِ الضعفاءِ وأحوالِهِم أيضاً في آخرِها {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } إلى آخرِهِ . في سورةِ المائدةِ كذلك.
في سورةِ مريمَ { كهيعص {1} ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا {2} فقد ذُكِرَ فيها الرحمة و تكرّرَ فيها اسمُ الرحمنِ في مواطنَ كثيرةٍ جدّاً في هذه السورةِ مالم يكد يتكرّرُ في أيُّ سورةٍ أخرى في القرآنِ العظيمِ .
في سورةِ طه { مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى {2} وفي آخرِها {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا {125} إلى آخرِ ما جاءَ في السورةِ .
يقولُ السيوطيُّ رحمهُ اللّهُ: "وقد قدّمنا غيرَ مرّةٍ أنَّ سورَ القرآنِ تُستَفتَحُ بِما يُشيرُ إلى المقصودِ ثمَّ يُستطرَدُ مِنه إلى غيرِهِ بأدنى ملائمةٍ ثمَّ يُشارُ في آخرِ السورةِ إلى مثلِ ما افتُتِحَ به." . وذكرنا هذا في الدرسِ الماضي في سورةِ البقرةِ في أوّلِها بدأ بذكرِ الإيمانِ وصفات المتّقين: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} وفي آخرِها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ} إلى آخرِ السورةِ .
ويؤكِّدُ السيوطيُّ ذلك بمثالٍ فيقولُ: "وفي تبصرةِ الشيخِ تاجُ الدّينِ القطبيِّ ومِن خطِّهِ نقلتُ سأل الإمامُ أو سئل الإمامُ: ما الحكمةُ في افتتاحِ سورةِ الإسراءِ بالتسبيحِ والكهفِ بالتحميدِ ؟ أوّلُ الإسراءِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وفي أوّلِ الكهفِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} وأجاب: لأنَّ التسبيحَ حيثُ جاءَ يُقدَّمُ على التحميدِ نحو: فسبّح بحمدِ ربّكَ, سبحانَ اللّهِ والحمدُ للّهِ". هذا جوابه.
وأجاب ... بأنَّ سورة { سبحان } لمّا اشتملت على الإسراء الّذي كذَّبَ المُشْرِكونَ بِهِ النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتَكْذيبُهُمْ تَكْذيبٌ لِلَّهِ – سبحانه وتعالى – أتى بِ{سبحان } لتنزيهِ الله – سبحانه وتعالى – عمّا نُسِبَ إلى نَبِيِّهِ مِنَ الكذب، أو لتنزيهِهِ، تنزيهِ الله تعالى عمّا نسب إليه نَبِيُّهُ من الكذب .
يعني: لا يمكن أن يكذِبَ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ اللهَ – عزَّ وجلّ – قد صَدَقَ في إخبارِكم عن هذا الأمر .
ويتأكَّدُ مع ذلك ربْطُ أوَّلِ السّورةِ.
قال : ( وفي قِصّةِ أصْحابِ الكَهْف، وسورةُ الكهف لمّا أُنْزِلَت بعدَ سُؤلِ المُشْرِكين عن قِصَّةِ أصْحابِ الكهف، وتأخُّرِ الوحي، نزلت مُبَيِّنَةً أنَّ اللهَ لم يقطع نعمتَهُ عن نَبِيِّه ولا عن المُؤمنين، بل أتمَّ عليهم النِّعمة بإنزالِ الكتاب؛ فناسَبَ افتِتاحُها بالحَمْدِ على هذه النِّعمة ) ويتأكَّدُ مع ذلك ربْطُ أوَّلِ السّورةِ بِآخِرِها، فإنَّ أوَّلَ الكلام وآخِرَهُ هو المُرْتَكَزِ للغَرَضِ غالِباً، وهذا مُتَقَرِّرٌ في لُغةِ العرب؛ ولذلك ابن حيّان الأندَلُسي يذكُرُ ذلك في [ البحر المحيط ] في قولِه: ( وقد تتَبَّعْتُ أوائِلَ السُّوَر المُطَوَّلَة؛ فَوَجَدْتُها يُناسِبُها آخِرُها بحيث لا يكادُ ينخَرِمُ منها شيء، وذلك من أَبْدَعِ الفَصاحة حيث تلاقى آخِرُ الكلامِ ...... في أوّله وهي عادة العربِ في كثيرٍ من نظمهم، يعني يختمون كلامَهم إذا طال بأوَّلِهِ؛ حتى يعود آخر الكلام على أوَّلِه، ولا يشعر السّامع بأنَّ المتكلِّم قد تشتت في أودِيَةِ المعاني، وترك المعنى الأساس الّذي بدأ به .
الثّامن: - يا إخواني – مِمّا يُعين على معرفة المقصود: النَّظرة الكُلِيَّة للسّورة وتجَنُّبِ الجزْئيّة .
يعني لا تنطلق في مرادك المقصود واستنباطه إلى قضيَّةٍ ذكَرَتها السّورة .
يعني: ممكن أن تقول مثَلاً عن سورة من سورِ القرآن أنَّ المقصود بها هو كذا، لا ، يعني – مثلاُ - : في سورة المائدة يمكن ينطلق الإنسان فيها من قصّةِ ابْنَيْ آدَم، أو ينطلق فيها إلى موضوع الولاء والبراء، أو تحكيم شرعِ الله، أو ينظر فيها إلى قضيّة الوُلي ، أو حكم الصَّيد للمُحْرِم؛ إذا نظرت من خلال هذه الجزئيّة فلن تجدَ المقصود، لكن اجعل نظرتك في السّورة كُلِيّة من أوَّلِها إلى آخِرِها، وفي طَيّاتِ ذلك وظِلِّه موضوعاتُها.
التّاسع: إمعان النّظر في دلالات الكلمات والألفاظ وقُوّة اختِيارِها .
يعني: أمعِن النَّظَر في دلالات الكلمات والألفاظ، ولماذا اختيرَت هذه دون غيرِها، هذا يُعينُك – بإذنِ اللهِ عزَّ وجلّ – على الوصول إلى المقصود .
انظر مثلاً: يقول مصطفى صادق الرّافعي: ( تدَبُّر الألفاظ على حروفِها وحركاتِها وأصالتِها ولحونِها ومناسبة بعِضِها لبعض في ذلك والتّغَلْغُل في وجوه التي من أجلها اختير كلّ لفظ في موضعه، ثمّ انظر في روابطِ الألفاظِ والمعاني والحروف والصِّيَغ الّتي أُقيمَت عليها اللُّغة، ووجه اخِتيار الحرف، أو السّورة، ثمّ طريقة النّسق والتّرك في الجملة، ووجه الحذف أو الإيجاز أو التَّكْرار .. ونحوِها مِمّا هو خاصٌّ بهذه الطَّريقة حسبما ما تُوَجِّهْهُ المعاني؛ فإنَّ كُلَّ ذلك في القرآن على أثَرِه ) .
يعني: ما يمكن أن نحتار في القرآن – يا إخواني - لفْظاً في السورة إلاّ وهو مناسِبٌ لمقصودِ تلك السورة يعني: اسم الرَّحمن يُكَرَّر في سورة مَرْيَم عِدَّة مرّات؛ لماذا ما يختار اسم الجبّار ولاّ القَهّار، ولاّ العزيز والحكيم واختار الرَّحمن وحدَه، لماذا ؟ {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا {18} يقول إبراهيم عليه الصّلاةُ والسّلام قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ } ماذا ؟ {عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا{45} ويقول في آخرِ السّورة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {96} فانظر: لماذا اختار هذا الاسم ؟ اختاره؛ لمناسبتِهِ للمقصود من هذه السّورة.
يقول: "سورة الضُّحى يفْتَتِحُ اللهُ – عزّ وجلّ – القَسَم بالضُّحى، لماذا يقسِم القسم بالضُّحى؟ لماذا لم يُقسِم بالجبال ؟ لماذا لم يُقْسِم بالصُّخور، أو بالأنهار ؟ للدّلالة على الانفكاكِ وزوالِ الظُّلْمة وانبِعاث السّرور في النّفس، وهو مناسِب لِغَرَضِ السّورة، السّورة جاءت؛ لِتَشْرَح صدر رَسولِ الله ولتطمْئن قلبَه بأنَّ ربَّهُ لم يُبْغِضْه، ولن يهجره ولم يتْرُكَه أبشر يا محمّد! بالوحْي يأتيك بعد انقطاع؛ فإنَّه كالضُّحى يأتي بعد ظُلْمة اللّيل.
فهذه هي أهمّ الأسباب والوسائل والأمور الّتي تلتفت لنا بها مقاصد السُّور .
طبعاً هذا الّذي ذَكَرْتُهُ لكم، وتحَدَّثْتُ به، واعتمَدْت عليه في هذه المُقَدِّمات، هو بحْث في الحقيقة؛ لأخينا: الشيْخ الدّكتور: الفاضل محمّد بن عبد الله الرّبيعة،ـ الأستاذ المُساعد في جامعة القصيم .
قد كتبَهُ الإخوة – جزاهم الله خيراً – وطبعوه طباعة جيِّدة – جزاهم الله خيراً – وهو الآن موجود في نهاية المسجد، لعلّ الله – سبحانه وتعالى – ينفعَكم بهذا البحْث، وهذا البحث سيخرُج إن شاء الله في كتاب قريباً، وهو في الحقيقة بحْث واسع في هذا الموضوع، ولم أطَّلِعْ على بحْثٍ مثْلَهُ في هذا الموضوع .
أسْألُ الله – سبحانه وتعالى – أن يُوَفِّقَنا للخير حيْثُ كُنّا .
ولعلَّنا نقرأ هذا السُّؤال؛ يقول: مَن مِن العلماء تكلَّم عن موضوعات سورة البقرة بالتّفصيل الّذي ذكرْتَه .
الجواب: العلماء الّذينَ ذَكَرْناهم تكلَّموا عن ذلك يعني مثلاً [ مصاعد النَّظر ] للبقاعي و للرّازي في تفسيرها الكبير، واطّلعْت أيْضاً إلى مقَدِّمة تفسير سيِّد قُطُب [ في ظِلالِ القرآن ] وراجعت المُقَدِّمات منها لمحمَّد الغزالي – رحمه الله – في كتابٍ خاص جعله لموضوعات السّور ومقاصِدِها؛ كلّهم يذكرون مثل هذه الأشياء، والعلم عند الله – سبحانه وتعالى –
سبحانك اللهمّ وبِحَمْدِك أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلاّ أنت أسْتَغْفِرُكَ وَأتوبُ إليك ..