مقابلة مع جورج تامر عام 2005

إنضم
18/10/2014
المشاركات
68
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
كندا
[TABLE="width: 100%"]
[TR]
[TD="colspan: 3"]
يجب أن نكون حذرين تجاه مفهومي الشرق والغرب وأن لا يقوم الحوار على المجاملات
جورج تامر: أعتقد بوجود فلسفة مؤمنة لكن على الفكر الفلسفي أن يخرج من الإطار الديني


[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD][TABLE="align: right"]
[TR]
[TD="align: right"]
محمد أهروبا​
[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
L_024a.jpg
الفرنسي جورج براك (1882 1963)
يُعتبر جورج تامر واحداَ من المثقفين والمترجمين العرب الذين يساهمون في تفعيل الحوار مع الآخر، ويلعبون دوراً أساسياً في ترسيخ أخلاق التفاعل الفكري والثقافي بين ألمانيا والعالم العربي. وُلد جورج تامر في كفرحزير بلبنان عام 1960، درس الفلسفة، والسوسيولوجيا، واللاّهوت بفرانكفورت وبرلين، حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة. وهو يعمل، حالياَ، أستاذاَ بجامعة إرلنغن نورنبرغ. أصدر بالألمانية كتابIslamische Philosophie und die Krise der Moderne (الفلسفة الإسلامية وأزمة الحداثة)، وصدر له عن دار النهار ببيروت ترجمة لمختاراتٍ من مقالات يورغن هابرماس بعنوان <<الحداثة وخطابها السياسي>> (2002)، كما صدر له، مؤخّرا، باشتراك مع آخرين، ترجمة لكتاب <<تاريخ القرآن>> للمستشرق الألماني تيودور نولدكه (Theodor Nšldeke). له العديد من المقالات والدراسات الفلسفية.
إستشراق ألماني
؟ يظلّ الإستشراق الألماني على العموم، مُقارنةً مع الإستشراق الفرنسي والأنكلوساكسوني، مجهولاً عند الباحثين والقراء العرب على الرغم من أهميته التاريخية والفيلولوجية. بِمَ يمكن أن تُفسّر ذلك، باعتبارك واحداً من العاملين في هذا المجال؟ أطرح هذا السؤال وأحيل، في الوقت نفسه، على المدرسة الإستشراقية الحديثة في ألمانيا التي استطاعت أن تؤكّد حضورا علمياً متميّزا في مجالات بحثها يتجاوز، في أكثر من فرعٍ علمي، ما وصلت إليه المدارس الإستشراقية الحديثة في البلدان الأخرى.
� تتّصف الحركة الإستشراقية الألمانية بدرجة أكبر من الموضوعية، إذا قارناها بالإستشراق الفرنسي والإنكليزي. لِبيان ذلك لا بُدّ لنا منَ العودة إلى بدايات الإستشراق وتطورّه في أوروبا. الأسباب التي قادت الأوروبيين إلى الإهتمام بالشرق أسباب عديدة؛ منها السبب الديني الذي يتجسد في الإهتمام بالإسلام، وكتابه، ونبيّه، بعد أن شكّل المسلمون قوّةً عسكرية كبرى، فَاستولوا على الشرق بأسره، وسيطروا على الأماكن المقدّسة، واستطاعوا، فيما بعد، أن يهدّدوا أوروبا نفسها. لقد دفع هذا الإهتمام ببعض رجال الكنيسة إلى التعرف إلى القرآن الكريم ومعرفة مضمونه فتمّت ترجمته إلى اللاتينية، فكانت ترجمته، أولّ مرّة، على يد روبرت الكتوني (Robert von Ketton) عام 1143 تلبيةً لطلبِ بُطرس المبجّل (Petrus Venerabilis) الذي كان رئيس دير كْلوني (Cluny). ثمّ تلت هذه الترجمة ترجمات أخرى. هذا من جهة. هناك نواحٍ أخرى اثرت باهتمام الإستشراق في أواخر القرون الوسطى وبداية عصر النهضة؛ فكان هناك اهتمام باللغات الشرقية، فتأسست معاهد عريقة لدراسة اليونانية، والعبرية، والأرامية في روما ولايْدن وأوكسفورد. ثمّ جاء، بعدئذ، الإهتمام باللغة العربية، فتمت دراستها، أيضاً، لم تكن الدّوافع الأولى الأساسية التي قادت المستشرقين الأوروبيين إلى الإهتمام بالشرق دوافع سياسية كما يعتقد الكثيرون. الدّافع السياسي الإستعماري نشأ في مرحلة لاحقة ولم يكن البتة دافعاً مبدئيًّا في تطوير حركة الاستشراق. رغم أن بدايات الفضول الاوروبي للتعرف إلى الإسلام كانت بدايات تهجّمية إلا أنها كانت مطبوعة بالطابع الديني بشكل أساسي، أي أنَّ الأروروبين كانوا يريدون معرفة ما ينطوي عليه القرآن الكريم ليعملوا على دحضه، وتبشير المسلمين. الدوافع على الإجمال معقدة وتتداخل في بعضها بعضاً؛ منها الفردي والجماعي، ومنها الديني والسياسي والاقتصادي والعلمي البحت.
لم تكن ألمانيا بلداً استعمارياً فكانت رغبة الرعيل الأول من المستشرقين الألمان في معرفة الإسلام يَحْدُوها فضول علمي وحبّ لثقافة الشرق المتعدّدة، بجانبيْها الإسلامي والمسيحي. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ نظرة أوروبا إلى القرآن الكريم لم تُصبح أكثر إنصافاً إلاّ مع نشوء المذهب الإنساني (Humanismus) بحيث لم يعد يتمّ النظر إلى القرآن بناءَ على اختلافه شكلاً ومضموناً عن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد فحسب، أو باعتباره كتاباً سياسياً ونبوياً أو مجموعة من الأناشيد التي تشبه المزامير فقط، بقدر ما صار يتم النظر إليه من حيث هو مجموعة مركبة من كلّ هذه الخصائص. لقد تبلور في الإطار الثقافي الألماني ابتداءَ من القرن الثامن عشر اهتمام مكثّف بالشرق لغةً، وديناً، وآثاراً. أذكر في هذا السياق المستشرق يوسف فون هامر بورغشتال (Joseph von Hammer-Purgstall) ، والشاعر غوته (Johann Wolfgang Goethe) الذي لم يكن يجيد العربية إلاّ أنه كان يعشق الشاعر الفارسي حافظ، وكان حبه للشرق كبيرا إلى درجة أنه كتب ديواناً سمّاه الديوان الغربي الشرقي (West-šstlicher Divan) الذي يكشف عن خواطر تجيشُ بالتقدير والإعجاب بالرسول العربي الكريم، والقرآن والإسلام والثقافة الإسلامية. الجدير بالذكر، أيضاً، أن غوته قام بمراجعةِ ترجمةٍ للقرآن الكريم إلى اللغة الألمانية فوجدها نتاجاً تعيساَ. يقول بالحرف الواحد: <<هذا نتاج تعيس، ولا بد لنا أن ننتظر شخصاً يقوم بترجمة للقرآن ويكون مفعماً بكل الأحاسيس الشعرية والنبوية، وأن يقرأ القرآن الكريم وهو جالس في خيمة تحت سماء الشرق؛ لِيفْقَهَ كل ما يختزنه الكتاب من معان>>. كلمة غوته هذه تدل على اقتناعه التام بأن من يريد أنْ يفهم القرآن يجب أن يعيش في الظروف التي نشأ فيها هذا الكتاب. وهذا ينِمّ، إذا شئتَ، عن إرهاص إستشراقي. تطوّرت الحركة الإستشراقية الألمانية في القرن التاسع عشر بحيث انصرفت إلى العمل، في المقام الأول، على معالجة النصوص، مقتفية آثار المدرسة النقدية التاريخية التي تتميّز بقراءتها الدقيقة للنصوص وتحليلها؛ لاستكشاف التاريخ والثقافة. وكانت هذه بداية الهرمنويطيقا (Hermeneutik). بهذه الروح قرأ المستشرقون الكبار آنئذ النصوص العربية بما فيها القرآن الكريم، ومن بين هؤلاء: غوستاف فايل (Gustav Weil)، والمستشرق الكبير الذي استطاع أن يتفوّق على معاصريه تيودور نولدكه (Theodor Nšldeke) صاحب كتاب تاريخ القرآن (G
schichte des Qurans) الذي نقلناه إلى العربية مؤخّراً. عمل نولدكه إلى جانب تلاميذه على دراسة النص القرآني دراسة فيلولوجية عميقة جدّاَ. المدرسة الإستشراقية الألمانية تعتمد إجمالاً على الفيلولوجيا، وهذا ما جعلها تتميّز بالموضوعية، وتتجرّد، تبعاَ لذلك، عن الدوافع السياسية؛ لأنها تلتزم بمحايثة النصوص كما هي مثلما تعامل علماء الكتاب المقدّس ومُفسروه مع العهدين الجديد والقديم. هذه المدرسة استمرت، طبعاً، في القرن العشرين وما زالت قائمة إلى الآن في مختلف مجالات الدراسات الاستشراقية.
شرق وغرب
؟ لا يمكن أن تتأسس علاقةُ تفاعلٍ إيجابي بين الشرق والغرب بمعزل عن نقد الذّات، والتعلم من الأخطاء، والإنصات إلى الآخر. لقد عانى الشرق على مدى قرون عديدة من القراءات الكولونيالية والترهيبية التي تعبّر عنها بعض المواقف الغربية، السياسية والتقافية؛ لإفراغ الروح العربية من جانبها المضيء مثلما يعاني الغرب، في المقابل، وتعاني الدراسات الإستشراقية الجادة، بالتالي، من الأحكام العربية المسبقة والكليشهات الإيديولوجية الخاطئة والمُغرِضة التي تمرّرها العقليات الدّيماغوجية ويكرّسها الجهاز الإعلامي العربي بطريقة أو بأخرى. من هنا، تأتي ضرورة الحوار الذي يجب أن ينهضَ، كما يقول هابرماس، على <<رأسمال من الثقة>> ويسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الشرق والغرب من جذورها وتحويلها من علاقة العَداء والحُكم المسبق إلى علاقة التسامح والإنفتاح والتعايش. كيف ترى أفقَ هذا الحوار؟
� أرجو أن تسمح لي، قبل الإجابة عن هذا السؤال، بأن أُلفتَ نظرك إلى ما يلي: يجب أن نكون حَذِرين عند الحديث عن الشرق والغرب. أعتقد أن هذين المفهومين، كما يُستعملان في أكثر الأحيان، يَنطوِيَان على دلالات تهجمية وتمويهية بين شرقٍ وغربٍ متضادين، متنافسين، متعاديَيْن، متطاحنيْن. هناك الكثير من المثقفين الذين يتغّذى فكرهم من هذه الثنائية العُدوانية. لا أعتقد أن الكلام عن شرق وغرب كَكُتْلَتَيْن مُتضادّتين هو كلام سليم؛ فالشرق والغرب هما، في الأصل، مصطلحان جغرافيان: الشرق يعني مكان شروق الشمس، والغرب هو المكان الذي تغرب فيه. وعليه، فإن للشرق، إذا شئنا، شرقه وغربه، وللغرب، غربه وشرقه. هذان المفهومان هما في حدّ ذاتهما، كَما يُسْتَعمَلان في الإطار الثقافي، مفهومان تعدّديان ومعقدّان في بنيتِهما. لذلك، يجب علينا، إذا أردنا بناء حوار حقيقي، أن نبدأ في تأمّل هذين المفهومين وتصحيحهما، والإستغناء عن توظيفهما بالمعنى الاستقصائي الذي يتم تداوله اليوم. لِنتحدّث، إذاً، بدلاَ عن ذلك، عن الحوار العربي الأوروبي.
يَفصل بين المنطقة العربية والعالم الأوروبي البحرُ الأبيض المتوسط ويجمعُ بينهما، في آن واحد. قبل أن أتطلّع إلى أفق الحوار، لا بأس مِن أن نَلتَفت إلى ماضيه. أوروبا والعالم العربي لم ينقطعا ، في أي فترة من الفترات، عن بعضهما بعضاً، وإنما كانا يتواصلان باستمرار: إنّ أمواج البحر الأبيض المتوسّط لم تَحْمِلْ مجرّد البضائع مِنْ وإلى جهات مختلفة، بقدر ما حَملت، كذلك، الحروف، والأفكار. هكذا انتقل الحرف، كما يُقال، من بِيبْلوس اللبنانية إلى بلاد الإغريق؛ والإسم الذي منحه صاحب الأسطورة الأوروبية لقارة أوروبا إنما هو اسمُ ابنةِ ملك صور في لبنان. هذا في الفكر الميثولوجي، وأنتَ تعرف أن الفكر الميثولوجي (هنا، لا نُترجم الميثولوجي إلى الأسطوري) هو قاعدة الفكر العقلاني. هذا، بالإضافة إلى أن الأبجدية الفينيقية، هي، كما هو متعارف عليه بين علماء اللغات، أساس الأبجدية الإغريقية، التي هي بدورها أساس الأبجدية اللاتينية. هذه هي بدايات الإنتقال الثقافي من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى غربه. وهذه العلاقات استمرت، خصوصاَ بعد أن صارت ثقافة منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ثقافةٌ هيلينية. والهيلينية مجال ثقافي متعدّد لم يكن مطبوعاَ فقط بفكر اليونان، بل كان يحمل كثيراً من المكوّنات الثقافية الإسكندرانية والمشرقية البحتة. هذا هو الفكر الذي طبع أوروبا وأنتج الفكر اللاتيني.
هذه العلاقات قديمة جدّا ومتجذرة في التاريخ، وأخذت بُعداً جديداً مع نُشوء الحضارة الإسلامية. نحن نعرف أن الحضارة العربية الإسلامية لم يكنْ لها أن تنشأ لولا حركة الترجمة التي نقلت أهمّ الآثار العلمية، والمنطقية، والفلسفية، والطّبية من اليونانية إلى العربية. هذه المنقولات الثقافية كانت الدّم الجديد الذي سرى في العروق العربية التي كانت جافة في ذلك الحين، وَوَلدّ فيها تفاعلاً مع فكر إسلامي منبعه القرآن الكريم، وما نتج عنه. هذا التفاعل بين حضارة الإغريق والثقافة الإسلامية المحضة ولّد الحضارة العربية التي كانت الثقافة الأكثر أهمية في القرون الوسطى والتي نُقلت، بعد ذلك، إلى أوروبا اللاتينية. إضافةً إلى هذا التفاعل، كانت هناك، من جانب آخر، النّزاعات العسكرية، والغزوات، والتهديدات المتبادلة، كالحروب الصليبية، وغزو المسلمين لأوروبا ووصولهم إلى فيينا، والإحتلال العثماني لكلّ منطقةِ الشرق وقسمٍ كبيرٍ من أوروبا الوسطى والشرقية.
إنّ التاريخ مزيج غريب من العناصر. لا نقاء في التاريخ. إلاّ أن العلاقات بين أوروبا والعالم العربي قد تدهورت نحو اتجاه سلبي إبّان عصر الإستعمار الذي تمخّض عنه واقع سياسي آخر، أي أن العالم العربي المستعمَر قد غدا، مع هذا العصر، هو العالم الضعيف، والعالم الأوروبي المُستعمِر هو العالم القويّ. وهذا ما أخلّ بالتوازن بين هذين العالمين، وولّد عند العرب إحساساً بأن كلّ محاولة للحوار هي محاولة للإستيلاء. اليوم نجد رغبة عند كلّ الأطراف للتحاور، وهذه الرغبة هي من النتائج التي أسفرت عنها أحداث ال11 من أيلول 2001.
هناك سبب آخر يجعل أوروبا تشدّد على الحوار يَكْمُنُ في أهمية الجاليات المسلمة هناك بوصفها جزءَا لا يتجزّأ من الواقع الأوروبي. المسلمون، الآن، ليسوا ضيوفاً في أوروبا يأتون ويذهبون، وإنما صاروا مواطنين مقيمين يتمتعون بكل الحقوق ويلتزمون بالواجبات نفسها التي يلتزم بها مواطنو البلدان الأوروبية. هذا الواقع هو الذي حدا بالمجتمع الألماني إلى تكثيف المساعي للتعرّف إلى الإسلام والمسلمين ومَنشَئِهم.
أمّا من ناحية الجانب المركزي للحوار فيبدو أنه يكمن في العمل على خلق واقع ثقافي عام يختلف عما يسمىّ بصدام الحضارات. لقد أثار كتاب صمويل هنتنغتون(Samuel P. Huntington) صدام الحضارات (The Clash of Civilizations) ردود فعل كثيرة، منها التركيز على تعميق الحوار وتفعيله. هذا الحوار يجري، حالياً، على الصعيد الديني، والثقافي، وعلى صعيد تبادل البعثات العلمية، كما يجري على الصعيد الإقتصادي والسياسي من خلال الندوات، والمؤتمرات، والترجمات، والإنترنت. أود، بهذا الخصوص، أن أعطي مثالاَ من ألمانيا هو صفحة <<قنطرة>> التي تتوجه إلى البلاد العربية والإسلامية بتمويل من وزارة الخارجية الألمانية.
المسألة الجوهرية في اعتقادي، هي كيف نفهم الحوار؟ الحوار، كما حاول أن يطرحه بعض الفلاسفة كَمارتين بوبر (Martin Buber)، هو أن يتحاور طرفا الحوار وهما مُقتنعان منذ البدء باختلاف وجهات نظرهما، وبأنّ كُلّ طرف مستعد لأنْ يُغيّر وجهة نظره من الطرف الآخر إذا أقنعه الآخر بذلك. أي أن الحوار الذي يجري بيني وبينك يجب أن يقوم، إذا كان حوارا فعلياً، على الإقتناع المتبادل هذا إذا كنا على اختلاف في وجهات النظر بأنْ أكون مستعدّا لأنْ أَفْهَمَكَ كما أنتَ، وأن أغيّر وجهة نظري فيكَ، إذا استطعت أن تقنعني، والعكس صحيح. هذا هو الحوار الفاعل. لكن، هل كل الحوارات التي تجري هي حوارات تقوم على هذا الإقتناع؟ لا أعتقد أن ذلك ممكن، ما دامت الحوارات تجري على صعيد المجاملات، وما دامت الأطراف المشاركة فيه غير مستعدة، في إطاره، لِتغيير وجهات نظرها من الآخر.
الفكر العربي
وعائق الإبداع
؟ أعتقد أن الثقافة العربية قد عجزت عن أن تقدّم، بعد مرحلة أبن رشد، فيلسوفاً عربياً قائماً بذاته على غرار الفلاسفة الأوروبيين الذين جاؤوا بعد الفلسفة الكانطية وتشبّعوا بفكرها التنويري. لا نَعثر، في نظري، إلى حدّ الآن، داخل الفضاء الثقافي العربي على نظريات فلسفية عربية جديدة. هناك مفكّرون عرب يشتغلون في الغالب على الأسئلة والمفاهيم الفلسفية التي يطرحها الآخر وينجرّون وراءها دون أن يحاولوا طرح أسئلة خاصة، تُعبّر عن أفكارهم وذاتيتِهم ولا تعكس أفكارَ وذاتيةَ الآخرين. لقد أدّى هذا <<الإنجرار الفكري>> إلى ما يمكن أن أسّميه ب<<تبعية فكرية وفلسفية>> تقف عائقاً أمام الإبداع الفَلسفي في العالم العربي. كيف يمكن، في رأيك، مجاوزة هذا العائق؟
� هذا سؤال صعب جدّا. اليوم، يرى الباحثون في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهم على حق، أنه من الخطأ أن نقول إن الفكر الفلسفي قد توقف داخل الفضاء الثقافي الإسلامي مع إبن رشد؛ لأننا نجد في الثقافة الإسلامية الفارسية مفكرين مسلمين استطاعوا أن يواصلوا الخط الفلسفي الذي رسمه أسلافهم بلغة أخرى، إلا أن المفاهيم تظل هي نفسها. لذلك، يجب أن نصحّح، في رأيي، نظرتنا التاريخية إلى الفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى. هؤلاء المفكرون الذي جاؤوا بعد إبن رشد لم يبدعوا كما أبدع الفلاسفة القدامى كالفارابي، وابن سينا، غير أن ثمة إستمرارية ما لهذا المسار الفلسفي.
هناك أسباب عديدة لِتداعي الفكر الفلسفي في الفضاء الثقافي العربي، منها، أولاً، انتصار الأصولية الدينية مجسّدةً في مفكرين كَابن تيميّة الذي دحض الفلسفة انطلاقاً من الفلسفة، وَتوسّلَ بالمنطق لِيُفَنّدَ حجج الفلاسفة. يعتبر ابن تيمية إلى جانب الغزالي واحداً من الذين زعزعوا بناء الفكر الفلسفي العربي. ثانياً، لم تكن الظروف السياسية التي عرفتها المجتمعات الناطقة بالعربية منذ العثمانيين إلى أوائل القرن العشرين حافزاً إلى نشوء فكر فلسفي. الفلسفة الكانطية التي ذَكرْتها لم تنبع من فراغ، بل كانت نِتاج تراكم فكري. لقد كان كانط يعرف ابن رشد، مثلما كان هيغل يعرف ابن رشد وابن سينا. هذا التراكم الذي استمر في أوروبا أدّى إلى تطوير الفكر الفلسفي الأوروبي من كانط إلى اليوم، الشيء الذي لم يتسنّ له أن يحدث في العالم العربي. ثالثًا، المفكرون العرب لم يتمتّعوا بحرية الإبداع أمام السلطة الدّينية القائمة في مجتمعاتنا. إذا كانت الفلسفة في أوروبا استطاعت أن تتحدى العقلية التقليدية وسلطة الكنيسة، فإنّ المفكرين العرب كانوا يعملون ضمن إطار ديني، لم يخرجوا منه. بيد أن هذا لا يعني إطلاقًا أن الفلسفة لا تكون إلا عندما تتحرّر من الدين. أنا لا أزعم ذلك؛ لأني أعتقد بوجود فلسفة مؤمنة. إلاّ أن الفكر الفلسفي يجب أن ينعمَ بالحرية، أي حرية الإختيار، وإمكانية الخروج من الإطار الدّيني؛ ليكون فكراً مثمراً. لم يكن المفكر الكبير الغزالي، على سبيل المثال، صديقاَ للفلاسفة، وإنّما كان معارضا لهم وهذا ما يبدو في كتابه تهافت الفلاسفة. إلا أن الغزالي لم يصل إلى مرتبته العالية من الفكر المؤمن إلا بعد مرحلة من الشّك، كما يقول في المنقذ من الضّلال، أي بعد أن انقلبَ شكه (وهذا ما يذكّرنا بديكارت في الفكر الأوروبي) إلى إيمان. وصارَ الغزالي من أغزر المفكرين المسلمين إنتاجاً وأهمهم في التاريخ.
إن الفكر الفلسفي قائم، إذا، على التّحدي، وإلاّ سيغدو فكراً مكبوتاً. أعني بالتحدي، تحدي الذّات، والسلطة بأشكالها المتعددة، والمسلّمات التي تَوارثناها أباَ عن جدّ. كل هذه الأسباب التي ذكرتها في هذه العجالة تَحُولُ دون نشوء فكر فلسفي في العالم العربي. صحيح أننا نوجد، اليوم، في مرحلة ركود فلسفي إلاّ أن هذه المرحلة تحوي في ذاتها بذور التجديد أو يمكن لها، إذا أردنا أن نكون أكثر موضوعية، أن تحوي هذه البذور. إذا أدرك المفكرون العرب، وبخاصّة الجدد منهم، مثلي ومثلك، داخل العالم العربي أو خارجه، وُجودَ فرصة لخلق الجديد، فسيكون من الممكن أن نبدعَ ونخلقَ شيئاَ جديداَ. تبدو هذه البذور التجديدية، مثلاً، في محاولة نقل نبضاتٍ فكرية وفلسفية من الفكر الفلسفي الألماني، والفرنسي، والأنكلوساكسوني إلى العالم العربي، والعمل على تفعيل هذه النبضات في سياقها العربي لتُنبتَ ثماراً محلية. لقد دفعني إيماني بضرورة هذا العمل إلى الترجمة، وهذا ما تقوم به أنتَ، أيضاَ.
رهان الترجمة
؟ لا شكّ أن الترجمة عاملٌ أساسٌ في التقدّم الفكري والإنفتاح على العالم. إلاّ أن الترجمة هي استقراءٌ للمجهول، ومغامرةٌ هرمنيوطيقية في عوالم النصّ، وهي، أيضاً، وفي المقام الأول، <<فعلٌ صوفي>>، على حدّ تعبيرِ المترجمِ المصري عبد الغفار مكّاوي. لقد أصدرتَ عام 2002 عن دار النهار ببيروت ترجمةً لمختارات من مقالاتِ يورغن هابرماس تحت عنوان <<الحداثة وخطابها السياسي>> كيف عايشتَ هذه الترجمة أمام تعقّد اللغة الهابرماسية وكثافتها الدَّلالية، وأمام إفتقار اللغة العربية، كما تشيرُ في مقدمة الكتاب، إلى مفاهيم حديثة تساير التطور اللغوي الذي واكبتُه اللغات اللاتينية؟ ثمّ ألا تتفق معي على أن الترجمات التي تسود المكتبات في العالم العربي الآن، هي، في أغلبها، ترجمات تفتقد إلى ما يسميه هانس جورج غادامر ب<<روح الفهم>>. المترجم العربي لا يتحرّر من اللغة التي يترجم عنها ويظل في إسار النصّ مما يوقع به في مكائد الغموض، والركاكة، والغرابة. الأ تعتقد بأنّ الترجمة في حاجة إلى التحرّر من سجن النص حتّى تحققّ تواصلاً فاعلاً مع قارئه في لغة أخرى؟
� تُعتبر الترجمة، في نظري، بمثابة نقل دم من جسم إلى جسم آخر. عملية نقل الدّم هذه لا تكون ناجحة إلاّ إذا كان الدّم المنقول من فصيلة الدم المنقول إليه نفسها. يجب أن يكون هناك، إذاَ، توافق وأن يكون هناك ما يُسمّى بالتلاؤم. مشكلة الترجمات اليوم تبدو، وأخصّ منها بالذكر ترجمات الكتب الألمانية، في أنها نادراً ما تكون مباشرةَ عن اللغة الأصل، وإنما عن الإنكليزية أو الفرنسية. وهذا ما يذهب ضحيته، في الدرجة الأولى، النص الذي نُترجمه. إذا لم يكن المترجم يَعرِف النصَّ وخلفياتِه، وروحَه، والسياقَ الذي نشأ فيه، فإنه سيترجمه بشكل سيئً. هذه الشروط لا تتوفر إذا كانت الترجمة عن لغة ثانية أو ثالثة. لذلك، يمكن أن نقول بحياد وضمير علمي إن الترجمات التي تتم عن لغة أخرى غير لغة النصّ الأصلية، هي، حكمًا، ترجمات فاشلة، على الغالب. لكن هذا لا يعني بشكل آلي عدم وجود ترجمات عربية جيدة.
من ناحية أخرى يجب أن تكون لغة الترجمة لغة جميلة يستمتع بها القارئ حتى تكون فاعلةً ومُجدّدة في السياق الذي تُنْقل إليه. لِنتحدّث، مثلاَ، عن هابرماس. هابرماس فيلسوف صعب الأسلوب واللغة، وهو يوظفُ مفاهيم لا يفهمها الألمان أنفسهم، غير المتخصصين. أحد أصدقائي، وهو أستاذ للغات القديمة في إحدى جامعات ألمانيا، أخبرني بأن أستاذاً للغة الألمانية في ثانوية في منطقة هايدلبرغ (Heidelberg) أعطى تلامذَته نصّاَ لهابرماس وطلب منهم أن يترجموه إلى لغة ألمانية مفهومة. هذا دليل على مدى تعقد اللغة الهابرماسية. على المترجم أن يبذل جهده لتسهيل هذه اللغة وتجميلها، قدر المستطاع، من دون أن يؤثر ذلك سلبًا على المضمون. لقد تمّ نقل هابرماس إلى لغة عربية غير مفهومة من قبل أشخاص لا يُتقنون الألمانية، ولا يلمّون بفكر هذا الفيلسوف، وهذا ما يؤدي إلى صعوبة قراءة الترجمات والإستغناء عن اقتنائها. ونحن نلاحظ على العموم أن القراء يزدرون التّرجمات، لأنهم يعتقدون مسبقًا بسوء لغتها.
(فرانكفورت)

المصدر
 
للتصحيح:
أولا- ورد أعلاه في كلام النصراني اللبناني جورج قوله:( هناك أسباب عديدة لِتداعي الفكر الفلسفي في الفضاء الثقافي العربي، منها، أولاً، انتصار الأصولية الدينية مجسّدةً في مفكرين كَابن تيميّة )
ويقصد هنا أن ابن تيمية رحمه الله كان متعصبا fanatique بالمصطلح الغربي...،كلا وألف كلا،هذا الكلام لا يخرج سوى من فم جاهل بشيخ الاسلام رحمه الله.
ثانيا- ورد أيضا أعلاه ما نصه:( كيف عايشتَ هذه الترجمة أمام تعقّد اللغة الهابرماسية وكثافتها الدَّلالية، وأمام إفتقار اللغة العربية، )...ماذا يعني ادعاء كون العربية لغة مفتقرة...واحدى اللغات الغربية كثيفة الدلالة؟؟؟ هل استقرأ هذا القائل لسان العرب؟؟
هذا أيضا من الجهالات...
وهكذا يكون حوار الغرب والشرق حين ينظر له بعض نصارى لبنان ممن تجري في عروقهم فيروسات احتقار العلوم العربية وأهلها خاصة حين ينتقلون الى الغرب ويظنون أن أقدامهم جفت مما علق بها من مياه البحر المتوسط؟؟؟
 
عودة
أعلى